تتويج إدوارد السابع ملك بريطانيا
(١) فضول سيدة
سمح لي والدي بالسفر إلى لوندرة في صيف سنة ١٩٠٢م، في صحبة أستاذي المرحوم مستر بيكوك، لحضور حفلات تتويج الملك إدوارد السابع.
وفي لوندرة نزلت ضيفًا بأجر كما يقولون على أسرة أستاذي المذكور بحي جلوستر.
وأول ما لاحظته منذ إقامتي هناك، أن أسرة الأستاذ كانت تعاملني معاملة كريمة، كأنما كنت أحد أفرادها الإنجليز، بينما كان ضيوف هذه الأسرة ينظرون إليَّ نظرة أخرى، نظرة المتمدينين إلى أنصاف المتمدينين، أو نظرة المستعمِرين للمستعمَرين.
وحينئذٍ عَوَّلْتُ على أن أُوقِف هؤلاء عند حدِّهم، مُؤيَّدًا في ذلك من أستاذي نفسه.
سألتني سيِّدةٌ مرةً في سخرية ونحن على مائدة الطعام: «هل صحيح أن في مصر يجوز للرجل أن يتزوج من أربع نساء؟! وكم عدد زوجات والدك؟» فلم أُرِدْ أن أجيبها على الجزء الثاني من سؤالها، وإنما قلت لها في سخرية أيضًا: إن هذا السؤال سَبَقَ أن وجَّهَتْه سيدةٌ مثلك للخديوي عباس، عندما كان يتلقَّى العلم في فيينا؛ فكان جوابه عليها أن هذا صحيح؛ لأن في كل أربع نساء قلَّما يجد الرجل امرأة واحدة صالحة للزواج.
وحينئذٍ لزمت السيدة الصمت مصفرة الوجه، وانطلق أستاذي ضاحكًا بملء شدقيه، والحق أن أستاذي كان معجبًا بي في مقارعتي لأبناء وطنه.
وفي سبيل إقناع المتمدينين بأننا لسنا أنصاف متمدينين، أذكر أن مرة تساءل الحاضرون على مائدة الطعام أيضًا، عن علة وضع قائمة الطعام في إنجلترا باللغة الفرنسية، سواء في: القصور الملكية، أو منازل الأعيان، أو الفنادق، والمطاعم الكبرى؛ فتضاربت آراؤهم في ذلك دون الاهتداء إلى سبب معقول، ولما فرغت جعبتهم قلت لهم: إن العلة الصحيحة لذلك تجدونها في تاريخ بلادكم؛ ففي سنة ١٠٦٦م إثر واقعة هستنج، احتل بلادكم وليم الفاتح دوق بريطانيا الفرنسية، وتولى الحكم فيها ومن بعده خلفاؤه الفرنسيون؛ فكانت قوائم الطعام تُحَرَّرُ باللغة الفرنسية في قصور الحكام والأعيان، ولما كان الإنجليز أشد الشعوب محافظة على التقاليد، ظل هذا التقليد متبعًا إلى الآن.
وحينئذٍ عجب الحاضرون عدا أستاذي من أني أعلم بتاريخهم منهم أنفسهم.
ومرة أخرى دعاني صديق مصري متزوج من سيدة إنجليزية لقضاء أسبوع معهما في إحدى قرى الريف في مقاطعة كنت تُدْعَى باراجرين، فطلبت من سيدة الدار ومن زوج أختها، ثم من صديق لهما على التوالي أن يدلوني، من واقع دليل السكك الحديدية، على محطة القيام وموعد قيام القطار ووصوله؛ فلم يستطع أحدهم إرشادي عن شيء من ذلك، وحينئذٍ أخذت الدليل بيدي واستخرجت منه كافة البيانات المطلوبة؛ فدُهِشَ الثلاثة. وحالَمَا حضر أستاذي أبلغوه بما وقع معجبين، كأنما هي معجزة من معجزات التاريخ.
والواقع أني تصفحت الدليل قبل ذلك، وأعددت العدة لهذه المظاهرة.
كانت هذه الوقائع الثلاث كافية لإقناع هؤلاء القوم أن المصري لا يقل ذكاء أو علمًا عن الإنجليزي؛ فانقلبت سخريتهم مني إلى احترامي وأصبحوا يتحفظون في كلامهم أمامي، خشية أن أسخر أنا منهم بدوري.
(٢) متحف الآثار في لوندرة
زرتُ لوندرة، وأول ما زرتُ متحف الآثار البريطاني الشهير، وترددت عليه حوالي عشر مرات، حتى إن أمين المتحف حين أُبْلِغَ عن كثرة ترددي ظنَّ أني من طلبة علم الآثار، ودعاني إلى تناول الشاي.
والغريب في ذلك أني لم أَزُرْ متحف الآثار في القاهرة إلا بعد أن عُيِّنْتُ مستشارًا ملكيًّا لوزارة المعارف، وأصبحت بحكم وظيفتي عضوًا بلجنة الآثار. ولكن هذا الذي يبدو غريبًا من طبائع البشر، ففي لوندرة ذاتها مَنْ لم يَزُرْ دار الآثار، وفي مصر من لم يَرَ أهرام الجيزة حتى الآن؛ لقرب الشقة وإمكان الزيارة في كل وقت؛ مما يدعو إلى التسويف والتلكؤ فيه يومًا بعد يوم.
ومما يسترعي النظر ويدعو إلى الأسف أن في متحف لوندرة خمس عشرة حجرة مخصصة للآثار المصرية النادرة، وهناك أكثر من غرفة تَحْوِي أثمن المخطوطات القبطية القديمة مما تسرب إليه من الحفريات المصرية والكنائس والأديرة القبطية في غفلة الزمان.
وأذكر لهذه المناسبة أنه أثناء الحرب العالمية الأولى زارني الجنرال دريك، قائد القوات الأسترالية، بوصفي محامي البطريركية القبطية، وقال لي إنه وقرينته من هواة القيشاني القديم، وإن أحسن هدية يقدمها لزوجته لمناسبة عيد الميلاد بعض القطع من القيشاني القديم، وإنه عثر في كنيسة ماري جرجس على قطع منها يرجع عهدها إلى بضعة قرون، كانت لاصقة بجدران الكنيسة، ثم تساقطت على الأرض بسبب الرطوبة، وإن الناس يدوسونها بأقدامهم غير مدركين قيمتها الأثرية، وإنه لذلك يرجوني التوسط لدى البطريرك ليبيعها له مقابل الثمن الذي يُقدِّره.
ولما قابلت البطريرك رفض بتاتًا بيعها، قائلًا: «إن جميع مخلفات الكنائس وَقْفٌ، وإنه لا يملك التصرف فيما هو موقوف.» فأبلغت للجنرال رأي البطريرك؛ فانصرف آسفًا متألمًا.
وبعد أسبوع زارني الجنرال، وقال لي إنه اشترى جميع القيشاني المحطم وكذلك اللاصق بالجدران، وإني بصفتي من رجال القانون قد أرى في هذا الأمر جريمة، ولكنه بصفته من هواة الآثار يرى أن الجريمة كل الجريمة في ترك هذا القيشاني عرضة للتلف والاندثار.
وسنرى فيما بعد عند الحديث عن قنديل جامع المؤيد مثلًا آخر لتسرب الآثار المصرية الثمينة.
وليست بريطانيا وحدها التي يكتظ متحفها بتراث آبائنا؛ ففي متاحف فرنسا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا وغيرها الكثير من آثارنا، التي تعلن لزائري هذه المتاحف مبلغ ما وصلت إليه الحضارة في مصر، عندما كانت تعيش أوروبا في الظلام.
ولست أنكر أن لعلماء الآثار الأجانب الفضل في الكشف عن آثارنا، ولكنني كنت أُوثِر أن تَظَلَّ هذه الآثار مدفونة في أرضنا، عن أن يُكْشَفَ عنها لتئُول إلى غيرنا، إلى أن يُتاح لنا الكشف عنها بأيدينا.
(٣) البرلمان
زرتُ بعد ذلك دار البرلمان، وهو أفخم مبنى بلوندرة، بُنِيَ على طراز يقرب من الجوطي، وحضرت إحدى جلسات مجلس العموم، وكان رئيس وزراء الحكومة حينئذٍ مستر بلفور، وكان مستر تشمبرلن أحد وزرائها. وتصادف يوم زيارتي أن أُصِيبَ الأخير بحادث بسيط، فتقدَّمَ من رئيس الوزراء أحد الحُجَّاب يحمل صندوقًا صغيرًا، فتَحَه الرئيس، وأخرج منه خطابًا تلاه على الحاضرين مُنْبِئًا بوقوع الحادث.
(٤) متحف البوليس
وزرت أخيرًا متحف البوليس السري بسكوتلانديارد، بدعوة من مستر بوينتر أحد كبار موظفيها، ومما يحتوي عليه هذا المتحف الآلات التي اسْتُعْمِلَتْ في ارتكاب الجرائم الكبرى، وهو في الوقت نفسه معهد لتدريب رجال البوليس على الكشف عن الجرائم وتحقيقها.
ورأيت في هذا المتحف قنبلة آلية، في صورة ساعة مُعَدَّةٍ لغرفة النوم، قِيلَ لي إنها أُهديت لأحد الكبار لاغتياله بانفجارها في منتصف الليل، ولكن دقات الساعة أقلقت هذا الكبير وحالت دون نومه؛ فأوقفها قبل موعد الانفجار بقليل. وفي الصباح ظهرت بعض الشواهد الأخرى على هذه المؤامرة، ففحصوا الساعة وانتزعوا منها المادة القابلة للانفجار، واحتفظوا بها في متحف البوليس.
(٥) حفلات تتويج
زرت أخيرًا بعض معالم المدينة الأخرى، ولكن هذه المعالم لم تكن الهدف الأول لقاصدي لوندرة في صيف سنة ١٩٠٢م، بل كانت حفلات التتويج وحدها ذلك الهدف؛ لِمَا كان يتوقعه الناس من المبالغة في إحياء هذه الحفلات، من وفرة الاعتمادات التي تقررت لإقامتها، وتفاني المسارح الكبيرة في تقديم أعظم المسرحيات، كمسرحية ابن حور في دار الأوبرا، ومسرحية قطاع الطريق في ملعب الهيبود روم، ثم رواية جيشا في مسرح ستراند. وقد بلغت نفقات إعداد بعض هذه المسرحيات مائة ألف جنيه، ومنها ما مُثِّلَ ألف مرة على التوالي، وكانت المسارح في كل منها غاصَّة بالناس.
ويرجع سبب الإسراف في حفلات التتويج إلى أمرين؛ الأول: أن الملكة فيكتوريا كانت قد عمرت طويلًا؛ فلم يشهد الشعب حفلات تتويج منذ أكثر من نصف قرن. الثاني: أن حفلات سنة ١٩٠٢م جاءت عقب انتصار بريطانيا في حرب جنوب أفريقيا على البوير.
(٦) لورد كتشنر
وفي رأيي أن السبب الثاني كان أقوى السببين، ودليلي على ذلك من جهة الاستقبال الحافل الذي قُوبِل به لورد كتشنر، عند عودته ظافرًا من جنوب أفريقيا قبل حفلة التتويج بقليل. ومن جهة أخرى، ذلك الحماس الهائل الذي قُوبِل به اللورد، أثناء حفلات التتويج نفسها.
فلم تكن في لوندرة في سنة ١٩٠٢م أسرة واحدة لم تفقد في حرب البوير عائلَها أو فردًا من أفرادها، وكانت النساء يلبسن في تلك السنة أثواب الحداد، ويَسِرْنَ في أحيائها كسيراتِ القلب حزينات. ومع ذلك، اشترك أهل لوندرة كلهم بقلوبهم بمن فيهم من أولئك السيدات في الاحتفال باستقبال قائدهم بكل قلوبهم، مهلِّلين مُكبِّرين ناسين أوزار الحرب الضروس وما خلَّفَتْه لهم من متاعب وأحزان.
وحين مَرَّ بشوارع لوندرة موكب التتويج، كان تهليل الشعب وتصفيقه للورد كتشنر، الذي كان على رأس الموكب، أضعافَ تهليله وتصفيقه للملك نفسه.
وإذ كان ذلك من دلائل ديمقراطية الإنجليز؛ فهو دليل أيضًا على أن فرحهم بإنهاء حرب البوير وانتصارهم فيها أخيرًا كان مبعث المبالغة في حفلات التتويج لا التتويج نفسه.
ولمناسبة الحفاوة في استقبال لورد كتشنر، أذكر واقعة كانت مثار الغيظ في نفسي، إلى حد أن انفعالي بسببها بلغ إلى حد المظاهرة في إحدى الحفلات العامة.
أقام الإنجليز بعد عودة اللورد عرضًا عسكريًّا كبيرًا، أسموه عرض جنود المستعمرات. وكان هذا العرض يشمل فصائل من جنود كافة المستعمرات الإنجليزية حينئذٍ، مُثِّلت فيه كندا وأستراليا ونيوزيلانده، وجنوب أفريقيا والهند وغيرها، حتى سُود أفريقيا الوسطى الذين كان منظرهم في ذلك العهد، بشعرهم الكثيف ولباسهم البدائي الحقير، مَبْعَثَ استنكارِ الإنجليز أنفسهم.
وقد لاحظتُ في دهشة أثناء العرض أنَّ من بين هؤلاء الجنود نحو عشرين جنديًّا يلبسون الطربوش ويمتطون الجياد العربية؛ فصرختُ في القوم: «لا لا! هذا ليس صحيحًا، إن مصر ليست مستعمرة إنجليزية.» ظنًّا مني أن هؤلاء الجنود يُمثِّلون الجيش المصري، ولكن مستر بيكوك أقبل عليَّ على الفور، وطيَّبَ خاطري قائلًا إن هؤلاء جنود من قبرص، ثم صَرَفَ في كياسةٍ رجالَ البوليس الذين همُّوا بالقبض عليَّ.
(٧) حدائق لوندرة
وحدائق لوندرة من أهم معالم هذه المدينة، وهي رئات المدينة الكبيرة. وأكبر هذه الحدائق: هايد بارك، وريجنت بارك. ومما يلفت النظر في هذه الحدائق أنها مقصد العشاق والمحبِّين، يجتمع فيها الحبيبان فيتناجيان ويتبادلان القبلات ويتعانقان، دون أن يعكر صفو اجتماعهما أحد من رجال البوليس أو حراس الحديقة، بل كان هؤلاء يصفون المقاعد اثنين اثنين، فلا تجد مقعدًا منفردًا ولا ثلاثة معًا، وكان المقعدان يُوضَعان خلف جزع شجرة كبيرة، أو في ظل فرع من فروعها الكثيفة، وكان حارس الحديقة إذا ما أراد تحصيل رسوم المقاعد يجعل من صندوقه النحاسي بما فيه من النقود المعدنية، جرسًا لإنذار الحبيبين بقدومه.
(٨) قارئة الكف
وأُقِيمَ في لوندرة لمناسبة احتفالات التتويج معرض كبير بحي أرلز كورت، قصَدَتْ فيه يومًا من الأيام إليَّ إحدى قارئات الكف، التي قالت لي: «أنت تدرس القانون في بلدك، وحضرتَ لمشاهدة حفلات التتويج، وسوف تعود إلى وطنك؛ فاحذر من الأخطار التي قد تتعرض لها في عودتك، وسوف تشغل يومًا ما مركزًا قضائيًّا كبيرًا، ثم ترقى إلى وظيفة أعلى.»
لم يدهشني من قولها هذا حينئذٍ إلا كونها عرفت أني أدرس القانون، أما أني قدمت لوندرة لمشاهدة حفلات التتويج؛ فكان ذلك من البديهيات، وأما تنبؤها لي بالمركز القضائي والوظيفة فلم أحفل به حينئذٍ؛ لأني أحسست أنه رجم بالغيب.
ولكنني حين عُيِّنْتُ مستشارًا ملكيًّا تذكرتُ قول هذه السيدة، ودُهِشْتُ له بعض الشيء وحين عُيِّنْتُ وزيرًا زادت دهشتي، ولكنني ما لبثتُ بعد التروِّي أن اعتقدتُ أن قولها كان رجمًا لا تنبُّؤًا بالغيب؛ لأنها حين قالت لي إني أدرس القانون، لا بد قد لمَحَتْ في وجهي ما يُؤيِّد صحة قولها، وما دام قولها هذا صحيحًا، فمن المحتمل أن أُعيَّن في وظيفة قضائية، ثم أرقى إلى أعلى منها، إلا أن الذي لا شك فيه أن قارئة الكف كانت على جانب عظيم من الذكاء يدعو وحده إلى الدهشة.
على أنه بَقِيَ بعد ذلك جزء من حديث هذه السيدة، ما زلتُ في دهشة منه إلى الآن؛ فقد تعرضتُ في باريس فعلًا أثناء عودتي لحادث خطير هددني في حياتي، وكان في إنذارها لي به سبيل الخلاص منه.
فقد غادرت باريس بقطار الليل في عربة من عربات الدرجة الأولى، التي كانت في ذلك الوقت تحتوي على عيون ذات بابين بجانبَي العربة، منفصلة كل عين منها عن الأخرى، لا يجمع بينهما ممر داخلي واحد. وحين غادر القطارُ المحطةَ لم يكن بالعين سواي، فجلستُ أرقب من النافذة باريس بأنوارها المتألقة وهي تَغِيب عني رويدًا. ولما غابت تمامًا لاحَتْ منِّي التفاتة إلى الطرف الآخر من العين، فإذا بي أجد فيه رجلًا تدل كل الشواهد على أنه لص متربص للهجوم عليَّ؛ فقد كان قذر الوجه واليدين، حقير الملبس، يربط رقبته بقطعة من القماش الأحمر، ممسكًا بصحيفة عنوانها إلى أسفل، يحدق فيَّ حين أَحِيد عنه، ويُخفي وجهه بالصحيفة حين أنظر إليه؛ وحينئذٍ تذكرتُ حديث قارئة الكف، وأيقنتُ أني في حالة دفاع عن النفس، ففتحتُ جعبتي الصغيرة وأخرجت منها مسدسي الذي اشتريتُه إثر حديث لقارئة الكف، ثم قصعتُه استعدادًا لإطلاق الرصاص على اللص، إذا ما بدت منه أي حركة نحوي، ولكن اللص حين سَمِع قصعة المسدس ورآه مُصوَّبًا إليه عاد فأخفى وجهه، وظل مُخفيًا إياه حتى إذا ما قربنا من محطة مولان وهدأت سرعة القطار، مَدَّ يده من النافذة وفتح الباب بسهولة، ثم قفز من القطار في خفة؛ مما يدل على أنه من اللصوص المتخصصين في سرقة القطارات.
وفي مولان انتقلتُ إلى عربة من عربات الدرجة الثانية، التي تتصل عيونها ببعضها، والتي تكتظ عادة بالمسافرين لأكون بمأمن من حادث جديد.
ولقد خُيِّلَ إليَّ أن مغامرتي مع اللص طالت أكثر من ساعتين، بينما المسافة بين باريس ومولان لا تتجاوز نصف الساعة.
(٩) ريف إنجلترا
والريف في إنجلترا جميل، وأهله على نصيب كبير من الخلق الكريم، فقد قضيت في هذا الريف وعاشرت أهله أسبوعًا كاملًا، كان كل يوم منه من أسعد الأيام.
تعلن القرويات في إنجلترا عادة في صيف كل عام عن استعدادهن لقبول ضيوف بأجر، فوقع اختيارنا على صديقي المرحوم سعد بطرس علم، والسيدة قرينته الإنجليزية، وأنا على قرية باراجرين في مقاطعة كنت الجميلة. وهناك نزلنا عند سيدة في دارها الصغير النظيف، الذي يتكوَّن من دورين، يحتوي الأسفل منهما على غرفتين: إحداهما للاستقبال والطعام، والثانية لنوم صاحبة الدار، ويحتوي الأعلى على غرفتَيْ نوم، شَغَلَ صديقي وقرينته إحداهما وشَغَلْتُ الأخرى؛ وبذلك كنا نحن الثلاثة كل نزلاء الدار.
وكانت الأجرة التي تتقاضاها السيدة من صديقي وقرينته جنيهًا ونصف جنيه في الأسبوع، ومني جنيهًا واحدًا، عن السكن والطعام معًا. ولذلك كنا نتساءل في دهشة كيف تستطيع هذه السيدة المسكينة أن تُقدِّم لنا وجبات الطعام مقابل هذا الأجر الضئيل المقصور على أشهر الصيف؟!
كنا نعلم أن القروية الإنجليزية من أكثر القرويات في العالم كافة نشاطًا واقتصادًا، وأنها تقوم بنفسها في دارها بالخدمة والحياكة والطهي والغسيل والكي، وفي حقلها بالبذر والحصاد، وفي حديقة دارها الصغيرة بجني ثمار شجرها؛ فتصنع منه بيدها الشراب والحلوى والفاكهة المحفوظة، وتجمع من تقليم أشجارها الخشب للطهي والتدفئة، ثم تُربِّي بعض الدواجن لتأكل منها أو تتاجر بها، وخنزيرًا تُقدِّد لحمه وتتخذ من شحمه دسمًا يكفيانها طول السنة؛ وهكذا تعمل القروية بقاعدة الاكتفاء الذاتي إلى أقصى حد.
ولكن كل ذلك لم يُفسِّر لنا سِرَّ حياة هذه السيدة المسكينة التي توفِّي عنها زوجها، ثم قُتِلَ ابنها في الحرب في ظرف سنتين، ولم يَبْقَ لها من مُعِينٍ على الحياة سوى جدِّها وإيمانها بالله.
وباراجرين قرية جميلة، يحيط بها بعض التلال الخضراء، ومجموعة الغابات الصغيرة ذات أشجار عالية كثيفة، وكان على القرب منها مصنعان أحدهما للورق والآخر لدبغ الجلود.
ضللنا الطريق يومًا في إحدى هذه الغابات؛ فكنا نعود أكثر من مرة إلى حيث كنا، وأرهقنا التعب فقصدنا إلى كوخ صغير؛ التماسًا لقسط من الراحة وقدح من الشاي، فأكرمتنا العجوز صاحبة الكوخ، وقدمت لنا الشاي في أقداح غليظة على مائدة نظيفة، ثم هدتنا إلى الطريق، فشكرناها وأنقدناها نصف كرون، أي ما يعادل اثني عشر قرشًا، ولكنها رفضت في إباء أن تأخذ أكثر من شلن واحد قائلة: «إنه فوق المزيد!»
ولم يمضِ علينا يومان في باراجرين، حتى وصلتنا دعوة لزيارة مصنع الورق وتناوُل الشاي، وإثر الزيارة بعث لنا مديره بهدية من الورق من مختلف الأصناف والأحجام.
وفي يوم الاثنين الأول من شهر أغسطس، وهو يوم عطلة أشبه بيوم شم النسيم، حيث يقصد سكان المدن إلى الريف، يمرحون فيه بين أقداح الشراب وأنغام الموسيقى والرقص، في ذلك اليوم الذي يُسمُّونه عطلة البنوك، وجدنا حقل فراولة حاجزه مرفوع؛ فظننا أن الحقل مفتوح. ومعنى ذلك أن صاحب الحقل، بعد جني المحصول وحيث يتبقى منه ما لا يستحق أجرة العمال، يأمر بفتح الحقل للجمهور لالتقاط ما بقي من المحصول، بدلًا من إتلافه في عملية الحرث لإعداد الأرض للزراعة الجديدة.
وعلى أساس هذا الاعتقاد، دخلنا الحقل فأكلنا من الثمار حتى شبعنا، ثم ملأنا قبعاتنا الخوص بما فاض عن قدرتنا على الأكل، ولما هممنا بالانصراف أقبل علينا صاحب الحقل مسرعًا غاضبًا يأمرنا بالوقوف، وحالما قرب منا وأدرك أننا من الأجانب، تبدَّل غضبه رفقًا، وقال لنا في هوادة: «لعلكم ظننتم أن الحقل مفتوح، والواقع غير ذلك.» وحينئذٍ عرضنا عليه دفع ثمن الثمار التي أكلناها والقدر الذي حملناه، وحينئذٍ رفض الرجل. ولما أصررنا على الدفع قَدَّرَ الثمن ببنسين، أي أقل من القيمة من قرش، وأبى أن يأخذ أكثر من هذا القدر. وفي المساء أرسل إلينا سلة من الفراولة، أهديناها لصاحبة الدار، التي قالت لنا في غبطة إنها سوف تصنع منها من الشراب والحلوى ما يكفيها سنة كاملة.
هكذا كان كرم الخلق والضيافة عند أهل الريف في إنجلترا.
(١٠) لوندرة في سنة ١٩٥١
ولم أزر لوندرة بعد سنة ١٩٠٢م إلا في سنة ١٩٥١م، فوجدتها هي هي لوندرة القديمة، رغم أوزار الحرب التي حاقت بها؛ فمعالم المدينة لم تتغيَّر وسكانها لم يتبدلوا، لا في زيهم أو أخلاقهم أو سبل حياتهم، اللهم إلا في اقتصادياتهم، التي قد لا تبدو للزائر العابر ولا يدري بها سوى الباحث المحقق.
فأول ما يُلاحِظُه الزائر رخص أجور الفنادق في لوندرة، فقد نزلت في بالاس أوتيل بحي لانكاسترجيت، وكانت أجرة الغرفة والطعام فيها لا تتجاوز سبعة وعشرين شلنًا، أي ما يعادل مائة واثنين وثلاثين قرشًا، بينما يدفع الزائر مقابل ذلك في باريس ثلاثة أمثال هذه القيمة، وكذلك في مدن سويسرا وما يقرب من ذلك أو يزيد في مدن إيطاليا.
وكذلك يلاحظ الزائر في لوندرة حرص المحال التجارية والمستهلكين على احترام قوانين التموين، ويرجع ذلك إلى صلابة المستهلكين، أكثر منه إلى رغبة التجار في احترام القوانين.
(١١) تأميم العلاج في إنجلترا
والعلاج في إنجلترا مؤمَّم، تقوم به الحكومة للمرضى مجانًا في مستشفياتها، مقابل ضريبة تتقاضاها من الممولين، وإذا علمت أن الضرائب هناك تصاعدية، أدركتَ أن مؤدَّى هذا التأميم علاج الفقير على حساب الغني.