اليهود في مصر السابقة وإيران
جاء في مقدمة كتاب «اليهود في مصر» تأليف المؤرخ اليهودي «موريس فيرجون»: «إن المصريين اشتهروا في حكم بعض أمرائهم بالمقدرة العسكرية، وذلك بفضل ما كان لديهم من القوانين والعلوم. فقد نبع أكثر العلوم والفنون عندهم، وكان من أثر تتلمذ اليونان لهم، أن كانوا معلمي أوروبا. وهذه الأمة المصرية المشهورة قد آوت الشعب اليهودي، ذلك الشعب الذي تفرق في جميع بلاد العالم وخضع لألوان الحكومات والنظم، ومع هذا لبث محتفظًا بعاداته وقوانينه ولغته، في حين أن أكثر الأمم الأوروبية ليست متحققة من أصولها.
ومما يفخر به اليهودي أن له نسبًا عريقًا. وسواءٌ أكان يسكن بولندا أم إسبانيا، في وسعه أن يقول: إن آبائي سكنوا الصحراوات في مصر وروما وآثينا وسبارطة، وتلك البلاد التي كانت مواطن المجد العالمي الغابر الزائل.»
ترجع هذه الظاهرة السياسية إلى قوة تعليم النبي موسى؛ ذلك أنه بعزله شعبه اليهودي عن سائر الناس، جعل تفرقهم سهلًا، كما جُعِلَ فناؤهم مستحيلًا، فكان اليهود، إذا ما كانوا غزاة غالبين، لا يعمدون إلى إدماج الأمم التي أخضعوها. أما إذا كانوا مغلوبين على أمرهم فإنهم لا يفنون في الغالبين. أما الآثام التي تعزى إلى اليهود الآن، فإن أكثرها يرجع إلى حالة الذل التي كانوا خاضعين لها في كل مكان، فلم يكن لهم أي حظ في الدولة، ولم يكن مرخصًا لهم بملكية الأراضي أو الاستمتاع بحرية الحقول التي تقوي الروح، ولكنهم كانوا ملزمين بأن يسكنوا في أحياء منعزلة في المدن، وأن يقبعوا في مساكنهم مع مغيب الشمس كالجثث المتراكمة، وأن لا يشتغلوا بأي فن حر. فكان من أثر هذا، أن انحصر ميدان عملهم في البيع والشراء، والحصول على الذهب الذي يستطيعون به أن يهدئوا حدة ظالميهم، وأن يتيح لهم شيئًا من المعيشة الهينة، ومن هنا أصبح الذهب غاية مطامعهم. وعلى هذا ليس مما يطابق الحق أن يعزى ما يرمون به من المثالب إلى شريعتهم؛ ذلك أن الرجل إذا شعر أنه حر ومحترم، سرعان ما يبدو أنه كريم وشجاع، مهما يكن الدم الذي يجري في عروقه، كما أن هذا الرجل نفسه يصبح خبيثًا ماكرًا وحائرًا متى كان عبدًا حقيرًا. وحسبنا أن نذكر أنه حيث تسود مصر ديانة سمحاء، تحسنت حال اليهود ونبغ بينهم رجال ذوو فضل وأدباء بارزون وعلماء أصبحوا مجدًا لوطنهم الحر.
هذا؛ ولما هبط اليهود مصر، احترفوا التجارة والجندية، وكان منهم جنود في أسوان، التي أقاموا فيها قلعة في جزيرة أسوان، كما بنوا معبدًا لهم يذبحون الضحايا خاصة الكبش على مذبحه ويحرقونها قربانًا لله. وقد جاء في القرآن الكريم أن إبراهيم ذبح الكبش فدًى لابنه إسماعيل، أما عند اليهود والمسيحيين — طبقًا للإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين — فإن الرب إنما أراد أن يختبر إبراهيم، فأمره بذبح ابنه الأصغر «إسحاق»، فلما صدع بأمر ربه، جاءه الملاك وأمسك بيده ثم قدم له الكبش ليفدي ابنه «إسحاق».
ولما كان المصريون يقدسون الكبش، فقد كانوا في خصام دائم مع اليهود الذين يضحون بالكباش كما قدمنا، ومن أجل هذا استعان المصريون بالوالي الفارسي على تخريب المعبد فجعله أثرًا بعد عين.
اليهود والفرس
هذا؛ ومنذ منتصف القرن السادس ق.م إلى ختام مدة حكم الفرس، لم يدون التاريخ حوادث ذلك العهد، وإن كان هناك ما يدل على أنه قد وجد فيه مفتاح ظهور التاريخ المكتوب في التوراة، كما عرف أنه قد نفي بعض اليهود على حين بقي أكثرهم.
وبعد مضي نحو ٤٠ عامًا منذ تدمير «أورشليم» ظهر في الشرق حكم آخر تولاه سيروس العظيم، وسقطت بابل ٥٣٩ق.م. وقد استرعى اهتمام الأنبياء منذ يومئذ تقدم نهضة سيروس مؤمنين أنه من أثر سقوط بابل أن يستردوا كينونتهم؛ ولذا قابله اليهود هاتفين مبتهجين مرحبين، بعد أن كان الأنبياء يلحظون في الماضي، مجيء الآشوريين والكلدانيين.
ولئن كان سيروس نفسه ليس بالإيراني الأصيل، وليس من عباد يهوا، فقد كان يتسامى فيما يتصل بعقائد رعاياه وأقوام مملكته.
وكانت فلسطين تحت حكم الفرس، متأثرة بسير الحوادث في فينيقيا ومصر. ومن هذا حين كان قمبيز بن سيروس يجهز حملته على مصر متخذًا أساطيل فينيقيا وقبرص وإبل العرب.
وقد سجل التاريخ لليهود قيامهم بحركة أبدوا فيها شعورهم الديني في السنة الثانية من حكم داريوس؛ أي في ٥٢٠ق.م. على أن التاريخ لم يبين لنا هل كان اليهود يرمون إلى الاستقلال أم إلى كسب امتيازات مقابل عدم اشتراكهم في الثورة التي قامت ضد الفرس في جهات عديدة.
وقد ظهر أزرا ونحميا في حكم الملك أرتاكسيرسيس لونجيمانوس «٤٦٥–٤٢٣ق.م» كمصلحين.
وقد أفضى بغض باجوس للملك أرتاكسيركسيس الثالث إلى إصابة نهضة الفرس بضربة كان من أثرها تقديم اليونانيين، وأن قضى الإسكندر على دولة الفرس في ٣٣٣ق.م في موقعة أسومس، وكان غزو صور وغزة مفضيًا إلى دخول اليهود تحت الحكم اليوناني، وأصبحوا من رعاياه يستمتعون بالحرية الدينية مقابل ما يدفعون من الجزية.
وكان من اليهود أقوام منعزلة، عاشت في سلام في مصر وإيران، وكانوا يؤدون التحية باسم الإله «ياهو إله السماء».