مونت كاتيني
كنت أشكو من تقلُّص أو التواء في الأمعاء، نتيجة القبض وكثرة تعاطي الملينات، وكنت إذا قمت بحركة التوى الأمعاء في موضع الفراغ منها، وهددني بحالة اختناق خطيرة تستدعي جراحة عاجلة.
وحين كنا على ظهر الباخرة في طريقنا إلى جيبوتي، أحسست ونحن في غرفة الطعام بحالة التقلص ثم الاختناق، ولم أُرِدْ أن أزعج زملائي في البعثة فتحملت الألم بصبر، وكنت أخشى ما أخشاه أن تُجْرَى لي جراحة على ظهر الباخرة القديمة في ظروف غير ملائمة، ولكن لم تَمْضِ بضع دقائق حتى قُمْتُ بحركة عكسية استقامت بها الأمعاء وزال الألم.
وفي أديس أبابا أشار عليَّ وزير إيطاليا المفوض بالعلاج في مونت كاتيني، فقصدت إليها في صيف سنة ١٩٣١م.
وهي بلدة صغيرة جميلة في مقاطعة بستويا المشهورة بمزارعها، وفيها فندق كبير يُدعَى بابتشي أي فندق السلم وفنادق عدة أخرى.
وفي موسم العلاج يُحوَّل أكثر دورها إلى فنادق صغيرة «بنسيون»، ويبدأ الموسم في شهر مايو وينتهي في سبتمبر، وجوها حار في يونيو ويوليو وأغسطس، وأروج موسمها في شهر سبتمبر حين الطقس يعتدل.
وفي مونت كاتيني أصلح المياه المعدنية في العالم، وأجمل حمامات من نوعها في إيطاليا، وقد أنفق موسوليني في إعداد عيونها وإنشاء حماماتها مليونًا من الجنيهات؛ فأصبحت مقصد المرضى من جميع أنحاء العالم، وموردًا عظيمًا من موارد الدولة. كم أرجو أن يكون لحلوان مثل هذا الرواج!
ومن مزاياها وجود أنواع مختلفة من المياه المعدنية في عيونها الكثيرة، جُلِبَتْ من مواطنها في أنابيب تجمَّعَتْ في مكان واحد؛ ففيها مياه كمياه فيشي وافيان، وشاتيل جيون، وفيتيل، وكونتر كسفيل، ومارتيني، ومرينباد. كُلٌّ منها في متناول اليد تُقدِّمه لك الآنسات أين تجلس في حديقة المشرب.
وفي حكم موسوليني سنة ١٩٣١م كانت الرقابة على أشدها على الفنادق والمطاعم والمقاهي وغيرها، في سبيل توفير أسباب الراحة للقاصدين إليها وحمايتهم من جشع أصحابها. ففي كل محل عام تجد قائمة الأسعار محددة ومعلنة في مكان ظاهر منها، وكانت مكافأة الخدم محرمة معاقبًا عليها.
وكان يشرف على المرضى في مونت كاتيني طبيب عالمي، يُدعى البروفسور سناتور كيوريني، وكان من حق كل مريض أن يستقبله الطبيب أربع مرات، وحين زرته في المرة الأخيرة سألته عن مبلغ أتعابه؛ فقال لي إنها أربعون من الليرات، أي ما يعادل ستة وثلاثين قرشًا! ولما أظهرت له عجبي من تفاهة المبلغ؛ أجابني بأن العلاج مجاني وأن هذا المبلغ هو مقابل رسوم البلدية.
ومرة كنت أدفع للحوذي أجره، فأقبل علينا رجل البوليس مسرعًا؛ ليرى ما إذا كان قد تقاضى أجره في حدود القانون أو أنه غالى فيه.
على أني علمت من أصدقائي الذين قصدوا إلى مونتي كاتيني أخيرًا أنه بعد موسوليني لم يَعُدْ لهذه الرقابة أثر، وأنهم كانوا موضع استغلال أصحاب الفنادق والمطاعم والمقاهي إلى أقصى حد.
ولقد أفدت من مياه مونتي كاتيني كل الفائدة، فلم يعاودني تقلص الأمعاء بعد علاجي فيها وحتى الآن إلا مرة واحدة.