في طفولتي
(١) نظام الأسرة قديمًا
وُلِدْتُ في القاهرة، ونشأتُ بدمنهور البحيرة، حيث كانت تُقِيم أسرتي، ثم انتقلتُ إلى بنها في سنة ١٨٩١م، فدمنهور في سنة ١٨٩٢م، فطنطا في سنة ١٨٩٨م، فالقاهرة في سنة ١٩٠٣م؛ تبعًا لتنقلات والدي في وظائف الدولة، ثم استقرَّ بي المقام بالعاصمة إلى الآن.
وفي دمنهور حين نشأتُ لم تكن أسرتي مقصورة عليَّ ووالدي وشقيقتيَّ، بل كانت تشمل مجموعة من الأُسر، التي تربط بينها صلة القربى أو النسب، وكنا نعيش في روكية يتولَّى أَمْرَها أرشد رجال الأسرة، كما كان العهد في روما قديمًا وفي قبائل البادية حتى الآن.
فكانت أسرتنا تتكوَّن من ثلاثة وثلاثين عضوًا، وكانت تضم في الوقت نفسه ستًّا من الجواري وعلى رأسهن عبد كان أمين الدار، وقد عُنِيَتْ إحدى هذه الجواري بخدمتي منذ طفولتي إلى أن حصلت على إجازة الحقوق؛ فكنتُ منها بمنزلة الابن، وكانت مني في منزلة الأم، وكانت دارنا أشبه شيء بدوار العمدة، تشمل فيما تشمله: مخبزًا، وطاحونة، ومخزنًا للمؤن والوقود، وحظيرة للخيل والجاموس.
وكنت أحس منذ طفولتي بمرارة الحياة في هذه الأسرة الكبيرة، التي ينتمي بعض أفرادها أصلًا إلى مختلف الأسر، سواء ذلك من النساء اللاتي التحقن بالزواج من شبابها، والرجال الذين انضموا إليها بالزواج من شاباتها؛ فكان كثيرًا ما ينشب الخلاف بين سيدات الدار على أتفه الأمور، ويقوم الشجار بين الأولاد، شأن كل الصغار، بل كان النزاع ينشأ أحيانًا بين الجواري على الأسبقية في تقديم الطعام أو نشر الغسيل.
وكان رجال الأسرة يَضِيقون بهذه الحال، ولكنَّ أحدًا منهم لم يُحاوِل الانفصال؛ حرصًا على التقاليد وخشية لوم الناس، إلى أن فَرَّقَ بينهم الزمانُ نقلًا إلى وظيفة أو سعيًا في طلب الرزق …
وكان لا بد لهذا النظام من الانهيار؛ لتنعم الأسرة بالحرية والاستقلال، وتحل فيها المحبة والوئام محل البغضاء والشحناء.
ولذلك أفردت لكل من ولديَّ بمجرد زواجه سكنًا خاصًّا، وأَبَيْتُ أن يشاركني أحدهما في معيشتي، رغم حاجتي إلى مَنْ يَعولني ويعاونني في مشاقِّ الحياة.
(٢) بعض الحوادث
ومن الحوادث التي وقعت في طفولتي، والتي لا تزال عالقة بذهني حادثتان؛ كان من عاداتنا القديمة ألَّا يرى الخطيب خطيبته إلا بعد العقد عليها، وكانت أم الخطيب أو أخته أو أقرب الناس إليه من السيدات هي التي تقوم بخطبة العروس، وفي يوم عقد الزواج كانت تحضر الخطيبة مغطاة الوجه بقطعة كثيفة من الحرير عليها كثير من الحلي، بعضه من جهازها والبعض الآخر مستعار من أهلها، ولم يكن ذلك في سبيل زينة العروس فحسب، وإنما كان الغرض الأول منه إثقال الغطاء على وجهها؛ حتى لا تكشف عنه حركة منها قد تأتيها عفوًا، أو حركة من خطيبها قد يأتيها عمدًا.
ولما شرع أحد شباب الأسرة في الزواج، قامت والدته وشقيقته بإجراءات الخطبة، وكانت تبدو على وجوه الأسرة جميعها دلائل السرور والغبطة؛ لأن العروس على حد شهادة الخاطبتين كانت آية في جمال الوجه واعتدال الجسم.
ولما تمَّتْ مراسم عقد الزواج كشف العريس عن وجه عروسه؛ فإذا هي من القبح بمكان. وحينئذٍ صرخت والدته بأن المرأة التي عقد عليها غير التي خطبتها. واتضح بعد ذلك أن للعروس شقيقة جميلة هي التي عُرِضَتْ على الخاطبتين، والتي كان نصيبها الحرمان من حضور حفلة الزواج حتى لا ينفضح الأمر.
ولم يجسر الزوج على طلب فسخ الزواج حرصًا على تقاليد الأسرة؛ فعاش الزوجان مفترقين مدَّةً ضحيةَ هذه التقاليد، حتى أَنِسَ الزوج من زوجته المحبةَ الخالصةَ، ثم رُزِقَا بابنة كانت أداة للتقريب بينهما.
وحين كانت إقامتنا بمدينة بنها، شرعتْ والدتي في السفر إلى القاهرة لتزور والدتها، وكانت سوف تصحبني معها في هذه الزيارة؛ فكان فرحي بالسفر عظيمًا وانتظاري له بفارغ الصبر، ولكن والدي عاد فعدل عن سفرنا لسبب لم أتبيَّنه.
وحينئذٍ استولت عليَّ خيبة الأمل بجميع مظاهرها في الأطفال؛ فصرت أبكي وأصرخ في عصبية لم يعهدها والدي فيَّ من قَبْل، حتى أشفق عليَّ أخيرًا فسمح لنا بالسفر. وعلى رصيف المحطة عاد والدي إلى عدوله، محاولًا إرضائي بجنيه من الذهب، ولكنني رفضت وأصررت على السفر، وفيما نحن في انتظار القطار، نظرتُ إلى والدي فوجدتُه في قلق وحزن؛ فأشفقت عليه بدوري، وخضعت لإرادته وعُدْنا إلى الدار، وحينئذٍ نقدني الجنيه فأبيتُ أن آخذه.
هذه الحادثة التي كثيرًا ما تقع للأطفال لم تفارقني ذكراها حتى الآن، رغم مضي حوالي سبعين سنة عليها، فكلما مررت بالقطار بمحطة بنها القديمة، ألقيتُ نظري على رصيفها في الموضع الذي كُنَّا فيه، لائمًا نفسي على ما فعلتُ، مترحِّمًا على والدي الكريم الذي لم يأخذني بالشدة يومًا من الأيام.