في وزارات الدولة
(١) في وزارة الخارجية سنة ١٩٣٣
(١-١) مقابلتي للملك فؤاد
في صيف ١٩٣٣م سافر المرحوم صدقي باشا للعلاج في أوروبا، وكان المرحوم أحمد باشا شفيق نائبًا عنه في رياسة الوزراء، وبينما كنت بالقاهرة دعاني شفيق باشا تليفونيًّا لمقابلته بدار الوزارة ببولكلي على عجل، ولما ذهبت إلى دار الوزارة كان مجلس الوزراء معقودًا، فخرج شفيق باشا لمقابلتي في مكتبه، وقال لي إن نخلة باشا المطيعي وزير الخارجية قد اضطر إلى الاستقالة لمرضه، وإن جلالة الملك فؤاد بالاتفاق مع صدقي باشا قرر أن أخلفه في وزارة الخارجية.
وحينئذٍ تنازعني عاملان؛ الأول: رغبتي من جهة في البقاء بقسم قضايا المرافعات، الذي أنشأته أو الذي أُنْشِئَ من أجلي، في وظيفتي الدائمة البعيدة عن مهب الريح، والتي أتقاضى فيها مرتبًا يلي في مقداره مرتب الوزير. الثاني: رغبتي من جهة أخرى في أن يراني والدي وزيرًا في حياته فتقرَّ بي عيناه، وبخاصة لأنه كان من موظفي الدولة وكان يحب مظاهر الوظيفة؛ فما باله حين يرى ابنه وزيرًا يتولى أرفع وظائف الدولة؟!
ولكن شفيق باشا لم يترك لي وقتًا للتردُّد؛ حيث قال لي إن هذا أمر جلالة الملك، ولما كنت موظفًا فهمت على الفور مؤدَّى هذه العبارة فقبلتُ شاكرًا، وحينئذٍ أبلغني تهنئة صدقي باشا، وقال لي إن المرسوم سوف يصدر اليوم، ثم صحبني للسلام على الوزراء المجتمعين.
وعُدْتُ إلى القاهرة في نفس اليوم وقصدت توًّا إلى دار والدي وأبلغتُه بالأمر؛ فابتسم وقال لي إنه يفهم تمامًا لماذا قبلت، وإنه كان يُؤْثِر أن أظَلَّ مستشارًا، بعيدًا عن عواصف السياسة، وحتى أستحق معاشًا مجزيًا بعد الخدمة.
ولما أُبلِغْتُ بمرسوم التعيين، تَشَرَّفت بمقابلة جلالة الملك في سراي المنتزه؛ لتقديم واجب الشكر على تعييني، ولست أحب التواضع الكاذب وأُوثِر أن أتحدَّث بنعمة ربي عليَّ، فأقول إن جلالته تفضَّلَ فأكرمني بقوله إنه كلما رُشِّحَ لديه وزير سأل عنه الكثيرين، فكان البعض له مادحًا والبعض قادحًا، وإنه حين سأل عني أَجْمَعَ الكل على مدحي؛ ولذلك فهو يُسَرُّ بتعييني. فنزل كلامه على قلبي بردًا وسلامًا.
لقد حَبَسْتُ هذه العبارةَ الكريمة في صدري ولم أَبُحْ بها لأحد، ولكنني الآن وأنا أكتب ذكرياتي أرى من حقي أن يجري بها قلمي، سواء صَدَّقني الناس أو لم يُصَدِّقوني، وسواء لاموني على ذكرها أو لم يلوموني.
وقد طلب مني الملك أن أتَّصِل به مباشرة في الهام من شئون وزارة الخارجية؛ لغيبة صدقي باشا وحداثة عهدي بشئون الوزارة.
(١-٢) معاونو وزارة الخارجية
وكان من حسن حظي أن بوزارة الخارجية صديقين كريمين، كان أولهما السيد شريف صبري وكيل الوزارة، والثاني السيد عبد الخالق حسونة مدير مكتبي، وكانت الوزارة في بداية نشأتها، ولم يكن فيها من رجال السياسة المحنكين سواهما؛ فكانا لي خير المعاونين.
وحين زرت وزارة الخارجية لأول مرة قصدتُ توًّا إلى مكتب وكيل الوزارة، فتجاذبنا أطراف الحديث عن رحلة الحبشة، ثم بدأنا العمل على الفور.
وانتقلت إلى مقر الوزارة ببولكلي وهناك جَرَتْ بيني وبين المندوب السامي البريطاني ووزراء الدول المفوضين الزيارات التقليدية في هذا المقام، وأُبْلِغَ تعييني لوزرائنا المفوضين في الخارج فأرسلوا لي برقيات التهنئة، ورددت عليهم شاكرًا كما هي العادة.
(١-٣) وليمة ملكية على ظهر المحروسة
أشاع بعض رجال الأحزاب المعارضة للحكومة في سنة ١٩٣٣م أن وزارة صدقي باشا لم تَعُدْ حائزة لثقة الملك، وأراد جلالته أن يقضي على هذه الإشاعة، فتفضَّلَ ودَعَا الوزراء لتناوُل طعام الغداء على ظهر المحروسة، وكان لا يزال صدقي باشا تحت العلاج في أوروبا.
فكان عطف الملك على وزرائه على أتمِّه، وقد بلغ عطفه إلى حدِّ أن أَذِنَ لنا بالتدخين بعد تناول الغداء، بينما كنا وقوفًا في غرفة الاستقبال، ولما تردَّدَ بعضنا في التدخين تناوَلَ جلالتُه علبةَ الثقاب محاولًا إشعال لفائف التبغ للوزراء؛ فكنا طبعًا نسارع إلى إشعالها بأنفسنا تفاديًا لهذا التنازل الكريم.
وفي حديث جلالته معنا عن تلك الإشاعات، أكَّدَ لنا أنه راضٍ عن صدقي باشا ووزرائه كل الرضاء، راجيًا عودة الرئيس قريبًا موفور الصحة؛ ليقوم بخدمة بلاده على الوجه الأكمل.
(١-٤) الكونت باليانو
كان الكونت وزيرًا لإيطاليا في مصر، وكان من أثرياء الإيطاليين، يملك مزارع واسعة للزيتون في منطقة ساسو الشهيرة بزيتها المعروف في جميع أنحاء العالم، والذي يُعتبَر من أهم موارد إيطاليا.
وكان الكونت رغم لقبه أقرب في طباعه إلى طبقة البورجوازي منها إلى طبقة الأرستقراطية، رغم زواجه من أميرة تنتسب إلى أكثر من عائلة ملكية في أوروبا.
وكان الكونت جافَّ العبارة عاثر اللسان، على خلاف زملائه من رجال السياسة الذين أول ما يمتازون به في حديثهم الدقة في اختيار الألفاظ، أما الأميرة قرينته فكانت على نصيب وافر من الذكاء ورقَّة الأخلاق.
زارني الكونت يومًا في دار الوزارة ببولكلي، وقال لي إن حكومته سَبَقَ أن طلبت من الحكومة المصرية الإذن لها بمرور طائراتها من طرابلس عبر الحدود المصرية، في طريقها إلى مستعمرة أريترة الإيطالية، وأن الحكومة المصرية قَبِلَتْ مبدئيًّا طلب الحكومة الإيطالية، ولكن الحكومتين لم تُوقِّعا اتفاقًا بذلك بعد؛ فوعدَتْه بدرس الموضوع.
وبعد دراسة ملف المسألة واستطلاع ظروفها وملابستها، تبيَّنَ لي أن إيطاليا إنما تنوي شرًّا ببلاد الحبشة، وأن طلب مرور طائراتها عبر الحدود المصرية أحد التدابير الممهدة للإغارة على تلك البلاد؛ فوضعت مذكرة ضمَّنْتُها رأيي في هذا الموضوع، وبعثت بها إلى الملك عملًا بوصيته، وأبلغني جلالته موافقته على رأيي، وعدم إجابة طلب الحكومة الإيطالية حتى تتبيَّنَ جميع ظروف الحال.
ولما زارني الكونت باليانو في المرة الثانية، أبلغتُه أن المسألة في حاجة إلى دراسة وافية لم تُكمَل بَعْدُ، فرَدَّ عليَّ بأن واصف باشا غالي — وزير الخارجية الأسبق — كان قد وَعَدَ حكومته بإجابة طلبها وأن لديه مكاتبات بذلك؛ فأجبته بأنه ليس في ملف الوزارة ما يفيد دعواه هذه، وأني كذلك سوف أتصل بواصف باشا في مصيفه بأوروبا. وحينئذٍ انصرف الكونت قائلًا إنه سيعود لمقابلتي بعد أسبوع، راجيًا أن أُعْنَى بالمسألة؛ لأنها في نَظَر حكومته من المسائل الهامة العاجلة.
ولما عاد الكونت أبلغتُه بأني لا أستطيع التصرف في الأمر قبل عودة صدقي باشا، وحينئذٍ بدأت المناقشة تشتدُّ بيننا، حين قال لي إن حكومة السودان وافقت على مرور الطائرات الإيطالية بأراضيها، فقلت له إني أعتقد أن حكومة السودان لا تعقد مثل هذا الاتفاق دون مفاوضة الحكومة المصرية، وإن حكومة السودان على كل حال شيء والحكومة المصرية شيء آخر. وعلى إثر ذلك دارت بيننا المناقشة الخطيرة الآتية:
وحينئذٍ تَوَسَّلَ إليَّ الكونت راجيًا أن أعتبر كلامه رغم تهوره غير المقصود حديثًا غير رسمي بين صديقين وألا أبلغه لجلالة الملك، ولكني أفهمته بأن واجبي يقضي عليَّ بأن أبلغ الحديث لجلالته حرفيًّا.
وفعلًا، عرضت الحديث بحذافيره فورًا على الملك فؤاد؛ فطلب مِنِّي أن أترك الأمر له يتصرَّف فيه بنفسه بما تقتضيه ظروف السياسة، وشدَّدَ عليَّ بوجوب الاحتفاظ بسرية الحادث إلى أن ينتهي أمره.
وبعد أسبوعين أو أكثر استدعَتِ الحكومة الإيطالية وزيرها المفوض، واستبدلت به وزيرًا آخر.
ولست أدري إذا كان هذا نتيجة تدخُّل الملك فؤاد في أمر الوزير، أو أن ذلك كان نتيجة فشل الوزير في عقد الاتفاق.
ولقد تحقَّقَ ما توقَّعْتُه فلم تَمْضِ على هذا الحادث سنة أو أكثر بقليل حتى قامت إيطاليا بالهجوم على الحبشة هجومًا وحشيًّا لم تُراعِ فيه أصول الحروب بين الدول المتمدينة، ووقفت بريطانيا وفرنسا مكتوفتَيِ الأيدي إزاء عدوان إيطاليا، حتى تَمَّ لها احتلال أراضي الحبشة جميعها.
ولم تكن مِصْرُ نفسها — التي طلبت إيطاليا معاونتها في هذا الاعتداء بالتصريح لطائراتها بالمرور عبر حدودها — بعيدةً عن مطامع هذه الدولة؛ فقد كان جنودها يَمُرُّون بالقنال صائحين في كل مدينة واقعة عليه: «إن مصر لنا!»
وقد تأكَّدَتْ نوايا إيطاليا الاستعمارية في الحرب العالمية الثانية، وكادت تتحقَّق أحلامها في مصر لولا انتصار الحلفاء عليها وعلى حليفتها ألمانيا، وإن نَنْسَ فلن ننسى ادعاء موسوليني بأنه حامي حمى الإسلام.
ولقد أراد الله أن تُخذَل إيطاليا، فتعود كُلٌّ من ليبيا والحبشة لأهلها، وتظل مصر حرة مستقلة، ثم يلقى موسوليني شَرَّ الجزاء على أيدي مواطنيه أنفسهم.
(١-٥) البارون فون شتورر
كان البارون وزيرًا مفوضًا لألمانيا في مصر، وكان رجلًا رزينًا حَسَنَ الحديث قويَّ الحُجَّة.
وكان اليهودُ مَوْضِعَ اضطهاد الحكومة الألمانية في ذلك الوقت؛ فعمدوا إلى الحضِّ على مقاطعة البضائع الألمانية في مصر بكافة أنواع الدعاية والنشر؛ فكانوا يطبعون النشرات ببيان البضائع التي تحل محل البضائع الألمانية، ويرشدون عن محالِّ بيعها، ويحضون الناس على شرائها منها.
ومن طرق دعايتهم أن طبعوا على أوراق النقد المصرية عبارات التحريض على مقاطعة البضائع الألمانية، فزارني البارون محتجًّا راجيًا وقف هذه الحملة، فأجبتُه بأن لا وسيلة قانونية لدى الحكومة لمنع اليهود من توزيع نشراتهم، التي لا تعدو أن تكون نشرات تجارية، أما طبع عبارات الحض على المقاطعة على أوراق النقد فسوف نمنعه.
وعلى إثر انصراف البارون، أَشَعْتُ بأنَّ الحكومة ستسنُّ قانونًا بإلغاء أوراق النقد التي تحمل عبارات الحضِّ على مقاطعة البضائع الألمانية، وأنها ستُحدِّد موعدًا لتستبدل بهذه الأوراق أوراقًا جديدة، ونشرت الصحف هذه الإشاعة؛ فامتنع الناس عن قبول أوراق النقد المذكورة وسارعوا إلى استبدالها.
وبذلك انقطعت دعاية اليهود بهذه الوسيلة وانتهى الحادث بسلام.
(١-٦) استقالة صدقي باشا
عَلِمَ صدقي باشا وهو في أوروبا أن البعض سعى بالوقيعة بينه وبين الملك فؤاد، وظَنَّ أن هذا السعي لَقِيَ أذنًا مصغية من الملك؛ فبعث باستقالته من الخارج.
وصادف يومُ عودةِ صدقي باشا موعدَ تقديم مسيد داندامارس — وزير اليونان المفوض — أوراقَ اعتماده للملك فؤاد بقصر رأس التين.
وفي نهاية الحفلة دعاني الملك إلى مكتبه، وتناول حديثنا فيما تناوله استقالة صدقي باشا التي لم يكن قد قَبِلَها الملك بعد.
وتبيَّن لي من حديث الملك أنه عاتِبٌ على رئيس وزرائه؛ لتسرُّعه في الاستقالة قبل أن تتحقق لديه أسبابها.
ومِمَّا قاله لي الملك فؤاد إنه يقدر كفاية صدقي باشا قدرها، وإنه لذلك لم يترك وسيلة دون أن يلجأ إليها لإظهار عطفه إليه؛ فقد أنعم عليه بأعلى أوسمة الدولة، وكذلك أنعم على حرمه بوسام الكمال من الطبقة الأولى، ثم أضافهما في داره (يقصد قصر إدفينا) خمسة عشر يومًا، وإنه لو كان لديه وسيلة أخرى لإكرامه لفعل، وإن من غير المفهوم أن يقابل صدقي باشا هذا كله بتقديم استقالته دونما مبرر.
وحينئذٍ استأذنت الملك في نقل حديثه هذا الكريم لصدقي باشا، مؤكدًا بأن سوف ينزل كلام جلالته على قلبه بردًا وسلامًا؛ فيسحب استقالته على الفور، فأذن لي الملك بذلك.
وتبيَّنَ لي من الحديث أنه أُبْلِغَ إلى الملك رواية عن سير برسي لورين المندوب السامي البريطاني السابق بأن صدقي باشا كان يسعى إلى ما لا يرضي الملك، ولكن الملك نفسه لم يُصدِّق هذه الرواية حتى يقابل سير برسي لوين نفسه ويتحقَّق صحة الخبر؛ إذ قد تكون الرواية مختلقة للوقيعة بينه وبين رئيس وزرائه، أما موضوع هذه الرواية فلم يتبيَّن لي من حديث الملك.
وبينما كنت في حضرة الملك وقد طال الحديث بيننا، قلق المرحوم زكي الإبراشي باشا؛ فصار يتردَّد على باب الغرفة أكثر من مرة، وأشار إليه الملك أخيرًا بالدخول، وأخبره بأني سأتوسَّط لدى صدقي باشا في أمر استقالته، ولكنني لاحظت أن هذا الخبر لم يُقابَل بالارتياح من الإبراشي باشا.
وفي مساء اليوم نفسه قصدتُ إلى دار صدقي باشا، فوجدت بها جمعًا من الوزراء، ولما كنت أريد أن أتحدَّث إليه في خلوة، قلتُ لابن شقيقته أحمد باشا كامل بأن يُوعِز للباشا بحجزي حين ينصرف الوزراء وأهم بالانصراف معهم، ولما خلوت بصدقي باشا رويت له حديث الملك فَسُرَّ له واسترَدَّ استقالته.
وكان المفهوم أن الأمور سوف تَسِير في مجراها على ما يُرام، ولكن حَمْلَة الدسائس ظلَّتْ على حالها بل اشتدَّتْ عمَّا كانت عليه؛ ممَّا حمل صدقي باشا على تقديم استقالته الثانية مُصِرًّا عليها، ولمَّا يَمْضِ بَعْدُ بضعة أيام على استقالته الأولى، وقبل أن يتحقَّق الملك من سير برسي لورين حقيقة الأمر كما وعد.
وأرى أن علة تنحي صدقي باشا إنما ترجع إلى أعمال رجال القصر، وليس إلى رغبة الملك عنه.
من المعروف عن الملوك الأوتوقراطيين مَيْلهم إلى إبعاد كل وزير نجح في الحكم واشتد سَاعِدُه فيه؛ فكلما ارتفعت رأس عملوا على إسقاطها. ولكنني لست أظن أن تلك كانت حالة صدقي باشا مع الملك فؤاد، بدليل سبق حديث الملك معي بشأن تقديره لصدقي باشا ورغبته في بقائه في الحكم.
وأغلب ظنِّي أن بطانة الملك نفسها هي التي عملت على إقصاء صدقي باشا عن الحكم؛ ليتولَّى الحكم بعده من هو أسلس قيادة لهم وأقرب إليهم.
فَهَمُّ بطانةِ الملكِ عادةً الظَّفَرُ بثقته، بإقناعه بأنهم أخلص الناس إليه الذائدون عن حقوقه، دون وزرائه الذين يعملون على كسب ثقة الشعب على حسابه.
حتى إذا ما ظفر رجال القصر بثقة ملكهم، وأشرفوا بحكم هذه الثقة على مهام الدولة حاولوا دائمًا الاحتفاظ بسلطاتهم، وإذا ما انتزع منهم هذا السلطانَ وزيرٌ خطيرٌ عَمِلوا على إسقاطه ليعود لهم سلطانهم.
ولست أقصد ببطانة الملك شخصًا معينًا، فقد يكون رئيس الديوان أو ناظر الخاصة أو بعض رجال الأحزاب، أو رؤساء الوزارات السابقين، من المقربين للملك أصلًا، أو ممن تقرَّبُوا إليه أخيرًا أملًا في الوصول إلى مقاعد الحكم.
ومع الأسف الشديد أنَّ تلك كانت سنة رجال القصر قبل البرلمان، وتلك كانت سنتهم أيضًا في عهد البرلمان منذ صدور الدستور.
تلك هي ذكرياتي في وزارة الخارجية في سنة ١٩٣٣م، وهي قليلة لِقِصَر المدة التي قضيتُها في تلك الوزارة والتي لم تتجاوز ثلاثة شهور.
(٢) في وزارة الحربية والبحرية سنة ١٩٣٣م و١٩٣٤
(٢-١) وزارة عبد الفتاح باشا يحيى
وقع اختيار الملك فؤاد على المغفور له عبد الفتاح باشا يحيى؛ ليكون خلفًا لصدقي باشا، وكان يحيى باشا في أوروبا فأُخْطِرَ بالعودة لتولِّي رياسة الوزارة.
وبينما كان يحيى باشا في طريقه إلى مصر، كانت الترشيحات لأعضاء الوزارة قد تَمَّتْ، وكان العامل الأول في وضع قائمة الوزراء المرحوم زكي باشا الإبراشي ناظر الخاصة الملكية، بالاتفاق مع صديقه المرحوم محمود باشا فهمي القيسي وكيل وزارة الداخلية في وزارة صدقي باشا.
وكان المعلوم أو المفروض أن يتولَّى يحيى باشا رياسة الوزارة، وأن تُسنَد إلى القيسي باشا وزارة الداخلية؛ لأهمية هذه الوزارة بعد تخلِّي صدقي باشا عنها، وإن ظل في وزارة الخارجية، وأن يُعيَّن المرحوم حسن باشا صبري وزيرًا للمالية، والمرحوم إبراهيم باشا فهمي وزيرًا للأشغال … إلخ.
ولمَّا وَصَلَ يحيى باشا رأى، وقد رُشِّحَ القيسي باشا لوزارة الداخلية ورُشِّحْتُ لوزارة الخارجية، ألَّا يكتفي برياسة الوزارة وأَصَرَّ على أن تُضَمَّ إليه إحدى الوزارتين؛ فصَدَرَ المرسوم دون علمي بتعييني وزيرًا للحربية والبحرية، وكانت مفاجأة لي غير سارة؛ لأن الأَوْلَى بهذه الوزارة في نظري ضابط من ضباط الجيش، لا رجل من رجال القانون أو من رجال السياسة.
ولمَّا بَلَغَ مسامعَ الملك أَثَرُ هذا التعيين في نفسي دَعَانِي إلى مقابلته، وقال لي إنه هو الذي اختارني لوزارة الحربية؛ لأن هذه الوزارة في الظروف التي تمر بها البلاد بعد مقتل ستاك باشا أحوج إلى رجل سياسي منها إلى عسكري، وإني لا بد أعلم أن هذه أول مرة يُعيَّن قبطيٌّ وزيرًا للحربية، وإنه يجب عليَّ أن أُقَدِّر ذلك كله، ثم أوصاني بأن أُصْلِح علاقة وزارة الحربية بالإنجليز، دون أن أُفَرِّط في أي حق من حقوق بلادي، وإنه يرجو بحسن سياستي أن أستزيد لها بعض الحقوق.
وللمرة الثانية أَغْدَقَ الملك عَطْفَه عليَّ، وفَعَلَ عطفُه فِعْلَ السحر في نفسي؛ فانصرفتُ من لَدُنْه مغتبطًا بتولِّي وزارة الحربية، بعد أن كُنْتُ مترددًا في قبولها.
في ديوان الوزارة
وفي أول يوم قصدت إلى ديوان الوزارة، حَضَرَ إليَّ في داري القائمقام إبراهيم بك عطا الله (الفريق إبراهيم باشا عطا الله)، وقال لي إنه ياوري وإنه جاء ليصحبني إلى الوزارة.
وفي ديوان الوزارة زارني للتهنئة والتعارف كبار ضباط الجيش، وعلى رأسهم الفريق سبنكس باشا المفتِّش العام، ثم كبار ضباط الوزارة ورؤساء إدارتها وعلى رأسهم وكيل الوزارة.
والحق أنه منذ ذلك اليوم أحسستُ كأني في بيتي بين أهلي وعشيرتي، ولم أُحِسَّ بشيء من الوحشة التي توقَّعْتُها يوم تعييني. ولعل ذلك يرجع إلى أني لم أكن غريبًا عن وزارة الحربية، بل كنت دائم الاتصال بكبار موظفيها، حين كنت مستشارًا ملكيًّا لهذه الوزارة في المدة بين سنة ١٩٢٩م و١٩٣١م.
ولذلك لم أَكُنْ في حاجة إلى دراسة نُظُم الوزارة التي عَرَفْتُها من قَبْلُ، وكان هَمِّي الأول تَعَرُّف سياسة الوزارة؛ أي الطريقة التي تُدَارُ بها أمورها، وبخاصة مدى سلطة المفتش العام للجيش، بمقتضى الاتفاقية التي عقدتها الحكومة المصرية إثر مقتل لي ستاك باشا.
(٢-٢) قصة الجوادين
علمت من ياوري أن العلاقة بين سلفي وبين سبنكس باشا كانت في توتر شديد، وأن الأخير كان يتَّخِذ من توتر هذه العلاقة سببًا للاستئثار بالسلطة في الوزارة ولا يرجع إلى الوزير في أمورها إلا في المسائل المالية، التي يختص بها مجلس الوزراء بحكم القانون.
كما علمت أن سبب توتر هذه العلاقة لا يرجع إلى أمر هام، استمسك به الوزير حرصًا على المصلحة العامة، وإنما سببه الخلاف على جوادين.
وبيان ذلك أن الجيش يستورد جِيَادَه عادةً من بلاد الأرجنتين في أمريكا الجنوبية، وتُسْتَوْرَدُ هذه الجِيَاد جُمْلَةً بثمنٍ مُوَحَّد للجواد الواحد، بينما تتفاوت الجياد في القيمة. وجَرَتِ العادة كلما وردت دفعة من الخيل بأن يختار من يريد من كبار الضباط جوادًا أو جوادين منها، مقابل دفع ثمن الجواد بواقع السعر المُوحَّد وليس بواقع ثمن المِثْل، كما جرت العادة بأن الخيل المستوردة تزيد في العدد قليلًا عن مطلوب الجيش، احتياطًا لما قد يُنفَق منها أثناء الطريق، وعلى ذلك فاختصاص الضباط ببعض الجياد لا ينقص من حاجة الجيش.
ولما وردت إحدى دفعات الخيل اختارَ بعض كبار الضباط منها جوادًا أو جوادين، ومن هؤلاء الضباط الفريق سبنكس باشا، ولكن الوزير رَفَضَ الموافقة على البيع للأخير؛ فكان ذلك على تفاهته سبب توتر العلاقة بين الاثنين.
وحين علمت بهذه القصة أَمَرْتُ بتسليم الجياد لمن اختاروها، وامتنع سبنكس باشا في بادئ الأمر عن استلام جوادَيْه، بدعوى أن سلفي قد أهانه، وأن أثر هذه الإهانة لا يزال قائمًا في نفسه، وأخيرًا تسلَّمَها شاكرًا.
(٢-٣) بنادق أنفلد
كان سبنكس يزورني في مكتبي صباح كل يوم. وفي أحد الأيام رآني لابسًا بذلة الردنجوت فسألني عن السبب، ولما أجبته بأن الملك استدعاني لمقابلته قال لي: لعلَّه يريد أن يتحدث معي في موضوع سلاح الجيش وبخاصة بنادق أنفلد. فقد بلغ إلى علمه أن ضابطًا أيرلنديًّا قابَلَ الملك أخيرًا، وانتقد تسليح الجيش قائلًا إن بنادقه قديمة مستعملة، مع أن هذا غير صحيح؛ لأن بنادق الجيش المصري من نوع بنادق الجيش البريطاني تمامًا، وهي جميعًا قد استُعمِلَتْ في الحرب، ولكن بنادق الجيش المصري أصلح من بنادق الجيش البريطاني، بدليل أن نسبة ما يُستصلَح منها في وقت السلم ٨٪ بينما نسبة ما يُستصلَح من بنادق الجيش البريطاني ٣٣٪.
ثم قال لي إنه تَجْري الآن في الجيش البريطاني تجربة نوع جديد من البنادق بدلًا من بندقية أنفلد، وبمجرد اعتمادها سيَصِلنا نصيبنا منها كاملًا، ثم حَضَرَ إلى سبنكس كتابُ وزارة الحربية البريطانية الذي تَعِدُ فيه بذلك.
شكرْتُ سبنكس على هذه البيانات، وأنا في شك من أن بنادق أنفلد ستكون موضوع المقابلة مع الملك؛ اعتقادًا مِنِّي بأن حديث سبنكس باشا رَجْمٌ بالغيب، ولكنني بمجرد أن قابلتُ الملك بادَرَني بالسؤال عن سلاح الجيش وعن بنادق أنفلد بالذات.
وحينئذٍ عَرَضْتُ على مسامع الملك جميعَ التفاصيل التي تلقيتُها من سبنكس باشا قبل ذلك بساعة واحدة.
ودُهِشَ الملك لهذه البيانات، متسائلًا كيف استطعت أن أُلِمَّ بها، ولمَّا لم يَمْضِ عليَّ غير شهر واحد في وزارة الحربية، ولم أُرِدْ أن أُخفي على الملك حقيقةَ الأمر لِأدَّعي لنفسي فضلًا لا أستحقه، فرَوَيْتُ له قصة مقابلة سبنكس باشا وحديثه معي.
وحينئذٍ قال لي الملك إني أستحق الشكر مرتين، أولًا على صراحتي، وثانيًا على توثيق العلاقة بيني وبين سبنكس باشا، راجيًا أن يكون ذلك في مصلحة الجيش.
ثم قال لي إنه سيكون سعيدًا لو استطاع معرفة كيف عرف الإنجليز أن ضابطًا أيرلنديًّا زاره وتحدَّثَ إليه في موضوع أسلحة الجيش؛ ليعرف من هم من رجال قصره الذين يقومون بالتجسس عليه.
(٢-٤) زيادة قوات الجيش
كانت قوات الجيش مُحدَّدة بحكم الاتفاقية المعقودة بين الحكومتين البريطانية والمصرية، وكان الملك فؤاد يرغب في زيادة قوات الجيش والسعي في التحلل من قيود هذه الاتفاقية.
قال الملك لي مرة إنَّ هذه هي مهمتي الأولى، سواء كانت في وزارة الخارجية أو في وزارة الحربية، وإنه يفوضني في السعي فيها بهاتين الصفتين. والحقُّ أنَّ يحيى باشا — رئيس الوزراء ووزير الخارجية — لم يضنَّ عليَّ بحق الاتصال المباشر مع الحكومة البريطانية في هذا الشأن، كما كان يعهد إليَّ في كثير من مهام وزارة الخارجية.
وكانت العلاقة في ذلك الوقت متوترة بعض الشيء بين دار المندوب السامي ورياسة الحكومة؛ فكان لا بد من أن أزيل أسباب سوء التفاهم بينهما؛ تمهيدًا للتفاوض بشأن زيادة قوة الجيش والتحلُّل من قيود الاتفاقية، فحملت يحيى باشا على دعوة المندوب السامي إلى رحلة نيلية على ظهر إحدى بواخر الحكومة. وفي أثناء الرحلة بدأت حديثي في الموضوع مع المندوب السامي، منتهزًا فرصة سؤاله عما إذا كُنت أُفضِّل عملي في وزارة الخارجية عنه في وزارة الحربية أو العكس.
وبعد أيام أرسلتُ له مذكرة في الموضوع؛ فأوفد لي مستر هوبكنسن يُخطِرني بأن المندوب السامي أبلغ مذكرتي لحكومته، وأنه سيبعث لي بردها بمجرد وصوله.
ومستر هوبكنسن كان السكرتير الأول لدار المندوب السامي، وهو شاب في مقتبل العمر، حاصل على شهادة عالية في العلوم السياسية، وكان موضع ثقة حكومته، يقوم بأدق المشاكل السياسية، وقد أوفد مرة مندوبًا خاصًّا لدى حكومة روسيا السوفيتية ووصل أخيرًا إلى مرتبة سفير.
وفهمت من السكرتير أن المسألة أُحِيلَتْ إليه لمفاوضتي فيها عند الاقتضاء، وفعلًا بدأ يناقشني في الموضوع تفصيلًا عن مدى الزيادة المطلوبة ونوع السلاح، وعَمَّا إذا كان لدينا العدد الكافي من الضباط.
ومن هذه المناقشة فهمت أن مبدأ زيادة قوة الجيش مقبول، وأن المفاوضات ستتناول تفاصيل الموضوع فحسب، وأبلغت سبنكس باشا بحديثي مع سكرتير دار المندوب السامي فَسُرَّ له، ووعدني بالمساعدة فيه ما أمكن، ثم طلبت منه أن يضع لي مشروعًا وافيًا في هذا الموضوع.
على أنه لم يَمْضِ على مقابلة السكرتير لي ثلاثة أسابيع، حتى عاد إليَّ يخبرني بأن الحكومة البريطانية ترى أن الوقت لم يَحِنْ بَعْدُ لإعادة النظر في اتفاقية الجيش، وأنه ليس لديها في الوقت الحاضر معدات كافية لزيادة أسلحة الجيش المصري، وأنها سوف تنظر إلى طلب الحكومة المصرية بعين العطف في المستقبل القريب، وإلى ذلك من العبارات السياسية التي لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر شيئًا في الموضوع.
وكان سبنكس باشا قد أعدَّني لهذا الرد؛ فأعددت بدوري ردِّي عليه، فحالما أبلغني السكرتير رأي حكومته، قلت له: إذن سأعمل على زيادة قوة مصلحة الحدود، التي لا تدخل في اتفاقية الجيش ولا تحتاج في زيادتها إلى موافقة الحكومة البريطانية.
وحينئذٍ طلب السكرتير مهلة لبحث هذا الموضوع الجديد، ولما عاد إليَّ قال لي إنه لا اعتراض لحكومته على زيادة قوة مصلحة الحدود من حيث المبدأ، وإنما هي تريد أن تعلم مدى هذه الزيادة، ومن أي جهة سوف يُستورَد السلاح، إذا ما عجزت الحكومة البريطانية عن مَدِّنا به.
وعند ذلك شرحت له ما رأيته بعينَيْ رأسي في سنة ١٩٢٩م، من عجز سلاح مصلحة الحدود عن مقاومة قوات الحكومة الإيطالية في حدودنا الغربية، وتعدِّي هذه القوات على الأراضي المصرية لاسترجاع العرب النازحين إليها، وأنه ليس من المعقول أن تظل قوتنا هناك مقصورة على لوريات نقل مجهزة بمدفع رشاش لمقاومة الدبابات الإيطالية، وأن لإيطاليا مطامع في أراضينا من الجريمة أن نتجاهلها أو أن نلجأ إلى غيرنا لحمايتنا منها، ونحن قادرون بمواردنا في المال والرجال على الدفاع عن بلادنا بأنفسنا، وأن حدود مصر مترامية الأطراف، وبخاصة حدودها الغربية التي نتوقع أن ستكون موضع الخطر؛ ولذلك كله فإني أطلب زيادة قوات الحدود إلى أربعة أضعافها.
أما فيما يتعلق بالسلاح فإن رفضت الحكومة البريطانية مَدَّنا به فليس ما يمنعنا من استيراده من جهة أخرى؛ لأن شرط استيراده من بريطانيا ومطابقته لسلاحها مقصور على أسلحة الجيش دون مصلحة الحدود.
ثم قلت له أخيرًا إن سلاح هذه المصلحة كله في يد ضباط بريطانيين فلا خوف من زيادته، وإن هؤلاء الضباط جميعًا يُرَحِّبون بهذه الزيادة؛ فلا محل لإنكار ضرورتها.
وأخيرًا، أبلغني السكرتير بأن حكومته توافق على زيادة سلاح الحدود إلى الضعف فورًا، وأنها على استعداد لِمَدِّ الحكومة المصرية بما تقتضيه هذه الزيادة، على أن يُنظَر في المستقبل في كل زيادة تطلبها هذه الحكومة على ضوء ظروف الحال، وقال لي إنه مفوض بإبلاغي ذلك.
بعد ذلك استقالت وزارة عبد الفتاح يحيى باشا، وخلفتها وزارة توفيق باشا نسيم بأمر الحكومة البريطانية؛ فأُسْدِل الستار على هذا الموضوع الحيوي الهام ثلاث سنوات حتى كانت معاهدة ١٩٣٦م.
(٢-٥) سلاح الطيران
كان سلاح الطيران في سنتَيْ ١٩٣٣–١٩٣٤م في بدء نشأته، فوصل السرب الأول في عهد سلفي ووصل الثاني في عهدي، فاختلفنا باستقباله في مطار الداخلية وفي مطار ألماظة، ثم أُقِيمَتْ بكوبري القبة حفلة ثالثة لتكريم نسوره، حضرها الملك فؤاد.
ولم يلبث هذا السلاح منذ تَوَلَّى قيادته الضباط المصريون أن أصبح مفخرة الجيش، وموضع إعجاب الأجانب والمصريين على السواء. وها هو الآن قد استوفى عُدَّته أخيرًا بجنود المظلات وأحدث أنواع الطائرات.
(٢-٦) مرسى مطروح
زُرْتُ مرسى مطروح لأول مرة في سنة ١٩٢٩م، أثناء رحلتي للسلوم لتنفيذ معاهدة جغبوب، فمررت على طول شاطئ البحر الأبيض المتوسط من الإسكندرية إلى السلوم، وأدركت في الحال أن هذا الشاطئ لا يَقِلُّ في جماله عن الريفييرا وغيرها من الشواطئ، التي يقصد إليها السياح من مختلف بلاد العالم صيفًا وشتاء، مع فارق أن جو الشاطئ المصري في الصيف أجف وأصح وأجمل من أجواء تلك الشواطئ، وأن استغلال هذا الشاطئ يجعل منه موردًا من أهم موارد الدولة، فوق ما يُوفِّره على المصريين من نفقات أسفارهم إلى أوروبا في موسم الصيف.
ولما كان هذا الشاطئ تابعًا لمصلحة الحدود فلوزارة الحربية؛ وقع على عاتق هذه الوزارة استغلاله، على أن يُبدَأ بإعداد مرسى مطروح مصيفًا للمصريين.
وخليج مرسى مطروح أجمل من بحيرة برينز في سويسرا، ومرسى مطروح جوها جاف وهواؤها عليل؛ مما يزيد الإقبال عليها عن أي مكان آخر في الشواطئ المصرية.
ولذلك دعوت رئيس الوزراء وبعض الوزراء لقضاء أسبوع في مرسى مطروح، وحرصت على أن يكون بين هؤلاء وزير المالية المرحوم حسن باشا صبري؛ فقضينا في هذا الميناء أطيب الأوقات، وقَدَّرْنا ما سيكون لمرسى مطروح من الشأن، إذا ما اتسعت أرجاؤها وتوافرت فيها أسباب الراحة، ثم قررنا بالإجماع وجوب العمل فورًا على تحقيق هذه الأغراض.
ولكن الوقت لم يَتَّسِعْ لنا ولا لمن خلفنا لوضع هذا المشروع الحيوي موضع التنفيذ.
(٢-٧) حفلة الألعاب العسكرية
أُقِيمَتْ هذه الحفلة في ميدان الألعاب بكوبري القبة، وحضرها الملك فؤاد مع ولي عهده الأمير فاروق، وهي أول حفلة حضرها الأمير؛ ولذلك أوصاني الملك بألا أُعْنَى بالأمير عناية خاصة؛ لأنه ليست له حتى الآن صفة رسمية.
ولما استعرض الملك قرقول الشرف تَبِعَهُ الأمير؛ فأمره الملك بالرجوع إلى المدرج والجلوس في المكان الذي يُرشَد عنه.
وكانت الحفلة باهرة جدًّا بنظامها الدقيق المتقن. فقد حضرها ألف وخمسمائة من المدعوين، وُزِّعَتْ عليهم جميعًا أقداح الشاي وقِطَع الحلوى وهم في أماكنهم.
وكانت الألعاب العسكرية موضع الإعجاب، بَدَتْ فيها مهارة الجنود إلى أقصى حد، وكان لخيالة الجيش وهجانة مصلحة الحدود المرتبة الأولى في تلك الألعاب.
وفي نهاية الحفلة قَصَدَ الملك مع الأمير وكبار المدعوين إلى المقصف، وقال لي الملك بألا أَدَع الأمير يتناول أكثر من قطعة واحدة من الحلوى، ولكن الأمير غافلني واختلس منها ثلاثًا.
(٢-٨) حفلة تخريج طلبة المدرسة الحربية
قبل إقامة هذه الحفلة قصد إليَّ بعض الضباط الشبان، قائلين إن العادة جَرَتْ بأن تقوم ليدي سبنكس — قرينة المفتش العام — بتوزيع الشهادات على خريجي المدرسة الحربية، وإنه ما دامت قرينة الوزير تُدعَى إلى الولائم الرسمية في قصر عابدين، فإنهم يرجون أن تقوم بنفسها بتوزيع الشهادات على خريجي المدرسة الحربية؛ ليتلقَّى ضباط الجيش شهاداتهم من يَدٍ مصرية.
أكبرت فيهم هذه الروح الوطنية وشكرتهم، ثم وعدتهم بالعمل بإرادتهم. وفي يوم الحفلة حين قامت قرينتي بتوزيع الشهادات، ضَجَّ مئات الضباط وطلبة المدرسة الحربية بالتصفيق والتهليل في حماس منقطع النظير، إِنْ دَلَّ على شيء فعلى وطنية رجال الجيش فحسب.
ومما يجب عليَّ تسجيله هنا أن الفريق سبنكس باشا وقرينته لم يُبديا في هذه المناسبة أي إشارة تنم عن شيء من التأثر أو الامتعاض، وأنهما على العكس من ذلك رأيا أن من الحق أن تكون الأولية في هذه الحفلة لقرينة الوزير، وأن سبنكس باشا نفسه لم يَرَ في حماس الضباط إلا مظهرًا طبيعيًّا لنمو الوعي القومي في نفوس رجال الجيش.
(٢-٩) زيارة أساطيل الدول الأجنبية للمواني المصرية
جَرَتِ العادة في زيارة الأساطيل الأجنبية للمواني المصرية بأن يكتفي قائدها بزيارة محافظ المينا، فيرد له المحافظ الزيارة على ظهر بارجة الأميرال.
ولما زار الأسطول الإيطالي الإسكندرية حضر قائده إلى القاهرة وزارني في وزارة الحربية، وحين رددت له الزيارة على ظهر بارجته بالإسكندرية أطلق الأسطول إحدى عشرة طلقة من مدافعه تحيةً لي، واستقبلني قائده وأركان حربه على ظهر بارجة القيادة، وعزفت موسيقاها بالنشيد الوطني المصري. وبعد أن استعرضت فصيلة من البحارة تفقدت سلاح البارجة، ثم دُعِيتُ إلى تناول الطعام على مائدة الأميرال، وأخيرًا وُدِّعْتُ بين مظاهر الحفاوة والإجلال.
وكذلك حين حَلَّ الأسطول الياباني بالإسكندرية زارني قائده في وزارة الحربية، فدعوتُه وسائر ضباطه إلى وليمة أعددتها لهم في دارى، حضرها جميع الوزراء ورجال القصر وكبار ضباط الجيش. ودعاني الأميرال لزيارة قِطَع الأسطول فلبيت دعوته، وحين استقبلني اعتذَرَ لي عن عدم تحيتي بطلقات مدافع الأسطول لوفاة الأميرال طوجو بطل اليابان في حربها مع روسيا، فقدَّمْتُ له عزائي ورجوتُه أن يقصر حفاوته بي على تناول قدح من الشاي.
وقد أهداني الأميرال على سبيل التذكار نموذجًا دقيقًا لكبرى بوارجهم التي حمولتها ٣٥٠٠٠ طن، وكان الحد الأقصى لحمولة البوارج في ذلك الوقت.
وإثر احتفائي بالأسطول الياباني زارني أحد رجال دار المندوب السامي، وأبلغني احتجاجًا وديًّا لاحتفائي بالأساطيل الأجنبية دون الأسطول البريطاني، رغم زياراته المتكررة للموانئ المصرية؛ فأجبته بأن قواد هذه الأساطيل زاروني في وزارة الخارجية، أما قواد الأسطول البريطاني فلم يكلفوا أنفسهم هذه الزيارة مرة واحدة، رغم تردد الأسطول على الموانئ المصرية مرارًا.
وحين قدم أول أسطول بريطاني بعد هذه المقابلة زارني قائده بدار الوزارة ببولكلي، فرددت له الزيارة ودعوته وضباطه إلى تناول طعام الغداء بحديقة النزهة.
(٢-١٠) خرائط حرب مصر مع الحبشة
ذكرت في مناسبتين سابقتين أن الإيطاليين كانوا يعدون عدتهم للهجوم على الحبشة، وتأيَّدَ عندي ذلك من الواقعة الآتية:
بينما كنت في مكتبي بوزارة الحربية اتصلت بي سيدة بالتليفون، تقول لي إنها صديقة لكريمتي منذ كان الاثنتان تتلقيان العلم في مدرسة القلب المقدس، وإن خالها ضابط بالجيش الإيطالي يريد مقابلتي في أمر ما، ثم قطعت الاتصال قبل أن أسألها عن اسمها وعن بغية خالها الضابط، وقبل أن أُحدِّد لها موعد المقابلة زارني الضابط فعلًا، فرابني أمر هذه الزيارة.
وحين حضر إليَّ الضابط سألني مباشرة ودونما تردُّد عما إذا كان في محفوظات الوزارة خرائط للمواقع الحربية، التي جرت بين مصر والحبشة في حربهما الأخيرة.
ولما سألته عما يريده من هذه الخرائط أجابني بأنه مجرد استعلام، فقلت له: لا بد أن يكون لهذا الاستعلام غاية، وبخاصة لأنك ضابط بالجيش الإيطالي، وأنك على ما يظهر قد جئت خصيصًا إلى مصر للحصول على هذه الخرائط.
ولما لزم الصمت قلت له إنه ليس لدى الوزارة خرائط من هذا النوع، فطلب مني أن أدله أين تكون، فأجبته بأن ليس لدينا خرائط، وإن كان فلن أطلعك أو أدلك عليها؛ لأنها من الأسرار العسكرية. وعلى ذلك انصرف الضابط.
ولم يَمْضِ على هذه المقابلة بعض السنين حتى قامت إيطاليا بالهجوم على بلاد الحبشة؛ وبذلك صدق ظني عند مقابلة الكونت باليانو لي في بولكلي، ثم عند مقابلة هذا الضابط لي بالوزارة.
(٣) مرض الملك فؤاد
مرض الملك في سنة ١٩٣٤م، ولما اشتدت به العلة انقطع عن مقابلة وزرائه، بينما كان قبل ذلك وثيق الصلة بهم للاطلاع على مهام الدولة والاشتراك معهم فيها.
ولم يكن الملك فؤاد مؤمنًا بأحكام الدستور التي تحد من سلطته، بل كان يقول في صراحة إن من حقه بوصفه مصريًّا أن يشترك في الحكم مع وزرائه، وإن له من تجاربه ما يجعله المرجع الأخير عند الاختلاف معهم في الرأي.
والواقع أن الملك فؤاد كان يَفُوق الكثيرين من وزرائه في الحكمة والسياسة، ولكن الواقع أيضًا أنه كان من وزرائه من لا يتطرق الشك في حكمتهم وسياستهم، ولم يكونوا مع ذلك محل ثقته ورضائه.
ومرجع ذلك — كما قدَّمْتُ — أنه كان بحكم نشأته ملكًا أوتوقراطيًّا، يَمِيل بطبعه إلى الاستئثار بالحكم، وكان كسائر هذا النوع من الملوك يُقرِّب إليه من يعتقد فيه الإخلاص لذاته، بغض النظر عن أي اعتبار آخر، ثم يُولِيه ثقته ولا يعمل إلا بمشورته؛ وبذلك يخلق من بطانته عنصرًا يستبد بالحكم دون أن يكون مسئولًا عنه، إلى جانب الوزارة التي تشل يدها عن الحكم وتظل مسئولة عنه، وتتنازع السلطتان على البقاء؛ فتظفر الأولى به ما دامت إقالة الوزراء بيد ملك البلاد.
ولقد وقعت في عهد الملك فؤاد حادثة كبيرة من هذا النوع كان لها أبلغ الأثر في سياسة البلاد، فضلًا عن إساءة الحكم فيها، وكان أبلغ هذه الآثار تدخُّل الأجنبي تطوعًا منه أو احتكامًا إليه.
وموضوع حديثي هنا الحادث الآتي:
لما انقطع اتصال الملك فؤاد بوزرائه بسبب مرضه، كان ناظر خاصته وحده أداة الاتصال بينه وبين وزرائه. ولم يكن الشعب ولا الوزراء على علم بحالة الملك كما هي عادة ملوك الشرق؛ فكان المشاع حينًا أن المرض قد اشتدَّ بالملك، وأن ناظر خاصته كان يدير أعمال الدولة بشخصه، وكان القول حينًا إن صحة الملك في تحسُّن وإنه يشرف على مهام المُلْك بنفسه.
ورجَّح الرأيَ الأول أن ناظر الخاصة كان يُدْلِي برأيه أحيانًا على الفور، دون أن يستمهل مُحَدِّثَه لعرض الأمر على الملك؛ ولهذا كانت صحة الملك تتحسَّن من وقت إلى آخر دون أن يصدق ذلك الكثيرون.
وكان لا بد من أن يُحْدِث ذلك بلبلة في الأفكار واضطرابًا في أداة الحكم، وكان العلاج القويم لهذه الحالة أن تصدر نشرات عن صحة الملك، وإذا كان مرضه يَحُول دون القيام بأعباء الملك، أن يُعَيِّن من يقوم عنه مؤقتًا بهذه الأعباء.
ولكن شيئًا من هذا لم يحصل، وألقى الناس المسئولية في ذلك خطأ أو صوابًا على ناظر الخاصة، متهمين إياه بالرغبة في الاحتفاظ بسلطاته، ويدللون على ذلك بأنه كان يَحُول دائمًا دون تعيين رئيس للديوان.
والواقع أن للمسألة أكثر من ناحية، فقد يكون الملك نفسه صاحب الرأي في ذلك، سواء أملًا في شفاء عاجل أو خشية تولي الأمير محمد علي الوصاية، أو لسبب آخر لم يتبيَّن من ظروف الحال.
ولما طال مرض الملك رأى الإنجليز أن يتدخلوا في الأمر.
ومن عادة هؤلاء القوم أنهم إذا ما أرادوا اتخاذ إجراء مشدد، اتخذوه على يد ممثل يختارونه لهذا الإجراء، ولا يعهدون به إلى ممثلهم الأصيل؛ حفظًا لخط الرجعة إذا ما فشلوا، واستبقاء لحسن العلاقة بينهم وبين الحكومة المندوب إليها.
فلمَّا قام المندوب السامي بالإجازة أوفدت الحكومة البريطانية نائبًا عنه سير بيترسن — أحد موظفي وزارة خارجيتها — وكانت مشكلة مرض الملك قائمة وقتئذٍ، وكان قد استقرَّ رأي الحكومة البريطانية على التدخل فيها.
وحضر سير بيترسن على ظهر الباخرة التي عليها عاد توفيق باشا نسيم، وسوف يتبيَّن أن عودتهما معًا لم تكن مصادفة.
ولم تمضِ أيام على حضور سير بيترسن، حتى تقدَّم ليحيى باشا بطلبات ثلاثة؛ الأول: تعيين وصي للملك. الثاني: إبعاد ناظر الخاصة. الثالث: إقالة وزيرين من أعضاء الوزارة.
وعهد إلى يحيى باشا في مناقشة المندوب السامي في هذه الطلبات، وبعد محادثات طويلة شاقة، اتفقنا مبدئيًّا على الحلول الآتية؛ الأول: أن يُصرَف النظر عن طلب الوصاية؛ وهو أهم الطلبات. الثاني: أن يُعيَّن الملك زيور باشا رئيسًا لديوانه، على أن يكون له وحده حق الاتصال بالوزراء، دون ناظر الخاصة. الثالث: أن يستقيل الوزيران.
وبعرض هذه الحلول على يحيى باشا أَقَرَّها، ثم جاء رَدُّ الحكومة البريطانية بقبولها، ولم يَبْقَ سوى التنفيذ.
وحصل في الأثناء أن اغتيل ملك يوغسلافيا في مرسيليا، وأقامت الجالية اليوغسلافية قداسًا على روحه في كنيسة سان جوزيف، حضره يحيى باشا وسير بيترسن، ووُضِعَ للاثنين مقعدان متقدمان؛ فكان ذلك محلًّا لامتعاض يحيى باشا، وتحدَّثَ الاثنان بشأن الاتفاق، ثم وعد سير بيترسن بزيارة يحيى باشا إثر انتهاء الصلاة؛ لِيَضَعَا الاتفاق موضع التنفيذ.
وخرجت من الكنيسة في صحبة رئيس الوزراء، ولاحظت عليه علائم الغضب وفي ظهر ذلك اليوم اتصل بي مستشار دار المندوب السامي، قائلًا إن سير بيترسن يبلغني أنه يعتبر اتفاقنا كأن لم يكن، ولما أردت التحري منه عن السبب، قال لي: اسأل يحيى باشا.
ولما قابلت يحيى باشا على الأثر، قال لي إن سير بيترسن مَرَّ به، وبدأ يُحَدِّثه في الموضوع بشيء من العظمة، فقلت له إني لا أقبل أن يدوس على قدمي أحد؛ فغضب وانصرف.
وهكذا فشل الاتفاق، وكان أول مَنْ ساءه هذا الفشل الملك فؤاد.
ولست أدري إذا كان غضب يحيى باشا هذا كان عن هنة دبلوماسية منه أم لا، إنما الواقع أن الاتفاق كان في مصلحة الملك، بدليل أنه سارع إلى تنفيذه فَعُيِّن زيور باشا رئيسًا للديوان، ووافق على أن يطلب من الوزيرين تقديم استقالتهما، بينما عدل عن الوصاية على الملك.
وانتهى الأمر باستقالة عبد الفتاح باشا يحيى، وتعيين توفيق باشا نسيم خلفًا له بناء على طلب الإنجليز، ثم بإبعاد زكي الإبراشي باشا عن القصر بتعيينه وزيرًا مفوضًا لدى حكومة بلجيكا.
(٤) لجنة تعديل القوانين
في وزارة علي ماهر في سنة ١٩٣٥م، شُكِّلَتْ لجنة برياسة المرحوم مراد باشا سيد أحمد وعضوية بعض رجال القانون لمراجعة القوانين وتعديلها، وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة.
وكانت اللجنة تعقد اجتماعاتها بوزارة الخارجية، وكان بها مكتب الرئيس، أما أنا فاخترت مكاني بمكتبة كلية الحقوق بجامعة القاهرة.
وبدأت اللجنة أعمالها بمراجعة القانون المدني، فوزَّعَتْ أبوابه على أعضائها، وخَصَّني منها باب الكفالة، ثم وضعت مشروعًا بتعديله وأرفقته بمذكرة إيضاحية، وانتهت اللجنة من الموافقة عليه بعد مناقشات مستفيضة. وقد أخذ به الأستاذ السنهوري دون تعديل، عند وضعه مشروع تعديل القانون المدني.
وكانت أعمال اللجنة باللغة الفرنسية؛ لأن بعض أعضائها كانوا من الأجانب من مستشاري محكمة الاستئناف المختلطة.
وكانت مناقشات اللجنة على جانب عظيم من الأهمية من الناحية العلمية، فكانت أشبه شيء بمجمع علمي، تُتداوَل فيه الأبحاث وتُناقَش المبادئ على أحدث النظم التشريعية.
وكانت اجتماعات هذه اللجنة تُذكِّرني بمداولات لجنة قضايا الحكومة أو اللجنة الاستشارية التشريعية، إلا أن هاتين اللجنتين كانتا أكثر انسجامًا وأوفر إنتاجًا من لجنة تعديل القوانين. ويرجع السبب في ذلك إلى أن رئيس الحكومة بينما اشترط عليَّ التفرغ لأعمال اللجنة لم يفعل ذلك مع سائر أعضائها؛ فكان هؤلاء يعتبرون مهمتهم في اللجنة عملًا إضافيًّا إلى جانب عملهم الأصلي، ولأن رئيس اللجنة كان يهتم بمظاهر الرياسة أكثر من اهتمامه بأعمال اللجنة نفسها.
ولما خلفت وزارة الوفد وزارة علي ماهر أُعِيدَ تشكيل اللجنة على أساس عدم تناول أعضائها مكافأة ما باستثنائي لتفرغي لأعمالها، ولم تكن اللجنة أكثر إنتاجًا من الأولى؛ ولذلك رُئِيَ بعد ذلك أن يكون تعديل القوانين على أيدي لجان مختلفة، على أن يقوم بوضع مشروعاتها بعض أساتذة كلية الحقوق؛ فكان ذلك أسرع وأجدى. وأهم هذه القوانين القانون المدني، الذي وضعه الدكتور السنهوري، ثم عُرِضَ على البرلمان، وناقشته لجنة خاصة من مجلس الشيوخ ثم أقرَّه المجلس.
ويُعتبَر هذا القانون وأعماله التحضيرية من أَجَلِّ الأعمال التشريعية الحديثة.
(٥) الحراسة على البنك الإيطالي المصري
لما نشبت الحرب العالمية الثانية وانضمَّتْ فيها إيطاليا إلى ألمانيا، قُطِعَتْ علاقتنا السياسية مع هاتين الدولتين، واعتُقِلَ أتباعهما في مصر ووُضِعَتْ أموالهم تحت الحراسة.
وفي سنة ١٩٤٠م عينت حارسًا على البنك الإيطالي المصري بفرعيه في القاهرة والإسكندرية، ولم تَدُمْ حراستي على هذا البنك أكثر من شهر واحد؛ حيث عُيِّنْتُ في وزارة المرحوم حسن باشا صبري وزيرًا للتموين.
ولم أرَ محلًّا لتقاضي مكافأتي عن هذه المدة القصيرة، فلم أطالب بها حتى الآن.
(٦) في وزارة التموين سنة ١٩٤٠
(٦-١) حسن باشا صبري
إثر استقالة الرئيس علي ماهر من وزارته الثانية في سنة ١٩٤٠م، عَهِدَ إليَّ المرحوم حسن باشا صبري في تشكيل الوزارة.
ولم تَطُلْ وزارة صبري باشا حيث عاجَلَه الموت فجأة، وهو يُلْقي خطاب العرش في المؤتمر البرلماني يوم افتتاح البرلمان.
على أنه بالرغم من قصر عمر وزارة صبري باشا، فقد تجلَّتْ فيها صفاته الحسان لم يكن معروفًا عنه قبل تَوَلِّيه دفة الحكم صفة من الصفات التي امتاز بها سلفاؤه: ككياسة عدلي، وكفاية ثروت، وزعامة سعد، وحنكة صدقي. ولكنه أثبت في مدة حكمه القصيرة أنه كان المثل الأعلى لطهارة الذمة والصراحة في القول والحزم في العمل، وهي الصفات التي كنا أحوج ما نكون إليها في الظروف القاسية التي مَرَّتْ بها البلاد.
اقتضت الظروف أن يُشَكِّل صبري باشا وزارته في ساعات، فأشرك فيها المستقلين والأحرار الدستوريين والسعديين.
على أن السعديين ما لبثوا أن اختلفوا معه على سياسة الحكم؛ حيث أصَرَّ المرحوم الدكتور أحمد ماهر وزملاؤه من السعديين على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء، إذا ما اقتحمت جيوش المحور الأراضي المصرية، وكان من رأي صبري باشا أن يُجَنِّب بلاده ويلات الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
وترتَّبَ على هذا الخلاف أن استقال الوزراء السعديون؛ فعُدِّلَت الوزارة وقصرت على المستقلين والأحرار الدستوريين.
ولم تكن صحة صبري باشا لتحتمل متاعب الحكم، وقد أنذره أطباؤه بذلك أكثر من مرة ولم يعبأ بإنذارهم، فرحل مأسوفًا عليه من الجميع.
وفي اعتقادي أن صبري باشا لو عاش طويلًا لكان رجل الساعة؛ لأنه الرجل الذي كان في وسعه كسب رضاء الشعب بنزاهته واستقامته، وفي استطاعته أن يقول للملك لا بحزمه وقناعته، وكان بهذا وذاك أقدر من يكون على الدفاع عن حقوق الشعب وحمايته من كل عسف أو غصب.
(٦-٢) إنشاء وزارة التموين
أُنْشِئَتْ وزارة التموين وعُيِّنْتُ وزيرًا لها بالمرسوم الصادر بتشكيل الوزارة، ولما لم يصدر مرسوم خاص بإنشاء هذه الوزارة؛ فلم تُحدَّد اختصاصاتها ولم يُعيَّن موظفوها، ولكن كان مفهومًا أن هذا الاختصاص وهذا التعيين سيكونان على حساب وزارة التجارة، التي كانت تقوم بأعمال التموين قبل الحرب. وصادفتني بعض الصعوبات مع وزارة التجارة والصناعة، في تعيين اختصاص وزارة التموين واختيار موظفيها، كتلك الصعوبات التي صادفتني عند إنشاء قسم المرافعات في لجنة قضايا الحكومة، على أن هذه الصعوبات لم تلبث أن زالت بحسن التفاهم والتعاون على المصلحة العامة.
ولقيت أكبر عون في هذه الوزارة في شخص المرحوم عبد الحميد عرفان سيف النصر، الذي كان سكرتيرًا لي عندما كنت مستشارًا لوزارات الحربية والمعارف والزراعة فمستشارًا لقسم المرافعات، ثم عضوًا بلجنة تعديل القوانين؛ فاتخذته مديرًا لمكتبي.
(٦-٣) قرار توزيع الكيروزين بالبطاقات
في اليوم الأول الذي حضرت فيه إلى الوزارة، قِيلَ لي بوجوب صدور القرار الوزاري بتنظيم توزيع الكيروزين بالبطاقات في ظرف ثمانٍ وأربعين ساعة، ولما طلبت مشروع القرار للاطلاع عليه؛ قيل لي إنه لم يُعَدَّ بعد، ولما سألت عن سبب عدم إعداده وفي وزارة التجارة والصناعة إدارة خاصة للتشريع، أُجِبْتُ بأنه لم يكن لدى هذه الإدارة نماذج لمثل هذه القرارات لتضع المشروع على منوالها، وأن الوزارة طلبت من سفرائنا في الخارج أن يرسلوا إليها بعض هذه النماذج ولكنهم لم يفعلوا.
وحينئذٍ أخذت ملف الموضوع وقصدت إلى داري، ثم عكفت على وضع القرار، وكانت مهمتي شاقة جدًّا؛ لأن ليس لهذا القرار مثيل في مصر، وليس تحت يدي صورة من وضع البلاد الأخرى؛ فكان لا بد من أن أتخيَّل كل الظروف وأحسب لكل الاحتمالات حسابها؛ لإحكام النظم في تحقيق العدالة في التوزيع على المستهلكين ومنع تلاعب التجار، مع مراعاة كمية المخزون من الكيروزين وقوة الإنتاج ومقدار الاستيراد، ثم الاحتفاظ باحتياطي الطوارئ.
قضيت ستًّا وعشرين ساعة متوالية في وضع القرار، ولم أكَدْ أنتهي من مهمتي حتى أحسست بتقلص في الأمعاء، أعقبته ذبحة صدرية ألزمتني الفراش شهرًا كاملًا، باشرت في الأسبوعين الأخيرين منه أعمال الوزارة في داري بمعونة مدير مكتبي رحمة الله عليه.
ولا يزال هذا القرار معمولًا به إلى الآن في توزيع الكيروزين، ونموذجًا في توزيع سائر السلع ومواد الغذاء؛ فلا تزال بطاقات الكيروزين هي بطاقات الزيت والسكر والأرز وغيرها من المواد.
(٦-٤) الأقمشة الشعبية
غالت مصانع النسج في أثمان منتجاتها، وغالى تجار المنسوجات أكثر من المصانع في أثمان الأقمشة، وأَقْبَلَ العيد على الفقراء؛ فعز عليهم شراء كسائهم، وحينئذٍ دعوت مديري المصانع وكبار التجار إلى اجتماع عام، طلبت منهم فيه خفض أثمان الأقمشة الشعبية رحمةً بالفقراء، فلم يستجيبوا إلى طلبي في بدء الاجتماع، بحجة زيادة نفقات الإنتاج وقلة نسبة الأرباح.
ولما ألححت عليهم بوجوب تسوية الموضوع وديًّا على وجه السرعة قبل حلول العيد أصروا على موقفهم؛ فأشرت عليهم بأن لا مانع لدى الوزارة من رفع أثمان الأقمشة النفيسة التي يقتنيها الأغنياء، مقابل خفض أثمان الأقمشة الشعبية، ولكنهم ظلوا على إصرارهم.
حينئذٍ هددتهم بالاستيلاء على مخازنهم وتعيين حراس عليها؛ ليبيعوا الأقمشة الشعبية وغير الشعبية بأسعار التكلفة مع ربح معقول، وتركتهم ليتداولوا فيما بينهم على أن يبلغوني قرارهم في ظرف ساعة من الزمن.
وقبل انقضاء هذا الموعد أبلغوني بقرارهم خفض أثمان الأقمشة الشعبية بمقدار قرشين وقرش ونصف قرش في المتر الواحد، وتكفلوا بإعلان ذلك على صفحات الجرائد.
(٦-٥) لجنة التموين العليا
خُوِّلَتْ هذه اللجنة سلطات واسعة، كان لا بد منها لقيام وزارة التموين بمهمتها الخطيرة؛ ولذلك شُكِّلَت اللجنة بصورة تتناسب مع سلطتها الواسعة لكفالة عدالة تصرفاتها بالموازنة بين مصلحة المنتج والتاجر والمستهلك على السواء، فعُهِدَتْ رياستها لرئيس مجلس الوزراء، وعند غيابه لوزير التموين، وجُعِلَ من أعضائها وزراء التموين، والمالية، والتجارة، والصناعة، وغيرهم.
وأخطر سلطات هذه اللجنة الأمر بالاستيلاء على السلع والمواد الغذائية وتوزيعها على التجار والمستهلكين. ولولا هذا السلاح البتَّار لما استطاعت وزارة التموين أن تقوم بمهمتها إطلاقًا.
أذكر لهذه المناسبة أن شركة على رأسها ماليٌّ مصريٌّ كبير كانت تحتكر احتكارًا فعليًّا لا قانونيًّا صناعة مادة من أهم المواد الغذائية وهي السكر، فأراد صاحبها أن يُحْدِث حدثًا هامًّا في البلاد بإشاعة الاضطراب بين طبقات الشعب؛ فأبلغ الوزارة قبل موعد المقرر الشهري من إنتاج الشركة بليلة واحدة بأنه ليس لديه من السكر ما يَفِي بهذا المقرر، وأنه سوف يمتنع عن التسليم اضطرارًا. وكان هدف صاحب الشركة بذلك إسقاط الوزارة القائمة التي لا تَلِين قناتها في معاملته، وإحلال وزارة أخرى صديقة محلها.
وإزاء خطورة الموقف أعددت قرارًا بالاستيلاء على مصانع الشركة ومخازنها، ودعوت لجنة التموين للانعقاد في صباح الغد، ثم دعوت الدكتور جرانة محامي الشركة ليوافيني في مكتبي على الفور، وأعلنته بالإجراءات التي عَقَدْتُ العزم على اتخاذها، إذا لم تَقُم الشركة بتسليم المقرر الشهري قبل موعد عقد اللجنة. وإثر هذه المقابلة أرسلت الشركة كتابًا للوزارة، تفيدها بأنها على استعداد تام لتسليم المقرر الشهري في موعده.
(٦-٦) تنازع الاختصاص
من أهم واجبات وزارة التموين التسعير الجبري للمواد التي تقل عن حاجة البلاد، وفي سنة ١٩٤٠م كانت لجنة التسعير الجبري وفروعها تابعة لوزارة التجارة والصناعة؛ لأن للناحية التجارية فيها دخلًا كبيرًا.
وكذلك بطريق التبعية كانت إدارة مراقبة الأسعار تابعة لوزارة التجارة أيضًا، وكانت وزارة التموين تقوم بتدبير حاجة البلاد من السلع والمواد، وكانت وزارة التجارة والصناعة تتولَّى قضاء واستيراد حاجتها منها، ثم تقوم بتسليمها لوزارة التموين لتوزيعها على التجار والمستهلكين.
كان هذا النظام ضرورة اقتضتها ظروف الحال عند إنشاء وزارة التموين، وكان المتوقع أن تُلْغَى وزارة التموين بمجرد انتهاء الحرب، وعودة التجارة إلى نشاطها قبلها، ولكن كساد التجارة ظَلَّ على حاله بعد الحرب، وأصبح التفاوت بين قيم النقد عاملًا من أهم عوامل هذا الكساد؛ فكان لا بد من أن تظل وزارة التموين قائمة، وأصبح لها شبه صفة الاستقرار.
وكان لا بد حينئذٍ من تسوية الخلاف بين الوزارتين، وفي سبيل ذلك لجأت الحكومة إلى أمرين؛ الأول: ضم إدارة التسعير الجبري ومراقبة الأسعار إلى وزارة التموين، ثم تفويض هذه الوزارة في تقاضي واستيراد حاجتها من السلع والمواد مباشرة، دون وساطة وزارة التجارة. الثاني: عُهِدَ بتولي الوزارتين لوزير واحد.
وكان مفروضًا أن الأمر الأول وحده كافٍ لمنع تنازع الاختصاص بين الوزارتين، ولكن لُوحِظَ أن التفاهم بين وزيرين كان غير ميسور في بعض الظروف، وبخاصة حين يقوم وزير جديد على إحدى هاتين الوزارتين.
وقد لاحظت في المرات التي توليت فيها وزارة التموين ووزارة التجارة والصناعة معًا أن عمل الوزير فيهما كان أقل مشقة رغم مضاعفته.
(٧) في وزارة التجارة والصناعة
(٧-١) في وزارة صبري باشا
حين قام الخلاف بين صبري باشا والوزراء السعديين على النحو الذي ذكرت والذي انتهى باستقالة هؤلاء الوزراء، عُهِدَ إليَّ بوزارة التجارة والصناعة إلى جانب وزارة التموين للأسباب التي ذكرتها.
كانت هذه الوزارة في الأصل مصلحة تابعة لوزارة المالية، ولما نشطت الصناعة في مصر إثر الحرب العالمية الأولى، ونَمَتِ التجارة تبعًا لنشاط الصناعة، اقتضت الحال حماية الصناعة والتجارة في مصر بإنشاء وزارة التجارة والصناعة.
وتنقسم الوزارة بحكم عملها إلى مصلحتين: مصلحة التجارة، ومصلحة الصناعة. يشرف على كُلٍّ منهما مدير عام أو مساعد وكيل وزارة أو وكيل وزارة حسب الأحوال.
ولم يلبث أن اتسع نطاق الوزارة، فأصبحَتْ تشمل مصالح وإدارات عدة، فكانت تشرف على: الشركات، والمناجم، والمحاجر، والدمغة، والموازين، والتشريع، والأبحاث الفنية، ومصايد الأسماك، والأسواق العامة، وبراءات الاختراع، وجدول المحاسبين والمراجعين، وغير ذلك. فضلًا عن الاشتراك مع وزارة المالية في مسائل الجمارك والتصدير والاستيراد، والاشتراك مع وزارة الحربية في إدارة حرس مصايد الأسماك.
وأهم ذكرياتي في وزارة التجارة والصناعة في عهد صبري باشا ثلاث: سوق الخضر في روض الفرج، والمعرض الصناعي، ثم معمل تكرير البترول الحكومي.
فقد تَمَّ إنشاء سوق الخضر بروض الفرج في سنة ١٩٤٠م، وهي من أجمل أسواق العالم من نوعها، واسعة الأرجاء مبنية بالطوب الأحمر المضغوط، تتوافر فيها أسباب الحفظ من ثلاجات كبيرة، ومخازن واسعة بعضها مقفل والبعض الآخر مكشوف للهواء، ويشرف على إدارتها والرقابة على البيع والشراء فيها موظفون مختصون، وتتولى حفظ النظام فيها فصيلة من رجال البوليس.
ولما كان إقبال تجار الجملة على هذه السوق عظيمًا، وضعت قواعد ثابتة لتأجير محالها لهم حتى لا يُظلَم واحد منهم، وأُتِيحَتْ لهم الشكوى إليَّ مباشرة، وعهدت إلى لجنة لتفصل في شكاواهم وعرض قراراتها عليَّ.
وفي سنة ١٩٤٠م أُقِيمَ المعرض الصناعي فكان نجاحه عظيمًا، وقام المرحوم أحمد باشا حسنين بتوزيع الجوائز على العارضين نيابة عن الملك.
وفي هذه السنة زُرْتُ معمل تكرير البترول الحكومي بالسويس، وكان حينئذٍ نواة صغيرة لما تتطلبه حاجة البلاد؛ فقد كان إنتاجه لا يزيد على ٨٪ من إنتاج معمل تكرير شركة شل التي تقوم بالكشف عن آبار الزيت واستخراجه في مصر.
فكان معمل التكرير الحكومي بقصوره هذا أقرب إلى المعامل النموذجية لتدريب الصناع منه إلى معمل جدي لسَدِّ حاجة البلاد.
وكانت السياسة في شأن البترول تقتضي أمورًا ثلاثة؛ الأول: زيادة إتاوة الحكومة على أرباح الشركة أو إبدالها بنصيب من البترول عينًا. ثانيًا: زيادة حصة الحكومة من كمية البترول المحتفظ لها بحق شرائها من البترول الناتج محليًّا؛ حتى يفي هذا وذاك بحاجة البلاد. ثالثًا: توسيع معمل البترول الحكومي بحيث يستوعب المقدار الكافي لسَدِّ هذه الحاجة.
وكان على رأس مصلحة المناجم والمحاجر سابقًا وعلى مصلحة الوقود في ذلك الوقت الدكتور محمود أبو زيد، وهو رجل لا تنقصه الكفاية أو العزيمة لتحقيق تلك الأغراض، إلا أن العراقيل التي كانت تُوضَع في سبيل وزارة التجارة حالت مُدَّةً طويلة دون تحقيق هذه الأغراض.
(٧-٢) في وزارة سري باشا الأولى
حين شُكِّلَتْ هذه الوزارة بعد وزارة صبري باشا عُهِدَ إليَّ فيها بوزارة التجارة والصناعة للمرة الثانية، وظللت بها حوالي سنة إلى أن انتقلت وزيرًا للخارجية للمرة الثانية.
وكانت أعمال وزارة التجارة والصناعة في هذه الفترة عادية، ليس فيها ما يستحق الذكر.
وكان أكثر همي منصرفًا إلى تسوية العلاقة بين هذه الوزارة ووزارة التموين على أسس ثابتة لا تدعو إلى الخلاف بينهما، ولا تَحُول دون إنجاز الأعمال فيهما.
وكانت مراقبة الأسعار لا تزال تابعة لوزارة التجارة، وكانت متاعبنا في تحديد الأسعار كثيرة؛ لأن ذلك يستلزم تقدير نفقات الإنتاج في مصر أو الاستيراد من الخارج، وتقدير ربح عادل للمنتج والمستورد ولبائع الجملة والتجزئة. ولأن المصلحة العامة تقتضي تشجيع الإنتاج والاستيراد والتجارة المحلية، كما تقتضي في الوقت نفسه حماية المستهلك من جشع المنتجين والمستوردين والتجار؛ فكان لا بد من الموازنة بين مصالح الجميع.
وكانت المراقبة على المصانع في مصر لا تزال معضلة المعضلات، لا يمكن إحكامها إلا بتشريع صارم كما هي الحال في إنجلترا، ولكن المصانع كانت تثور حين تسمع عن مثل هذا التشريع؛ فتهدد بإقفال مصانعها وتشريد عمالها، وهنا تقوم مشكلة أخرى اجتماعية تزيد الموقف تعقيدًا.
فمصانع الغزل والنسج مثلًا تشتري القطن بأسعار متفاوتة؛ فلا نستطيع أن نعلم من أي قطن صُنِعَ الغزل أو القماش المعروض للبيع؛ لتحديد سعره على أساس صحيح.
وحين تناقش المصنع في ارتفاع سعر منتجاته من القطن الرخيص، يحتج بأنه إنما يخلط أسعار الأقطان التي يشتريها ليبيع منتجاته بسعر موحد، على أساس متوسط هذه الأسعار، ولكن ما هو متوسط الأسعار وكيف تراقبه الحكومة؟ إنها معضلة من أشق المعضلات.
فما هي الأقطان التي دخلت في عمليات الإنتاج، من حيث المقدار والنوع والنسبة والسعر. هذا هو سِرُّ المصنع، وسيظل كذلك إلى أن يُوضَع تشريع جديد، أو إلى أن تعود الأمور إلى حالتها الطبيعية، فيُلْغَى التسعير الجبري، وتخضع التجارة لقانون العرض والطلب فحسب.
قوة مصايد الأسماك
وقد أُثِيرَ خلاف بين وزارة التجارة وبين وزارة الحربية في سنة ١٩٤١م حول قوة مصلحة المصايد.
فهذه المصلحة تشرف على المصايد في البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وفي مجرى النيل ثم في البحيرات، ولها قوة مسلحة تقوم بالرقابة على تنفيذ القانون في تلك المصايد جميعًا، وهذه القوة تتبع نظام الجيش في وحداتها، وتختلط بقوة خفر السواحل في ترقية ضباطها، من حيث مراعاة الأقدمية بين ضباط القوتين. ولكن تعيين قوة مصلحة المصايد كان بيد وزير التجارة، ومرتبات هذه القوة كانت داخلة في ميزانيتها.
ورأت وزارة الحربية وجوب تبعية هذه القوة لمصلحة خفر السواحل، وكانت حجتها في ذلك أن هذه المصلحة تكافح التهريب، وأن المهربين يلجئون عادة إلى البحيرات لإخفاء مهرباتهم؛ فتضطر قوة خفر السواحل إلى تتبعهم في بحيرات الصيد، فيقع تنازع الاختصاص بين هذه القوة وقوة مصايد الأسماك.
والواقع أن مكافحة التهريب في مصر تحتاج إلى علاج حاسم، ولا تستند حجة وزارة الحربية إلى أساس صحيح.
فمكافحة التهريب تقوم بها سلطات عدة لا ارتباط بينها؛ فتقوم قوة خفر السواحل بهذه المكافحة في السواحل، وقوة مصلحة الحدود في الصحاري، وقوة الجمارك في الموانئ، ثم قوة البوليس في داخل القُطر، وفي منطقة القنال تتنازع قوات السواحل والحدود والبوليس معًا على الاختصاص في المكافحة؛ ولذلك كان أكثر التهريب من هذه المنطقة.
(٧-٣) في وزارة السيد سري باشا الثانية
لما شُكِّلَتْ هذه الوزارة في سنة ١٩٤٩م، عُيِّنْتُ فيها وزيرًا للتجارة والصناعة. ومع أن هذه الوزارة لم تظل في الحكم أكثر من سبعين يومًا، فقد عُرِضَتْ عليَّ فيها أخطر مشكلات وزارة التجارة والصناعة.
(٧-٤) عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس
خلا مقعدان في مجلس إدارة هذه الشركة من المقاعد الأربعة المخصصة للمصريين، فرشحت الشركة لهما عضوين، ورشَّحَ الملك عضوين آخرين؛ هما: المهندس أحمد عبود، وآخر من رجال السراي المخلصين. وأَصَرَّ كُلٌّ من الشركة والملك على مرشحيه.
وزارني وكيل الشركة المقيم بمصر، وقدَّمَ لي مذكرة شديدة اللهجة، ترفض الشركة فيها بتاتًا ترشيح الثاني من مرشحي الحكومة المصرية مهما كانت نتيجة الرفض، وذكر لي الوكيل شفويًّا الأسباب التي حَدَتْ بالشركة لاتخاذ قرارها هذا، والتي لم تَرَ من اللياقة تسجيلها في مذكرتها.
ولما كان الملك معنيًّا شخصيًّا بهذه المسألة؛ وتُعتبَر لذلك من مسائل السياسة العالية حملت المذكرة لرئيس الوزراء، وأبلغته فحوى حديث وكيل الشركة.
ولا أدري ماذا فعل الرئيس بالمذكرة، هل أبلغها للملك أو آثر أن يحفظها في أدراج مكتبه بما احتوت عليه من عبارات قَلَّ أن تُوَجَّه لرؤساء الدول أو الحكومات.
وظلَّتْ شركة قناة السويس عند موقفها في مسألة هذا المرشح، وأصَرَّ الملك على رأيه فيها، فبَقِيَ المقعدان شاغرَيْن مدة طويلة.
وفي الأثناء زارني وكيل الشركة طالبًا البتَّ في الموضوع نهائيًّا، على أساس قبول أحد مرشحي الملك وهو المهندس عبود، ثم قبول أحد مرشحي الشركة وهو المرحوم واصف غالي، مكررًا رفض الشركة بتاتًا ترشيح رجل السراي. وممَّا قاله لي توكيدًا لهذا الرفض إن هذا المرشح قابَلَه مُهدِّدًا إياه بأن الملك سوف يعمل على معاكسة الشركة ما لم يُجَبْ طلبه، وإنه — أي المرشح — على استعداد للتنازل عن عضوية المجلس، إذا ما دفعت له الشركة خمسين ألفًا من الجنيهات على سبيل التعويض.
وأضاف وكيل الشركة أن مثل هذا التهديد وهذا العرض مما يجعل الشركة تُصِرُّ نهائيًّا على رفض ترشيحه لعضوية مجلس إدارة الشركة، فأبلغت كل ذلك رئيس الحكومة.
وعلى الأساس المقدم تَمَّ الاتفاق أخيرًا بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، ولكن الملك فاجأ الشركة بعد ذلك، بتعيين مرشحه في وظيفة القوميسير المصري للشركة، فامتعضت الشركة لهذا التعيين، ولكنها لم تَجِدْ وسيلة لمنعه؛ لاختصاص الحكومة المصرية به دون الشركة، واكتفت الشركة الأخيرة بتجاهل هذا القوميسير، رغم قيامها بدفع مرتبه الكبير. ولم تقع هذه المفاجأة في عهدي، ولم أعلم بها إلا بعد استقالة وزارة سري باشا.
(٧-٥) شركات البترول
تلي هذه الشركات في الأهمية شركة قناة السويس، وترجع أهميتها إلى عوامل عدة؛ منها: حاجة البلاد إلى البترول بكافة مشتقاته، ورغبة الحكومة في تشجيع الكشف عن آبار الزيت باعتباره موردًا من أهم موارد الدولة.
وكان بقدر أهمية هذه الشركات كان دلالها على الحكومة. ويرجع دلالها إلى عوامل عدة، منها أن القائمين بإدارتها وبالكشف عن آبار الزيت الجديدة أخصائيون من الأجانب مزوَّدون بأموال أجنبية، وأنه ليس بين المصريين من يقوم مقامهم في ذلك، سواء من حيث الاختصاص أو وفرة المال.
لذلك كانت تقوم بين الحكومة وهذه الشركات من وقت إلى آخر منازعات عدة، بشأن أثمان المواد البترولية التي تُستهلَك في مصر، وكانت أشد هذه المنازعات تقوم مدة الحرب، حين يصعب استيراد هذه المواد من الخارج.
وكانت هذه المنازعات تُفَضُّ في حينها بتسويات مؤقتة، وكانت الشركات تحرض دائمًا على التهرب من وضعها على أسس دائمة.
ولما رفعت الحكومة الأمريكية سعر الدولار، طالبت شركات البترول وزارة التجارة والصناعة في سنة ١٩٤٩م برفع أسعار البترول، وفقًا لارتفاع قيمة الدولار بالنسبة للجنيه، بدعوى أن للبترول سعرًا عالميًّا على أساس سعره بخليج كاريب، كما أن للقطن سعرًا عالميًّا في أمريكا ومصر والهند موحدًا في جميع هذه البلاد، لا يختلف إلا باختلاف الصنف وفرق سعر العملة.
وقام ممثلو الشركات بحملة منظمة على وزارة التجارة والصناعة، فطلب كلٌّ منهم مقابلتي على انفراد، ولكن طلباتهم في صيغتها وفي موضوعها كانت تَنُمُّ عن هجوم إجماعي منظم.
وكانت الشركات الممثلة تشمل الشركات التي تكشف عن الآبار وتستخرج الزيت، والشركات التي تستورده من الخارج، ثم الشركات التي تقصر مهمتها على توزيعه داخل البلاد.
ورأيت أن الفرصة قد سنحت لوزارة التجارة والصناعة، لوضع أسس ثابتة لدعم العلاقة بينها وبين تلك الشركات، بطريقة لا تجعل مجالًا للنزاع في المستقبل.
- أولًا: سعر البترول المستورد بجميع مشتقاته.
- ثانيًا: سعر البترول المستخرج من الآبار المصرية.
- ثالثًا: دَيْن الحكومة المصرية على الشركات.
- أولًا: أن يكون سعر البترول المستورد بجميع أصنافه بواقع السعر العالمي مع زيادة فرق سعر الدولار عن الجنيه.
- ثانيًا: أن يظل سعر البترول المصري على حاله دون زيادة؛ لأنه مستخرج في مصر بأيدي عمال مصريين، وتحت إشراف موظفين يتقاضون أجورهم ومرتباتهم بالعملة المصرية، وفقًا لقانون تحديد أرباح الشركات التي تعمل في مصر.
- ثالثًا: أن تقر الشركات بالدَّيْن المستحق عليها للحكومة، وكان هذا الدين مقتضيًا به ابتدائيًّا للحكومة، ولكنه ظَلَّ سنين عدة دون وفاء لعدم إعلان الحكم للشركات، وبقاء حقها في استئنافه معلقًا طول هذه المدة، ويبلغ هذا الدين وفوائده حوالي المليون وربع مليون من الجنيهات.
ولما كانت الشركات تشكو من تأخير وزارة المالية من وقت إلى آخر في صرف قيمة الحوالات المستحقة لها، شرطت هذه الشركاتُ إيداعَ مبلغ الدَّيْن خزانة وزارة التجارة والصناعة؛ ليسهل عليها صرف حوالاتها منه، وفي ذلك معنى قبول الحكم.
وإثر هذا الاتفاق قدمت لمجلس الوزراء مذكرةً وافيةً بالموضوع، بيَّنْتُ فيها هذه الأسس والأسباب التي بُنِيَتْ عليها، ثم اقترحتُ توزيع الزيادة في السعر، التي تنجم عن ارتفاع الدولار بالنسبة لبعض أصناف البترول المستورد على مستهلكي باقي الأصناف الأخرى التي تنتج في مصر؛ حتى تهبط قيمة الزيادة المطلوبة إلى أدنى حدٍّ وحتى لا يُضَارَّ الفقراء بهذه الزيادة.
وبيان ذلك أن مشتقات البترول خمسة: البنزين، والكيروسين، والديزل، والسولار، والمازوت. بخلاف رواسبه من الأسفلت وغيره.
ومقدار ما يُستخرَج من الآبار المصرية من البنزين والمازوت يكفي لسَدِّ حاجة البلاد، أما مقدار الكيروزين والديزل والسولار فلا يكفي من حاجتها إلا بنسبة تقرب من ٢٠٪.
ولما كان الكيروزين هو وقود الفقراء وكان ارتفاع أسعاره مرهقًا لهم رأيتُ أن أحمل هذه الزيادة على أسعار البنزين وقود الأغنياء؛ بمعنى أن ما تستحقه الشركات من زيادة ثمن الكيروزين المستورد بسبب ارتفاع الدولار لا يُحَصَّلُ من المستهلكين، وإنما يُخصَم من الفَرْق بين ثمن البنزين المستخرج في مصر والمُصَدَّر للخارج وبين ثمنه في الخارج. ولم يكن هذا غريبًا على وزارة التجارة والصناعة؛ لأن لها سابقة من هذا النوع.
ولما عرضت مذكرتي على مجلس الوزراء، قرر تشكيل لجنة وزارية لدرس الموضوع، برياستي وعضوية وزير المالية ووزير الشئون الاجتماعية. أما اشتراك وزير المالية؛ فلأن بعض الوزراء رأى وجوب تَحَمُّل الحكومة فَرْقَ الأسعار، وأما اشتراك وزير الشئون الاجتماعية؛ فلأن الشركات كانت تُهَدِّد الحكومة من وقت إلى آخر بوقف أعمالها وتشريد العمال.
وعَقَدَتِ اللجنةُ جلساتها في وزارة التجارة والصناعة، فوافقتْ على مذكرتي، ثم عُرِضَتْ على مجلس الوزراء فأقرَّها.
هذا ما كان في سنة ١٩٤٩م في وزارة سري باشا، ولما عدت لخامس مرة إلى وزارة التجارة والصناعة في سنة ١٩٥١م في وزارة الهلالي باشا، قِيلَ لي إن مجلس الوزراء في إحدى الحكومات السابقة أصدر قرارين مخالفين لقرار سنة ١٩٤٩م، بمقتضاها تتقاضى الشركات بعض الملايين من الجنيهات، زيادة عمَّا تستحقه بموجب اتفاق ١٩٤٩م — وإن المازوت الذي كانت تستخرجه الشركات من مصر كانت تُصَدِّره إلى الخارج وتستورد بدله، وليس لذلك من علة ظاهرة سوى احتساب ثمنه بواقع سعر الاستيراد، خلافًا لاتفاق سنة ١٩٤٩م — وأخيرًا، فإن مبلغ الدين المحكوم به لصالح الحكومة لم يُودَع لا خزانة المحكمة ولا خزانة وزارة التجارة.
ولمَّا سألت عن سبب هذا التغيير في معاملة الوزارة لشركات البترول، قِيلَ لي إن هذه الشركات أنكرت قبولها اتفاق سنة ١٩٤٩م؛ ولذلك أصدر مجلس الوزراء القرارين اللاحقين.
وفي الأثناء قدَّمَ ديوان المحاسبة لوزارة التجارة والصناعة مذكرةً يعترض فيها على هذين القرارين، وزارني رئيس الديوان مؤيدًا اعتراضه هذا، فأفهمته بأني الآخر قد اعترضت عليهما ومنعت معاملة الشركات بمقتضاهما.
ولقد حاولت كبرى هذه الشركات ثلاث مرات أن تثنيني عن رأيي في هذا الموضوع بطريق الإقناع، ولكنها لم تفلح، ولا أدري ماذا تَمَّ بعد ذلك في هذا الموضوع.
(٧-٦) تصدير البوتاجاز
طلبَتْ شركة البوتاجاز التابعة لشركة شل الإذنَ لها بتصدير البوتاجاز لبعض البلاد القريبة، فرفضت الإذن لها بذلك للأسباب الآتية: أولًا: لأن البوتاجاز يحل محل الكيروزين في الوقود، وما دام الكيروزين الناتج في مصر يقل عن حاجة البلاد ونحن مضطرون لاستيراده بواقع السعر العالمي مع تحمُّل فَرْق سعر العملة؛ فالأولى الاحتفاظ بكميات البوتاجاز للأغنياء وسكان المدن لتوفير كميات الكيروزين للفقراء والعمال. ثانيًا: لأن السعر الذي تبيع به الشركة البوتاجاز في الخارج يقل كثيرًا عن سعره في الداخل. ثالثًا: لأن مصر في حاجة لزيادة إنتاج البوتاجاز؛ حتى تخفض أسعاره المرتفعة إلى الحد المناسب.
بعد ذلك قرأت في جريدة الأهرام أن وزارة التجارة والصناعة صَرَّحَتْ بتصدير كميات من البوتاجاز، وتبيَّنَ لي صحة هذا الخبر من مراجعة ملف الموضوع، فوضعت مذكرة مُسَبَّبة عن تحديد المسئوليات فيه، وطلبت من مصلحة الوقود التحقيق مع الموظفين المسئولين، وإحالتهم لمجلس التأديب لمخالفتهم أمري الكتابي بعدم التصدير.
ولست أعلم ماذا تَمَّ في هذا الموضوع، إلا أن الشركة أرسلت لي كتابًا تعتذر فيه عن مخالفة أمري، قائلة إن هذه المخالفة وقعت نتيجة لسوء فهم غير مقصود.
(٧-٧) إتاوة شركة قناة السويس
اعترض ديوان المحاسبة على وزارة التجارة والصناعة، في محاسبتها شركة قناة السويس على الإتاوة المستحقة عليها للحكومة، على أساس صافي أرباح الشركة، وليس على أساس مجمل إيرادها، وعُرضت عليَّ مذكرة الوزارة بردِّها على مناقضة ديوان المحاسبة، فأبلغتها لرئيسه دون الاطلاع على ملف المسألة.
وتحدَّثَ رئيس الديوان معي في هذا الموضوع، طالبًا إعادة النظر فيه بعد دراسته بنفسي؛ فوعدته بذلك.
ثم درست أوراق الملف، فرأيت أن اعتراض الديوان وجيهٌ مؤيَّد من هيئة الرأي بمجلس الدولة، ووجدت بالملف ورقةً رابَني أَمْرُها؛ وهي عبارة عن محضر لجنة عُقِدَتْ أخيرًا بالوزارة بحضور أحد وزراء التجارة السابقين، بينما لم يكن لهذا الوزير بَعْدُ أي صفة في الاشتراك في أعمال اللجنة، وكان قرار اللجنة مؤيدًا لرأي الوزارة بحساب إتاوة الحكومة على أساس صافي أرباح الشركة. وباستقالة الهلالي المفاجئة، لم يتَّسِع لي الوقت لإعادة النظر في الموضوع؛ لضرورة إنجاز المسائل المستعجلة أولًا، قبل المسائل الشائكة التي تحتاج إلى دراسة وافية.
(٧-٨) حماية شركات النسج
كان عزيزًا علينا أن نُصَدِّر قُطْنَنا مادةً أوليةً ليعود لنا صناعة أجنبية، وكان القطن يُشترى منا مادة رخيصة ويعود لنا منسوجًا غاليًا؛ فنخسر في عمليتَي البيع والشراء على السواء! وكان قطن مصر الممتاز احتكارًا لأسواق ليفربول ومصانع مانشستر.
وفي سنة ١٩٠٢م، حاولت مصر إنشاء مصانع لنسج القطن، ولكن لورد كرومر حالَ دون ذلك بكافة وسائل القوي على الضعيف.
ثم صحَّتْ عزيمة المصريين بعد ذلك على إقامة هذه الصناعة في مصر قُبَيْل الحرب العالمية الأولى بزعامة المرحوم طلعت حرب باشا، وساعَدَ على نُمُوِّ هذه الصناعة قيامُ الحرب وانقطاع ورود الأقمشة الأجنبية.
على أن بعض الأخطاء كادت تحدُّ من تفاؤلنا بنجاح هذه الصناعة، بحيث تَقْوى على مقاومة الصناعة الأجنبية. ومن أهم هذه الأخطاء: تزويد المصانع المصرية بآلات قديمة مستعملة، كان من شأنها نقص الإنتاج وزيادة النفقات. فكان لا بد من تكوين احتياطي كبير لتُستبدَل بهذه الآلات آلات جديدة من أحدث طراز، وكان جميع هذا الاحتياطي على حساب المساهمين؛ فكانت في ذلك صدمة لهم أقلقتهم بعض الحين.
وكان من مزايا الحرب العالمية الثانية — إن كان للحروب مزايا — أن نهضت صناعة النسج في مصر إلى حَدٍّ بعيد، وكنت ممن يعتقدون أنَّا مع ذلك لا نزال بعيدين عن قيام هذه الصناعة بحاجة البلاد.
وكم كانت دهشتي عظيمة حين عرضت عليَّ شركات النسيج شكواها من وفرة إنتاجها، إلى حد أن طلبت حمايته من البضائع المستوردة، برفع الرسوم الجمركية على هذه البضائع.
وبناء على هذه الشكوى شكَّلتُ لجنة من كبار وزارات التجارة والصناعة والمالية والتموين تحت رياسة وكيل الوزارة الأولى، لبحث الموضوع من كل نواحيه وعرض رأيها عليَّ، وقد أخذت اللجنة في قرارها بأسباب الشكوى، وشفعته بتوصيات قَيِّمة وافقتُ عليها كما وافق عليها وزير المالية ثم مجلس الوزراء؛ فصدر المرسوم بزيادة الرسوم الجمركية وفقًا لطلب الشركات.
وكان أخشى ما نخشاه إغراق الأسواق المصرية بمنتجات المصانع الإيطالية، التي تفيد من المساعدات الأمريكية، فتستطيع خفض أسعار منتجاتها إلى أدنى حدٍّ؛ إضرارًا بمنتجاتنا المحلية.
ولهذه المسألة سوابق. فقد صدَّرَت اليابان لمصر آلاتِ الراديو؛ لتبيعها فيها بسعر يقل عن سعر التكلفة، وأرادت أن تحسب الرسوم الجمركية عليها بواقع السعر الذي حددته، ولما استطلعت مصلحة الجمارك رأيَ وزارة التجارة في ذلك طلبت هذه تقدير الرسوم بواقع قيمتها الحقيقية، بغضِّ النظر عن السعر المحدد للبيع. ومرة أخرى حاولت اليابان مثل هذه المحاولة بشأن السيارات الرخيصة التي شرعت في تصديرها إلى مصر.
وفي هاتين الحالتين لم تكن هناك أي مزاحمة للإنتاج المحلي؛ لأن مصر ما كانت وقتئذ تصنع آلات الراديو أو السيارات، وكان هَمُّ المصانع اليابانية مقصورًا على خفض الرسوم الجمركية، وكان هَمُّ الحكومة المصرية تقاضي الرسوم كاملة، وكان هم الحكومة اليابانية إغراق الأسواق المصرية، حتى إذا ما كسبت المصانع اليابانية هذه الأسواق عادت فرفعت أسعار منتجاتها تدريجيًّا، فتُعوِّض أخيرًا ما خسرته أولًا، ثم تتمكَّن من الاحتفاظ بهذه الأسواق على حساب المصانع الأخرى وعلى حساب مصر أخيرًا.
أما في حالتنا فكان الضرر من إغراق الأسواق المصرية بالمنسوجات الأجنبية مباشرًا؛ لقيام مصر بإنتاج المنسوجات بنفسها.
(٧-٩) دار سك النقود
قامَتْ وزارة التجارة والصناعة بمشروع إنشاء دارٍ لسَكِّ النقود، بدلًا من سَكِّ عُمْلتها الذهبية في إنجلترا وعملتها الفضية في الهند، ثم عملتنا من النحاس أو النيكل هنا أو هناك. وفي ذلك علاوة على القصد في نفقات السك، طابع وطني تحرص كل البلاد على الاعتزاز به.
وفي وزارة الهلالي باشا وُضِعَتْ أسس هذه الدار، فصارت الآن مُعَدَّةً لِسَكِّ عملتنا الوطنية في مصر بأيدي عمال مصريين، كما أصبحت مقصد بعض البلاد الأجنبية في سَكِّ النقود.
(٧-١٠) براءات الاختراع
عُنِيَتْ وزارة التجارة والصناعة بوضع قانون لحماية الاختراع على أحدث النظم المعمول بها في البلاد الأجنبية، وكان هذا القانون بعد ذلك موضع دراسة مستفيضة في لجنة التجارة والصناعة في مجلس الشيوخ التي تشرفت برياستها.
ويسعدني حقًّا أني قمت حين وُلِّيتُ هذه الوزارة أخيرًا بتقديم أولى براءات الاختراع للمخترعين المصريين.
وقد أُنْشِئَتْ لتنفيذ هذا القانون إدارة خاصة؛ للعمل على تشجيع الاختراع بضمان حقوق المخترعين، في حدود المصلحة العامة وفقًا لأحكام القانون.
(٧-١١) قانون المحاسبين والمراجعين
كان هذا القانون أيضًا موضع عناية لجنة التجارة والصناعة في مجلس الشيوخ، حين أدخلت عليه كثيرًا من التعديلات الهامة؛ لضمان توافر الأغراض من إنشاء هذه المهنة الحديثة، ولكفالة حقوق القائمين بها من كل تعسف محتمل الوقوع من جهات الإدارة.
وقد نُفِّذَ هذا القانون في وزارة الهلالي باشا، بوضع جداول المحاسبين والمراجعين، وفحص طلبات طالبي القيد بها، وامتحان مَنْ يجري عليه شرط الامتحان منهم، بواسطة لجانٍ احتُفِظ للطالبين بحقِّ التظلم من قراراتها ابتداء واستئنافًا.
هذا ما علق بذاكرتي مما يستحق الذكر من أعمال وزارة التجارة والصناعة في سنة ١٩٥١م.
(٨) في وزارة التموين سنة ١٩٥١
(٨-١) في الوزارة
كنت في سنة ١٩٥١م كما كنت في سنة ١٩٤٠م وفي سنة ١٩٤٦م أَجْمَع بين وزارة التموين ووزارة التجارة والصناعة؛ فكنت أقسم يومي بين الوزارتين.
وكان في وزارة التموين وكيل هو الأستاذ حسين الغمراوي، ومساعد وكيل هو الأستاذ عمر طراف، وكِلا الاثنين كان كفؤًا ونزيهًا، وهو كل ما يتطلبه الوزير في معاونيه.
وكانت أعمال الوزارة مُوَزَّعة بين الوكيلين، وكان يتبع كلًّا منهما موظفوه المختصون، وكان الاثنان على وفاق تام في جميع أمور الوزارة، إلا فيما يتعلق بترقية الموظفين؛ حيث كنت أُضطر إلى أن أنصب نفسي حَكَمًا بينهما، بينما كنت أحب أن أترك لهما الأمر يتصرفان فيه بحكمتهما في حدود المصلحة العامة.
صَدَر قانون إلغاء الاستثناءات فأُنزل بعض كبار الموظفين درجة أو اثنتين أو أكثر، وكان من حَقِّي أن أرقي الموظف درجة واحدة من الدرجات التي فقدها بحكم هذا القانون، فاستعملت هذا الحق دونما استثناء؛ شفقةً بهؤلاء الموظفين الذين ألفوا رفع مستوى المعيشة، وكانت هذه الترقية في شهر أبريل أو مايو ١٩٥١م.
إلا أن بعض هؤلاء الموظفين كانوا في ترقيتهم هذه مُقَيَّدين على درجة أعلى من درجتهم، وإذا ما ظلوا مقيدين عليها حتى أول يوليو، أصبحوا مستحقين لهذه الدرجة بحكم القانون، وبذلك يحصلون على ترقيتين في ظرف شهرين، بينما هناك موظفون أقدم منهم في نفس درجتهم أحق منهم في الترقية إلى الدرجة الأعلى.
وكان واجبًا لترقية هؤلاء الموظفين من أن ألغي قَيْد الأولين على هذه الدرجة.
كان رأي وكيل الوزارة في صالح الفريق الأول، وكان رأي الوكيل المساعد في صالح الفريق الثاني، وكان عليَّ الفصل في أي الوكيلين على حق.
ولما كنت وشيك السفر إلى أثينا لقضاء عطلة العيد فيها خَشِيَ بعض الموظفين من أَنْ أظَلَّ بها حتى بعد أول يوليو، فوعدتهم بالعودة والفصل في موضوع ترقيتهم قبل هذا التاريخ، وحرصت فعلًا على العودة ليلة اليوم المحدد لعقد لجنة شئون الموظفين لبحث حالتهم من جميع الوجوه، ثم قررت إلغاء قيد الموظفين المرقين حديثًا والمقيدين على درجة أعلى، وبإجراء الترقيات وفق الأقدمية المطلقة بين الموظفين في كل درجة.
ومن المصادفة أنه حين خروجي من الوزارة بعد الانتهاء من أعمال اللجنة، لَقِيَني بعضُ مكاتبي الصحف فأبلغوني بأن الهلالي باشا قدَّمَ استقالته، بينما لم يكن لديَّ علم بهذه الاستقالة التي فُوجِئْتُ بها عند انصرافي من الوزارة.
وعلمت بعد ذلك أن بعض هؤلاء الموظفين قد تظلَّموا إلى مجلس الدولة، بحجة صدور قراراتي بعد استقالة الوزارة، وأن المجلس رفض تظلمهم.
(٨-٢) قمع التدليس والغش
أول ما لاحظته في بداية عهدي أخيرًا بوزارة التموين، أن موظفيها معنيُّون في مراقبة أسعار السلع والمواد بتنفيذ أحكام قوانين التموين، وأنهم لاهون بالمرة عن تنفيذ أحكام القانون العام بشأن التدليس والغش، التي هي بمثابة الدستور لقوانين التموين، وأن عدم إحكام المراقبة على الأسعار إنما مرجعه إلى إهمال تطبيق تلك الأحكام.
فقوانين التموين لا بد من أن تَقِفَ عاجزة عن أداء الغرض منها، إذا لم تَقُم إلى جانبها أحكام قانون العقوبات بشأن التدليس والغش لدعم قوانين التموين في مكافحة جشع التجار والمنتجين وحماية المستهلكين.
وبيان ذلك أن مخالفات التسعير الجبري لا يمكن ضبطها إلا بوقوع المخالفة فعلًا وبناء على شكوى المجني عليه؛ لأن الجريمة لا تتم إلا بالبيع، ولأنه ليس في وسع وزارة التموين أن تَضَع جنديًّا من رجال البوليس على كل حانوت لمراقبة البيع في كل صفقة وضبط الواقعة رغم عدم شكوى المجني عليه، ولأن الأخير يُفضِّل عادة أن يدفع قرشًا أو قرشين زيادة عن السعر القانوني للحصول على حاجته على أن يُقدِّم شكواه للبوليس، ويجري فيها تحقيق، ثم يُدْعَى للشهادة أمام المحكمة، دون الحصول على حاجته.
وتقع مخالفة التسعير الجبري بطرق شتى، منها: البيع بثمن يزيد عن الحد الأقصى وهي الصورة الأولى للمخالفة التي لا يلجأ إليها التجار، إلا إذا اطمأنوا إلى قعود المشترين عن الشكوى، وأصبح هؤلاء معروفين لدى التجار يشترون جهرة بالأسعار المرتفعة؛ فلا يحتاج التجار إلى ستر مخالفتهم بأي صورة من صور الغش والتدليس.
ولكن هؤلاء المشترين قليلون؛ فأكثر المستهلكين يحرصون على الشراء بالثمن المحدد، وكثيرون منهم لا يطمئن إليهم التجار؛ وحينئذٍ يلجأ هؤلاء إلى الحيلة للهرب من أحكام القانون، سواء بالنقص في الوزن أو الكيل، أو ببيع صنف آخر بدلًا من المطلوب، أو بخلط صنف بآخر، أو بزيادة المواد بأشياء غريبة كملء الدواجن بالماء أو بأرخص مواد الغذاء، إلى غير ذلك من طرق التدليس والغش.
وحينئذٍ يَقَع تحت طائلة مواد قانون العقوبات بشأن التدليس والغش، وأحكام هذا القانون أشد صرامة وأسهل تطبيقًا، أما صرامتها فظاهرة من مقارنة العقوبات التي نصت عليها بالعقوبات المنصوص عليها في قوانين التموين.
وأما سهولة تطبيقها فلأنه لا حاجة في ذلك إلى مراقبة عمليات البيع ووقوع البيع فعلًا، ثم إلى شكوى المجني عليه؛ لأن مجرد حيازة الشيء المغشوش معاقب عليها بحكم القانون، ويكفي لتطبيق حكمه مهاجمة التاجر في مخزنه أو في الطريق وضبط الشيء المغشوش المعروض للبيع سواء بِيعَ فعلًا أو لم يُبَعْ.
لذلك كان أول هَمِّي في وزارة التموين وضع منشور بوجوب المبادرة إلى تنفيذ أحكام قانون العقوبات بشأن قمع التدليس والغش، باعتباره الأداة الفعالة لمكافحة مخالفات التسعير الجبري وحجر الزاوية من قوانين التموين.
ويسوءني أن أقول إن توصياتي هذه لم يُعْمَلْ بها بصورة جدية.
(٨-٣) توزيع السكر على المستهلكين
حتى سنة ١٩٤٠م حين قامت الحرب العالمية الثانية فأُنْشِئَتْ وزارة التموين كان إنتاج السكر في مصر يَفِي بحاجة البلاد؛ حيث كان الإنتاج والاستهلاك في حدود مائتي ألف طن، ولكن الاستهلاك زاد بعد ذلك تدريجيًّا لأسباب عدة؛ أهمها: زيادة عدد سكان القطر، ورفع مستوى المعيشة، والإقبال على صناعة الحلوى ومشروبات عصير الفاكهة والمياه الغازية. وقد بلغَتْ زيادة الاستهلاك عن الإنتاج أخيرًا مائة وعشرة آلاف طن.
ولما بدأ عجز الإنتاج في السكر أصبح واجبًا توزيعه على الأهلين بالبطاقات، شأنه في ذلك شأن الكيروزين، ولكن تقدير مقررات الأُسَر من السكر خضع مع الوقت للأهواء؛ فزِيدَتْ مقررات الأُسَر ذات النفوذ زيادة فاحشة على حساب الأُسَر الفقيرة.
طلبتُ قائمة هذه المقررات فوجدتُ أمرًا نكرًا؛ حيث بان لي أن مقرر أحد رؤساء الوزارات ١٨٠ أقة شهريًّا، ومقرر الثاني ١٠٠ أقة، ومقرر الثالث ٧٠ أقة، بينما مقرر زميلهم الهلالي باشا ٢٥ أقة فقط! وتبيَّن لي أن أحد الأمراء اللاجئين يتقاضى ١٨٠ أقة شهريًّا، وأن الأمراء والأميرات يتقاضون بين ١٠٠ و١٥٠ أقة، وأن من بين هؤلاء من يصرف مقرره الشهري لبواب قصره، بينما سيده مقيم في الخارج أو تُوفِّي إلى رحمة الله منذ سنوات؛ فكان لا بد من وضع حَدٍّ لهذه الفوضى.
لذلك رأيت أن يكون الحد الأقصى للأسرة الواحدة ثلاثين أقة، فإذا ما احتاجت الأسرة إلى زيادة تقاضتها من سكر الطوارئ، الذي يزيد ثمنه قليلًا عن ثمن سكر التموين، وأن ينتفع بالوفر الناتج عن خفض مقررات الأسر الكبيرة لزيادة مقررات الأسر الصغيرة، التي لا تتجاوز مقرراتها أقتين ونصف أقة، والتي يصعب عليها دفع ثمن سكر الطوارئ.
كما رأيت سريان هذا النظام على أعضاء الأسرة المالكة؛ فوضعت قرارًا بذلك، وأشرت بإبلاغه لناظر الخاصة الملكية؛ ليقدِّم للوزارة بيانًا عن أسماء الأمراء والأميرات الغائبين أو المتوفين.
وكنت من وقت إلى آخر أسأل عن رَدِّ ناظر الخاصة، فيُقال لي إنه لم يَصِلْ إلى الوزارة بعد، ثم استقالت الوزارة ووقف تنفيذ القرار.
ولا شك أن تقاضي الأُسَر أكثر مما تحتاج إليه من السكر كان عاملًا من عوامل نشاط السوق السوداء. ولا أقصد بذلك أن الأمراء رؤساء الوزارات أو كبار القوم كانوا يفيدون من زيادة مقرراتهم عن حاجتهم، وإنما الواقع أن وكلاءهم أو طهاتهم وخدمهم وبوابي قصورهم كانوا يفيدون من هذه الزيادة وحدهم، بالاشتراك مع التجار من موردي السكر؛ فكان الطاهي مثلًا يوقع للتاجر باستلامه كل المقرر، بينما هو لا يسحب منه إلا بقدر حاجة سيده، وما يفيض عن حاجته يقوم التاجر ببيعه في السوق السوداء لحسابه وحساب الطاهي معًا، أما الأمراء الغائبون أو المتوفون فكانت مقرراتهم كلها من نصيب السوق السوداء.
(٨-٤) الوسطاء في صفقات الحكومة
كثر الوسطاء في عقد صفقات الحكومة في العهود السابقة؛ فقرَّرَ الوزراء فيما بينهم على ألَّا يعقدوا أي صفقة بوساطة، وأن تكون المفاوضة بين الحكومة وبين الشركات الموردة مباشرة، أو بينها وبين المستشارين أو السكرتيرين التجاريين في السفارات والمفوضيات الأجنبية.
وكان هذا القرار الحكيم حصنًا لي في وزارة التموين ووزارة التجارة والصناعة، حماني من هجوم الكثيرين من الوسطاء، على أن واحدًا منهم ظَلَّ مع ذلك يلاحقني بطلباته مدة طويلة، وهو رجل يوغسلافي الأصل، غادر بلاده وتجنَّسَ بالجنسية الأمريكية؛ فكان كلما سمع عن طلب لوزارة التموين حضر إليَّ عارضًا خدمته لإجابة الطلب، قائلًا إن تحت يده ملايين الجنيهات، وإن له في أمريكا شركاء من كبار الأعمال على استعداد تام لتوريد ما تحتاج إليه الحكومة من قمح أو دقيق أو سكر، ولتمويل أي مشروع من مشروعاتها الكبيرة.
ولما كثر تردده على الوزارة ضقت به ذرعًا؛ فأفهمته بأن الحكومة ترفض بتاتًا التعامل بطريق الوساطة، ما لم يكن الوسيط من رجال إحدى السفارات.
وحينئذٍ أجابني بأنه فعلًا وزير مفوض للملك زوغو، وأن تحت يده تفويضًا منه في توظيف أمواله بالطريقة التي يراها.
وأخيرًا قلت له في حزم بأن ليس لدى الوزارة الآن أي طلب يحتاج لوساطة، ورجوته أن يترك عنوانه لدى السكرتير حتى إذا ما احتجت إليه دعوته لمقابلتي؛ فخرج غاضبًا ولم يَعُدْ إليَّ.
وأخيرًا، وصلني كتابٌ خالٍ من التوقيع يُحذِّرني فيه كاتِبُه من معاملة هذا الرجل.
(٨-٥) قمح الحيازة
أصدرت وزارة الوفد قرارًا بزيادة قمح الحيازة لتشجيع الزراع على زيادة المساحة المعدة لزراعة القمح، ولكن هذا القرار صَدَرَ بعد زراعة القمح بمدة، فلم يَعُدْ ذا موضوع بعد. وكان المفروض نفاذه في الموسم المقبل، فتقدمت لمجلس الوزراء بالاتفاق مع وزير المالية، طالبًا تفسير القرار على هذا النحو.
ولكن رئيس الوزراء عارضني بوجوب احترام القرار، رغم فوات هدفه المقصود، وأيَّدَ معارضته بأن الزُّرَّاع قد اطمأنوا إلى هذا السعر فدخل في حسابهم، وأن هذا السعر قد يغريهم على توريد أكثر مما يجب عليهم توريده بحكم القانون، وأنه لا يجوز للحكومة على أي حال الرجوع في قراراتها.
(٨-٦) قضية سمير بشارة
بينما كنت بباريس في صيف عام ١٩٥١م، اطلعت في جريدة الأهرام على حديث للمرحوم حسين باشا فهمي، وزير المالية سابقًا ورئيس مجلس تنمية الإنتاج القومي، يقول فيه إن السيد سمير بشارة كان قد عرض عليَّ في وزارة التموين الصلح في القضية المرفوعة منه على الوزارة فرفضت عرضه، وإنه بعد استقالة الهلالي عرض سمير الصلح مرة ثانية في وزارة سري باشا بواسطة كريم ثابت وزير الدولة، وإن الدكتور هاشم وزير الداخلية استدعى خَلَفي الأستاذ حسين الغمراوي إلى مكتبه، وطلب منه في حضور كريم ثابت تسويةَ القضية صلحًا، وأخيرًا فإن الأستاذ الغمراوي رفض إجابة طلب الدكتور هاشم؛ استنادًا إلى سبق رفض الصلح فيها.
ثم قرأت بعد ذلك في الجريدة نفسها ردَّ السيد سمير بشارة على حديث حسين باشا فهمي، مؤدَّاه أنه على حقٍّ في دعواه وأن مستشار الرأي أيَّدَه فيها، وأني كنت وقتًا ما مقتنعًا بوجوب الصلح فيه، ثم عدلت عن رأيي لسبب لم يتبينه.
ولذلك رأيت أن أروي هنا قصة هذه القضية.
لما شح استيراد الصفيح مدة الحرب الأخيرة أُنشِئ في وزارة التموين مكتب للصفيح يضم كبار المستهلكين برياسة حسين باشا فهمي، تحت إشراف الوزارة التي أخذَتْ على عاتقها معاونة المكتب في مهمته.
وعرض سمير على المكتب استيرادَ كمية من الصفيح بواقع ثمن الطن ٧٠ جنيهًا تقريبًا، ولما ورد الصفيح ادَّعى سمير أن سعر التكلفة للطن الواحد مبلغ ١٠٠ جنيه تقريبًا، وطالَبَ الوزارة بأن تدفع له الثمن بواقع هذا السعر.
ثم عاد سمير فعدَلَ عن طلب الزيادة، وقَبِلَ تقاضي الثمن بواقع السعر المتفق عليه، وتحرَّرَ بينه وبين الوزارة اتفاقٌ بذلك.
ولكن سمير لم يلبث أن ادَّعى أن الوزارة لم تَقُم بتنفيذ هذا الاتفاق من جانبها؛ وبذلك أصبح له الحق في الرجوع فيه ومطالبة الوزارة بثمن الصفيح بواقع سعر الطن ١٠٠ جنيه. ويبلغ الفرق بين الثَّمَنين حوالي أربعين ألفًا من الجنيهات.
وبعرض الموضوع على قسم الرأي بلجنة قضايا الحكومة أفتى بما يؤيد دعوى سمير، وحينئذٍ ملت إلى تسوية النزاع صلحًا، ثم عَرَضَ لي في الأثناء أن الوزارة ليست في الواقع أصيلة في هذا النزاع؛ لأن الصفيح مستورد لحساب المستهلكين وهم الذين يقومون بدفع ثمنه، وأن الوزارة إنما هي واسطة التعاقد بين المستهلكين والمستوردين؛ لمعاونة الطرفين في استيراد الصفيح بوسائلها الخاصة، وضمان توزيعه توزيعًا عادلًا بين المستهلكين. ويترتب على ذلك أن يكون المستهلكون ممثلين في مكتب الصفيح طرفًا في الصلح؛ لأنهم وحدهم أصحاب المصلحة الحقيقية فيه والملزمون وحدهم بدفع ثمنه.
ولذلك استطلعت رأي حسين باشا فهمي رئيس المكتب في الموضوع، فقرَّرَ لي بأن المستهلكين لا يقبلون بأي حال أن يدفعوا ثمنًا يزيد عن السعر المتفق عليه وقت التعاقد وقدره ٧٠ جنيهًا.
وحينئذٍ قررت رفض طلب الصلح والسير في الدعوى، على أن تدخل الوزارة مكتب الصفيح خصمًا ثالثًا فيها؛ ليكون الحكم في مواجهته مع إخلاء الوزارة من كل مسئولية.
وفي الأثناء كثرت وساطة كريم ثابت دون جدوى لإنهاء النزاع صلحًا بين سمير والوزارة.
ومن ذلك يبين أن تصرفي كان سليمًا، وأن مسعى سمير وكريم ثابت في الصلح بين الأول والوزارة مباشرة، ووقوع هذا الصلح فعلًا كان لا شكَّ ضارًّا بمصلحة الحكومة.
(٨-٧) شركة السكر ووزارة الهلالي
كان أكثر متاعب وزارة التموين مع شركة السكر، من ذلك امتناعها عن تقديم الملاس لشركة كوتسكا لتقطير الكحول، وعن تقديم الكحول لها لصناعة الخل، واشتراط توريد حامض الكربون مع السكر لشركات المياه الغازية، وغير ذلك من المخالفات التي كانت وزارة التموين تبلغها للنيابة بمجرد تقديم الشكوى وتحقيقها بمعرفتها.
وضاقت الشركة بوزارة الهلالي وأرادت أن تحرجها بحدث تضطرب له البلاد؛ فأبلغت الشركة الوزارة قبل الموعد المحدد لتسليم المقرر الشهري للسكر بيوم واحد، بأنه ليس لديها ما يفي بصرف هذا المقرر، وأنها سوف تُضطر إلى الامتناع عن التسليم، وهذه هي المرة الثانية التي تقوم فيها الشركة بهذا الإجراء الشاذ.
وكانت لجنة التموين العليا منعقدة بطريق المصادفة في ذلك اليوم للنظر في المسائل المعروضة عليها، ومنها الإذن لشركات الحلوى والمياه الغازية في استيراد حاجتها من السكر مباشرة؛ تلافيًا لشكواها من شركة السكر. ولعلَّ ذلك كان الباعث للشركة على محاولة تهديد الوزارة بالامتناع عن تسليم المقرر الشهري.
وبعد أن انتهت اللجنة من نظر المسائل المعروضة عليها وإصدار قراراتها فيها، ومنها الإذن للشركات المشار إليها باستيراد حاجتها من السكر مباشرة، عرضَتْ عليَّ اللجنة مسألةَ امتناع شركة السكر عن التسليم المقرر في موعده، وطلبت صدور قرار بالاستيلاء على شركة السكر؛ وحينئذٍ خضعت الشركة وأجابت طلب الوزارة.
(٨-٨) وكيل وزارة التموين
كانت وزارة سري باشا قد أحالت الأستاذ وكيل الوزارة إلى المعاش، فرفع دعواه على الوزارة أمام مجلس الدولة، ثم قضى له المجلس بإلغاء قرار الإحالة إلى المعاش، وبتعويض قدره ألفان من الجنيهات، ثم بالفرق بين المرتب والمعاش مدة انقطاعه عن وظيفته.
وزارني الأستاذ في مكتبي بوزارة التجارة والصناعة، طالبًا تنفيذ قرار المحكمة الإدارية بعودته إلى وكالة وزارة التموين، وكان باقيًا لإحالته إلى المعاش لبلوغه سن التقاعد أربعة أو خمسة شهور.
وكنت راغبًا في إجابة طلبه رغم أن مكانه كان مشغولًا بوكيل آخر، ولم تجد الحكومة وكالة أخرى لنقله إليها، ولم يكن من المستطاع إحالته إلى المعاش مرة أخرى.
وكانت هناك جملة عوامل تدعوني إلى إجابة طلبه، منها: الاحترام الواجب لأحكام مجلس الدولة، وتحقيق الترضية الأدبية للأستاذ في عودته إلى الوظيفة، وأخيرًا كون المدة الباقية له في الخدمة قصيرة، يمكن صرف مرتبه عنها من اعتماد تنفيذ الأحكام، ولو لم يكن في ميزانية الدولة اعتماد خاص بوظيفة وكيل ثانٍ لوزارة التموين.
ولذلك أمرت بإعداد مكتب للأستاذ، وأُعِدَّ فعلًا، ثم شرعت في توزيع أعمال الوزارة على الوكيلين والوكيل المساعد.
وقد رَحَّبَ الوكيل والوكيل المساعد بعودة الأستاذ؛ فاطمأنَّ بالي من هذه الناحية، ولكن كثيرين من كبار موظفي الوزارة بمجرد أن علموا بعودته ثاروا وتقدَّموا إليَّ بالشكوى تلو الأخرى، مُعدِّدين فيها الأسباب التي قد تَحُول دون اطمئنانهم إلى عودته. ومن هذه الأسباب أن في التحقيقات التي أُجْرِيَتْ مع الأستاذ شَهِدَ بعضهم لصالحه وشهد البعض الآخر ضِدَّه، وأنهم لذلك يخشون إذا ما عاد إلى وظيفته أن يمالئ الأولين ويضطهد الآخرين، وأنه حين أُحِيلَ إلى المعاش اشتغل بالمحاماة ووُكِّل في قضايا ضد الوزارة طعن فيها على بعض موظفي الوزارة، متهمًا إياهم بأمور تمس أمانتهم وكفايتهم، وأنه أخيرًا وُكِّل عن بعض الطوائف من التجار وأصحاب المصانع، وكان يحضر عنهم في لجان الوزارة معترضًا على تصرفاتها قبل موكليه، وأنه يُخْشَى تبعًا أن يظل في وظيفته متأثرًا بهذه الوكالة.
وفي الأثناء زارني الأستاذ للمرة الثانية مستعجلًا البتَّ في أمره؛ فقلت له إن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت تمهيدًا لعودته، وصارحته بشكاوى بعض موظفي الوزارة؛ فثار الأستاذ في حديثه معي على هؤلاء الموظفين، وطعن فيهم بأشد الطعون؛ وحينئذٍ أدركت على الفور صدق شكوى الموظفين وما سوف يصيبهم من غضبه إذا ما عاد إلى الوزارة، وبخاصة بعد أن صارحته بشكواهم منه.
وأخيرًا، زارني محاميه صديقي الأستاذ مصطفى مرعي، فعرضت عليه الموقف ثم اتفقنا على أن يُعيَّن موكله وكيلًا لإحدى الوزارات الأخرى، باعتبار أن في ذلك ترضية كافيه له وإجابة لقرار مجلس الدولة. ولما عرضت الأمر على رئيس الوزراء وافق عليه، وقال لي بأن وكالة وزارة السودان سوف تخلو قريبًا؛ تنفيذًا لقانون إلغاء الاستثناءات، وإنه سيُعَيِّنه فيها بمجرد خلوها من شاغلها. ورحبت بهذا التعيين؛ لأن الأستاذ وكيل الوزارة كان قبل ذلك خبيرًا تجاريًّا لمصر في السودان، عالمًا بشئونه، على اتصال بأهله.
ولكن ظهر بعد ذلك أن قانون إلغاء الاستثناءات لا يمس وكيل وزارة السودان، فوقفت المسألة عند هذا الحد.
وفي الأثناء أرسل إليَّ الأستاذ كتابًا من ثماني عشرة صفحة، هاجمني فيه بعنف مُهدِّدًا برفع الدعوى عليَّ بالذات.
وبعد ذلك استقالت وزارة الهلالي، فَعُيِّنَ الأستاذ وكيلًا لوزارة التموين لبضعة أيام، أُحِيلَ بعدها إلى المعاش قبل بلوغه سن التقاعد، وانتهت المسألة بهذا الحل.
تلك هي قصة الأستاذ التي كانت سببًا لحملات بعض الصحف عليَّ، وبخاصة جريدة الأساس، وكانت سبيلًا في الوقت نفسه إلى الدسِّ بيني وبين بعض الوزراء من أصدقاء الأستاذ. وإذا كانت تلك الحملات لم تُثِر عندي أي اهتمام، وتلك الدسائس لم تَلْقَ أذنًا مصغية من الوزراء؛ فلأن حقائق الأمور لم تكن خافية على الناس.
وكان مما نُشِرَ على صفحات الجرائد أني تَعَمَّدْتُ وقف تنفيذ حكم مجلس الدولة؛ لعدم اكتراثي بوجوب احترامه، وأني تأثرت بحدة حديث الأستاذ معي؛ لمساسه بي شخصيًّا وليس مراعاة للمصلحة العامة.
وكان مما دَسَّ في حقي أني أردت بإقصاء الأستاذ إرضاء المهندس أحمد عبود؛ لأن الأستاذ كان عدوًّا لدودًا له عندما كان وكيلًا لوزارة التموين، ولأني كنت أمالئ هذا المهندس فأردت الانتقام من الأستاذ، ولأنه طعن في دفاعه أمام مجلس الدولة في صديقي الرئيس حسين سري، الذي كنت وزيرًا في وزارته وكان في الوقت نفسه عضوًا في مجلس إدارة شركة السكر.
وكان المرحوم الهلالي أول من يعلم أن علاقتي بشركة السكر كانت على أسوأ حال، وأني كنت السبب المباشر في إخفاق محاولة عبود باشا إحراج وزارته بوقف صرف مقرر السكر الشهري؛ أملًا في إحداث اضطراب في البلاد يكون من شأنه إسقاط الوزارة، تلك المحاولة التي أحبطتها مرتين كما قَدَّمْتُ.
(٩) في وزارة الخارجية (في سنتَيْ ١٩٤١م و١٩٤٢)
(٩-١) وزارة الخارجية في ١٩٤١
كان حسين باشا سري يجمع في وزاراته الأولى بين الرياسة ووزارتي الداخلية والخارجية، وفي سنة ١٩٤١م تخلَّى عن وزارة الخارجية وعَهِدَ بها إليَّ.
وكانت الحالة الدولية غير مستقرة والحالة في مصر مضطربة. كنا لا نزال في بداية الحرب العالمية الثانية، وكانت كفة المحور فيها لا تزال راجحة وموقف الحلفاء في يد القدر.
وكان موقف مصر في غاية الدقة؛ فأرضها محتلة بالحلفاء، وجيوش المحور تحاول فتحها من الغرب، وتضرب بطائراتها الإسكندرية والقاهرة. وظلت جيوش الطرفين مدة طويلة في برقة ومصر بين المد والجزر حتى موقعة العلمين، التي كُتِبَ فيها النصر للحلفاء في مصر، كما كُتِبَ النصر للرُّوس في ستالنجراد ولأمريكا في اليابان.
وبذلك بدأت هزيمة المحور، وانتهت بأبشع صور الخذلان التي عرفها التاريخ حتى الآن.
وقد بهرت انتصاراتُ المحور الأولى أهلَ مصر؛ فكان كثيرون منهم يُقَدِّرون له النصر في النهاية، وكان من هؤلاء مَنْ يرجونه أملًا في أن يكون فيه الخلاص من براثن الاستعمار، وكان منهم من يخشونه خشية المستجير من الرمضاء بالنار، ثم كان آخرون يُقَدِّرون النصر في النهاية للحلفاء، وكان من هؤلاء من يرون دخول مصر في الحرب فعلًا إلى جانب الحلفاء؛ ليكون لها مقعدًا بينهم في مؤتمر الصلح؛ للمطالبة بجلاء الغاصبين عن أرضها، ومنهم من يرون تجنيب مصر ويلات الحرب بأي حال وفي حدود المستطاع.
وكان من نتيجة تضارب آراء المصريين على هذه الصورة، أن اختل ميزان السياسة في مصر حتى سنة ١٩٤٢م على الأقل.
فكان الملك فاروق يُقَدِّر فوز المحور أو يُحَبِّذه ويرجوه، غير حافل بالنتائج التي قد تتمخض عنها سياسته إذا ما كبا الجواد الذي راهن عليه، غير مدرك ما سوف يحل بمصر لو فاز هذا الجواد، وكان يؤيده في هذه السياسة بعض رجاله الذين يتطلعون إلى الحكم، أو الذين لا تَسَعُهم مخالفته في الرأي.
وكان الفريق الأكبر من ساسة مصر الذين تولوا الحكم مدة الحرب على غير رأي الملك، مُقَدِّرين خطورة سياسته مقتنعين بأنه إنما يغامر بمصلحة البلاد.
ولذلك كان موقف الرئيسين صبري باشا وسري باشا من أدق المواقف؛ ولذلك أيضًا ولي الاثنان وزارة الخارجية بالانضمام إلى رياسة الوزراء.
(٩-٢) ضرب القاهرة بطائرات المحور
كانت طائرات المحور تضرب الإسكندرية من وقت إلى آخر، ويبدو أن ذلك كان من مقتضيات الحرب، إلا أن هذه الطائرات كانت تقذف بقنابلها أحياء المدينة، ولم تقصر ضربها على الأهداف العسكرية فيها، وكانت حجة المحور في ذلك أنه من الصعب التفرقة بين هذه الأهداف وتلك الأحياء؛ لتغلغل قوات الجيش البريطاني في الأخيرة، ولأن المدينة بجميع أحيائها كانت تقوم بتموين جيوش الحلفاء.
بعد ذلك ضربَتْ طائراتُ المحور مدينةَ القاهرة، ولمَّا احتججتُ على ذلك لدى وزراء الدول التي تُمثِّل المحور في مصر، اشترطَتْ دولُ المحور للامتناع عن ضرب القاهرة إخلاءَ القوات البريطانية من منطقتها.
وسَعَتْ وزارة الخارجية لدى الحكومة البريطانية لتحقيق هذا الشرط دون جدوى؛ لأن هذه الحكومة أصرَّتْ على بقاء جيشها في القاهرة طول مدة الحرب لإنهاء حلقة الاتصال بين منطقتي الحرب في الشرق والغرب.
كان لا بد إذن لهذه المشكلة من حل، لا يعلق نفاذه على شرط حكومتي المحور، ولا يتوقف على رضاء الحكومة البريطانية. وقد هداني التفكير إلى هذا الحل.
أعددتُ مذكرة لإبلاغها لدول المحور، قلت فيها إن جيوم الثاني — إمبراطور ألمانيا — حرَّمَ على جيوشه في الحرب العالمية الأولى ضَرْبَ المدن العامرة بالكنائس؛ لما تضمه من رفات رسل المسيحية وشهدائها ولِمَا تحويه من التحف النفيسة والآثار، وقطع الإمبراطور عهدًا على قواده بأن لا يمسوا بالأذى مدينتَيْ روما وفنسيا بالذات.
وإن موسوليني زعم في الحرب العالمية الثانية أنه حامي الإسلام العامل على خيره، المحقق لنهضته، وإن هذا وذاك لا يتفق مع ضرب المحور بطائراته مدينة القاهرة العامرة بألف مسجد من أروع الآثار، يضم بعضها قبور أسرة نبي الإسلام والكثيرين من خلفائه والأئمة الأعلام.
ثم دعوت ممثلي الدول العربية وطالبتهم بأن يُعِدَّ كلٌّ منهم مذكرةً على غرار مذكرتي؛ لتقديمها لممثلي الدول النائبة عن حكومتَي المحور.
وكان ذلك فوزًا عظيمًا لسياسة الحكومة المصرية؛ حيث لم يمضِ أسبوع على تقديم مذكرة مصر ومذكرات الدول العربية حتى أذاع راديو برلين بأن الطائرات الألمانية لم تضرب القاهرة إطلاقًا، ثم أذاع راديو روما بأن الطائرات الإيطالية لم تضرب سوى الأهداف الحربية في مدينة القاهرة.
وبعد ذلك انقطع ضرب المحور لمدينة القاهرة إطلاقًا.
(٩-٣) تمويل المفوضيات المصرية أثناء الحرب
كان هذا التمويل إحدى مشكلات وزارة الخارجية.
كانت لنا مفوضيات في أوروبا الوسطى وفي بلاد البلقان حالت الحرب دون إمدادها بالمال، إلا بالنذر اليسير الذي كانت تجود علينا الحكومة البريطانية بقبول حوالته إلى تلك البلاد.
وكان أكره ما تكرهه هذه الحكومة تمثيلنا السياسي في الخارج؛ لما فيه من مظهر الاستقلال. ولذلك كانت جد شحيحةً في قبول تلك الحوالات. كان اعتماد تلك المفوضيات يقرب من ثلاثين ألفًا من الجنيهات شهريًّا؛ فكانت الحكومة البريطانية لا تَقْبَل حوالة أكثر من ثمانية آلاف منها، وكنا كُلَّما طلبنا منها المزيد أشارَتْ علينا بإلغاء تلك المفوضيات.
وكان يَصِلني من وقت إلى آخر شكاوى موظفي المفوضيات، يقولون فيها إنهم مضطرون إلى تناول وجباتهم في مطاعم الشَّعب، وإلى قطع المسافات الطويلة على الأقدام، وكنت أحس بضِيق ذات يدهم وأثره في نفوسهم وكرامتهم وكرامة بلادهم، ولكنني ظللت عاجزًا عن إسعافهم، إلى أن هيأت لي الظروف مفاجأة حلًّا لهذه الأزمة الخطيرة.
زارني يومًا ما مسيو برونر وزير سويسرا المفوض؛ وهي الدولة التي كانت ترعى مصالح الإيطاليين مدة الحرب، وكنت أُقدِّر هذا الرجل لكياسته في معالجة الشئون السياسية. زارني ليشكو لي من سوء معاملة الإيطاليين في معتقلاتهم، وبينما هو يُحَدِّثني في هذا الموضوع شرد تفكيري إلى مسألة تمويل المفوضيات، فدار بيني وبينه الحديث الآتي:
وإثر هذا الحديث عقدنا الاتفاق، ووافق عليه الدكتور عبد الحميد بدوي وزير المالية على الفور، قبل أن يبلغ أمره إلى السفارة البريطانية فتضع العراقيل في سبيله.
بذلك وفَّرنا المال لمفوضياتنا في الخارج، فكان يصلها المال من سويسرا مباشرة، وأعفينا رجالها من التردد على مطاعم الشعب، وأنقذنا سمعة مصر.
ولكن هذا الاتفاق لم يَدُمْ طويلًا؛ حيث أُلْغِيَ في إحدى الوزارات اللاحقة.
(٩-٤) قطع علاقتنا السياسية باليابان
لما دخلت اليابان الحرب إلى جانب المحور قطعنا علاقاتنا السياسية بها؛ فاستشاط وزيرها المفوض غضبًا، ولم يكن ذلك لأن لبلاده مصالح هامة في مصر، أو لأن الجالية اليابانية كبيرة يُخشَى من اعتقال رجالها ووضع أموالهم تحت الحراسة، وإنما لأن قطع العلاقات السياسية يَحْرِمه ورجال المفوضية من التجسس على الحلفاء لحساب المحور في مصر، التي كانت في ذلك الوقت من أهم مناطق الحرب.
وبعد أن أعلنتُ الوزيرَ بقرار الحكومة المصرية بقطع العلاقات السياسية ومنع اتصاله بحكومته بالشفرة طَلَبَ مقابلتي، ثم أبلغني دهشة حكومته لقرار الحكومة المصرية، ثم قال لي في حِدَّة: «ألا تعلمون أن غواصاتنا وصلت إلى البحر الأحمر؟»
وحينئذٍ رددت عليه بأني أذنت له بالمقابلة؛ ظنًّا مني أنها مقابلة شخصية أراد بها أن يُوَدِّعني قبل سفره، أما أن يقابلني ليحدثني باسم حكومته عن احتجاجها على تصرف الحكومة المصرية ويهددها بأي صورة ما؛ فهذا ما لا أقبله إطلاقًا لأنه لم تَعُدْ له أي صفة عندي بعد إبلاغه بقرار قطع العلاقات السياسية، وإن كان لحكومته بعد ذلك أي شأن مع الحكومة المصرية، فيجب أن يكون ذلك عن طريق ممثل الدولة التي ترعى مصالح اليابان وفقًا للتقاليد الدولية، أما تهديد الحكومة المصرية بوجود الغواصات اليابانية في مياه البحر الأحمر فهذا ليس من شأنه أن يزعجها في شيء؛ لأن ذلك إنما يهم حكومات الحليفات، وإنه ليس على كل حال من حسن السياسة أن يبلغني أمرًا له مثل هذه الخطورة على سبيل التهديد، بينما قد يفيد منه الحلفاء إن لم يكونوا على علم به.
ولما أُحرج الوزير بردِّي هذا اعتذر لي بأن قرار الحكومة المصرية كان مفاجأة له، وأنه لم يُعِدَّ له عدته من قبل، وأنه يرجوني الإذن له بمخاطبة حكومته بالشفرة ولو مرة واحدة لإبلاغها هذا القرار وتلقِّي الرد عليه؛ فرفضت. وحينئذٍ أخرج من حافظته صورة برقية بالحروف اللاتينية، قائلًا إنها تتضمن أسماء موظفي المفوضية، طالبًا الإذن بإرسالها؛ فطلبت أن أستبقيها مدة أربع وعشرين ساعة، ولكنه أبى وانصرف قائلًا إنه ما كان يعتقد أني سيئ الظن به إلى هذا الحد.
وقد أبلغني السفير الأمريكي ومستر هاريمان بعد ذلك أن حرصي من عدم الإذن لوزير اليابان بإرسال برقيته كان في محله؛ لأن لليابان شفرة بالحروف اللاتينية، وأنهم يخفون أخبارهم في صورة أسماء للناس.
(٩-٥) موقعة العلمين وإمداد قوات الحلفاء بالعتاد الحربي في مصر
زارني مستر كيرك سفير أمريكا بصحبة مستر أفريل هاريمان، وقال لي إن الأخير حضر إلى مصر مبعوثًا خاصًّا من قبل حكومته؛ للإشراف على تفريغ شحنات بواخر الحلفاء من الأسلحة والذخيرة الأمريكية في خليج السويس.
ولم يكن مستر هاريمان قد جاوز الحلقة الثالثة حين قابلته للمرة الأولى، وكانت كل الدلائل في حديثه تشعر بأنه سوف يكون من رجالات أمريكا الأفذاذ، وقد كان ذلك الرجل فعلًا؛ حيث كان المبعوث الخاص لحكومة أمريكا في أخطر المهام أثناء الحرب وبعدها، وكان بعد ذلك حاكمًا لمقاطعة نيويورك.
قال لي مستر هاريمان إن أسطولًا من البواخر يحمل عتادًا حربيًّا هائلًا في طريقه إلى خليج السويس، وعلى رأس هذا الأسطول الباخرتان العظيمتان كوين ماري وكوين إليزابيث، وإنه يخشى على هذا الأسطول — وبخاصة على هاتين الباخرتين — من طائرات المحور؛ ولذلك جاء خصيصًا بأمر من رئيس الجمهورية للإشراف على تفريغ شحنات الأسطول، وإنه يهمه إجراء ذلك في ليلة واحدة أو في ليلتين على الأكثر، وإنه لذلك يطلب معاونة الحكومة المصرية له في مهمته، بإخلاء جميع الأرصفة في ميناء السويس وعلى بعض جسور القنال مسافة طويلة، ثم إعداد القطارات الكافية لنقل المهمات بمجرد إرسالها على الأرصفة والبر.
ثم قال لي إنه يعلم تمامًا أنها مهمة شاقة وتكليف بما فوق الطاقة، ولكنها الضرورة، وللضرورة أحكام.
وبمجرد انصرافهما قصدت إلى وزير المواصلات المرحوم الأستاذ أحمد خشبة، وأبلغته رسالة مستر هاريمان، فاتصل بصديقي المهندس طراف بك علي مدير عام مصلحة السكك الحديدية، الذي طلب أن يحدثني مباشرة؛ فسلمني الوزير سماعة التليفون، وإذا بصديقي طراف يستجوبني قائلًا: «ولماذا لم يحضر السفير المبعوث إليَّ؟! وما شأن وزارة الخارجية في ذلك؟! وهل المصلحة قصرت في أداء الواجب عليها؟!»
وحاولت أن أفهمه أن البروتوكول يقضي بأن يكون اتصال الدول ببعضها عن طريق وزارة الخارجية وأني مجرد وسيط في الأمر.
وأخيرًا، تَمَّ التفريغ والشحن والنقل على أحسن حال بفضل صديقي طراف، ولم يترك حديثه أي أثر في نفسي لثقتي بطيبة قلبه وسلامة نيته.
ولم يكن الحلفاء حينئذٍ في حاجة إلى الجيوش، وإنما كانوا في حاجة ماسَّة إلى السلاح والذخيرة، وقد كان إمدادهم بها من أهم أسباب انتصارهم في موقعة العلمين.
(٩-٦) ترقيات موظفي الوزارة وترقية الأستاذ حسن يوسف
قدَّمْتُ للقصر قائمةً ببيان الترقيات والتنقلات المزمع إجراؤها بين موظفي الوزارة، ولكن ديوان الملك سكت عن الرد عليَّ مدة طويلة، فاتصلت بالمرحوم أحمد باشا حسنين، الذي أفهمني بأن الملك غير راضٍ عن ترقية الأستاذ حسن يوسف، وبما أن اسم الأستاذ وارد في رأس القائمة فقد رفض الملك الموافقة عليها، وأشار عليَّ برفع اسمه من القائمة؛ وحينئذٍ يضمن لي موافقة الملك عليها.
ولكنني أصررت على ترقية الأستاذ حسن يوسف؛ فتعطلت ترقية سائر الموظفين الذين كانوا يترقبون هذه الترقية دونما مبرر لهذا التعطيل.
وأخيرًا بعث لي أحدهم بقصيدة يشكو فيها على لسان القريض بعبارات مؤثرة سوء حالته وإخوانه، مُعدِّدًا الآلام التي قاسوها عدة أيام كأنها أكثر من عام.
فبعثت بالقصيدة لحسنين باشا راجيًا عرضها على الملك، والظاهر أن رئيس الديوان تمكَّنَ أخيرًا في ساعة من ساعات الرضاء، من الحصول على موافقة الملك على ترقية الأستاذ حسن يوسف؛ فنُفِّذَت الترقيات في الحال!
بعد ذلك خلَتْ وظيفة مدير الإدارة العربية بديوان الملك، وطَلَبَ إليَّ حسنين باشا أن أُرَشِّح لها أحد موظفي وزارة الخارجية، فأشرت عليه بتعيين الأستاذ حسن يوسف فيها، فذُعِرَ رئيس الديوان قائلًا إن في ذلك تحديًا لإرادة الملك، فأجبته بأني وقد استشارني فقد أخلصت له في الاختيار، وهو وشأنه في قبول ترشيحي أو عدم قبوله.
دُهِشْتُ بعد ذلك حين أبلغني أن الملك وافَقَ على ترشيحي، ثم دُهِشْتُ أكثر حين علمت أن الأستاذ لم يلبث أن رقيَ بعد ذلك بقليل إلى وظيفة وكيل الديوان.
(٩-٧) محطة الإرسال
يُقَالُ إن الإنجليز كشفوا عن وجود محطة إرسال في قصر عابدين؛ فطالبوا رئيس الوزارة بانتزاعها مهددين بمهاجمة القصر وانتزاعها منه بالقوة، واضطر سري باشا إلى انتزاعها بنفسه؛ فكان ذلك من أهم أسباب الجفاء بين الإنجليز والملك وبين الأخير وسري باشا.
(٩-٨) بدويان في الصحراء
شكا الملك لرئيس الوزراء من أنه لا يدري شيئًا عن شئون الحرب، بينما هي واقعة في بلاده وهو سيد هذه البلاد، وظنَّ سري باشا أن الفرصة قد سنحت للتقريب بين الملك والحلفاء، وإزالة أسباب الجفاء بسبب حادث محطة الإرسال؛ فطلب إلى الإنجليز أن يكاشفوا الملك بخطط الحرب في الصحراء الغربية؛ فأوفدوا قائدًا من قوادهم مُرَحِّبًا برغبة جلالته، مُذِيعًا له سرًّا من أهم أسرار الحرب ألا وهو شروع الحلفاء في القيام بهجومٍ عامٍّ في يوم كذا.
ولا أظن أن القائد قد صدق في بلاغه؛ لأني أعتقد أن الإنجليز ليسوا بهذه السذاجة، بحيث يفضون بأسرارهم الحربية الخطيرة.
كان من المفروض عقلًا أن زيارة الجنرال للملك كانت مجرد تمثيلية، أُرِيدَ بها جَسُّ النبض في صورة إجابة الطلب؛ لأنه من غير المعقول أن يعلن القائد عن خطته الحربية قبل الموقعة.
يُحْكَى أن الجنرال ولنجتون القائد الإنجليزي الشهير قاهر نابليون في موقعة وترلو، كان قد طلب إليه قواده أن يصدر لهم أوامره ليلة إحدى الوقائع الكبرى التي خاضها ضد الجيوش الفرنسية في شمال إسبانيا، فكان جوابه بأنه سيصدر أوامره لهم صباح الغد خشية أن تُذاع خطته للأعداء، ثم أضاف إلى ذلك معتذرًا في صورة طريفة بأنه لن يبوح بخطته لنفسه خشية أن تُذاع.
ويُقَالُ إن الإنجليز عثروا في الصحراء الغربية على اثنين من البدو يحملان كتابًا من سفير فرنسا في مصر يشير فيه إلى هذا الهجوم وموعده.
(٩-٩) وزارة سري باشا في كفة الميزان
وكان لهذه الواقعة بعد حادثة محطة الإرسال أثرها في علاقة سري بالملك، ثم بعلاقة الاثنين بالإنجليز. وحينئذٍ اتجهت نية الملك إلى إقالة وزيره، كما اتجهت نية الإنجليز إلى إسناد الوزارة إلى رجل أقوى نفوذًا منه على الملك.
ووصل إلى عِلْم سري فعلًا أن الملك يجتمع في عائمة كبير من رجال الدين، بأحد رؤساء الوزارة السابقين ورئيس مجلس الشيوخ، وأن رأي الملك قد استقرَّ على إسناد الوزارة إلى الأخير، على أن يقوم الأول بتولي دفة الحكم بالفعل.
وفي الوقت نفسه عقد الإنجليز النية على إسناد الوزارة إلى زعيم الوفد السيد مصطفى النحاس.
ولكن كلا الطرفين أرجأ تنفيذ خطته إلى حين، وقام الملك برحلة صيد في وادي الرشراش، حتى إذا ما وقعت حادثة قطع العلاقات السياسية مع حكومة فيشي عاد الملك إلى القاهرة فورًا وهُيِّئَت الفرصة له لتنفيذ خطته.
(٩-١٠) قطع العلاقات السياسية مع حكومة فيشي في غيبة الملك
استدعاني الرئيس سري باشا، وقال لي إن الإنجليز طالبوا أكثر من مرة بقطع علاقاتنا السياسية بحكومة فيشي، وحجتهم في ذلك أن ممثل هذه الحكومة يعمل لصالح المحور؛ بناء على أمر حكومته التي أصبحت تابعة لحكومة ألمانيا، وأن الملك كان يرفض على الدوام إجابة طلب الإنجليز، وأن السفير البريطاني أطلعه أخيرًا على برقية من وزير خارجية بريطانيا، يقول فيها بضرورة إخطاره في ظرف أربع وعشرين ساعة بأن الحكومة المصرية قد قطعت علاقاتها السياسية فعلًا بحكومة فيشي، ثم قال لي سري باشا إن غياب الملك قد يُهيِّئ لنا الفرصة لاتخاذ قرار بذلك؛ لأنه لو كان حاضرًا لوجب عرض الأمر عليه ولأصر على الرفض، وإن الأولى بنا حينئذٍ اتخاذ القرار تحت مسئوليتنا في غيبته ودون علمه؛ مراعاة لمصلحة الوطن بل مراعاة لمصلحة الملك بالذات.
وكنا نخشى فعلًا إذا ما بلغ الخلاف أشده في هذا الموضوع أن يصر الإنجليز على خلع الملك الشاب، ثم تنصيب أمير بدله ممن عُرِفُوا بميلهم إلى الإنجليز، وكان أخشى ما نخشاه أن يُعِيدَ الإنجليز إعلان الحماية على مصر، بحجة أنها ضرورة حربية كما فعلوا في الحرب الأولى.
ولذلك وافقت الرئيس على عرض الأمر على مجلس الوزراء، حتى إذا ما أصدر قراره بالموافقة على قطع العلاقات السياسية بحكومة فيشي أخذت الوزارة على عاتقها مسئولية هذا القرار قبل الملك؛ تلافيًا لمسئوليته واتقاء للأخطار التي قد تُهَدِّد البلاد بسبب هذا الرفض.
ثم وافَقَ مجلس الوزراء بالإجماع على القرار، وفوَّض لي الأمر في تنفيذه كيفما أراه؛ وحينئذٍ أبلغت زملائي بأني سوف أقوم بذلك على مراحل وفقًا للظروف.
وكان هدفي في ذلك تخفيف وقع القرار على الملك بقدر الإمكان، ثم مراعاة مصلحة الفرنسيين، الذين لا ذنب لهم في تصرفات حكومة فيشي الخاضعة لحكم الألمان.
وإثر صدور هذا القرار اتصلتُ بالسفير البريطاني، محاولًا إقناعه بالاكتفاء بمطالبة حكومة فيشي باستدعاء ممثلها الحالي، ولكن السفير أجابني بأن هذه الحكومة في يد الألمان، وأن أي سفير لها سوف يخضع لإرادتهم ويعمل لحسابهم؛ ولذلك لا بد من قطع العلاقات السياسية حتى لا يكون لحكومة فيشي ممثل في مصر؛ وحينئذٍ سجلت عليه عبارته هذه بقولي: «إذن هذا كل ما تطلبون!» فَأَيَّدَ قولي.
وعلى ذلك عَوَّلْتُ على تفسير قرار مجلس الوزراء بمعنى وقف العلاقات السياسية بحكومة فيشي لا قطعها، وأبلغت ذلك لرئيس الوزراء؛ فوافقني على رأيي وسُرَّ له.
وفي غداة صدور قرار مجلس الوزراء استدعيت سفير فيشي، وقلت له: «كم من مرة لفتُّ نظرك إلى شكوى الحلفاء من تصرفاتك؟! وإن ما كان لا بد من أن يحصل نتيجة لتصرفاتك هذه قد حصل بالفعل؛ فقد قررت الحكومة المصرية قطع علاقاتها السياسية مع حكومة فيشي؛ ولذلك دعوتك لإبلاغك هذا القرار.»
وحينئذٍ اضطرب الرجل بصورة ظاهرة وتلعثم لسانه في الرد عليَّ، فأسعفته بقولي له: «إني رغم صدور هذا القرار، فقد قررت ابتداء وقف العلاقات السياسية لا قطعها.»
فسألني السفير عن الفارق بين الأمرين، وأجبته بأن الحكومة المصرية تكتفي بوقف التمثيل السياسي بين البلدين، ولكنها لن تعتقل الفرنسيين ولا تضع أموالهم تحت الحراسة، ما دام ليس هناك موجب لأحد الأمرين.
وحالما سمع السفير قولي هذا وقف وحيَّاني تحية عسكرية، ثم قال لي: «باسم فرنسا وباسم المارشال بيتان أُقَدِّم لكم وافر الشكر وعظيم التقدير.» وبعد ذلك جلس الرجل، وقال لي مستدركًا بأن القانون الدولي لا يعرف مبدأ وقف العلاقات السياسية، فكيف يكون الأمر إذا لم تُنَفِّذ الحكومة المصرية ما وعدتني به؟ فأجبته بأن هذا القانون مجموع عادات واتفاقات دولية وليست له نصوص محدودة، ألا ترى أنه قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن معروفًا في الحروب سوى طائفتين من الدول، الدول المحاربة والدول المحايدة، وأن في أثنائها خُلِقَتْ طائفة ثالثة هي طائفة الدول غير المحاربة، وأنه ليس ما يمنع في الظروف الاستثنائية التي تجتازها فرنسا الآن من خلق مبدأ وقف العلاقات السياسية إلى جانب قطعها، لمصلحة الفرنسيين الأحرار الذين لم يخضعوا لحكومة فيشي، فاقتنع السفير بحديثي وانصرف مكررًا لي عبارات الشكر.
بعد هذه المقابلة بيوم واحد وصلني كتاب من سفير حكومة فيشي يحتج فيه على قرار مجلس الوزراء، بدعوى أن لفرنسا الفضل الأكبر في نهضة مصر الحديثة؛ فالفرنسيون هم الذين عاونوها من عهد محمد علي إلى الآن في جميع مشروعاتها الحيوية، وهم الذين نشروا التعليم في مصر، وكانوا على الدوام الأصدقاء الأوفياء لها، وما إلى ذلك من العبارات الجوفاء.
لقد دُهِشْتُ لعبارة هذا الكتاب بعد آيات الشكر والتقدير التي كان يكيلها لي السفير بالأمس، ولكن عَلِمْنا أن هذا الكتاب من وضع السفير بالاتفاق مع المرحوم محمد محمود خليل رئيس مجلس الشيوخ، المرشح لرياسة مجلس الوزراء عند استقالة سري باشا، وأنه تحرر من أربع صور: أُرْسِلَتْ إحداها إليَّ، والثانية لديوان الملك، والثالثة احتفظ بها رئيس الشيوخ، والرابعة بقيت بدار السفارة.
وقد رددت هذا الخطاب للسفير؛ لأنه لم تَعُدْ له أي صفة بعد قرار مجلس الوزراء، ولأن الذي يتحدَّث بعده عن حكومة فيشي إنما هو ممثل الدولة التي تختارها هذه الحكومة لرعاية مصالحها مدة قطع علاقاتها السياسية.
ولما علم الملك بقرار قطع العلاقات السياسية بحكومة فيشي عاد فورًا إلى القاهرة لتنفيذ ما استقرَّ عليه الرأي في عائمة رجل الدين الكبير؛ أي لإقالة سري وإسناد الوزراء اسمًا لرئيس مجلس الشيوخ وفعلًا لعلي باشا ماهر.
وكان من المتوقع أن استقالة سري سوف تُعَجِّل طلب الإنجليز إسناد الوزارة إلى السيد النحاس زعيم الأغلبية.
وكنت قد طلبت منذ أكثر من شهر من ديوان الملك تحديد موعد ليحلف وزراؤنا المفوضون المُعَيَّنون حديثًا اليمين بين يدي الملك؛ حتى يقوموا بأعمال وظائفهم الجديدة، وظل طلبي هذا طيلة هذه المدة معلقًا وأعمال هؤلاء الوزراء معطلة، حتى ليلة عودة الملك من رحلة الصيد إثر حادث قطع العلاقات مع حكومة فيشي.
ففي منتصف هذه الليلة طَرَق بابي أحد ضباط حرس الملك، حاملًا دعوة لي من رئيس ديوانه بالحضور، في الساعة الواحدة بعد ظهر الغد ليحلف الوزراء المفوضون اليمين في حضرة الملك.
وإزاء هذه السرعة في تحديد الموعد بعد طول الانتظار، ووقوعه في يوم الجمعة الذي كان الملك إلى ذلك الحين حريصًا على أداء فريضة الصلاة فيه، وتحديده عقب الصلاة مباشرة، ثم استحالة دعوة الوزراء المفوضين في يوم العطلة الأسبوعية. إزاء ذلك كله أدركت أن أداء اليمين ليس السبب المباشر أو الصحيح لدعوة الملك لي، وإنما مسألة قطع العلاقات بحكومة فيشي هي بيت القصيد من هذه الدعوة.
لذلك رأيت أن أعد دفاعي في هذا الموضوع قبل أن آوي إلى فراشي، مستعينًا في رَدِّي بما جاء في خطاب السفير، الذي قدرت أنه سيكون بمثابة قائمة اتهام يمكن أن يُنْسَب إليَّ بسبب قرار مجلس الوزراء.
وحالما انتهى الوزراء المفوضون من أداء اليمين، دعاني الملك إلى مكتبه للتحدث في بعض الشئون، وحين استقرَّ بنا المقام جرى بيننا الحديث الآتي، الذي أصبح في ذمة التاريخ، ووجب إعلانه للناس.
وهنا أَطْرَقَ الملك وكأنَّه تَأَثَّرَ بحديثي، ثم قال لي في شيء من الرجوع:
ومن هذا التفصيل الدقيق في التفرقة بين المسئوليات أدركت أمرين؛ الأول: أن الملك قد لُقِّنَ هذا التفصيل من ذوي المصلحة فيه. والثاني: أن الملك لم يقصد بحديثه أن يخصني بالمسئولية، وإنما هو يرمي إلى إقالة سري بالذات، وحينئذٍ أردت أن أجابهه بالحقيقة سافرةً؛ فقلت له:
وهنا أَطْرَقَ الملك مرة ثانية، ثم رفع رأسه وهَزَّه كمن يطارد عاملًا طارئًا، حاول أن يعبث بالخطة التي رسمها وعَوَّلَ على نفاذها، ثم قال:
وبذلك انتهى حديثي مع الملك؛ فأذن لي بالانصراف.
وليس صحيحًا إطلاقًا ما أشاعه أحد رجال القصر، الذي أوقفته عند حده حين أراد أن يحدثني في هذا الموضوع، من أن الملك قد أغضبه حديثي وأنه أهانني، مع أن الملك كان متزن العبارة في حديثه معي كل الاتزان.
وفي صباح السبت غداة هذه المقابلة أرسلتُ استقالتي لرئيس مجلس الوزراء، الذي دعاني على الفور لمقابلته، فقصرت روايتي عن حديثي مع الملك على أنه أشار إليَّ بعدم رضائه عن قرار مجلس الوزراء؛ ولذلك قدمت استقالتي. ولم أُرِدْ أن أروي لسري باشا إشارة الملك في حديثه إليَّ بوجوب استقالته هو؛ حتى لا أتعجل الحوادث.
وفي نهاية حديثي مع رئيس الوزراء أشار إليَّ بأن أعود إلى الوزارة وأن أباشر عملي فيها كأَنْ لم يحدث شيء؛ لأنه ليس من المصلحة العامة ولا من مصلحة الملك نفسه أن يعلم الإنجليز بأني استقلت بسبب قطع العلاقات بحكومة فيشي.
وعملت بإشارة الرئيس رغم مرارة ذلك على نفسي، وذهبت صباح يوم السبت إلى وزارة الخارجية.
وفي صباح يوم الأحد اتصل بي حسنين باشا في الوزارة، وقال لي إني ما دمت قدمت استقالتي، فالأولى بي أن أنقطع عن عملي بالوزارة. ومما قاله لي حسنين باشا أن الملك أبلغه إثر مقابلتي له أن حديثي معه كان في غاية الصراحة، وأن هذه الصراحة لم تغضبه؛ ولذلك حين أراد أن يشير عليَّ بالاستقالة قد اكتفى بالتلميح دون التصريح. ثم قال لي حسنين باشا إن الملك نفسه هو الذي طلب منه أن يبلغني وجوب انقطاعي عن العمل بالوزارة.
وفهمت المراد بذلك أن يحمل سري باشا على تقديم استقالتي للملك، فيشير عليه باستقالة الوزارة كلها.
وفي الأثناء اتصلت بي السفارة البريطانية للسؤال عن إشاعة استقالتي، ثم هاجمني ممثلو وكالات الأنباء ومراسلو الصحف للغرض نفسه؛ فنفيت الإشاعة مكرهًا واستعجلت سري في قبولها، قائلًا له إنه لم يَعُدْ في وسعي إنكارها بعد. ثم انتقلت إلى فندق مينا هاوس بعيدًا عن فضول الناس.
ولكن سفير فرنسا علم بالاستقالة من السراي؛ فتولى إبلاغها لجميع السفارات والمفوضيات مبتدئًا بالسفارة البريطانية، مؤكدًا لها أن سبب الاستقالة قطعي العلاقات السياسية بحكومته.
(٩-١١) حادث ٤ فبراير ١٩٤٢
ولم تَمْضِ بضعة أيام حتى وقع حادث ٤ فبراير.
فأحاطت الدبابات بقصر عابدين، وأصبح النحاس باشا رئيسًا للوزارة.
وفي اليوم الذي صدر فيه أمر الملك بتشكيل وزارة السيد النحاس، إثر مقابلة الجنرال الإنجليزي له في سراي عابدين. في ذلك اليوم كان المرحوم محمد محمود خليل بالسراي، لابسًا بذلة الردنجوت، في انتظار مقابلة الملك لتسليمه الأمر بتشكيل الوزارة.
والغريب أنه حين صدر أمر النحاس باشا بتحديد إقامة المرحوم علي باشا ماهر، احتمى الأخير بمجلس الشيوخ، الذي كان يرأسه حينئذٍ صديقه وعميله المرحوم محمد محمود خليل، فما كان من الأخير إلا أن عاون الوزارة الجديدة في تنفيذ أمرها على المرحوم علي ماهر.
وبينما كنت جالسًا يومًا في ردهة فندق مينا هاوس، أقبل الملك مع الملكة فريدة والحاشية، وإذا بي أمامه وجهًا لوجه، فوقفت دون أن أتقدم لتحيته؛ خشية أن يكون غاضبًا عليَّ فيبدو منه ما قد يسيء إليَّ. ولكن الملك نفسه قد أبدى استعداده للسلام عليَّ، فتقدمت إليه وصافحني يدًا بيد، وبعد أن دخل الملك ومن معه الغرفة التي كانت معدة لهم خرج ووقف يحدثني طويلًا.
وكان أكثر حديثه يدور حول النحاس باشا الذي كان يقيم في الفندق نفسه؛ فكان يسألني عما يفعله، ومن يستقبله، وهل رأيت حرمه، وهل تشترك معه في مقابلة الزائرين. وكان جوابي على ذلك أني لست على اتصال بالنحاس باشا، ولم أَرَ حرمه ولا أعلم شيئًا عنهما.