الأراضي والأماكن المقدسة
القُدس — بضم القاف — لغة، لفظ معناه: الطهر. والأرض المقدسة هي الأرض المطهرة، و«بيت المقدس» أو «القدس»: المدينة المعروفة عاصمة فلسطين الآن. يقال: تقدس الله؛ أي تنزه، والله القدوس: المنزَّه، وعند العرب أن إبراهيم الخليل قد دعا تلك الأرض «أي بيت المقدس» بالقدس، بضم القاف، فسميت بذلك، والله أعلم. ويبدو أن لكل ديانة وأهل دين، أراضي وأماكن، تعد مقدسة، فالأراضي الحجازية عامة، ومكة والمدينة خاصة، والحرم النبوي الشريف وقبور الخلفاء الراشدين على وجه أخص، تعد مقدسة. كذلك تعد من المقدسات مدينة القدس عامة أو قل الأماكن المقدسة، خاصة كنيسة القيامة، التي عند المسيحيين أنها بنيت في المكان الذي صلب فيه سيدنا «عيسى ابن مريم» عليه السلام. وقد أصبحت مبنى دوليًّا، لكل دولة ولكل طائفة من الطوائف المسيحية العديدة من الكاثوليك والأرثوذكس به أملاك متوارثة، أكثرها رمز من الأحجار والجدران. فهي مقصد المصلين، والحجاج المسيحيين، ومن أجل هذا كان لمسألة فلسطين وقضية الصهيونية والوطن القومي اليهودي أهمية خاصة عند المسيحيين إلى جانب المسلمين. هذا؛ وقد علت «مكان الصلب» طبقات من التراب والأحجار على تعاقب السنين.
ومما ينبغي أن نذكره هنا أن أقباط مصر — كسائر الطوائف — يملكون في القيامة أملاكًا يرجع تاريخها إلى أقدم العهود. وحسبنا أن نقول: إن المستر ربتشموند — مدير مصلحة الآثار بحكومة فلسطين — في تمهيده للتقرير الرسمي عن ترميم بناء القيامة الذي كان مرجعه فيه الوثائق الرسمية للحكومة الفلسطينية، والمصادر التاريخية المنزهة، ذكر أنه من الثابت أنه في سنة ١٤٠٠، كان للروم واللاتين والأرمن والأقباط والسريان والأحباش أملاك في القيامة.
- (١)
وكان في بيعة القيامة في الأسكنا الكبير «القبة» مذبح على اسم السيدة العذراء مفرد للقبط «١١٧». وهذه الكنيسة لا تزال باقية إلى الآن.
- (٢)
كنيسة بأورشليم أنشأها النبراوي مقاره في خلافة هارون الرشيد بما اجتمع له من المال في بطريركية يعقوب، وهو الخمسون في العدد، وهي ملجأ من يمضي إليها من المؤمنين «١٢٥». وهذه هي كنيسة المجدلانية، وقد بقيت في يد الأقباط إلى سبعة قرون مضت.
- (٣)
وبيعة اليعاقبة عمَّرها منصور اليعقوبي المصري، ودشنت في بطريركية أنبا كيرلس السابع والستين في العدد «١٣٥»، وهذه الكنيسة لم يعين مكانها تمامًا، والراجع أنها في دير السلطان. وقد ذكر المقريزي المؤرخ المعروف في الجزء الخاص بالقبط: «ولهم بغزة كنيسة مريم، وبالقدس القيامة وصهيون.»
فمما تقدم يبين أن أملاك الأقباط في القيامة ترجع إلى أبعد عهودها. على أنه مما لا شك فيه أن مركزهم ازداد قوة منذ عهد مجدد مصر رأس الأسرة العلوية محمد عليٍّ باشا الذي كان يرعى الأقباط ويخصهم بعنايته واهتمامه. هذا؛ وكل طائفة تزعم لنفسها نسبة أكبر مما للأخرى. ويقلل من نسبة ما للطوائف الأخرى تعظيمًا لشأن طائفته. ولو كان بالإمكان تحديد هذه النسبة لكانت الحكومة الفلسطينية أول من يُعنَى بتحديدها، ولكنها تحاشت ذلك بامتناعها عن تعيين الحصة التي تستحق على كل طائفة في المبالغ المطلوبة لترميم كنيسة القيامة، وتركت الطوائف حرة فيما تدفعه — وهي تتبارى في ذلك — حتى ولو زاد ما يدفع من الكل عن المبلغ المطلوب للترميم؛ إذ تعتزم الحكومة حفظ ما يزيد منه لأعمال الصيانة مستقبلًا في كنيستي المهد والقيامة.
ومن البديهي أن عدم إمكان تحديد نسبة بين أملاك الطوائف إنما يرجع إلى اشتراكها في الأماكن التذكارية الأخرى بداخل القيامة. هذا؛ ويملك المصريون في القيامة كنيسة لا شك في أنها صغيرة في المساحة، ولكنها من أعظم الكنائس قيمة؛ فهي الكنيسة الوحيدة المتصلة بالقبر المقدس والملاصقة له، وهي الكنيسة الوحيدة التي تقع قبلتها على القبر ذاته؛ الأمر الذي تغبطها عليه جميع الطوائف؛ لأنه إذا كان بعضها يحرص على حقوقه في إقامة صلوات على القبر المقدس في مناسبات معينة فإن للأقباط هذا الحق على الدوام بحكم موقع كنيستهم.
وعلى هذا كان المقياس الصحيح لتقدير نسبة أملاك الطوائف إلى بعضها ذلك هو «الموقع». والأقباط يمتازون في المرتبة عن السريان، ومع أن الفرق بين أملاك الطائفتين، سواءٌ من حيث القيمة أو من حيث اتساع حق الملكية ومزاياه لا يدع أي مجال للمقارنة بين الطائفتين. فللأقباط — دون السريان — غرفتان «تختان» بالقيامة شأنها في ذلك شأن باقي الطوائف الأولى بجوار المغتسل، وهي مكونة من دورين مساحة كل منهما ٣٥ مترًا تقريبًا، والثانية أمام الكنيسة ومكونة من دورين أيضًا تبلغ مساحة كل منهما نحو ثمانين مترًا، وتشمل ثلاث بواكٍ بها قناديلها وشموعها وبينها وبين الكنيسة وحول الكنيسة «الهيكل» مكان متسع لوقوف المصلين من الأقباط. هذا غير ما للأقباط من حقوق أخرى تماثل ما لباقي الطوائف كوضع قناديل فوق المغتسل وبداخل القبر وخارجه، وإجراء المراسم الدينية المعتادة يوميًّا «ليلًا ونهارًا» في جميع أنحاء القيامة.
بالمجلس الشرعي المحرر المرعي أجله تعالى لدى جناب سيدنا ومولانا، أقضى قضاة الإسلام، أولى ولاة الأنام، بدر سماء المعالي الفخام، الحاكم الشرعي الموقع خطه الشرعي الموقع خطه وختمه الكريمين في أصله أعلاه، دام فضله وزاد علاه. لما كان سابقًا على تاريخ أدناه كشف على دير طائفة نصارى القبط بمحمية القدس المنيف المعروف قديمًا بدير السلطان بمحلة النصارى المحدود بمقتضى حجة السابق الآتي بيانها فيه بطلب المعلم سالم البنا المتكلم على أوقاف نصارى القبط. ووجد الدير المذكور مشرفًا على الخراب وبعض أماكن منه تحتاج إلى الترميم والتبطين والعقادة والكحلة الضروريان، وإذن مولانا الحاكم الشرعي المشار إليه للمعلم سالم المتكلم المسطور أعلاه بترميم وتبطين … إلخ.
وقد ختمت هذه الحجة بختم فضيلة القاضي الشرعي الشيخ أحمد راقم.
وللأقباط أيضًا دير آخر ودار للبطريركية بها كنيسة كبرى تقع بأعلى بناء القيامة تمامًا، ويصل هذا الدير بدير السلطان باب تقع عنده المرحلة التاسعة لآلام المسيح التي يقدسها جميع الطوائف، وبعض حوائط هذين الديرين مشتركة بينهما وبين كنيسة القيامة.
هيكل سليمان والمسجد الأقصى
تدل الروايات الراجحة الواردة في الكتب القديمة على أن منطقة حرم المسجد الأقصى تحوي المصلى الذي كان يصلي فيه داود، وأن الصخرة التي أقيمت عليها القبة في صدر الإسلام هي المذبح الذي كان يشوي عليه داود قربانه، فكان الدم يسيل منها إلى غرفة تحتها، ومن هناك يجري إلى وادي كدرون، وأن أول ذكر للصخرة في كتب المتقدمين جاء من رجل من بوردو حج إلى بيت المقدس في سنة ٣٣٠ للميلاد، فقال: إنه رأى بالقرب من التمثالين المنصوبين للإمبراطور «هارديان» داخل المعبد حجرًا مخروقًا من عادة اليهود أن يضمخوه بالزيت مرة في السنة حيث ينوحون ويعولون ويخرقون ألبستهم ثم ينصرفون. وكانت هذه المنطقة مقدسة عند الوثنيين قبل اليهود، ويدعى محلها «تل موريا»، وربما كان بيدرًا لأحد اليبوسيين سكان فلسطين القدماء.
ثم إن سليمان الحكيم قد أقام حول هذه الصخرة معبده المشهور الذي يسمى «هيكل سليمان»، فجلب له الصناع والمهندسين من مدينة صور الفينيقية بمساعدة ملكها الملك حيرام، وذلك في سنة ١٠١٣ قبل الميلاد. وذكر رواة الأقاصيص والأخبار أنه أنفق في بناء هذا الهيكل مائة ألف وزنة من الذهب ومليون وزنة من الفضة، وهو ما يعادل في عملتنا الحاضرة زهاء ثماني مائة وتسعة وثمانين مليونًا ونصف مليون من الجنيهات الإنكليزية. وهذا مبلغ يستكثره العقل. هذا عدا ما أفاضوا فيه من ذكر الحديد والنحاس والذهب والفضة والعاج والأحجار الكريمة وخشب الأرز الذي جيء به من لبنان، فتم بناؤه سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد.
وأقيم على الجانب الشرقي منه رواق من الأعمدة فأدار الملوك المتأخرون هذا الرواق حتى شمل الهيكل جميعًا. وقد قام الصوريون بهذا البناء، وكان عملًا فينيقيًّا من حيث التصميم والزخرف والبناء. ولقد بقي هذا الهيكل زينة من زينات العالم القديم حتى خربه ملك بابل في سنة ٤٢٤ق.م. فلما عاد اليهود من السبي، جددوه من بعد ما اندثرت محاسنه، وأعادوه إلى هيأته الأولى. هذا؛ وقد تداعى هذا البناء وأصيب بأنواع التخريب من جراء الاضطرابات وحوادث الدهر مرة أخرى، فجدد بناءه الملك هيرود الكبير، وهو من أصل أدومي، كان ملكًا على اليهود، ودام ملكه سبعًا وثلاثين سنة من سنة أربعين إلى سنة أربع قبل الميلاد، وهو الذي جدد بناء مدينة «سامرة» فدعاها «سبسطية» كما تدعى اليوم؛ نسبة إلى «أغسطوس»، وحول «صرح ستراتو» إلى أسكلة على البحر عظيمة دعاها «قيصرية»، وباشر بناء الهيكل أو تجديده في السنة العشرين قبل المسيح، ودامت الأسمال فيه تسع سنوات ونصف سنة من غير أن يتم بناؤه. وقد أنفذ «عمر بن الخطاب» «عمرو بن العاص» إلى فلسطين فنزل بيت المقدس، لكن القوم امتنعوا عليه فجاءهم «أبو عبيدة بن الجراح» بعد أن افتتح «قنسرين»، وذلك في سنة ١٦ للهجرة، فطلبوا منه الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بهذا إلى عمر؛ فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى بيت المقدس، فأنفذ صلحهم وكتب لهم كتابًا، وكان ذلك في سنة ١٧ كما جاء في معجم البلدان لياقوت. ودائرة المعارف البريطانية.
«زار عمر الصخرة المباركة بإرشاد البطريرك «صفرونيوس»، وهي مصلى داود ومكان معبد اليهود، فوجدها ملطخة بالأقذار وضعها عليها النصارى نكاية باليهود، فنظفها عمر وصحبه بأيديهم، وجعلوها مصلى. ومع أن هذا المصلى جُدِّد بناؤه فيما بعد فقد احتفظ باسم الخليفة الثاني منذ ذلك الحين إلى اليوم.» ووصف المطران «أركولفوس» في سنة ٦٧٠ للميلاد هذا المصلى فقال: إنه بناء بسيط من الخشب يستوعب ثلاثة آلاف مصلٍّ. ولكن لما ولي الخلافة عبد الملك بن مروان أمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، وانتهى من العمل سنة ٧٢ للهجرة. ومال بعض النقاد — ولا سيما من الفرنجة ومن جاراهم — في تعليل البذخ الذي بذخه عبد الملك والأبهة البنائية التي أتى بها والفن المعماري الذي أحكمه في هذا العمل العظيم إلى القول: إنه أراد أن يحول به الأنظار عن الحرمين الشريفين حين أعلن عبد الله بن الزبير خلافته في الحجاز واستقل بها. فمثل هذا البناء البراق المشمخر يسترعي أنظار العامة ويستولي عليهم فيعود قبلة المسلمين الأولى. ولكن فات الذين يقولون هذا القول أن الإسلام في هذا العصر الذي نحن بصدده كان قد استحكم في القلوب وقواعده صارت ثابتة كالطود فلا مجال لمثل هذا التلاعب أن يحوز على الناس. ثم إن الأعمال البنائية العظيمة الأخرى التي قام بها عبد الملك كمسجد دمشق مثلًا تدل دلالة صريحة على أنه أراد من هذه الأبهة وهذا البذخ ألا تكون معابد المسلمين دون معابد الأمم والدول الأخرى جمالًا وجلالًا، متى فازت من الغنى بسهم وافر.
وكتب الوليد اسمه منقوشًا بالفسيفساء فوق الكرنيش الموضوع على المثمن الذي يحمل قبة الصخرة، وذلك عند مدخل الباب الجنوبي كما يأتي: «بنى هذه القبة عبد الملك أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين، تقبل الله عنه، ورضي الله عنه، آمين.» ولكننا نجد الآن اسم عبد الملك ممسوحًا، ونجد في محله اسم الخليفة المأمون. كما يمسح الملك المتأخر اسم الشوارع التي تحتل اسم الملك المتقدم، ويدل على هذا التغيير الطارئ في قبة الصخرة إقحام الحروف الجديدة في المكان الممسوح، وازدحامها، واختلاف لون البلاط الذي يحملها، ونسيان الكاتب — سامحه الله — أن يغير التاريخ الأصلي؛ إذ أصبح المأمون بهذا النسيان قد شاد هذا البناء قبل أن يُولد بنحو مائة سنة فقط! والواقع أن قبة الصخرة احتاجت في زمن المأمون إلى ترميم ففعل الخليفة ذلك، وطمع أن يخلد اسمه مكافأة على هذا الترميم، وإن شكل القبة ومظهرها لم يتغير تغييرًا يذكر منذ الزمن الأموي إلى اليوم مع كل ما أصابها من الزلازل والكوارث.
على أن الكُتَّاب العرب الأولين لم يذكروا أن عمر بن الخطاب بنى مسجدًا في بيت المقدس باسمه، خاصة والمسجد الموجود الآن الذي يزدان باسمه العظيم هو مسجد ضئيل لم يلتفت إليه أحد من الجغرافيين المتقدمين، والغالب أنه مسجد بُني ليخلد ذكرى صلاة اشتهرت في الخافقين امتنع عمر أن يقيمها في كنيسة القيامة فأقامها في هذا المكان الصغير — امتنع عمر أن يقيمها في الكنيسة لشعورين عميقين متأصلين في نفسه؛ شعوره بالحق من جهة وشعوره بأنه سيكون شخصية مقدسة من جهة أخرى، فلو أنه صلى في كنيسة قيامة المسيح ما أمن عليها من أتباع محمد.
قال أبو الفداء في معجم البلدان: «واتفق أن الإفرنج في هذه الأيام «القرن الخامس للهجرة» خرجوا من وراء البحر إلى الساحل فملكوا جميع الساحل أو أكثر، وامتدوا حتى نزلوا على بيت المقدس فأقاموا عليها نيفًا وأربعين يومًا، ثم ملكوها من شمالها من ناحية باب الأسباط عنوة في اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة ٤٩٢، ووضعوا السيف في المسلمين أسبوعًا، والتجأ الناس إلى الجامع الأقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفًا من المسلمين، وأخذوا من عند الصخرة نيفًا وأربعين قنديلًا فضة كل واحد وزنه ثلاثة آلاف وست مائة درهم فضة، وتنور فضة وزنه أربعون رطلًا بالشامي، وأموالًا لا تُحصى.» والظاهر أنهم حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة والمسجد الأقصى إلى قصر لسكنى مليكهم، وجعلوا القمم الأدنى منه إسطبلًا للخيل ومأوى للخنازير. ولم يزل في أيديهم حتى استعاده الملك الناصر صلاح الدين يوسف سنة ٥٨٣ بعدما بقي في أيدي الإفرنج إحدى وتسعين سنة.»
ويستدل من الآثار والكتب التي بأيدينا على أن الصخرة في إبان الاحتلال الإفرنجي كانت تقطع منها القطع لأخذها إلى أوروبا على سبيل الأثر، فإن الكهنة الذين كانوا على سدانتها كانوا يتناولون أثمانًا بهيظة يبيعون بها هذه القطع. وقيل: إن سوء الاستعمال هذا أدى إلى تبليط الصخرة لحمايتها، فأمر السلطان صلاح الدين بإزالة البلاط عنها.
ولما استعاد السلطان صلاح الدين بيت المقدس أعاد الحرم إلى الحالة التي كان عليها، وأمر بترميم محراب المسجد الأقصى وكتب عليه بالفصوص المذهبة: «باسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد هذا المحراب المقدس وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس: عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة.»
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية مع البيان الجلي بأن لا يفعل شيء يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
حائط المبكى
حائط مبكى اليهود هو السور الغربي للمسجد الأقصى في القدس، يذهب إليه اليهود ذكورًا وإناثًا في يوم السبت يبكون ضارعين إلى الله أن يعيد اليهود المشتَّتين في جميع الأنحاء إلى فلسطين؛ لكي تكون لهم دولة وملكًا خالصًا.
الرهبنة والتقديس الديني
ومما يتصل بالتقديس الديني التقديس النفسي؛ أي تطهير النفس، ويكون هذا عند المسلمين بالزهد والتقشف ومجاهدة النفس رياضيًّا، والانقطاع للعبادة والتصوف، وعند المسيحيين بالامتناع عن الزواج.
وعلى هذا كانت الرهبنة — وهي اسم من معنى الراهب — فكرة قديمة تعني عند النصارى الامتناع عن الزواج. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم فقال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا رهبانية في الإسلام.» وعلى ذلك أصبحت الرهبنة غير موجودة بين المسلمين على نقيض الأمم الأخرى لأسباب لا محل لذكرها هنا، وعند «محمد السعيد» أنها تطلق على الرهبان أنفسهم مجازًا. وعند النصارى من يتبتل لله ويعتزل عن الناس إلى بعض الأديرة طلبًا للعبادة.
واسم الرهبنة بالإفرنجية معناه رتبة دينية. وتسمى أيضًا «مونا كزم» باليونانية، ومعناها معتزل أو منفرد، والمقصود من الرهبنة عند المسيحيين إنما هو الاعتزال عن الدنيا وأمورها العادية لإشغال النفس بالعبادة وبالأشياء الدينية، ولم تنشأ إلا بعد القرن الثالث لما ظهر الإمبراطور الروماني «دنسيوس» واضطهد المسيحيين وحمل بعضهم على الهرب إلى الجبال والمكث بالصوامع، فنشأ من العبادة في الصومعة فكرة الاجتماع للعبادة في دير وفكرة الرهبنة ووقف الروح والعقل والجسد على خدمة الله.
وأول من اعتزل الناس دينيًّا الأسينيون الإسرائيليون فسمى بعض المؤلفين الأسينيين: الذين يضايقون أنفسهم بالصيام، والذين ينقطعون بضع ساعات نهارًا وليلًا إلى التضرعات والصلوات، والذين يبذلون أموالهم وأيامهم في سبيل إعالة الفقراء أو عيادة المرضى والاعتناء بهم. وكان الأسينيون من النصارى يسكنون عادة المدن، ويلبسون أثوابًا فاحمة اللون خاصة كأثواب الحكماء، وكانوا يقفون وقت الصلاة بين خدم الدين والشعب. والذين يفوقون هؤلاء بالتعبد وبالانقطاع عن الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى، ومضايقة الجسد، والاكتفاء باليسير جدًّا من أسباب المعاش يسمون «بالنسك أو الحبساء». وقد تكاثر هؤلاء جدًّا في القرن الثالث للميلاد حتى ملئوا البراري الجبلية في آسيا الصغرى وسورية ومصر.
وفي أواخر القرن الثالث ظهرت رهبنات للإناث، وأول دير أو جمعية رهبنة مسيحية هي التي أنشأها «بولس الطيوي» وتلميذه «بخوميوس»، ووضع أساسها الأول في جزيرة «تاينة» التي تبعد قليلًا عن أول جنادل النيل إلى الجهة الشمالية، ووضع هذه الجمعية تحت إدارته سنة ٣٤٠، وانقسم كل دير عدة أقسام كل منها يتعاطى عملًا آليًّا مخصوصًا تحت إدارة رئيس، وكانت العائلة الراهبية ٤٠ أسرة. ولما لجأ «أثناسيوس» إلى الجزيرة المارِّ ذكرها سنة ٣٥٦م لاقاه «بخوميوس» في جيش من الرهبان يترنمون بالزمور، واقتدى «آمون» ﺑ «بخوميوس» في إنشاء دير على جبل فوق وادي النطرون في تخوم صحراء ليبيا، واجتمع لديه في برهة قصيرة هناك ٥ آلاف راهب. ثم أنشأ «مكاريوس» أديرة كثيرة في الصحراء بين جبال النطرون والنيل، وقال بعض المؤرخين: «أصبح في سنة ٣٥٦ للميلاد في أحد الأديرة عشرة آلاف راهب وخمس عشرة ألف راهبة، وكانوا يصلون ويترنمون ويقرءون التوراة والإنجيل، وينسخون الكتب الدينية، ويشتغلون في الزراعة والصناعة، ويقومون بالإحسان.»
وكانت تلك الأديرة مؤلفة من مدارس كبيرة صناعية. أما أديرة إقليم «طيوه» فكانت كمنازل للسياح في تلك المفاوز، وكان لكل دير منها مكان مخصوص لنزول المسافرين مجانًا، كما أنه كان في كل دير من أديرة جزيرة «تابنة» عائلة رهبانية أعضاؤها من العلماء الحاذقين للآداب اليونانية، واقتدى أهل سورية وآسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود الجنوبية بأهل مصر وأنشئوا رهبنات.
وفي القرن الرابع والخامس للميلاد بدل عن النسك المعيشة الرهبنية، وفي سنة ٣٢٨ للميلاد أسس القديس «هبلايون» الرهبنة في فلسطين، وشاد «أثناسيوس» أسقف «سبسطية» الرهبنات في أرمينيا، وفي سنة ٣٦٠ للميلاد أقام «باسيليوي» رهبنات على سواحل البحر الأسود الجنوبية، وكانت الرهبنات في أيام يوحنا فم الذهب متكاثرة في جوار أنطاكية، فزادها نموًّا وتقدمًا بكلامه وأعماله. وأما النسك فلم يكن محبوبًا كثيرًا عند آباء الكنيسة الأولين، فإنهم قصدوا بترويج الرهبنات الحصول على الفضائل الناشئة عن الاعتزال المؤقت لتربية رجال ذوي كفاية لإذاعة التعاليم الدينية بين أهل المدن، ولم يكونوا ينظرون بعين الرضاء التام إلى أعمال الذين يضايقون أجسامهم بأعمال غير عادية، ويؤلمونها في سبيل العبادة.
وقد انتقلت الرهبنات من الصحارى إلى المدن، وبعد ذلك أخذ الكتَّاب الدينيون يشكون من الذين كانوا يأوون إليها وينخرطون في سلكها طلبًا لراحة البال والجسم، وقالوا: إن البعض يحب الكسل والتواني والشر بدافع التقوى والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وإن الإفراط في الاعتزال والتقشف والزهد جلب على كثيرين الدعارة والجنون واليأس والانتحار، وإن الجهل مع المغالاة في الدين أو الإفراط في التعصب جعل بعض الرهبنات أداة ذات خطر في يد رجال ذوي مطامع. وقد أفرغ الإمبراطور «فالنسيوس» وغيره جهدهم لمنع امتداد الرهبنات، ولكن محاولاتهم ذهبت سُدًى، ونشأ عن إفراط بعض الرهبنات في التأمل اعتقادهم الحلول الإلهي في الكون، فحرموا من الكنيسة وتعاظمت الشكوى. وكان من أثر نفوذ إمبراطوريي بيزانطية المتعاظم أن الكنيسة الشرقية لم تحاول رهبنات جديدة. وتبعت الرهبنات الشرقية إلى أيامنا القانون المنسوب إلى «باسيليوس»، وانتسبت إليه أو إلى «مار أنطونيوس».