في المحاماة
(١) مَشَاقُّ المهنة
(١-١) جهد الجسم والعقل والنفس
المحاماة من أشق المهن الحرة إن لم تكن أشقها جميعًا؛ فالمحامي الذي يحرص على واجبه لا يعرف أن لبدنه عليه حقًّا، فهو يرهق جسمه بالعمل المتواصل، وعقله بالتفكير العميق، ونفسه عند الإخفاق بالألم المرير، ثم هو مع ذلك لا يُقَابَلُ من موكله غالبًا إلا بنكران الجميل.
يستيقظ المحامي مبكرًا كل يوم لإلقاء نظرة على قضاياه، التي سيترافع فيها في ذلك اليوم، ويقضي يومه إلى ما بعد الظهر في مباشرة قضاياه بدور المحاكم، وفي المساء يقابل موكليه في مكتبه، ثم في الليل يعكف على إعداد المرافعة في قضايا الغد، حتى ساعة متأخرة من الليل، وأحيانًا حتى ساعة مبكرة من صباح الغد.
أما درس القضايا وكتابة المذكرات، فذلك موعده يوم الجمعة يوم العطلة المخصص للراحة.
ولذلك يُضطر المحامي الكبير، الذي يُعْهَدُ إليه بالقضايا الكبيرة إلى الحد من قبول القضايا، إن كان من القانعين، أو إلى إلحاق عدد كبير بمكتبه من صغار المحامين.
ويرى المحامي نفسه مرهقًا بالعمل طول السنة؛ فيحاول أن يستعيد قواه بقضاء العطلة القضائية في أحد مصايف القُطْر، ولكنه مع ذلك لا ينال قسطه من الراحة؛ لأنه يظل على اتصال بمكتبه طول مدة الصيف، ولأن كل المتقاضين يقصدون إليه حيث يكون، وأخيرًا لأن مواعيد الإجراءات وبخاصة أمام محكمة النقض لا تعترف للعطلة القضائية أو لراحة المحامين بأي حرمة.
ويقصد المحامي إلى أوروبا ليقطع كل صلة له بمصر، ولكنه رغم ذلك يُضطر أحيانًا إلى قطع سياحته أو علاجه ليقوم بإجراء قضائي هام، أو لتصحيح إجراء قام به مكتبه في غيبته.
ففي صيف ١٩٥١م، اضطررت لقطع علاجي بعد خمسة عشر يومًا من سفري، وعدت للقطر لتصحيح إجراءات الطعن في حكم، ثم اضطررت للبقاء فيه لتتبع الإجراءات؛ وبذلك حُرِمْتُ من إجازتي وخسرت نفقات السفر، ثم دفعت من مالي رسوم إعادة الإجراءات.
ويُجْهِدُ المحامي عقله بكثرة التفكير في قضاياه إن طوعًا أو كرهًا.
فالمحامي مهما كانت قدرته لن يجد دائمًا لقضيته حلًّا على الفور، بل يحتاج في غالب الأحيان إلى البحث عن هذا الحل. ومن شأن هذا البحث إقلاق راحة صاحبه في نهاره وليله على السواء؛ ولذلك كنت أحتفظ دائمًا في الليل بالقرب من مضجعي بمفكرة وقلم لتدوين ما قد يعنُّ لي في لحظات الليل من طريقة لرفع الدعوى أو دليل أو دفع فيها.
ويشترك المحامي مع موكله في ألم الإخفاق في قضيته، إذا ما اعتقد الأول أن موكله كان على حق، وأن الحكم فيها لم يكن على الصواب.
وكثيرًا ما يتقمَّص المحامي قضية موكله، فيزيد اعتقادًا بحقه كلما تعمَّقَ في دراستها ووجد دليلًا جديدًا على صحتها؛ فيجاوز في تفاؤله بكسبها ثم لا يلبث أن يُصدَم فيها بخسارتها.
(١-٢) تنكُّر الموكل لمحاميه
أما تنكُّر الموكل لمحاميه فهو مضرب الأمثال. يقول المحامون فيما بينهم: «إذا وجدتَ موكلك في مكتبك يوم الحكم في قضيته فاعلم أنه قد خسرها، وإن لم تجده فاعلم أنه قد كسبها!»
أفهم أن الموكل إذا ما خسر قضيته حمَّل محاميه حقًّا أو باطلًا وزر خسارتها، أما أن يكسب الموكل قضيته فيتهرب من محاميه حتى لا يدفع له أتعابها، ولا يكلف نفسه على الأقل شكره على جهوده التي بذلها في سبيله؛ فهذا ولا شك منتهى نكران الجميل.
هذا النكران متفشٍّ في نفوس الموكلين في مصر إلى أقصى حد، وفي نفوس الأغنياء منهم قبل الفقراء.
وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
في سنة ١٩٠٨م تُوفِّي أحد موكليَّ عن تركة واسعة تزيد قيمتها على مليون من الجنيهات، وكان له ولد سيئ السلوك منبوذ من والده، فألقى بنفسه في أحضان المرابين والنصابين، الذين استوقعوه على سندات وأخذوا بها أحكامًا في حياة والده، بلغت قيمتها حوالي المائة ألف جنيه، بينما هم لم يدفعوا أكثر من ألفين.
وكانت طريقة مرابيه في استغلاله طريقة شيطانية، تقضي بألا يدفعوا له المبلغ المتفق عليه إلا بعد توقيعه سند الدين، ورفع الدعوى به عليه واعترافه أمام المحكمة بقبض مبلغ الدين، وصدور الحكم فيها، ثم صيرورة الحكم نهائيًّا.
وبمقتضى هذه الأحكام أعدَّ المرابون طلبات الاختصاص على مدينهم المذكور، حتى إذا ما تُوفِّي والده، سجَّلوا من الاختصاصات على نصيب مدينهم من عقارات التركة ما قيمته خمسة وتسعون ألفًا من الجنيهات خلاف الفوائد والمصاريف.
وحينئذٍ وَكَّلَنِي مدينهم في الطعن في هذه الأحكام، فرفعت دعاوى مدنية على بعض المرابين، الذين دفعوا له المبلغ المتفق عليه بعد حصولهم على الحكم، كما رفعت دعاوى جنح مباشرة على الذين نكلوا عن اتفاقهم، فلم يدفعوا له حتى هذا المبلغ.
وكان سندي في الدعاوى المدنية أن الأحكام الصادرة على موكلي لا تكتسب قوة الشيء المقضي به؛ لأنها لم تصدر في خصومة صحيحة، كان المدين فيها مطلق الحرية في الدفاع فيها، وإنما صدرت في قضايا صورية قصد الدائنون بها ضمان وفاء دين الربا، وكان سندي في دعاوى الجنح أن الدائنين إنما نصبوا على موكلي، بعدم الوفاء بالمبلغ المتفق عليه، فوق ارتكابهم جريمة الرباء الفاحش.
وكان موكلي يتفق مع دائنيه على قبض خمسين جنيهًا مقابل ألفين، وخمسمائة مقابل عشرة آلاف. وبلغ عدد القضايا عشرًا، حُكِمَ فيها جميعًا لصالح موكلي، ما عدا قضية واحدة أُحِيلَ فيها الدَّيْنُ إلى بنك أثينا، ورُفِعَتْ دعواه أمام المحكمة المختلطة، فقضت للبنك بدينه كاملًا باعتباره محولًا إليه حسن النية.
ولما جاء دور الحساب على الأتعاب رفض موكلي أن يدفع لي قرشًا واحدًا، علاوة على ما أمر المجلس الحسبي بصرفه لي أثناء نظر القضايا وقبل الحكم فيها تحت الحساب، وقدر ذلك ستمائة جنيه.
ولما رفعت دعواي على موكلي قُضِيَ لي نهائيًّا بمبلغ ألف جنيه، علاوة على المبلغ المذكور.
ولم أتمكَّن من تحصيل هذا المبلغ من المدين رغم ثرائه، إلا بعد ثلاث عشرة سنة، أنفقتُ في سبيل الحكم في القضية وتنفيذه أكثر من ثلاثمائة جنيه رسومًا ومصاريف، وعانيت فيها الكثير من عنت الموكل.
وفي سنة ١٩٠٩م وما بعدها وُكلت عن سيدة من كرائم السيدات وأغنيائهن في أربع عشرة قضية، كسبت ثلاث عشرة، واصطلحت في الباقية منها، لعدم احتمال كسبها.
وكانت هذه السيدة تدفع لي الأتعاب من وقت لآخر دون اتفاق سابق، وما كنت أراجعها فيما تدفعه.
وفي سنة ١٩٢٤م، قعدت هذه السيدة عن دفع الأتعاب في كبرى قضاياها، ولما طالبتها بها أخيرًا بعد أن تنكرت لي في وفائها أَبَتِ الدفع صراحة.
حينئذٍ تقدمت للمحكمة بطلب تقدير أتعابي في القضية، فقدرته بمبلغ مائتين وخمسين جنيهًا، وعارضت كما عارضت الموكلة في هذا التقدير، فعدلت المحكمة أتعابي إلى مبلغ أربعمائة جنيه.
إلى هنا كانت موكلتي مماطلة في دفع الأتعاب فحسب، شأنها في ذلك شأن أكثر الموكلين، ولكن الذي حزَّ في نفسي وعِبْته عليها بحق، أن يقول محاميها في مرافعته عند نظر المعارضة إني قبضت أتعابي دون أن أعطيها إيصالًا بها، وإني حصَّلْتُ لها مبالغ واحتفظتُ بها لنفسي، إلى غير ذلك مما لا يصح نقله عن سيدة فاضلة، في حق محامٍ خدمها خمس عشرة سنة بإخلاص ونجاح.
ولكن لحسن الحظ عثرت في ملف القضية بكتاب من السيدة صادر منها بعد الحكم نهائيًّا في القضية، تشكرني فيه على كسب القضية وتَعِدُني بدفع الأتعاب، فكان فيه فصل الخطاب.
وفي سنة ١٩٢٤م قَدِمَ إليَّ قرويٌّ من مديرية بني سويف، تظهر عليه رقة الحال، وإذا يبين من وقائع دعواه أنه يملك مائة وخمسين فدانًا. وحين عرضنا لمسألة الأتعاب، ادَّعى الفقر قائلًا إنه لا يستطيع أن يدفع لي مقدمًا سوى عشرة جنيهات، واعدًا بدفع ما أطلبه إذا ما قضت محكمة الاستئناف لمصلحته بإلغاء الحكم الابتدائي، راجيًا أن أعفيه من توقيع أي اتفاق بالأتعاب بدعوى أن الدنيا أمان، ثم انتهت المناقشة بأن دفع لي مائة جنيه مقدمًا، وتعهَّدَ لي كتابةً بدفع مثلها مؤخرًا.
ويوم الحكم حضر لي صاحبنا داعيًا الله بكسب القضية واعدًا إياي بمضاعفة مؤخر الأتعاب، ولكنه لم يَعُدْ إليَّ في ذلك اليوم، فأيقنت أنه لا بد قد كسب دعواه بالفعل.
ولما طالبته بمؤخر الأتعاب لم يَرُدَّ عليَّ؛ فرفعت الدعوى عليه وحُكِمَ لي فيها بما طلبت، وأعلنته بالحكم، ثم حجزتُ على محصول عشرين فدانًا من القمح، ومع ذلك كله لم يُحرِّك ساكنًا، بل عمد إلى تبديد القمح المحجوز. وقبل اليوم المحدد للبيع وخشية إثبات واقعة التبديد بمعرفة المحضر، قَدِمَ إلى القاهرة ليدفع لي الأتعاب ويأخذ به إيصالًا؛ ليلغي به الحجز ويخلص من جنحة التبديد.
وبينما كنت يومًا في داري مطلًّا من نافذة، حوالي الساعة الخامسة صباحًا، وجدت رجلًا نائمًا على إفريز الشارع لم يلبث أن استوى جالسًا، فإذا به موكلي. وحالما فُتِحَ مكتبي الملحق بداري قصد إليَّ معلنًا مجيئه لدفع الأتعاب، ولكنه مع ذلك بدأ يساومني على مقدارها رغم الحكم لي بها، وبدأ مساومته بعرض خمسة جنيهات، ثم انتهى أخيرًا بدفع المبلغ المحكوم به كله والمصاريف.
وحوالي سنة ١٩٤٠م وكَّلَني وجيهٌ تَبْلُغُ ثروته ثلاثة ملايين من الجنيهات في قضيتين، يتناول النزاع فيهما ما لا تقل قيمته عن ربع مليون.
وحالَمَا عُهِدَ إليَّ بالتوكيل فيهما سَلَّمَنِي شيكًا مطويًّا، لم أتصفحه في حضرته استحياء منه، وبعد انصرافه تبيَّنت أنه بمبلغ ثلاثمائة جنيه فقط، ولم أُرِدْ مراجعته في قيمة الشيك، ولا الاتفاق معه مقدمًا على الأتعاب، اعتقادًا مني أنه سوف يقدر أتعابي حق قدرها؛ فيلحق هذا الشيك بشيك آخر أكبر منه قيمة، ولكنه لم يفعل، ومع ذلك لم أتوانَ في درس القضيتين، والاستعداد للمرافعة فيهما أمام محكمة الاستئناف.
وفي سبيل ذلك انقطعتُ بفندق مينا هاوس شهرًا كاملًا عن كل عمل آخر، وأعددت في كل قضية مذكرةً، طبعتُها وقدَّمتُها قبل جلسة المرافعة، ثم ترافعتُ فيهما في جلستين، وصدر الحكم في كلٍّ منهما لصالح الموكل بإلغاء الحكم المستأنف وبسائر طلباته.
وكان من دواعي الأسف أن يعاملني هذا الموكل المليونير، الذي كان من رجال القضاء والمحاماة، معاملة عامة الموكلين لسائر المحامين؛ فلا يحضر إلى مكتبي لشكري على مجهودي ومحاسبتي على أتعابي. وحينئذٍ قررت أن أمهله شهرًا كاملًا، وفي نهاية هذا الموعد كلفت زميلي في المكتب الاتصال بالموكل بالتليفون ودعوة نجله لمقابلتي؛ فرَدَّ الموكل مستنكرًا هذه الدعوة قائلًا: ماذا تريدون من نجلي وقد دفعت لكم أتعابكم كاملة؟!
حينئذٍ رفعت عليه الدعوى، وحرص الموكل على حضور القضية بنفسه إلى جانب محاميه، وقرر أمام المحكمة أن الذي وضع المذكرتين نجله الدكتور في علم الحقوق والمحامي أمام محكمة الاستئناف المختلطة، وأن مرافعتي أمام محكمة الاستئناف لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، وأن قضيتيه كانتا من الظهور بحيث لم تكونا في حاجة إلى محامٍ أصلًا.
وكانت ملاحظة المحكمة على هذا الدفاع قاسية؛ فكانت لي فيها ترضية كاملة، على أن المحكمة الابتدائية لم تحكم لي سوى بثلاثمائة جنيه أخرى. وأغلب ظنِّي أنها قَدَّرَتْ مؤخر أتعابي في القضيتين على أساس المقدم المدفوع؛ اعتقادًا منها أني قبلتُ هذا المقدم عن رضاء.
استأنفتُ الحكم كما استأنفه الموكل، فقضت المحكمة الاستثنائية بتعديل الحكم إلى مبلغ ألف جنيه.
ثم طَعَنَ الموكل في الحُكْمِ أمام محكمة النقض بواسطة زميل صديق لي، وقابلني الزميل معتذرًا عن توكيله في القضية، فأجبتُه بأني سوف أُحيِّيه أمام محكمة النقض أحسن تحية، وسألني عن مؤدَّى هذه التحية، فقلت له: إني لن أقدم مذكرة في الطعن فتحرم عليَّ المرافعة فيه، وأترك للمحكمة وحدها الرد على أسباب طعنك.
وقضت محكمة النقض برفض الطعن، فقابلني الزميل محاولًا الاعتذار مرة ثانية، فأجبته بأن كلًّا منَّا حُرٌّ في تقدير الواجب عليه نحو الآخر، ولكنني إذا ما عُرِضَ عليَّ التوكيل ضدك في قضية لا علاقة لها بأتعاب المحاماة، ونقدني فيها الموكل ألفًا من الجنيهات، وكنت في حاجة إلى جنيه واحد منها لَمَا قبلت التوكيل.
والواقع أنه لولا أن الزميل صديق لي قديم، له في نفسي منزلة الأخ الكبير، لَمَا تألمت بقبوله التوكيل ضدي.
والواقع أيضًا لو أنَّ موكلي حَضَرَ إليَّ عقب كسب دعواه وشكرني على جهودي فيها، ثم طوى شيكًا بأي مبلغٍ كان لقبِلتُه دون مناقشة.
(١-٣) الغدر بالمحامين
ومن المتقاضين من يغدر بالمحامي ويحرمه من رزقه بوسائل شيطانية تجوز على المحامي نفسه.
ففي حوالي سنة ١٩١٩م وصلتني برقية من أسيوط بتوقيع أحد الوجهاء، يقول فيها: «نرجو فتح مكتبكم غدًا الجمعة لمقابلتكم وتوكيلكم في قضية هامة.» وقد عجبت لهذه القضية التي لا يُسْتَطَاعُ إرجاء التوكيل فيها يومًا واحدًا؛ ولهذا الموكل الذي يُؤثر راحته على راحتي، على فرض أن له عذرًا يَحُول دون مقابلتي يوم السبت، وكان صاحب البرقية من أسرة عمرو الكبيرة بأبي تيج، وهو يملك وحده ثلاثة آلاف فدان؛ ولذلك أغرتني برقيته على تلبية طلبه.
وحضر إليَّ صاحب البرقية فعلًا، وعرض عليَّ التوكيل في قضيتين؛ إحداهما: موضوعها النزاع في ملكية مائة وخمسين فدانًا، والأخرى: موضوعها النزاع في ريع خمسمائة فدان. وبعد أن شرح لي الموكل وقائع الدعويين، اتفق معي على أتعابهما، واعدًا بالحضور في الغد لدفع مقدم الأتعاب وتحرير عقد الاتفاق، طالبًا مني أن أكتب له كلمة تفيد قبولي التوكيل مبدئيًّا؛ حتى يسحب مبلغ الأتعاب من البنك، ولكن طلبه هذا الأخير وقع عندي موقع الشك؛ فرفضتُه.
وفي صباح السبت لم يحضر إليَّ الموكل، وقيل لي إنه جالس بمقهى قريب من مكتبي، ثم حضر إليَّ بدلًا منه اثنان من أسرته، وعرضا عليَّ التوكيل في القضيتين المذكورتين خصمًا لذلك الموكل؛ فاعتذرت لهما عن عدم قبول التوكيل لسبق قبول التوكيل فيهما عن خصمهما نفسه، وحينئذٍ قالا لي: «إن هذا الماكر قد خدعك ليحرمنا من وكالتك عنا.» ورويا لي أنه كانت بينهما وبينه في يوم الخميس قضية أمام محكمة أسيوط، وأنهم تقابلوا معًا على رصيف المحطة وتشاحنوا، فصارحاه في حدة المناقشة بأنهما سيوكلاني في قضاياهما ضده، وأنه لذلك سبقهما في الحضور إليَّ، بقصد تحريم القضيتين عليَّ وليس بقصد توكيلي فيهما، وكان ذلك.
(١-٤) جهل بعض الموكلين لأقدار المحامين
ومن مآسي المحاماة ألَّا يدرك الموكل قدر محاميه، ويظن أنه وكيله المأجور، فله عليه من الحقوق ما له على ناظر زراعته أو وكيل دائرته. على أن هذا العيب أصبح مقصورًا على جهلاء الريف وأغنياء الحرب.
يُرْوَى أنه إثر تشكيل المحاكم المختلطة في سنة ١٨٧٥م، وَكَّلَ أحد عُمَدِ البحيرة محاميًا كبيرًا في الإسكندرية، وحضر العمدة يومًا لمقابلة محاميه، فطلب إليه الانتظار لاستئذانه في ذلك، فلم يكن من العمدة إلا أن اقتحم غرفة المحامي في غضب، قائلًا لوكيله: «كيف تستأذنه هو … وأنا كاريه؟!»
ولا يزال الجهل متفشيًا حتى الآن بين بعض الموكلين، في صورة مطلقة بعض الشيء، ولكنها تؤدِّي دائمًا إلى إساءة العلاقة بين الوكيل والمحامي.
وفي سنة ١٩٥٠م، وكَّلني أحد باشاوات الصعيد من أثرياء الحرب في بعض القضايا، وهو الذي من أجله قطعت علاجي في أوروبا بعد وصولي إليها بخمسة عشر يومًا، على النحو الذي ذكرته، وفي يوم ما طلب إليَّ الوساطة في أمر لا علاقة له بقضاياه، ولا يُمِتُّ بأي صلة بمهنة المحاماة.
ولما لم أُجِبْه إلى طلبه، حضر إليَّ غاضبًا مُصِرًّا على وجوب قضاء هذا الأمر في ظرف موعد حدَّدَه، وفي نهاية الموعد حضر إليَّ يتهمني بإهمال قضاياه، ويهددني بعزلي من توكيله؛ فكان لا بد أن أُلقِّنه درسًا في أدب المعاملة وفي الاحترام الواجب للمحامين.
ولقد علمت من الأستاذ الكبير السيد نجيب الهلالي أنه كان وكيلًا عن الباشا المذكور، وفي القضايا نفسها التي وُكِّلْتُ فيها، وأنه اضطر إلى التنازل عن التوكيل فيها لعدم احتماله معاملة الباشا الموكل.
(١-٥) بعض حالات العرفان بالجميل للمحامين
ومن حسن الحظ أن هذا الصنف من الموكلين قد أخذ في القلة، ولا شك أنه سوف يَئُول إلى الزوال، إذا ما حرص المحامون على كرامتهم في معاملتهم مع الموكلين، ولكن قانون العرض والطلب قد يَحُول إلى حين دون تحقيق هذه الغاية.
على أن مِنَ الموكلين مَنْ يبادل محاميه أصدق الود، ويُكِن له خالص الاحترام، بل منهم من يبالغ في العرفان بالجميل؛ فيجزي محاميه فوق ما يستحق، على أن ذلك أندر من النذر اليسير.
ففي نحو خمسة آلاف قضية وُكِّلْتُ فيها، لم أظفر بمثل هذه المعاملة الكريمة إلا من أربعة من الموكلين.
ففي سنة ١٩٠٨م، وكلت عن محمد أحمد المنشاوي، ابن المرحوم أحمد باشا المنشاوي في جميع قضاياه إجمالًا مقابل أتعاب سنوية مقدرة.
وكان موكلي هذا من مذنبي سجن طره، وكان مُعيَّنًا عليه قَيِّم لإدارة أمواله، وكان هو الذي يختار القامة، فكان هو المدير لأمواله في الواقع، وكان يستقبلني في السجن في مكتب المأمور، ويُقدِّم لي القهوة فيه.
كان هذا المذنب من أكرم الناس وأكثرهم شهامة، وفي عقيدتي أن الجرائم التي ارتكبها إنما كان مدفوعًا إليها بعامل الفروسية، تشبهًا بعنترة العبسي والزير سالم وغيرهما من أبطال الأساطير، كما يتشبه الآن بعض الشبان بأبطال الروايات التي يشهدونها على شاشة السينما؛ فقد صارحني موكلي هذا بأنه لم يَسْطُ يومًا ما للسرقة، وإنما كان هدفه دائمًا الأخذ بالثأر، أو نصرة صديق، أو خطف عروس تزوَّجَتْ بغير رضاء أهلها، وأن الجناية الأخيرة التي حُكِم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة إنما كان بريئًا منها، ولكن بعض الظروف أدانته فيها على خلاف الواقع.
فقد سطت عصابة من اللصوص على قرية، فقاومهم خفراؤها، وكادوا يستظهرون على اللصوص، لولا أن أحدهم صاح بأعلى صوته: «جاي يا محمد يا منشاوي!» لإيهام الخفراء بأنهم من أتباعه وإيقاع الرعب في نفوسهم. وقد نجحت الحيلة وهرب الخفراء بمجرد سماع هذه الاستغاثة، مع أنه لم تكن لمحمد المنشاوي أي علاقة بهذه العصابة، ولقد ساعد على إلصاق التهمة به سوابقه من جهة، وسوء العلاقة بينه وبين والده في ذلك الوقت من جهة أخرى.
ومن كريم معاملات هذا الرجل لي، أنه يوم ولادة ابني الأكبر بعث لي بمبلغ مائة جنيه على سبيل النقطة، وأنه بالرغم من أن اتفاقي معه كان شاملًا لجميع قضاياه، كان يدفع لي عن كل قضية كبيرة أكسبها أتعابًا إضافية مناسبة.
ويومًا رويتُ له أن والده المنشاوي باشا كان قد وَعَدَنِي في سنة ١٩٠٢م في زيارة له لوالدي بأن يهديني جوادين أصيلين، ولكنه لم يفعل؛ فأمر موكلي القيم عليه بأن يبعث لي في الغد بجوادين من أحسن جياده، ولما كنت من هواة الخيل وقعت هديته في نفسي أجمل الوقع.
على أن شامة هذا الرجل لم تكن مقصورة على المادة؛ ففي إحدى القضايا التي قامت بينه وبين محاميه الذي وَكَّلَهُ بعدي، شهد لي شهادة طيبة رغم انتهاء وكالتي عنه، وحينئذٍ أمر القاضي مشكورًا بإثباتها في محضر الجلسة؛ فكانت ولا تزال مفخرة لي.
أما سبب إنهاء وكالتي عنه، أنه كان يواظب على أداء فريضة الصلاة أين يكون؛ ففي أحد الأيام بينما كان يؤدي صلاته في مكتبي، لاحظ أن بعض الكتبة كانوا يتهامسون إليه ساخرين.
وفي سنة ١٩١٣م اقترضت من أحد المصارف أربعمائة جنيه عجزت عن سدادها في موعد الاستحقاق، وكنت لذلك في هم مقيم؛ لأني أعلم أن من تقاليد المحاماة في فرنسا أن المحامي الذي لا يقوم بسداد دين عليه يُحال فورًا إلى مجلس التأديب. وفي ليلة الاستحقاق بالذات، حضرت إليَّ إحدى الموكلات، وقالت لي بأني أباشر قضاياها منذ أكثر من أربع سنوات دون أن أطالبها بالأتعاب، وأنها لذلك حضرت لتدفع لي شيئًا منها تحت الحساب، وإذا المبلغ أربعمائة جنيه قيمة الدَّيْن تمامًا، وهو أكثر مما كنت أتوقع أن تدفعه لي.
وفي سنة ١٩٢٠م، وَكَّلَنِي المرحوم بسيوني بك الخطيب، ناظر وقف المنشاوي باشا، في إحدى قضايا الوقف، بتوصية من أستاذي المرحوم عبد العزيز فهمي باشا، ودفع لي مُقدَّمًا خمسين جنيهًا، ووعد بأن يدفع لي مثلها عند كسب الدعوى، وأثر الحكم فيها لصالح الوقف، دفع لي مائة وخمسين جنيهًا، ولما سألته عن سبب هذه الزيادة أجابني بأن للوقف قضية مماثلة، تزيد في القيمة عن القضية التي وُكِّلت فيها، وأن الحكم في هذه القضية سوف يكون فاصلًا في القضية الأخرى، وأنه دفع لي هذه الزيادة بأمر أستاذي الكبير.
وفي سنة ١٩٢٣م أو ١٩٢٤م، وكَّلَني محمد بك بدوي عمدة كفر بدوي، بمديرية الغربية، في قضية أمام محكمة الاستئناف مقابل مائتين من الجنيهات نصفها مقدمًا والنصف الثاني مؤخرًا، ولما كسب دعواه سلَّمَني، علاوة على مؤخر الأتعاب، عشرين سهمًا من سهام بنك مصر، راجيًا مِنِّي قبولَها تقديرًا للجهد الذي بذلته في قضيته، قائلًا إنه يعتقد أني تساهلت معه في تقدير الأتعاب عند التعاقد.
(١-٦) مسئولية المحامي عن أموال ومستندات موكليه
ومما يزيد من مشقة المهنة عظم المسئولية الملقاة على عاتق المحامي نحو موكله؛ فهو فضلًا عن مسئوليته من الناحية الفنية مسئول أيضًا عن أموال موكله ومستنداته، التي تُسَلَّمُ إليه أو التي يتسلمها نيابة عنه، وبدهي أن المحامي لا يستطيع أن يباشر بنفسه أعمال المكتب الإدارية، وأن الذي يقوم بها عنه وكيله أو كتبته؛ فهم الذين يقومون بسداد الرسوم القضائية، وإيداع المبالغ خزانة المحكمة أو صرفها منها، وهم الذين يتسلَّمون مستندات الموكل عند إيداعها ملف القضية أو سحبها منه، إلى غير ذلك من المهام الإدارية. والمحامي مسئول طبعًا عن موظفيه، مرجوع عليه في حالة ضياع أموال موكله أو مستنداته إهمالًا أو اختلاسًا بفعل هؤلاء الموظفين.
وإذا كانت حوادث اختلاس الأموال قليلة؛ لأن المحامي الحريص يُفضِّل عادة أن يقوم موكله نفسه بإيداع الأمانات واستلامها، فإن حوادث اختلاس المستندات والتلاعب فيها كثيرة؛ لأن هذه المستندات تُسلَّم عادة للمحامي عند رفع الدعوى، ثم تُعْرَضُ عليه قبل إيداعها بالمحكمة لاختيار ما يرى تقديمه منها؛ فلا بد إذن من أن تبقى هذه المستندات في ذمة المحامي بعضًا من الوقت، ثم تُودَع بالمحكمة وتظل فيها إلى أن يُفصَل في الدعوى.
والمحامي مسئول حتمًا عن الاختلاس أو التلاعب في مستندات موكله، الذي قد يحدث في مكتبه، وقد يكون مسئولًا كذلك عن كلا الأمرين بعد إيداعها بالمحكمة، إذا لم يتخذ الحيطة في إيداع المستند، كأن أودعه بالجلسة دون أن يأخذ إيصالًا به فيصبح مسئولًا عن سرقته، أو أن أهمل في وصفه في الحافظة؛ فيصبح مسئولًا عن استبداله أو التلاعب فيه.
ولا شكَّ أنه كلما كانت قيمة المستند كبيرة، كلما كان الحافز على سرقته أو التلاعب فيه كبيرًا أيضًا، وتصبح بذلك مسئولية المحامي كبيرة أيضًا، كما لا شك أن بعض الخصوم لا يتورع عن كلا الأمرين تخلُّصًا من نتائج الدعوى؛ لذلك تكثر حوادث اختلاس المستندات والتلاعب فيها، فتثقل بذلك مسئولية المحامي.
ومن هذه الحوادث أذكر ما يأتي:
في سنة ١٩١٢م وُكِّلتُ في الدفاع عن شخص في دعوى تزوير سند، أقامتها النيابة العامة عليه، مستندة فيها إلى حكم مدني نهائي قُضِي في مواجهته بتزوير هذا المستند.
كانت مهمتي إزاء هذا الحكم شاقة جدًّا، إلا أن موكلي أقسم لي أن السند صحيح، وأن مَدِينَه سبق أن أقَرَّ بالدَّيْن أمام شهود عدول؛ فأحسست بصدق قول موكلي، خصوصًا وأن موكلي كان غنيًّا ومبلغ الدَّيْن زهيد.
ولكنَّ السند المودع بملف القضية كان مُزَوَّرًا حقًّا، كما ثبت ذلك بصورة قاطعة من تقرير الخبير، ولا سبيل على كل حال من إعادة المناقشة في أمره، بعد الحكم نهائيًّا بتزويره.
إذن لا بد لصحة قول موكلي من أن يكون هناك سندان، أحدهما صحيح والآخر مُزوَّر، وأن يكون السند المُقدَّم من موكلي صحيحًا، ثم اسْتُبْدِلَ به السند المزور.
والمفروض في هذه الحالة أن يكون المدين هو الذي قام باستبدال السند؛ لأنه هو وحده صاحب المصلحة في ذلك.
ولكن كيف يمكن تعليل عدم إدراك الدائن ولا محاميه واقعة الاستبدال، أثناء إجراءات دعوى للتزوير المدنية؟ هذه القرينة كانت محل الصراع في الدفاع بيني من جهة، وبين النيابة والمدعي المدني من جهة أخرى.
ولكن هذه القرينة لم تلبث أن انهارت أثناء نظر الدعوى الجنائية، أمام دليل قاطع على حصول الاستبدال فعلًا؛ فقد ثبت من محضر جلسة القضية المدنية أن السند الأصلي أُودِعَ بالجلسة دون حافظة؛ فتأشر عليه من قاضي المحكمة، ثم أُودِعَ بملف القضية، وثبت ذلك بمحضر الجلسة المدنية، بينما ظهر أن السند الموجود بالملف والذي حُكِمَ نهائيًّا بتزويره لا يحمل هذه الإشارة.
وعلى إثر قيام هذا الدليل وبعد سماع أقوال الشهود، قضت المحكمة ببراءة المتهم، ثم تأيَّد الحكم في المحكمة الاستئنافية، وكان قاضي محكمة الجنح المرحوم الأستاذ إسكندر عازر وكيل محكمة الاستئناف المختلطة، وكان رئيس دائرة الجنح المستأنفة المرحوم علي بك عبد الرازق، وكان كلاهما من أفضل رجال القضاء علمًا وعدلًا.
وتدل هذه القضية على مدى التلاعب بالمستندات في دور القضاء، كما تدل في الوقت نفسه على التقصير في اتخاذ الحيطة الواجبة في تقديم المستندات، ثم في عدم الاطلاع على السند المطعون أثناء نظر دعوى التزوير؛ مما كاد يؤدي ببريء إلى السجن.
وفي سنة ١٩٢٠م أو ما يقرب من ذلك رفعت الدعوى باسم أحد موكليَّ، بمطالبة مدين له بمبلغ من المال بموجب سند. ومن عادتي ألا أكتب عريضة دعوى إلا وسندها بيدي؛ لاستكمال بياناتها وخشية الخطأ فيها، فحين كتبت عريضة الدعوى المذكورة لم يكن بظهر السند أي إشارة، وبعد إيداع السند بالمحكمة وفي جلسة المرافعة، كانت دهشتي عظيمة حين طلب الخصم رفض الدعوى؛ استنادًا إلى مخالصة بظهر السند نفسه.
وحين اطلعت على السند وجدت به المخالصة فعلًا مشوهة مشوبة بالمحو في بعض كلماتها، حتى يُقال إن المخالصة كانت مظهرة بالسند في صورة صحيحة، وإن الدائن حاول إزالتها قبل رفع دعواه، وحينئذٍ قام الخلاف على المكان أو الزمان الذي تحررت فيه هذه المخالصة؛ فالمدين زعم أن المخالصة تحررت والسند تحت يد الدائن قبل رفع الدعوى، بينما أنا مُوقِن بأنها لا بد قد تحررت بعد إيداع السند بالمحكمة، أما موكلي فقال: إنه سلمني السند خاليًا من المخالصة، وإنه لا يعلم ما إذا كانت المخالصة أُضِيفَتْ إلى السند بمكتبي أو بالمحكمة. ومؤدَّى قوله هذا دفع تهمة التزوير عن نفسه من جهة، وتحميلي بقية الدين إذا لم يُحكَم له به، وبعد إجراءات مطوله قُضِيَ نهائيًّا بالدين على أن المخالصة زُوِّرَتْ بمعرفة المدين، بعد إيداع السند بالمحكمة.
وهنا تبيَّن جسامة المسئولية الملقاة على عاتق المحامي بشأن المستندات التي تُسلَّم إليه؛ مما يزيد مهنة المحاماة مشقة على مشقة كما قدمت.
ومرة سلمتني إحدى السيدات مستندات عرفية، تبلغ قيمتها خمسة وثلاثين ألفًا من الجنيهات لإيداعها بمحكمة بني سويف، في دعوى حراسة رفعتها على خصمها، وكان خصمها ممن لا يهابون الله أو يخشون القانون.
مسئولية كبرى تقتضي من المحامي كل الحرص؛ لذلك اتخذت كل الحيطة التي في مقدوري، فأخذت صورة شمسية من كل مستند، ووقعت بإمضائي على المستندات نفسها، وأرفقتها جميعًا في حافظة وقَّعْتُ عليها بإمضائي، مشيرًا فيها إلى توقيعي على كل مستند بنفس الإمضاء، ثم قررت أن أسافر بنفسي إلى بني سويف لإيداع الحافظة بيدي، وبذلك اتخذت كافة وسائل الاحتياط لاتقاء شر الغير.
وليلة سفري وضعت المستندات في محفظتي قاصدًا إلى داري، وإذ وصلت إليها وأخذت في تناول طعام العشاء، تفقدت الحافظة فلم أجدها؛ وحينئذٍ أدركت أني تركتها سهوًا بالعربة، وفي الحال جمد الدم في عروقي، وجف حلقي، وسقط الطعام من فمي، فغادرت الدار في لهفة واضطراب؛ لأبلغ البوليس عن فقد المحفظة. وحالما رآني بقسم الأزبكية ضابط يُدعى ماركو بشرني على الفور بالعثور على المحفظة قائلًا إنه كان في نوبته بميدان المحطة، فمرَّتْ أمامه عربة ركوب خالية لمح بها المحفظة؛ فاستوقف الحوذي وتسلَّمَ المحفظة وأودعها بالقسم.
وكان فرحي بالعثور على المستندات لا يعادله سوى فزعي من فقدها، وكانت هذه الحادثة مقياسًا لمسئولية المحامي.
وتقابلت يومًا في غرفة المحامين بأستاذي المرحوم عبد العزيز باشا فهمي، فسألته عَمَّا إذا كان سيترافع في إحدى قضاياه؛ كي أستمع إلى مرافعته، فقال لي: كلا، وإنما حضرت لأُودِع بيدي مستندًا بالمحكمة، وعلمت منه بأنه لن يقدمه بحافظة كما هي العادة، ولكنه سيودعه بمحضر إيداع زيادة في الاحتياط؛ خشية ضياع السند أو سرقته أو التلاعب فيه.
قصدت بذكر هذه الوقائع بيان مدى مسئولية المحامي عن الأموال والمستندات التي يُعهَد إليه بها بحكم مهنته، باعتبار هذه المسئولية إحدى مشاقِّ هذه المهنة.
(٢) بعض القضايا الهامة
إن ذكرياتي عن القضايا التي ترافعت فيها لمِنْ أقدس الذكريات عندي لتعلقها بالمهنة التي قضيت فيها أطول وأجدى فترة من حياتي؛ لذلك رأيت وجوب الإشارة إلى بعضها، رغم ما قد يُثَارُ حول ذلك من نقد، بشأن ملاءمة النشر أو الهدف الذي أرمي إليه بهذا النشر.
ولن أشير هنا إلا إلى القضايا الهامة، ولا أقصد بذلك القضايا الكبيرة، التي يتناول النزاع فيها حقوقًا ضخمة، وإنما تلك التي كان لها أثر ظاهر في مهنتي، والتي أحسست بأني قمت فيها بالواجب عليَّ، أو التي أثارت مبدأ قانونيًّا هامًّا لم يكن قد تقرَّر بعد.
(٢-١) قضايا محمد المنشاوي
تقدَّم بي الحديث عن هذا الموكل، بشأن تقديره لجهودي في قضاياه وكرمه في تقدير أتعابي فيها، وهنا أتحدث عن أثر قضاياه فيما هو أهم من ذلك بكثير، فقد كانت هذه القضايا الشعلة التي أضاءت لي طريق النجاح في مهنتي، إن كنت قد نجحت فيها.
تُوفِّي أحمد المنشاوي باشا والد موكلي عن وقف كبير وتركة واسعة، وإثر وفاته قام النزاع بين الوقف والتركة، وبين بعض الورثة والبعض الآخر، وبين هؤلاء الورثة والحراسة على التركة، ثم بين بعض قرابة المُورِّث ووقفه، وبينهم وبين تركته، فضلًا عن المنازعات التي كانت قائمة بين المُورِّث والغير.
وكان لا بد من أن يُوكَّل في القضايا، التي تمخضت عنها تلك المنازعات طائفة من أعلام المحاماة؛ فكان المرحوم عبد العزيز باشا فهمي محاميًا عن وقف المنشاوي باشا، والمرحوم إبراهيم بك الهلباوي محاميًا عن بعض ورثته، والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف محاميًا عن ورثة الجوهري المنشاوي، ثم المرحوم أحمد بك لطفي محاميًا عن المرحوم محمد بك فريد الحارس القضائي على التركة.
وفي سنة ١٩٠٨م وُكِّلْتُ عن محمد المنشاوي في جميع تلك القضايا؛ فكان لا بد لي وأنا في سنتي الثالثة من المحاماة من أن أواجه هذه المجموعة من أساطين المحامين.
والحق أني لم أجبن في مواجهتهم جميعًا معتمدًا على توافري على دراسة القضايا وعلى ثقة موكلي بي.
قلت في نفسي إن أساتذتي المذكورين سوف يستعدون للمرافعة في هذه القضايا في مُدَد مختلفة؛ فمنهم من سيدرسها ليلة الجلسة، أو صباح يومها، ومنهم من سيقضي في ذلك يومين أو أكثر، ولِمَ لا أقضي أنا أسبوعًا أو أكثر في دراسة كل قضية؛ حتى أستعيض عن قصوري عنهم بتفوقي عليهم في الدراسة؟! وكان لي من سعة وقتي لقلة عملي ومن ضيق وقتهم لوفرة أعمالهم ما حقَّقَ لي خطتي، فما لبثت أن صمدت لهم في المرافعة، إلى حد أن أُعجِبوا بي وشملوني بعطفهم وتشجيعهم؛ فكان لي في ذلك بادرة النجاح.
كانت قضايا المنشاوي مفتاح الطريق لي، كما كانت قضية الأمير سيف الدين للأستاذ الكبير مرقس فهمي، وقضية المنشاوي باشا في حادثة الثور للمرحوم الأستاذ أحمد بك عبد اللطيف.
(٢-٢) قضايا محمود أمين أبو زيد
تحدثت فيما سبق عن هذه القضايا، عن الكلام على تنكُّر الموكل لمحاميه بعد كسب الدعوى، والذي أريد أن أشير إليه هنا أن المحاكم المصرية قضت في هذه القضايا بأن قاعدة حجية الأحكام النهائية لا تَسْرِي في حق المدين، إذا ما تبيَّن أنه لم يكن مطلق الحرية في الدفاع عن نفسه، في القضايا التي صدرت فيها تلك الأحكام.
وهذه أول مرة على ما أعلم قضت محاكمنا بذلك.
(٢-٣) قضية وقف المنشاوي
لما وقف المنشاوي باشا أطيانه وقَّعَ إشهاد الوقف، ولكنه لم يُشهره، أي لم يُسجِّله بالسجلات العقارية بالمحكمة المختلطة، وفي الفترة بين ضبط الإشهاد وشهره تبادَلَ الواقف مع سيدة على بعض الأطيان الموقوفة، وسجلت السيدة عقد البدل قبل تسجيل كتاب الوقف، ثم قام النزاع بين هذه السيدة والوقف حول نفاذ البدل.
تقول السيدة إن الأطيان التي آلت إليها بمقتضى البدل أصبحت ملكًا لها رغم وقفها قبل البدل؛ لأن عقد البدل سُجِّلَ قبل تسجيل كتاب الوقف، وأنها كانت تجهل حصول الوقف، وكان من حقها أن تجهله ما دام الوقف لم يُشهَر بالتسجيل.
ويقول ناظر الوقف إن البدل حصل عن أطيان موقوفة، لا يملك ناظر الوقف التصرف فيها بطريق البدل، إلا باتباع إجراءات معينة لم تُتخَذ في هذا البدل.
ولما رُفِع النزاع إلى محكمة طنطا الابتدائية قضت لصالح السيدة، استنادًا إلى أسبقية تسجيل عقدها على تسجيل كتاب الوقف، قائلة إن الوقف لا يصبح حُجَّةً على الغير إلا بالتسجيل.
ولما عرض المرحوم بسيوني بك الخطيب ناظر الوقف القضية على المرحوم عبد العزيز باشا فهمي محامي الوقف لرفع استئناف عن الحكم، أشار عليه الأستاذ الكبير بتوكيلي فيها.
ولما درست القضية رأيت بدايةً أن الحكم في محله؛ لأنه ليس من المعقول أن تُؤاخَذ السيدة عن تقصير ناظر الوقف، وأنه لم يكن لديها عند توقيع البدل أي وسيلة للعلم بوقف الأطيان، ولكن ناظر الوقف أصرَّ على وجوب استئناف الحكم رغم وثوقه بأنه لا أمل فيه، بوصفه ناظرًا على الوقف لا يملك الصلح في قضاياه، وأن قبول الحكم بمثابة الصلح، حينئذٍ قبلت التوكيل في القضية مُكْرَهًا.
ونُظِرَت القضية أمام دائرة المرحوم توفيق باشا رفعت، فطلبتُ تأجيلها أكثر من مرة؛ لعلي أجد حلًّا لها. وفي ليلة الجلسة قبل الأخيرة، بدأت ألمح بعض الضوء في ظلام هذه القضية، ولكنني لم أستطع لضيق الوقت تكييف الدفاع فيها على أساس واضح، فطلبت من المحكمة التأجيل لآخر مرة لتقديم مذكرة بدفاعي، فقال لي رئيس الدائرة: وما عساك أن تقول في هذه المذكرة؟! فرددت عليه في صراحة بأني عثرت بالأمس فقط على أساس جديد لدفاعي، وأرجو أن أُمكَّن من استيفاء بحثه، فأجابني إلى طلبي.
كان يعترضني في الدفاع نصان؛ الأول: نص القانون المدني على وجوب تسجيل التصرفات العقارية.
والثاني: نص لائحة المحاكم الشرعية القديمة المعروفة بلائحة القضاة الصادرة في سنة ١٨٥٥م، على وجوب تسجيل الوقف.
وحينئذٍ عُنِيتُ بمناقشة هذين النصين، فتبيَّنَ لي أن نص القانون المدني لا يَسْرِي على الوقف؛ لأنه إنما يشير إلى التصرفات الناقلة للملكية، وليس الوقف ناقلًا للملكية، بل هو على العكس من ذلك راصد لها. كما تبيَّنَ لي أن عبارة التسجيل الواردة في لائحة المحاكم الشرعية القديمة، لا يُقصَد بها التسجيل بالمعنى المعروف في القانون المدني، أي شهر التصرف أو علانيته، وإنما يُقصَد بها ضبط الوقف في إشهاد شرعي، أي توقيعه على يد موثق العقود الرسمية، بالمعنى المتعارف عليه في القانون المدني — وإن «السجل المصان» إنما هو مجموعة صور الإشهادات الشرعية بالوقف — وإن الفارق الوحيد بين الإشهاد بالوقف بمقتضى تلك اللائحة، وتوثيق العقود الرسمية بمقتضى القانون أن في الأول يُوَقَّعُ على أصل الإشهاد ويُسلَّم لصاحبه ثم تُقيَّد صورته بالسجل، بينما الثاني يُوقَّع على العقد ويُحفَظ الأصل بمكتب التوثيق، وتُسلَّم صورة منه لذي الشأن.
وقد أيدتْ رأيي هذا نصوصُ لائحة القضاة نفسها، وما جرى به العمل تنفيذًا لأحكامها، ثم صدور هذه اللائحة قبل صدور قوانين المحاكم المختلطة، التي وضعت نظام التسجيل أو الشهر العقاري.
وعلى هذه الأسس وضعت مذكرتي ثم ترافعت، وأخذت محكمة الاستئناف بدفاعي؛ فقضت بإلغاء الحكم المستأنف، وبحجية الوقف على الكافة رغم عدم تسجيله.
وعلى إثر صدور هذا الحكم قامت قيامة البنوك العقارية محتجَّة عليه، قائلة بحق إنه يفقدها كل ضمان في التسليف والارتهان، ثم دعاني وزير العدل المرحوم أحمد باشا ذو الفقار، وسألني عما إذا كنت أعتقد أن القضاء سوف يثبت على رأي هذا الحكم، فأجبته بأن الحكم صحيح في حالة التشريع القائم، وأن هناك لوقف المنشاوي دعوى مماثلة منظورة أمام المحكمة المختلطة، وأنه بصدور الحكم فيها سوف يتبيَّن اتجاه القضاء المختلط في هذا الموضوع.
ثم صدر هذا الحكم بمعنى الحكم السابق مستندًا إليه، وحينئذٍ اضطرت الحكومة إلى إصدار القانون القاضي بوجوب تسجيل الوقف.
(٢-٤) الالتزامات والسبب الصحيح
وكلني المرحوم عبد السلام بك فهمي الجندي المحامي في قضية لزوجته، موضوعها أن أخاه تُوفِّي عنها وعن زوجته، وأنه حرر على نفسه سندًا للأخيرة بمبلغ عشرين ألفًا من الجنيهات، مسببًا إياه بأنه دين لها عليه، وكان النزاع بين السيدتين على صحة أو بطلان هذا السند. ويقتضي ذلك بحث أمرين، الأول: هل سبب السند الحقيقي هو الدَّيْن أو الوصية؟ الثاني: ما هو طريق إثبات صورية سبب الدَّيْن؟
ونُظِرت القضية أمام مُحكمين، وكان محامي الخصيمة فيها زميلي الأستاذ القدير مصطفى الشوربجي.
وقد استغرقت المرافعة في هذه القضية عدة جلسات، وتقدمت فيها جملة مذكرات، وكانت الأبحاث القانونية فيها شيقة. ولما حُكم في القضية لصالح الخصيمة، رأيت أن من المصلحة التوسع في هذه الأبحاث، ووضعها في رسالة تحت عنوان «الصورية»؛ ففعلت ووزعت الرسالة على الزملاء، ولما نفدت نسخها نشرت الرسالة كاملة في مجلة المحاماة التي كنت وقتئذٍ رئيسًا لتحريرها.
(٢-٥) قانون التسجيل وحسن النية
لما صدر قانون التسجيل في سنة ١٩٢٣م نشط رجال القانون في شرح أحكامه، وكان من المسائل التي اختلفوا فيها مدى حجية التسجيل: هل هي حجية مطلقة يجوز لصاحب العقد المسجل التمسك بها، ولو كان سيئ النية أي عالمًا بالتصرف السابق غير المسجل، أم هي حجية نسبية لا يجوز لصاحب العقد التمسك بها إلا إذا كان حسن النية لا يعلم بسبق التصرف؟
كانت هذه المسألة أهم المسائل التي أثارت القانون، وكان من رأيي أن نظرية الحجية المطلقة من المبادئ الأساسية التي بُنِيَ عليها التشريع الجديد، بل هي حجر الزاوية منه إذا لم يُؤْخَذْ بها انهار البناء كله.
ومن حسن حظي أني وُكلت في أول قضية أثارت هذا الخلاف أمام محكمة الاستئناف، وكانت الدائرة المنظورة أمامها القضية برياسة المرحوم مصطفى محمد باشا، وعضوية المرحوم أحمد بك أمين والدكتور بهي الدين بركات باشا، وهي دائرة اشتهر أعضاؤها بالعلم والفضل، وكانت رجال القانون ينتظرون الحكم فيها في لهفة. وأخيرًا، أخذت المحكمة برأيي، وقضت بحجية التسجيل المطلقة، ثم سار القضاء على هذا المبدأ، وأيدته محكمة النقض بأحكام عدة.
ولما كانت المساجلات في هذا الموضوع طريفة، جمعت مذكراتي وتوسعت في أبحاثها، ووضعتها في رسالة تحت عنوان «التسجيل — شهر التصرفات العقارية»، ووزعتها على زملائي المحامين ورجال القانون، ثم نشرتها في مجلة المحاماة في عدد خاص، كما فعلت بشأن قانون التسجيل.
(٢-٦) الوقف في مرض الموت وجهة الاختصاص بنظره
كنت بقاعة محكمة الاستئناف، دائرة المستشار الجليل المرحوم علي بك سالم، وإذا بقضية تُعرَض عليه تثير نزاعًا قانونيًّا هامًّا، بينما حضرت المستأنفة وحدها دون محامٍ، وحينئذٍ نظر الرئيس إليَّ نظرة فهمت مؤداها فتطوعت للدفاع عنها.
وكان موضوع هذا النزاع: ما هي جهة الاختصاص في الطعن بحصول الوقف في مرض الموت؟ هل هو القضاء الشرعي أو القضاء المدني؟
قدمت في هذه القضية مذكرة طبعتُها على حسابي، أيدت فيها اختصاص القضاء الأخير، وقبل النطق بالحكم في القضية استدعاني الرئيس وشكرني علانية على مذكرتي، وقال لي إنه سَجَّل شكره هذا في الحكم نفسه.
فهمت من ذلك أنه أخذ برأيي وقضى لمصلحة موكلتي، وإذا بالحكم يقضي بتأييد اختصاص المحاكم الشرعية.
(٢-٧) وصايا غير المسلمين
جرى القضاء الأهلي من عهد إنشائه حتى سنة ١٩٣٤م على تطبيق أحكام دين الموصي دون أحكام الشريعة الإسلامية على وصايا غير المسلمين.
وفي السنة المذكورة عنَّ لمحكمة النقض العدول عن هذا الرأي، مدفوعة في ذلك بالرغبة في توحيد أحكام الوصية بين جميع المصريين، فقضت بسريان أحكام الشريعة الإسلامية على وصاياهم جميعًا، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.
وفي رأيي أن هذا الحكم جاوز أحكام التشريع القائمة، وإن كان الدافع إليه شريفًا في ذاته؛ حيث يُحقِّق المساواة في الحكم بين أهل البلد الواحد، الذين تربطهم وحدة البيئة سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية الاقتصادية.
وليس أدل على مخالفة الحكم للتشريع من ضعف أسبابه، التي ناقش فيها الفرمانات العثمانية والقوانين والأوامر العالية، الصادرة في شأن وصايا غير المسلمين — ومن قول الحكم: إن الوصايا من الحقوق العينية لا الشخصية. مخالفًا في ذلك لوائح المحاكم وأنظمة القضاء — وأخيرًا من كون الحَكَمِ نفسه قد أقحم الوصية في قضية لا شأن لها بها، لمجرد إبداء رأي القضاء الأعلى في وصية غير المسلم، ومناشدة المشرع في إصدار تشريع يساوي في الحكم بينها وبين وصية المسلم.
وقد استجاب المشرع لدعوى محكمة النقض، فأصدر القانونين رقم ٢٥، ٢٦ لسنة ١٩٤٤م، استنادًا إلى وقوع خطأ في ترجمة نصوص القانون المدني الخاصة بالوصية.
وفي رأيي إن هذا التشريع أيضًا قد جاوز الحقيقة القانونية، في استناده إلى خطأ الترجمة المزعوم، وكان أولى به أن يصدر معدلًا لأحكام التشريع القائمة، ومنشئًا لحكم جديد لا يسري على الوصايا السابقة.
وليس هنا على كل حال محل مناقشة موضوع الوصية في نواحيه المتشعبة؛ فمحل ذلك في رسالتي «وصية غير المسلم»، وإنما الذي أردت أن أشير إليه هنا أن هذا الموضوع قد أُثِيرَ في قضيتين هامتين أمام محكمة النقض في سنتي ١٩٤٢م، ١٩٥٠م. اشتركت في الدفاع فيهما مع بعض الزملاء من أعلام المحاماة، وأن المرافعة فيهما استغرقت جلسات عدة، وتقدمت فيهما من الجانبين مذكرات قيمة، ثم صدر الحكم في الأخيرة منهما على خلاف رأيي، بعد مداولات هامة اقتضت إرجاء النطق بالحكم خمس مرات.
ولا شكَّ أن هاتين القضيتين كانتا قضيتي الموسم في السنتين المذكورتين.
(٢-٨) قضية القطن
ومن القضايا ما تتميز بالتفاوت الكبير بين المدة التي تستغرقها مرافعة طرفَي الخصومة أو بين ما يقدمان من المذكرات، وكثيرًا ما يحب المحامي أن يستظهر على زميله إذا ما أطال في دفاعه بأقصر مجهود مستطاع في الرد عليه؛ إشعارًا بقوة إيمانه بحق موكله واستزادة من شواهد فوزه على زميله.
ومن النوع الأول القضية موضوع الحديث.
باع أحد كبار المنتجين مقدارًا كبيرًا من القطن لأحد التجار المعروفين، ولم تُنفَّذ الصفقة بتسليم القطن المبيع، فألقى كلٌّ منهما المسئولية في ذلك على الآخر، ثم قضت المحكمة الابتدائية لصالح البائع.
وأمام محكمة الاستئناف نُظِرَت القضية أمام دائرة سير برسفال وكيل المحكمة، واستغرقت مرافعة الزميل الكبير المحامي عن المستأنف جلستين كاملتين، استعرض فيهما الأدلة على قصور موكلي في تسليم القطن بقوة وبراعة لا مزيد عليهما. وفي نهاية الجلسة الثانية، عرض عليَّ رئيس الدائرة تأجيل القضية لإبداء مرافعتي في سعة من الوقت، فأجبته بأن مرافعتي لن تطول أكثر من خمس دقائق، وحينئذٍ قال لي في دهشة ظاهرة: كيف ذلك؟! مما جعلني أعتقد بأنه تأثَّرَ بمرافعة زميلي، ولكنني رغم ذلك أصررت على قولي، وحصرت مرافعتي في بعض كلمات، قائلًا: «إن الأدلة التي استند إليها زميلي هي مجموعة من القرائن، وإن في القضية قرينة قاطعة في النزاع، مستمدة من قوام سوق القطن، فإذا ثبت منها أن أسعار القطن قد ارتفعت بعد البيع؛ أصبح المفروض حتمًا أن البائع هو الذي سعى في نقض الصفقة، أما إذا ثبت أن أسعار القطن قد هبطت؛ فالمفروض قطعًا أن المشتري هو الذي تهرَّب من استلام القطن؛ لأن المصلحة وحدها هي مبعث النزاع بين الطرفين، وما دام الثابت من قوائم سوق القطن أن أسعار القطن قد هبطت خمسة وعشرين ريالًا إثر عقد الصفقة؛ فيكون المفروض حتمًا أن المشتري هو الذي عمد إلى نقض الصفقة.» وبذلك ختمت مرافعتي وجلست.
كان لهذه المرافعة القصيرة أثر ظاهر؛ فهَبَّ زميلي يلتمس التأجيل لاستمرار المرافعة وتقديم مذكرة، ولكن المحكمة لم تُجِبْه إلى طلبه، وحُجِزَت القضية للحكم لآخر الجلسة، ثم قضت لصالح موكلي بالتأييد.
(٢-٩) السبب غير المشروع
رفعَتْ سيِّدةٌ دعوى على وجيه، تطالبه بمبلغ أربعة آلاف من الجنيهات بموجب سند، فرفع المدعى عليه الدعوى أمام المحكمة الابتدائية بعدم مشروعية سبب الدين، قائلًا إن السند إنما تحرَّرَ بسبب قيام علاقة غير شرعية بينه وبين المُدَّعِية، ولكن المحكمة لم تأخذ بدفاعه وقضَتْ للمدعية بطلباتها.
رفعْتُ له استئنافًا عن هذا الحكم، فقدَّمَ وكيل السيدة مذكرات مُطوَّلة بأقوال الشراح وقضاء المحاكم في فرنسا عن السبب غير المشروع، واكتفيت بتقديم مذكرة من صفحة ونصف صفحة، قلت فيها إن السند نفسه يحمل الدليل على عدم مشروعية سبب الدين؛ فهو سند من رجل إلى امرأة، والدين مُقسَّط على أقساط شهرية، وقيمة الأقساط لا تُوازي فائدة الدين، ولم يُنَصَّ فيه على موعد الاستحقاق؛ إذن فهو نفقة في صورة سند دين، بين رجل وامرأة لا يرتبطان بعلاقة زوجية.
وفي جلسة المرافعة في دائرة المرحوم مجدي باشا، أصَرَّ كلٌّ مِنَّا على دفاعه؛ فأشار علينا الرئيس بالصلح، وحينئذٍ عرضت على زميلي على الفور أمام المحكمة دَفْعَ ربع قيمة الدين، وكان هذا العرض مِنِّي على سبيل الإحراج أكثر منه على سبيل الصلح، ولكن زميلي كما كنت أتوقَّع رَفَضَ هذا العرض، فأمر الرئيس بحجز القضية لآخر الجلسة، مشيرًا علينا مرة ثانية بالصلح فيها، ولما أُعِيدَ نظر القضية ورأت المحكمة أن كلًّا مِنَّا لا يزال عند موقفه، حُجِزَت القضية للحكم بعد المداولة، ثم قَضَتْ بإلغاء الحكم المستأنف ورفض دعوى السيدة.
(٢-١٠) أخطر قضاياي
إلى هنا كان الحديث مقصورًا على موضوع القضايا فحسب، دون الإشارة إلى الملابسات التي تكتنف بعض القضايا أحيانًا، فتحاول تعطيل سير العدالة فيها، والتي تقتضي من المحامي شجاعة وصلابة؛ دفاعًا عن حقوق مُوكِّله، تضيف إلى مشاقِّ مهنته مشقة من نوع آخر أخطر مسئولية وأبعد مدى.
فالقضاة بَشَرٌ مثلنا قد يتأثَّرون بتدخُّل الخصوم أو بإيعاز من الغير، وقد يقع التأثير على القاضي من رؤسائه أنفسهم، تحت ستار المصلحة العامة أو في صورة الحرص على تحقيق العدالة؛ فيهون على القاضي أمر التدخل ويُخدَع في قضائه بفعل رؤسائه. وأكثر ما يقع من هذا النوع من التدخل في القضايا السياسية.
والمحامون كذلك قد يقعون تحت تأثير الخصوم، مباشرة أو بالواسطة في صورة سافرة أو مستورة، وكثيرًا ما يكون بالحضِّ على الصلح أو بالتخلي عن الوكالة فيها.
على أن الذي لا شك فيه أن محاولات التدخل في شئون القضاة أو المحامين أقل من القلة؛ ففي حوالي الخمس آلاف قضية التي باشرتها، لم أعهد هذا التدخل في شئون القضاة، إلا في ثلاث أو أربع منها، كما لم أعهد محاولة هذا التدخل في شئون المحامين سوى مرة واحدة.
وتدل هذه النسبة على تفاهتها، على أن قضاءنا — والحمد لله — أسلم من كثير من أقضية العالم، وأن محامينا في مأمن من العثرات.
ولقد ترددتُ كثيرًا في إيراد هذه الحالات، ولكنني لم ألبث أن اقتنعت بأن في إيرادها مصلحة عامة؛ لأن في الإشارة إلى سقطة القاضي الذي أخلف عهده إشادة في الوقت نفسه بفضل القاضي الذي وقاك من سقطته. وكذلك رأيت أن أقصر الكلام على حالة واحدة، كانت من الخطورة بمكان، وكان فضل القضاة فيها مبعث التقدير والإجلال.
قام نزاع بين سيدة وزوجها ينتميان إلى أسرة واحدة من أعرق الأسر، وكان منشأ هذا النزاع إسراف الزوج وتبديده أمواله في سبيل شهواته، ثم وقوعه أخيرًا في غرام إحدى الراقصات، وكانت هذه على جانب عظيم من الجمال والقدرة على سلب عقول الرجال.
وقام النزاع بين السيدة وزوجها على ألف فدان باعها لها لوفاء الديون المستحقة عليه، وطلبت السيدة احتياطيًّا الحكم لها عليه بمبلغ خمسة وثلاثين ألفًا من الجنيهات، قيمة ما سددته عنه من هذه الديون من مالها الخاص، وكان هذا البيع صلحًا في دعوى حجر رفعتها السيدة على زوجها، ثم تنازلت عنها بعد البيع.
وقضت المحكمة الابتدائية لهذه السيدة بطلبها الاحتياطي؛ فاستأنفت الحكم، ثم قام خلاف بينها وبين محاميها فوكلتني في مباشرة الاستئناف.
ولما درست القضية وجدت أن الحكم بطلبات السيدة الاحتياطية أصلح لها من الحكم لها بالطلبات الأصلية، إذا هي استطاعت أن تحصل على جميع دَيْنها المحكوم به؛ وذلك لأن الأطيان المبيعة لها من زوجها مستغرقة بالديون، فلا تفي بالديون التي تعهدت بسدادها عنه، وسوف تُضطر إلى أداء هذه الديون من مالها الخاص.
وكان دفاع زوجها في طلبها الاحتياطي محصورًا في كونها لم تُسدِّد عنه الديون المسجلة على الأطيان المبيعة، وإنما اشترتها من الدائنين بقيم مخفضة، وأنه لا يستحق لها عليه سوى هذه القيم.
ولما عرضتُ رأيي على موكلتي فوضتني في اتخاذ الإجراءات التي أراها.
حينئذٍ بدأت بأخذ اختصاص بالحكم على سائر أطيان مَدِينها ثم أعلنته بالحكم، حتى إذا ما فات ميعاد استئنافه أصليًّا، أعلنته بالتنازل عن استئناف موكلتي، حتى أسقط حقه في استئنافه فرعيًّا الذي لم يرفعه بعد.
وفي الجلسة الأولى التي كانت مُحدَّدة لنظر الاستئناف بعد العطلة القضائية، حضر محامي الخصم ورفع استئنافه الفرعي، فطلبت الحكم بعدم قبوله.
هذا هو موضوع القضية قد حرصت على بيانه؛ ليتبين ضعف مركز الخصم في الاستئناف. وإلى هنا انتهى الفصل الأول من الرواية.
وفي يوم من الأيام زارتني موكلتي في مكتبي برجاء من أحد الأطباء المعروفين، طالبةً مني قبول التوكيل في قضية له؛ فوعدتها بدراستها. وفي الأثناء مرضت، فزارتني السيدة في داري، ولما دار الحديث بيننا عن قضية الطبيب، قالت لي إنه الآن مطمئن كل الاطمئنان؛ لأنه سوف يكسب قضيته حتمًا، ولما سألتها عن سر هذا الاطمئنان الغريب، أجابتني بأن فلانة هيأت له المقابلة مع فلان المستشار في دارها، فطمأنه واعدًا إياه بالحكم لصالحه في دعواه.
أدركت على الفور بعد هذا الحديث خطورة الموقف في قضية موكلتي نفسها؛ لأن فلانًا هذا هو المستشار المقرر في قضيتها، ولأن فلانة هذه هي محظية زوج موكلتي وخصمها في القضية، موقنًا أن هذه الراقصة التي بذلت وساطتها لدى المستشار في قضية الطبيب، لا بد قد بذلتها من باب أولى في قضية صديقها التي هي قضيتها.
كدتُ أُصعق لهذا الحديث المفاجئ، ولكنني تمالكت نفسي، وأخفيت على موكلتي أمري؛ خشية أن تفسد عليَّ الخطة التي رسمتها وعولت على تنفيذها، مهما بلغت خطورتها، ورغم ما قد يلحقني بسببها في مهنتي من متاعب أو صعاب.
وحالما انصرفت السيدة لبست ثيابي لاهيًا عن مرضي، وقصدت إلى فخر القضاء المغفور له يحيى باشا إبراهيم رئيس محكمة الاستئناف، وقصصتُ عليه الحديث بنصِّه، وقلت له في نهايته بأني قد أبرأت ذمتي بإبلاغ الأمر إليه، وأنه أصبح بعد ذلك هو المسئول وحده عن صون العدالة من عبث المستشار، وأني على استعداد تام لرده عن نظر الدعوى؛ اعتمادًا على الله وحده في إحقاق الحق وإزهاق الباطل. وحينئذٍ سألني عما عسى أن يكون دليلي في طلب الرد، فأجبته بألا دليل لديَّ؛ لأن الطبيب سوف ينكر حتمًا كل ما قاله، ولكنني قد أبرأت ذمتي وأرحت ضميري على أي حال؛ فتأثر الرئيس من حديثي وطَيَّبَ خاطري، ثم صحبني إلى غرفة مستر هالتون وكيل المحكمة، فشرحت له شكواي. وحين انتهيت سألني: أين تقيم هذه الراقصة؟ فأمليت عليه عنوانها، ثم انصرفتُ من حضرة الرئيسين الكريمين مُشَيَّعًا بعطف منهما لم يَخْفَ عليَّ.
ولم يمضِ على هذه المقابلة يومان، حتى أرسل الرئيس في طلبي ودعاني للاطمئنان إلى أن العدالة سوف تأخذ مجراها، دون حاجة إلى اتخاذ إجراءات الرد. ولما سألته عَمَّ إذا كان المستشار سيحضر القضية، أجابني بأنه سيحضرها وسيظل مقررًا لها، ولكن ذلك لن يدعوني إلى القلق بشأنها، فإن كنتُ مُحِقًّا في قضيتي فسوف أَصِل إلى حقي على كل حال.
وكان لدائرة المرحوم مجدي باشا التي رَفَعْتُ إليها الدعوى جلستان: إحداهما يوم الأربعاء، والثانية يوم الخميس من كل أسبوع، وكانت قضيتي برول جلسة الأربعاء. وفي يوم الجلسة التي تلت الأحداث التي ذكرتها لم يحضر المستشار لمرضه، بينما حضر جلسة اليوم التالي؛ فتأجلت القضية أسبوعين، وفي الجلسة التالية تكرَّر هذا الحادث من حيث غياب المستشار يوم الأربعاء وحضوره يوم الخميس؛ فتأجلت القضية للمرة الثانية أسبوعًا آخر، وفي يوم الأربعاء الذي تحدَّدَ لنظر القضية أخيرًا لم يحضر المستشار كذلك، ولما نُودِيَت القضية قفزتُ من مقعدي محتجًّا على أي تأجيل آخر، وحينئذٍ قال لي الرئيس إنه سيؤجل القضية إلى الغد ولن يؤجلها بعد.
وفي جلسة الخميس حضر المستشار فترافعنا في القضية، وكان المستشار يقابل كل عبارة لمحامي الخصم بهز الرأس استحسانًا، ولما جاء دوري في المرافعة أخذ يقاطعني بحدة المرة بعد المرة، قاصدًا استفزازي لعلِّي أخرج عن طوري؛ فيجعل من ذلك حدثًا يَحُول دون نظر القضية، وأخيرًا نظرت إلى الرئيس نظرة توسل؛ ليضع للمستشار حدًّا لمقاطعته، وفهمني الرئيس، فأشار إلى المستشار بالكف عن مقاطعتي. وفي نهاية المرافعة مال الرئيس نحو المستشار الآخر وكان مستر هل، ومال بعد ذلك إلى صاحبنا المستشار الذي قال وكرر القول بصوت عالٍ بضرورة المداولة في القضية، ثم نطق الرئيس على الفور بالحكم بعدم قبول استئناف الخصم.
ولم يَمْضِ على هذه الحادثة بعض الوقت حتى استقال المستشار، زاعمًا أنه إنما استقال لأسباب سياسية، وكان هذا الزعم الباطل سببًا لتعيينه بعد ذلك في إحدى الوزارات، ولكنني علمت بعد ذلك كل ما وقع من أحداث خلف الستار، علمته من الرئيس نفسه حين زرته لتهنئته بتولِّي رئاسة الحكومة، علمت مما علمت أن وكيل المحكمة طلب من حكمدار بوليس القاهرة مراقبة منزل الراقصة؛ فإذا بالمستشار يزورها في نفس اليوم الذي قدمت فيه شكواي، ولم يغادر منزلها إلا بعد ساعة متأخرة من الليل. وبذلك ثبت ما كنت أعجز عن إثباته في طلب الرد، كما علمت أن الرئيس طلب ملف القضية من المستشار ودَرَسَه مع مجدي باشا، كما دَرَسَه وكيل المحكمة مع مستر هل؛ وبذلك اطمأن الجميع إلى أن العدالة سوف تأخذ مجراها، رغم ما قام في سبيلها من عقبات.
لقد حبست هذه الواقعة أمانة في صدري حوالي أربعين عامًا، ثم أعلنتها الآن بحسن نية؛ خدمة للصالح العام، بعد أن لم يَبْقَ في نشرها أي مضرة لأحد، وأصبح نشرها واجبًا في عنقي، اعترافًا بفضل رجال القضاء في العمل على الضرب على أيدي المفسدين، ولو كانوا أنفسهم من رجال القضاء.
ولقد حرصت على ذكر أسماء من نصرني من رجال القضاء، ونصر الحق معي في هذه القضية؛ اعترافًا بفضلهم وإقرارًا بأن في مصر قضاة، وإذا كنت قد أغفلت اسم المستشار صاحب الشأن في هذه القضية؛ فلأنه لم تَعُدْ هناك ضرورة من ذلك، بعد ذكر وقائع الحادثة وما تَبِعَها من إنصاف القضاء.
يحدث أحيانًا في البلاد المتمدينة أن يُرفِّه كبار الدولة عن أنفسهم من عناء الأعمال، بارتكاب أعمال مخالفة للآداب أو القانون، وكان الناس يعلمون بها أحيانًا ويغضُّون الطرف عنها، ولكن هؤلاء الرجال كانوا يدفعون ثمن هذا الترفيه من مالهم، ويقومون به على حساب سمعتهم، وليس من مال الغير وعلى سمعة العدالة.
(٣) قضاتنا في حكم التاريخ
(٣-١) قاضيان
حين بدأت الاشتغال بالمحاماة في سنة ١٩٠٥م، كان لا يزال هناك قضاة من العهد القديم، ولكن كان هناك أيضًا قضاة ممن تخرجوا من مدرسة الحقوق المصرية، وكان إلى جانب هؤلاء مستشارون درسوا الحقوق في فرنسا، وبلغوا بالقضاء المصري إلى أعلى المراتب.
وكان من قضاة العهد القديم قاضيان؛ أحدهما كان قاضيًا لمحكمة عابدين، وكان الثاني قاضيًا لمحكمة السيدة زينب.
ولقد لاقى المحامون الجدد من هذين القاضيين كل أصناف العنت في تأدية واجبهم.
دفعت مرة أمام قاضي عابدين بدفع فرعي، فكان جواب القاضي على هذا الدفع بهذه العبارة: «دفع فرعي؟! كل يوم دفع فرعي؟! تكلم يا فندي في الموضوع، أنتم تحفظون في المدرسة كلامًا فارغًا، وتحضرون هنا لإضاعة وقتنا بدفوع فرعية! الظاهر يا فندي أنك لم تدرس قضيتك.»
رددت على القاضي الفاضل بأني مصمم على الدفع، وأني قدَّمْتُ به مذكرة أُحِيل المحكمة إليها، ثم انسحبت.
وقد حكم القاضي موضوعًا بطلبات الخصم، دون الإشارة في حكمه إلى الدفع. ولما رجعت إلى محضر الجلسة وجدتُه خاليًا من أي إشارة بشأن هذا الدفع، ولما سألت كاتب الجلسة عن السبب أجابني بأن حضرة القاضي أَمَرَ بعدم الإشارة إليه!
وُكِّلت بعد ذلك في قضية أمام محكمة السيدة زينب، موضوعها أن شخصًا باع لآخر منزلًا، ونصَّ في عقد البيع على خُلُوِّه من جميع المحظورات، وأنه إذا ظهر غير ذلك بعد البيع، يصبح الثمن أمانة في ذمة البائع، يجب عليه ردُّه فورًا، وإلا أصبح مرتكبًا لجريمة خيانة الأمانة.
ولما ظهر بعد البيع أن هنا حقًّا عينيًّا على العقار المبيع، رفع المشتري دعوى جنحة مباشرة على البائع.
وُكلت في هذه القضية عن البائع المتهم، وكان قوام دفاعي فيها أن تشريع الجرائم من النظام العام؛ فلا يجوز خلق جريمة باتفاق الأفراد، وما دام حق المشتري مدنيًّا؛ فلا يجوز أن يُجعَل منه جريمة بالاتفاق مع البائع، واستندت في دفاعي إلى أقوال شُرَّاح القانون التي تلوتها بالجلسة، نقلًا عن دللوز وجارو وفوستان هلي وجارسون، ثم طلبت الحكم بالبراءة.
حينئذٍ نظر إليَّ القاضي شذرًا، وقال لي: «هل هذا كل دفاعك في القضية يا أفندي؟! دفاعك هذا صفر!» فطلبت من حضرة القاضي إثبات مرافعتي وعبارته هذه بمحضر الجلسة؛ فأمر بذلك في حدَّة، ثم التفتُّ إلى المتهم، وأبلغته تنازلي عن توكيله.
ترددت بعد ذلك على قلم كتَّاب المحكمة أكثر من مرة؛ لأطلع على محضر الجلسة، فوجدت محاضر القضايا جميعًا مُوَقَّعًا عليها من القاضي ما عدا محضر جلسة القضية المذكورة، فقدمت لقلم الكتَّاب طلبًا بإعطائي صورة من ذلك المحضر.
وحينئذٍ وقَّع القاضي المحضر، وإذا به خالٍ بالمرة من مرافعتي ومن عبارة القاضي غير الكريمة التي أَمَرَ بإثباتها!
وكاد الحادث بيني وبين القاضي يتطوَّر إلى أبعد حدٍّ، لولا أنه أوفد إليَّ محاميًا كبيرًا يعرض عليَّ تسوية هذا الحادث بما يرضيني.
وكان للقضية المشار إليها ملابسات تُشجِّعني على المضي في طريقي، وتدعو القاضي في الوقت نفسه إلى تلافي الأمر؛ وحينئذٍ أصررت على أن يعتذر لي القاضي علنًا بالجلسة المقبلة، ثم يُنحَّى عن نظر القضية.
وتَمَّ الاتفاق على ذلك؛ فاعتذر القاضي وأحال القضية إلى دائرة أخرى، وانتهت القضية بالحكم فيها بالبراءة دون مرافعة.
وكان من بين القضاة الذين درسوا القانون قاضٍ كان أسرع القضاة فصلًا في قضاياه؛ فكنا نُسمِّيه الإكسبريس، وكان دائمًا موضع إعجاب مستر ماك الريث المستشار القضائي في تقاريره السنوية، ولكن نشاط هذا القاضي كان على حساب العدالة.
كان القاضي يبدأ عمله بجرد رول الجلسة، ثم ينظر القضايا المحجوزة في عجلة؛ فلا يسمح للمحامين بالمرافعة أكثر من دقائق، ولا يسمح لهم إطلاقًا بتقديم مذكرات، وكانت أحكامه تصدر في نهاية الجلسة، غير مبالٍ بما يكون من أمرها أمام المحكمة الاستئنافية.
وفي يوم رُفِعَتْ أمامه دعوى بطلب قسمة تركة كبيرة، وكان المحامي عن خصومي فيها المرحوم ويصا واصف، الذي دفع بثلاثة دفوع فرعية. وقد سمح القاضي لنا نحن الاثنين بنصف ساعة للمرافعة في القضية، ثم حجزها للحكم بعد المداولة، وأخيرًا قضى بتعيين ثلاثة خبراء لإجراء القسمة.
استأنَفَ زميلي الحكم في الدفوع والموضوع. وفي جلسة المرافعة أمام المحكمة الاستئنافية، اعترض رئيسها على زميلي بأن دفوعه ليست من النظام العام؛ فكان لا بد من إبدائها أمام المحكمة الابتدائية، وبالاطلاع على أوراق القضية أمام هذه المحكمة وجد الحكم ومحاضر الجلسات خالية فعلًا من أي إشارة إلى الدفوع الثلاثة.
حينئذٍ استشهد بي زميلي عَمَّا إذا كان تقدَّمَ بهذه الدفوع أم لا، فرددتُ عليه بالإيجاب، وعلى هذا الأساس ترافعنا في القضية؛ وقُضِيَ فيها لأول مرة في تاريخ القضاء برفض هذه الدفوع ابتداء من محكمة الاستئناف وبتأييد الحكم في الموضوع.
على أن مما لا شك فيه أنه كان يقابل هؤلاء القضاة، في المحاكم الجزئية في ذلك الوقت، قضاة على جانب عظيم من العلم والفضل، أذكر منهم على سبيل التمثيل: قاضي محكمة عابدين المرحوم عبد الحكيم بك عسكر، وقاضي محكمة الموسكي المرحوم علي بك سالم، وقاضي محكمة الأزبكية المرحوم الرئيس علي ماهر.
وكان لنا من هؤلاء القضاة أكبر مشجع في مهنتنا وأعظم عامل لنجاحنا فيها، كما كان لنا فيهم أجمل العزاء فيما تكبَّدناه من عَنَت بعض القضاة القدامى.
وفيما يلي بعض الذكريات الطيبات:
(٣-٢) أحمد فتحي زغلول باشا
كان رئيسًا لمحكمة مصر، وكان من أعلام القضاة في القُطْر. كان عالمًا في فقه القانون، وفنانًا في فن القضاء.
وكان مهابًا من زملائه القضاة ومن المحامين على حد سواء، وكان أول ما يعلمه عنه المحامون شدة بأسه، وأول ما ينصحون به تلافي غضبه. وكان من أثر ذلك أن كثيرين من المحامين القدامى أو الوكلاء، ومن المحامين حديثي العهد بالمحاماة، يتهربون من المرافعة أمامه.
وكان من تقاليده التي يحرص عليها كل الحرص، أن لا يسمح لمحامٍ بالمرافعة أمامه لأول مرة، قبل أن يتقدَّم إليه قبل الجلسة في غرفة المداولة.
لذلك عَوَّلت في قرارة نفسي على أن لا أترافع أمامه في قضية ما قبل أن أدرسها، وأعد مرافعتي فيها أسبوعين على الأقل، كما عوَّلت على أن أتقدَّم إليه قبل المرافعة بمعرفة أستاذي المرحوم نصر الدين زغلول نفسه.
على أن الظروف أخلَّتْ بحسابي، وقضَتْ على حرصي في الأمرين معًا؛ ففي أحد الأيام حضر إليَّ وكيل مكتب الأستاذ ومعه ملفان كبيران، قائلًا إن نصر الدين أفندي وُكِّلَ في قضية منظورة غدًا أمام محكمة جنايات طنطا، وإنه يرجوني الحضور عنه في القضيتين والمرافعة فيهما غدًا أمام دائرة رئيس المحكمة.
كانت مفاجأة لي قاسية، ولكن لم تكن لي من حيلة للتخلِّي عن المرافعة في القضيتين، وكان لا بد لي من أن أدرسهما وأُعِدَّ مرافعتي فيهما في ليلة واحدة، بينما كنت مُقدِّرًا لذلك لكلٍّ منهما أسبوعين؛ فكانت هذه الصدمة الأولى في هذه الحادثة.
أخذت الملفين وغادرت المكتب على الفور قاصدًا إلى داري، ثم عكفت على دراسة إحدى القضيتين حتى الصباح؛ فلم يتَّسِع الوقت طبعًا لدراسة القضية الثانية.
وفي المحكمة لم أَجِدْ بغرفة الدائرة مَنْ يُقدِّمني لرئيس المحكمة سوى محامٍ قديم، عَزَّ عليَّ أن أكون في رعايته لدى الرئيس. ولم يلبث أن أعلن افتتاح الجلسة؛ فأسرع المحامون إلى القاعة، ثم دخلت هيئة المحكمة دون أن تُتَاح لي الفرصة لأتقدَّم للرئيس في غرفة المداولة؛ وكانت هذه الصدمة الثانية.
وكان من عادة الرئيس أن يأمر بجرد الرول، فيؤجِّل بعض القضايا، ويحجز البعض الآخر للمرافعة حسبما يراه، بغض النظر عن طلبات المحامين.
ولما نُودِيَت القضية التي كنتُ مستعدًّا للمرافعة فيها أمر الرئيس بتأجيلها، ولما نُودِيَت القضية الأخرى حُجزت للمرافعة؛ فكانت الصدمة الثالثة.
ثلاث صدمات في أول مرافعة لي أمام أشد القضاة بأسًا، ولكنني لم أفقد أعصابي معتقدًا أنني بذلت في تأدية الواجب كل ما يستطيعه بشر.
فلما نُودِيَت القضية المحجوزة للمرافعة طلبتُ تأجيلها للاستعداد، ولما سألني الرئيس عن سبب عدم استعدادي فيها رويتُ له القصة بحذافيرها، فسألني عما إذا كنت مستعدًّا حقًّا للمرافعة في القضية التي تأجَّلَت؟ ولما رددتُ عليه بالإيجاب أراد أن يمتحن صدقي، فأمر بإعادة القضية المؤجلة على رول الجلسة، وأرسل في طلب محامي الخصوم فيها.
وكان موضوع القضية نزاعًا في ملكية بعض مساحات صغيرة من الأرض، وكان قد تعيَّنَ فيها خبير أبدى رأيه بشأن كل قطعة منها، ولم يُبيِّن في تقريره علامَ بنى رأيه بشأن إحدى القطع. ولما سألني الرئيس في ذلك أجبتُه على الفور بأن هذا صحيح، ولكن الأسباب التي بنى عليها الخبير رأيه هذا وردَتْ في المحضرين ١٣، ١٤ من محاضر أعماله. وهنا قال لي الرئيس: «حسنًا حسنًا، أنت درست القضية تمامًا ووفيت المرافعة فيها، ولكن قُلْ لي لماذا لم تتقدَّم إليَّ في غرفة المداولة قبل المرافعة، وهذه أول مرة تترافع فيها أمامي؟!»
وهنا أردت أن أعتمد في إجابتي على هذا السؤال على نفس الصراحة التي أنقذتني في موقفي السابق عند طلب تأجيل القضية، ولكن زميلي الذي لم أُرِدْ أن أتقدَّم بواسطته إلى الرئيس كان بالجلسة فتردَّدتُ في الإجابة، ولاحظ الرئيس تردُّدي؛ فأمرني بمقابلته في غرفة المداولة.
وكنت أتوقَّع أن يؤنبني الرئيس على مخالفتي لتقاليده، التي كان يغالي في الحرص عليها، ولكنه حين أبديت له السبب في صراحة، سألني عن اسم هذا الزميل، ولما ذكرته له ضحك ضحكة عالية وسكت، فانصرفت.
ومن ذلك اليوم لم تقع أي مشادة بيني وبين الرئيس، حتى عُيِّنَ وكيلًا لنظارة الحقانية.
(٣-٣) عبد الحكيم بك عسكر
كان قاضيًا لمحكمة عابدين، وكان هادئ الطباع، حادَّ الذكاء، كريم الخلق. فكان يعامل المحامين كأنهم إخوة له، وكان يخص الشباب منهم بأكبر نصيب من عطفه؛ ولذلك كان المحامون يسمونه عبد الحكيم سكر.
وكان إذا أجاد المحامي في مرافعته شَكَرَه، وإذا اطَّلَع على مذكرة لآخر أعجبته أعلن ذلك يوم الحكم في قضيته.
وكان في ذلك كله على النقيض من سلفه، الذي كان يَضِيق ذرعًا بكل محامٍ شابٍّ وكل بحث في القانون.
(٣-٤) يحيى باشا إبراهيم
كان رئيسًا لمحكمة الاستئناف، مشرفًا على توزيع العدالة فيها، وكان مؤمنًا بحقوق وظيفته وواجباتها، كان يستمع إلى شكوى المتقاضين في روية وحلم، ويُحقِّقها في أناة وحزم، ثم يُصدِر حكمه فيها بالعدل غير متأثر بغير الحق.
ولقد كان إنصافه لي في أخطر قضاياي على النحو الذي قدمته أبلغ شاهد على ذلك كله.
(٣-٥) مجدي باشا
كان من أوائل المصريين الذين تلقَّوا العلم في فرنسا، وبرزوا في مصر في فقه القانون؛ فكانوا عماد نهضة القضاء في عهده السابق.
كان يرأس بعض دوائر محكمة الجنايات، فاشتهر بين غالبية المحامين بصرامة أحكامه. والواقع أنه كان صارمًا عند الاقتضاء، في الجرائم الكبرى التي تمس الأمن والنظام، حليمًا فيما عداها من الجرائم. بل كان يحكم أحيانًا بالبراءة أو بأتفه العقوبات رغم كبر الجريمة في الجرائم التي تقع بين الأسر؛ خشية تفاقم الخصومة وأملًا في إحلال الوئام بينها، وكان الأخذ بالثأر أخشى ما يخشاه نتيجة للأحكام.
هذا ما تبينته من أحكامه وما علمته منه بالذات، إثر عودته من دورة قضائية في بلاد الصعيد، وحين أهداني نسخة من رسالة صغيرة، وضعها عن الأخذ بالثأر في تلك البلاد.
وكان مجدي باشا قاضيًا مدنيًّا ممتازًا، تشهد بذلك أحكامه، ولكنه كان كزميله المرحوم عبد العزيز باشا كحيل يَمِيلُ إلى تحقيق العدالة، ولو كان ذلك على حساب القانون.
وكانت أبرز صفاته صرامته مع المحامين الذين لا يُحْسِنُ الظن بهم، وصراحته في محاولة إصلاح أمرهم، وكان أحيانًا يجاوز حد اللياقة معهم دون مراعاة مكانتهم.
كان يترافع أمامه مرة محامٍ كبير، مِمَّنْ يحرصون على إعجاب الجمهور بمرافعاتهم أكثر من حرصهم على تحقيق العدالة، وبينما كان المحامي يشير إلى نص في إحدى الوثائق المقدمة منه، استوقفه مجدي باشا وطلب الحافظة ليتحقق من صحة ما يقوله المحامي؛ فكان في ذلك صدمة للمحامي الكبير احتملها على مضض.
ولما جاء دور زميله في المرافعة رأى المحامي الكبير أن يبدد أثر هذه الصدمة، بدفع الرئيس إلى معاملة زميله بالمثل؛ حتى يفهم الحاضرون أن تلك عادة الرئيس مع جميع المحامين على السواء! ولذلك أظهر المحامي تشككه في صحة بعض الوقائع التي جاءت على لسان زميله، وطلب من الرئيس الاطلاع على المستندات المُقَدَّمَة منه.
ولكن الرئيس أدرك الحيلة وعمل على إحباطها، بل زاد إمعانًا في قسوته على المحامي الكبير؛ حيث أجابه بأن المحكمة تثق بقول زميله، وأنها على كل حال سوف تراجع مستندات الطرفين أثناء المداولة.
ومرة كان بعض المحامين يتحادثون في ردهة المحكمة إذ أقبل عليهم مجدي باشا، فسلَّمَ عليهم واحدًا واحدًا، ثم أشار إلى أحدهم قائلًا: هذا الرجل الطيب! فأثار هذا القول اعتراضًا كبيرًا من هؤلاء المحامين، في صورة تتهادى بين الجد والهزل، ولكن المستشار العنيد أصَرَّ على قوله وانصرف.
وكان مجدي باشا يحرص الحرص كله على مظاهر الجلسة، وكان للمحامين أكبر نصيب من حرصه هذا؛ حيث كان يطالبهم على الدوام بحَبْكِ أزرار الروب عند مثولهم أمام المحكمة، كما كان يشير إليهم بالتزام مكانهم، كلما حادوا عنه في غمرة المرافعة.
ومن حوادثه في الجلسات أن حضر أمامه يومًا رجل فقير متقدم في السن وطلب تأجيل قضيته، فأمر مجدي باشا بتأجيلها أسبوعًا واحدًا، ولم يكتفِ الرجل بهذا الأجل؛ معللًا ذلك بأنه يحضر إلى المحكمة من بلدته، ثم يعود إليها ماشيًا على قدميه، ولما سأله الرئيس عن بلدته أجاب أنها شبين الكوم؛ وحينئذٍ نظر إليَّ مجدي باشا، وقال: «لولا أني في كرسي القضاء لمددت يدي بالمعونة لهذا الرجل.» ولما ناولتُ الرجل جنيهًا ذهبًا قال لي الرئيس: «هذا لا يكفي!» فوضعت يدي في جيبي لأنقده جنيهًا آخر، ولكن مجدي باشا قال لي: «ليس هذا ما أقصده، وإنما أريد أن تتولَّى الدفاع عنه.» وأثبت انتدابه لي في محضر الجلسة، وقال للرجل: «لم تَعُدْ في حاجة إلى الحضور؛ فإن المحامي سيتولَّى الدفاع عنك!»
وكان لمجدي باشا فلسفته في القضاء، على أن الذي لا شك فيه أن فلسفته هذه كان قوامها الشدة والحزم، وكان مرماها الإنصاف والعدل؛ فكان هدفه تحقيق العدالة، وفي سبيل ذلك كان شديد البأس، يتساوى أمامه الكبير والصغير من المتقاضين أو المحامين.
(٣-٦) أحمد باشا طلعت
كان رئيسًا لإحدى الدوائر، ثم رئيسًا لمحكمة الاستئناف، وكان آية في الذكاء، يُعَوِّلُ في دراسة القضية على مرافعات الخصوم أكثر من مراجعة أوراقها، وكان مع ذلك يحب اختصار المرافعات، مشيرًا للمحامين إلى النقطة الفاصلة في الدعوى، التي كان يدركها على الفور أحسن إدراك.
(٣-٧) عبد العزيز باشا كحيل
كان هو الآخر حادَّ الذكاء، ضيِّق الصدر بالمرافعات، وكان إلى ذلك معتدًّا بذكائه مستمسكًا بآرائه، سريع الانضمام إلى أحد الطرفين، صعب التحوُّل بعد ذلك إلى الجانب الآخر، وكان كل الحظ للمحامي الذي يكسبه إلى جانبه قبل الآخر.
وكان من مبادئه أن العدل فوق القانون، وأن القانون إنما وُضِع لتحقيق العدالة؛ فهو أداة لها لا غاية، وكان يبالغ في تطبيق هذه القاعدة إلى حد بعيد، ويجهر بذلك في جلساته.
والواقع أن محل تطبيق قواعد العدالة عند عدم النص، فلا يجوز بحجة اتباع مبادئ العدالة مخالفة نصوص صريحة وُضِعَتْ للمصلحة العامة؛ لأن هذه النصوص أصبحت بحكم التشريع تُمثِّل وحدها مبادئ العدالة، ولأن على أساسها يتعاقد الناس في معاملاتهم، وأخيرًا لأن مبادئ العدالة تختلف باختلاف القضايا وبتقدير القاضي لظروف كل دعوى؛ فلا رابط لها يطمئن إليه الناس في معاملاتهم.
ولذلك كان المحامي يدخل دائرة كحيل باشا، وهو لا يدري ماذا سيكون مصير دعواه، مهما كان مطمئنًّا إلى حق موكله فيها.
ومن الشواهد على ذلك كله، أني وُكلت في قضية عن رجل كان ناظرًا على وقف قديم، كان يؤجر أعيانه بهذه الصفة، وبدا له يومًا أن يدَّعي ملكيته لهذه الأعيان؛ فنصَّبت المحكمة الشرعية ناظر خصومة للمطالبة بهذه الأعيان باسم الوقف، ثم قُضِيَ ابتدائيًّا لمصلحة الوقف، وحينئذٍ سعى الرجل لدى والدي لأرفع له استئنافًا عن الحكم؛ فرضخت.
وجاءت القضية أمام كحيل باشا، فحاولت أن أكسبه إلى جانبي، ولما كانت تربية المستشار فرنسية وتعليمه في المدارس الفرنسية، أدركت أنه لا بد أعلم بتاريخ فرنسا من أي تاريخ آخر، وأدرى بالسنة الميلادية منها بالسنة الهجرية، وأن أحسن وسيلة لإثبات اندثار الوقف مقارنة تاريخ إنشائه بحوادث التاريخ في فرنسا، بدلًا من تحديد هذا التاريخ بالسنة الهجرية؛ فقلت في مرافعتي إنه إذا كان هناك وقف مندثر، فأولى بهذا الوصف الوقف موضوع النزاع؛ لأنه أُنْشِئَ قبل عهد لويس الرابع عشر في القرن السادس عشر.
ولم أكد أذكر هذه العبارة حتى التفت المستشار إلى محامي الوقف المرحوم محمد بك يوسف قائلًا: أين عثرتم على كتاب الوقف؟ أفي متحف الآثار العربية أم في محل من محلات بيع الآثار؟ وعبثًا حاول زميلي بعد ذلك أن يثني المستشار عن اتجاهه بالتمسك بعقود الإيجار المُوَقَّع عليها من موكلي؛ فقضى لصالحه وأنا في دهشة من حكمه.
(٣-٨) حسن باشا جلال
كان هذا المستشار القاضي الفاضل بأوسع معاني الكلمة، كان في قضائه أدقَّ القضاة، وفي عدله أَحَدَّ من السيف.
كان كقضاة الإنجليز يُحقِّق القضية بنفسه في الجلسة، فيناقش المحامين في كل نقطة فيها، ويُدوِّن بيده إجاباتهم عليها، غير معول لا على الذاكرة ولا على محضر الجلسة، وكانت مناقشاته في الصميم وكانت تَطُول؛ حتى يستوفي القضية دراسة ويقتلها بحثًا، غير مبالٍ بما تستغرقه من الوقت، أو بما تقتضيه منه من جهد مهما كانت قيمة القضية في موضوعها.
وكانت تلوح من مناقشاته أخيرًا وجهة نظره في القضية، ولست أذكر أني أخطأت مرة في توقُّع حكمه في القضايا التي ترافعت فيها أمامه.
وكان موقف المحامين منه أقرب إلى موقف المتهمين في تحقيقات النيابة العامة، مع فارق وحيد وهو أن الأولين كانوا على الدوام محل احترامه وتقديره يناقشهم كأنه واحد منهم.
وكان المحامون جميعًا يُقدِّرون فضله ويرتاحون إلى قضائه، وكان أوفرهم حظًّا مَنْ ظفر بدائرته وهو على ثقة من حقه، حيث يكفل الوصول إليه على يديه.
وليس من شك عندي أنه كان أكثر القضاة توفيقًا في قضائه.
(٣-٩) سير برسفال
كان قاضيًا بمحكمة الإسكندرية، فمستشارًا بمحكمة الاستئناف، فوكيلًا لها ثم مستشارًا قضائيًّا، وأخيرًا حين تقاعَدَ عُيِّنَ بناء على طلبه قاضيًا بلا مرتب لأهل قريته التي نشأ بها، والتي آثر أن يقضي فيها بقية حياته.
وكان أقدر القضاة الإنجليز والأجانب إطلاقًا الذين خدموا القضاء المصري، كان ذكيًّا قوي الذاكرة، سليم المنطق، مُجِدًّا مُرتبًا في عمله؛ فكان المثل الأعلى للقضاة، وكان إلى ذلك على خلق كريم؛ فكان الصديق الوفي لمن عرفهم وقدرهم من المحامين.
ترافعت مرة أمامه في قضية سبق أن قضى فيها لصالح موكلي، ثم بدا لمحامي الخصم أن يُعِيد نظر الدعوى في صورة أخرى، وشاءت الظروف أن تُنظَر القضية الثانية أمام سير برسفال نفسه، بعد ثلاث سنوات من تاريخ الحكم في الأولى، وحين دفعت بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها، قال لنا المستشار إنه حين درس القضية بدا له فعلًا وجه الشبه بين القضيتين؛ فضم ملخص القضية الأولى إلى ملف الثانية، وحينئذٍ قدَّرْنا قوة ذاكرة المستشار، ولكننا لم ندرك تمامًا ما هو ذلك الملخص الذي أشار إليه، وبعد المرافعة قضى بعدم جواز سماع الدعوى لسبق الفصل فيها.
ودعاني المستشار يومًا لتناول الشاي بداره، وأطلعني على طريقته في درس القضايا، فوجدت لكل قضية دَرَسَها ملفًّا خاصًّا، عليه أسماء الخصوم ومحاميهم، ورقم القضية بالمحكمة، ثم رقمًا خاصًّا بمحفوظات المستشار نفسه، ووجدت داخل كل ملف ملخصًا للقضية، يشمل بيانًا عن: موضوعها، وإجراءاتها، والحكم فيها، وكانت هذه الملفات مرتبة في خزانة خاصة، وكان في أحد أركانها سجل يرشد إلى كلٍّ منها.
وحينئذٍ أدركت ما هو الملخص الذي أشار إليه المستشار أثناء نظر تلك القضية، وكيف اهتدى إليه بتلك السهولة بعد ثلاث سنوات.
(٣-١٠) علي بك سالم
كان قاضيًا لمحكمة الموسكي في أوائل عهدي بالمحاماة، ثم تدرَّج في مراتب القضاء، حتى أصبح رئيسًا لإحدى الدوائر المدنية بمحكمة الاستئناف وكانت دائرته من أصلح هذه الدوائر؛ فكان المحامون يستريحون إلى المرافعة أمامه؛ لسعة صدره، وحسن لقائه، وتوافره على دراسة القضايا، ومراجعة مذكرات المحامين رغم ضعف إبصاره.
كان علي بك سالم وعبد الحكيم بك عسكر من أوائل القضاة الذين شجعوني في مهنتي، والذين يرجع إليهم الفضل في نجاحي إذا كنت قد نجحت، ولكن علاقتي بالأخير لم تلبث أن انقطعت بانتقاله من محكمة عابدين، بينما علاقتي بالأول ظلت متصلة بتعيينه بمحكمة مصر، ثم بمحكمة الاستئناف؛ وبذلك لم ينقطع عطفه عليَّ وتشجيعه لي.
كنت إذا ترافعت أمامه أصغى إليَّ بكل حواسه، وإذا ما انتهيت شكرني علنًا بالجلسة؛ فكنت مضطرًّا إلى مقابلة عطفه هذا بزيادة العناية بقضاياي. ويقيني لو أن سائر القضاة حذوا حذوه لزادت نسبة المحامين الناجحين.
كان المحامون الشبان قديمًا موضع اضطهاد القضاة القدامى الذين كانوا يجهلون القانون، وكان لهذا الاضطهاد علته الظاهرة. ولكن بماذا نعلل سوء معاملة القضاة المتعلمين للمحامين الشبان المتعلمين؟!
كان إلى جانب علي بك سالم بمحكمة الاستئناف وإلى جانب زملائه الأبرار مستشار على جانب عظيم من الغطرسة والجهل، وكانت غطرسته السبيل لديه لإخفاء جهله، وكان فوق ذلك يتملق كبار المحامين، حتى إذا مَلَّ الملق ومالَ إلى الغطرسة بطبعه، أفرغ سمومه في صغار المحامين دون كبارهم، وكان هذا المستشار عضو اليمين في دائرة مجدي باشا.
(٣-١١) لبيب باشا عطية
كان أخيرًا وكيلًا لمحكمة النقض ورئيسًا للدائرة المدنية فيها، كان فقيهًا ممتازًا في علم القانون أنيقًا في كتابة الأحكام، وكانت له آراء جريئة لا يدرك حكمتها سوى الضالعين في فن القضاء.
فأحكامه في موضوعها تشهد بكفايته، وفي شكلها تدل على أناقته؛ فهو على ما أظن أول من اختار بدء أسباب أحكامه بعبارة: «بما أن» بدلًا من عبارة «حيث».
ومن آرائه الجريئة أنه متى جرى العرف عملًا بتفسير حكم القانون على نحو ما ولو كان التفسير خاطئًا، وجب الأخذ بهذا التفسير إلى أن يصدر تشريع جديد يفسر حكم القانون على نحو آخر، ولا يسري هذا التشريع إلا من تاريخ العمل به.
وهذا الرأي صحيح؛ لأن هذا التفسير الخاطئ، ما دام قد أخذ به القضاء وجرى به العرف وتعامل على أساسه الناس؛ فقد أصبح هو القانون نفسه، ولأن مفاجأة الناس بتفسير جديد يُحدِث اضطرابًا في معاملاتهم، بحيث يقضي بغير ما تعارفوا عليه وقصدوا إليه، فحكمُ التفسيرِ الجديد في هذه الحالة حكم التشريع الجديد.
ولو أن هذا الرأي الجريء الحكيم كان معروفًا من قبل؛ لتداركنا به أكبر كارثة في تاريخ القضاء المصري، حين أُبْطِلَتْ مئات الاستئنافات وهُدِّدَتْ بالبطلان الآلاف منها بحجة عدم قيدها في الميعاد القانوني، أي في ظرف يومين من تاريخ إعلان صحيفة الاستئناف، كما نص القانون خلافًا لما جرى به العمل منذ إعادة تشكيل المحاكم الأهلية، من تفسير حكم القانون بوجوب قيد الاستئناف قبل الجلسة بيومين على الأقل؛ مما اضطر الشارع إلى التدخل بتعديل نص القانون صَوْنًا لمصلحة المتقاضين.
(٤) بعض المحامين في حكم التاريخ
(٤-١) نصر الدين زغلول
كانت الفترة التي خرجنا فيها من مدرسة الحقوق بداية العصر الذهبي للمحامين الناشئين، كان الإقبال علينا عظيمًا والعروض التي تُقدَّم لنا مغرية؛ فكان المرحوم عمر بك لطفي وكيل مدرسة الحقوق يُوزِّع علينا العمل في مكاتب كبار المحامين قبل ظهور نتيجة الامتحان، بمرتبات لا تقل عن مرتب القاضي من الدرجة الثانية أو الثالثة في ذلك الحين.
ولكن والدي قال لي إنه سوف يستشير أصدقاءه في اختيار المحامي، الذي سأقضي مدة التمرين في مكتبه، وإنه يأبى أن أتقاضى منه أجرًا ما؛ حتى تكون علاقتي به علاقة تلميذ بأستاذه فحسب، واعدًا إياي أن يُمِدني بكل ما أريده من المال طول مدة التمرين.
ووقع اختيار والدي على المرحوم الأستاذ نصر الدين أفندي زغلول، بناء على مشورة المرحوم حفني ناصف؛ فكان من الطبيعي أن أبدأ به حديثي عن المحامين.
كان مكتب الأستاذ بميدان باب الخلق، وكان يحتوي على ثلاث غرف، تكاد تكون خالية من الأثاث، سوى مكاتب من الخشب العادي، وبضعة مقاعد من الخيزران. وكان بغرفة الأستاذ مكتب لا يمتاز عن مكاتب الكتبة بشيء، أشار إليه الأستاذ قائلًا لي: «هذا مكان قد اخترته لك على مقربة مني؛ لتشترك معي في إدارة المكتب والإشراف على قضاياه، وإني لواثق بأني سوف أفيد من عملك أكثر مما قد تفيده من خبرتي.»
دُهِشتُ لهذه التحية الكريمة، حتى تلعثم لساني في الرد عليها، وارتاحت نفسي لحسن لقائه أكثر مما صُدِمْتُ بمظاهر المكتب وحقارة أثاثه، وأدركت على الفور أن والدي قد أَحْسَنَ الاختيار.
ولم تَدُمْ دهشتي لهذه التحية طويلًا؛ حيث تبيَّنَ أن الأستاذ بطبيعته من أحسن الناس خلقًا، وأكثرهم وداعة ورقة.
وكان الأستاذ إلى هذا محاميًا قديرًا، كان في دراسته للقضايا عميق البحث سليم المنطق، وفي مرافعاته حسن البيان فصيح اللسان، وفي مذكراته قليل الإطالة دقيق المعنى سهل العبارة.
كان من خريجي الأزهر الشريف؛ فكان عالمًا بأصول الشريعة وقواعد المنطق وفقه اللغة، ولكنه لم يدرس القوانين الوضعية علمًا، وإن كان قد مارسها عملًا؛ فكانت تخفى عليه أحيانًا بعض دقائق المبادئ الحديثة، ولكنه كان يستوعبها حين يُرْشَدُ إليها، ثم لا يلبث أن يفيض في شرحها والتدليل عليها إفاضة الأستاذ المحاضر.
وكان في مرافعاته يمزج بين العربية الدارجة والفصحى، وكان مُوَفَّقًا كل التوفيق في اختيار موضع كل منهما في مرافعاته؛ فكان حديثه بذلك أرعى للسمع وأبلغ أثرًا في النفس، مما لو كان كله بقواعد النحو والصرف.
أما مذكراته فكان يُمليها وهو يتصفَّح أوراق القضية، وقليلًا ما كان يتدارك في إملائها خطأ أو سهوًا، وكان من الممتع حقًّا أن أشهد هذا الإملاء؛ لما فيه من الدلالة على قوة الذاكرة وفصاحة العبارة.
ومن القضايا الهامة التي استعان الأستاذ بي في بحثها، قضيتان كانت مرافعته فيهما أقرب شيء إلى محاضرات العلماء منها إلى مرافعات المحامين.
كان موضوع القضية الأولى مضاربات البورصة؛ حيث أظهر فيها الأستاذ بوضوح تام الفارق بين البيوع الصحيحة، التي يقصد بها ابتداء تسليم البضاعة وقبض الثمن، ولو انتهت بإلغاء الصفقة، وتقاضي فَرْق الثمن فيها، وبين البيوع غير الصحيحة التي يُقصَد بها ابتداء المضاربة على فروق الأسعار.
وكانت هذه القضية الأولى من نوعها أمام القضاء الأهلي، وقد أخذت فيها محكمة الاستئناف بدفاع الأستاذ؛ فقضت ببطلان عمليات البيع والشراء، ورفض الحكم بفروق الأسعار، مستندة إلى أن موضوعها كان في الواقع مجرد المقامرة، وأن سبب الالتزام فيها غير صحيح قانونًا.
وكان موضوع القضية الثانية: هل يُعتبَر الوارث خلفًا لمورثه في جميع التصرفات الصادرة منه إطلاقًا؛ فلا يجوز له إثبات صوريتها إلا بالأوضاع التي تجوز للمورث، أو أن هذا القيد مقصور على التصرفات الصادرة من المورث لغير وارث؟ وبعبارة أخرى: هل يُعتبَر الوارث خلفًا لمورثه في هذه الحالة، أو يُعتبَر الوارث في هذه الحالة من طبقة الغير؟
كان القضاء مستقرًّا حتى تاريخ الحكم في هذه القضية على اعتبار الوارث خلفًا لمورثه، في جميع التصرفات الصادرة منه إطلاقًا، سواء أكانت صادرة لغير وارث أم لوارث.
ولم يكن هذا الرأي صوابًا؛ لأن الوارث يُعتبَر خلفًا لمورثه في جميع الحقوق التي تَئُول له عنه، ومن ذلك حق الطعن في تصرفاته عند الاقتضاء، في الحدود ووفقًا للأوضاع التي كانت لمورثه ثم آلت إليه، وهذا لا يتحقَّق بقيوده إلا في التصرفات الصادرة من المورث لغير وارث.
أما إذا كان التصرف صادرًا من المورث لوارث، إضرارًا بحقوق وارث آخر؛ فهذا الوارث لا يتلقَّى في هذه الحالة حقَّ الطعن في هذا التصرف عن مورثه، وإنما يتلقَّاه عن القانون ضد عمل المورث نفسه. ولأن تصرف المورث في هذه الحالة إنما يحصل في غفلة من الوارث المُضار، فلا يمكن أن يُطالب الأخير بإثبات صورية التصرف بالكتابة، شأنه في ذلك شأن المورث الذي وَقَّعَ العقد وارتبط بنصوصه.
وهذا ما أجمعت عليه آراء العلماء وأحكام القضاء في فرنسا.
كانت القضية منظورة أمام دائرة المرحوم حسن باشا جلال، وكان المستأنف هو الوارث المُضار، وكان وكيله المرحوم نصر الدين أفندي زغلول، وكان المستأنف عليه الوارث الممتاز، ووكيله المرحوم إبراهيم بك الهلباوي، وكانت مرافعة المحامين شيِّقة والبحث طريفًا والقاضي من أقدر القضاة. وانتهت القضية بالحكم لصالح المستأنف باعتبار الوارث من طبقة الغير في التصرفات الضارة به الصادرة من المورث لورث آخر، وبأحقية الوارث المُضار في إثبات صورية التصرف بكافة طرق الإثبات.
فكان هذا الحكم الأول من نوعه في هذا الموضوع، ثم استقر عليه القضاء.
(٤-٢) إبراهيم بك الهلباوي
كان من فضل الله عز وجل على المحاماة والمحامين أنْ مَدَّ في حياة هذا الأستاذ الكبير، فعاصر ثلاثة عهود للمحاماة، كان فيها جميعًا موضع الإجلال والتقدير، من زملائه وأبنائه المحامين ومن القضاة أجمعين.
كان مع اللقاني والحسيني وسعد زغلول من أكبر المحامين في عصر المحاماة الأول، فزعيمًا للمحامين في عصرها الثاني، فأبًا لهم جميعًا في عصرها الأخير.
وفي سنة ١٩١٢م حين أُنشئت نقابة المحامين اختير بما يقرب من الإجماع نقيبًا لهم، وكان عبقريًّا في ذكائه وسرعة خاطره، قويًّا في حجته، سليمًا في منطقه، فصيحًا في لسانه، وكانت له جولات في القضايا الجنائية خاصة قَلَّ أن يباريه فيها محامٍ آخر.
وكانت هذه الصفات التي يندر اجتماعها في شخص واحد، تُؤهِّله لدراسة القضية وإجادة المرافعة فيها في أقصر وقت مستطاع؛ فأحيانًا كانت تكفيه مسافة القطار لدراسة القضية المدنية، وأحيانًا كانت تكفيه أقوال الشهود ومرافعة النيابة في القضايا الجنائية؛ ليقوم بواجب الدفاع فيها عن موكله على أحسن وجه.
وكانت تتخلَّل مرافعاته مداعبات طريفة، تُخفِّف من حدة خصومه، وتُهوِّن من مشقة القاضي، وتُضفي المرح على نفوس السامعين.
وكان إلى ذلك جَمَّ الأدب إذا مثل أمام القاضي، عفَّ اللسان إذا ناقش زميله المحامي، وكان خيِّرًا قانعًا في تقدير أتعابه، رفيقًا بموكليه إذا ما عجزوا عن أدائها، رحمة الله على شيخ المحامين.
(٤-٣) عبد العزيز باشا فهمي
كان المرحوم عبد العزيز الرجل الذي اتخذته مِثَالًا، والمحامي الذي اخترته أستاذًا. كنت وثيق الصلة به في عملي؛ حتى ظنَّ الكثيرون أنِّي من تلاميذه الذين تخرَّجوا على يديه، والواقع أني كنت أعهد إليه بالقضايا الكبيرة، التي كانت تُعرَض عليَّ في حداثة عهدي، والتي كنت أحس بأني لست أهلًا لها وحدي؛ فكان ذلك سبب اتصالي به، وفرصة تلمذتي عليه والنجاح على يديه.
كان عبد العزيز في ذاته مجموعةً من الأخلاق القويمة، وفي المحاماة العلم بين أعلامها، وفي القضاء الأول بين رجاله، وفي الوطنية بطلًا من أصدق أبطالها.
وكان أكفأ معاصريه في فقه القانون وفنِّه، وأوفرهم نزاهة في مهنته، وأعظمهم جهدًا في عمله، وأكثرهم قناعة في رزقه.
ولذلك كان المحامون يَدينون بزعامته بعد الهلباوي، وقبل أن يختاروه نقيبًا لهم.
ومن لغو الكلام التحدث عن كفايته، محاميًا كان أو قاضيًا أو وزيرًا للعدل؛ لأن الشواهد على ذلك لا تزال عالقة بالأذهان، ولن تمحو ذكراها الأيام أو الأعوام.
أما نزاهته فكانت مضرب الأمثال، أذكر الواقعة الآتية للتدليل على أنها بلغت أقصى حدٍّ يتصوَّره الإنسان.
تزوَّجَت سيدة موسرة من قائد تركي، زوَّر عليها عقدًا تَبِيعه بمقتضاه حوالي ألف فدان، وهي جميع ما آل إليها عن زوجها السابق.
عهدتْ إليَّ هذه السيدة في تقديم شكواها إلى النيابة العامة، فنصحتها بأن تَضُمَّ إليَّ أستاذي عبد العزيز والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف؛ فاستجابت لنصحي، فعكفنا نحن الثلاثة على دراسة موضوع الشكوى، وبحث ظروف توقيع العقد وملابساته.
ولم يُرِدْ عبد العزيز التوقيعَ على الشكوى وتقديمها، إلا بعد أن اقتنع تمامًا بتزوير العقد، بعد مناقشات استغرقت أكثر من أسبوع، وبعد أن أَقْسَم له صديق عزيز بأن العقد قد زُوِّرَ حقًّا.
وأمام رئيس نيابة محكمة مصر الذي تولَّى تحقيق الشكوى بنفسه، حضر عن الشاكية معي الأستاذان الكبيران، وحضر مع المتهم المرحومون الأساتذة: أحمد بك لطفي، وإسماعيل بك الشيمي، وإلياس بك عوض.
ولما تولَّى عبد العزيز مناقشة المتهم، أدلى الأخير بعبارة تُؤيِّد تزوير العقد بصورة قاطعة؛ حينئذٍ وجم محاموه وشرع رئيس النيابة في ختم التحقيق اكتفاء بإقرار المتهم، وإذا بعبد العزيز يقفز من مقعده صارخًا: «لا لا يا حضرة الرئيس! انتظر انتظر، أرجو أن تُثبِت على لساني في محضرك، أني أخشي أن يكون المتهم لم يفهم مُؤدَّى سؤالي؛ ولذلك أجاب عليه بالصورة التي أُثْبِتَتْ في التحقيق، واسمح لي أن أُعِيدَ السؤال على المتهم في صورة أخرى؛ ليجيب عليه بعد أن يفهم مُؤدَّاه على صحته.»
ولما أُعِيدَ سؤال المتهم أجاب عليه إجابة أخرى تنفي التهمة عنه؛ وبذلك أنقذ عبد العزيز خصمه، وأعاد البشر على وجوه المحامين عنه، وكان ذلك من عبد العزيز في سبيل إراحة الضمير، وتحقيق العدالة على الوجه الصحيح.
ولما كانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل أُجِّلَ التحقيق إلى الغد، ولما انصرفنا من غرفة التحقيق، قامت مناقشة حادَّة بين عبد اللطيف وزميله عبد العزيز حول استدراك الأخير لاعتراف المتهم. كانت حجة عبد اللطيف أنه ما دام زميله يعتقد تزوير العقد، وعلى هذا الأساس قَبِلَ التوكيل في القضية؛ فكان أحرى به في سبيل الوصول إلى الحقيقة ألا يُقِيلَ المتهم من عثرته. وهنا ثار عبد العزيز على زميله، قائلًا له في حِدَّة إن ضميره يأبى أن يحصل من خصمه على إقرار اختلاس، ولو كان هذا الإقرار في مصلحة موكله وكان العقد مزورًا حقًّا.
ولا شَكَّ أن هذا منتهى ما تَصِل إليه أمانة الإنسان.
ومن شواهد إخلاص عبد العزيز لعمله توافره عليه بجهد لا يتطرق إليه كلل أو ملل، مستعينًا فيه بقوة أعصابه رغمًا من ضعف صحته.
اجتمعت به صباح يوم في داره، بعمارة مظلوم بالقرب من إدارة جريدة الأهرام، وجلسنا في غرفة الطعام لدراسة إحدى القضايا، حتى إذا جاء وقت الغداء أحضر لنا الخادم بعض الخبز وقطعة من الجبن. وقال لي أستاذي: هذا كل طعامنا اليوم؛ حتى لا نُتخم بالأكل فنكسل عن العمل. ثم ظللنا ندرس أوراق القضية، ونراجع مجلات القضاء وموسوعات القوانين، حتى إذا كانت الساعة الثامنة مساء أدرك عبد العزيز أنه لم تَعُدْ لي قوة على العمل؛ فسمح لي بالانصراف على أن أعود إليه في صباح الغد، وحين عدت إليه في الصباح وجدتُه لا يزال في غرفة الطعام يراجع ملف القضية على ضوء ثريات الكهرباء، غير مدرك أن الليل قد ولَّى والنهار قد أقبل.
وكان عبد العزيز في مركز يُسمَح له بفرض أتعابه على موكليه، غير مراجع في تقديرها، ولكنه كان يعلم أن القناعة جزء من الأمانة، وأن في الإفراط في تقدير أتعابه خيانة، فضلًا عن أن في قبول الموكل الأتعاب المُبالَغ فيها نوعًا من الإكراه يَشُوب الرضاء الصحيح؛ لذلك كان عبد العزيز قانعًا كل القناعة في تقدير أتعابه رغم مكانته في محيطه وجهوده المضنية في أداء واجبه.
ولست أذكر هنا أمثلة على تقديره لأتعابه في قضاياه؛ لأن هذه الأمثلة تحتاج إلى التفصيل، ولكنني أكتفي بمثل واحد أبلغ في الدلالة على مدى قناعته.
في سنة ١٩١٩م أرسل لي عبد العزيز حوالة على أحد المصارف، بمبلغ مائة وخمسين جنيهًا، باسم الدكتور إسكندر فهمي الجرجاوي، طالبًا مني تسليم الحوالة لصاحبها، وهذا المبلغ قيمة مقدم أتعابه في قضية وكَّلَه فيها الدكتور بواسطتي.
ولما حضر إليَّ الدكتور ذهبنا معًا لمقابلة الأستاذ، للاستفسار عن سبب رد الأتعاب، وحينئذٍ قال لنا إنه سوف يُسافر قريبًا عضوًا في الوفد الرسمي للمطالبة بحقوق مصر، وإن مهمته في هذه القضية الكبرى سوف تستغرق كل جهوده؛ ولذلك عَوَّلَ على إغلاق مكتبه وردِّ الأتعاب لموكليه كاملة.
ولكن الدكتور أبى أن يَسترِدَّ الأتعاب، قائلًا إن الجهود التي بَذَلَها الأستاذ في قضيته حتى الآن تستحق أضعاف ما قبضه من الأتعاب. وحاولت أن أؤيد الدكتور في قوله؛ فغضب عبد العزيز وانصرفنا قبل أن يُغلِظ لي القول.
وقد علمت أن الأتعاب التي رَدَّها عبد العزيز لموكليه بَلَغَتْ آلافًا من الجنيهات.
هذا هو عبد العزيز، وهذا قليل من كثير من ذكرياته الحسان. طَيَّبَ الله ثراه وأكرم مثواه.
(٤-٤) أحمد بك عبد اللطيف
كان المرحوم الأستاذ الكبير يشتغل بالمحاماة أمام المحاكم الأهلية بمدينة الزقازيق، وكان أخوه المرحوم محمود بك عبد اللطيف محاميًا أمام المحاكم المختلطة بمدينة المنصورة.
وأَثَّرَ اشتراك الأول مع المرحوم أحمد بك الحسيني في الدفاع عن أحمد باشا المنشاوي، أمام محكمة الجنايات المستأنفة برياسة المرحوم قاسم بك أمين، في قضية حادث الثورة المشهورة، إثر هذا الاشتراك في المرافعة بدأَتْ مواهبه في الظهور في أفق المحاماة تُبشِّر بسطوع نجمه فيها، فانتقَلَ مع أخيه إلى القاهرة، واشتركا في مكتب واحد بشارع الصنافيري.
ولم يلبث الأستاذ أن تبوَّأَ مكانه بين كبار المحامين، بما أُوتيه من كفاية في القانون وقدرة في الدفاع.
ولا شَكَّ أنه كان في مذكراته من أدق المحامين عبارة، وفي مرافعاته من أَطْلَقِهم لسانًا وأَحْسَنِهم بيانًا، ومن مرافعاته المشهورة في القضايا الجنائية مرافعته في قضية سرقة الآثار، وقضية القمص جراجيوس، وفي القضايا المدنية مرافعاته في قضايا ورثة الجوهري المنشاوي، وقضايا موصللي؛ فقد بلغت مرافعاته القمة في هذه القضايا.
على أن الأستاذ الكبير لم يكن مع ذلك قريبًا من قلوب زملائه المحامين؛ لأنهم كانوا يفسرون اعتزازه بنفسه بالتعالي عليهم، ويعتبرون عنفه في المرافعة خروجًا عن حد اللياقة معهم.
وكان من نتيجة ذلك أَنْ فَشِلَ الأستاذ أكثر من مرة في الترشيح لنقابة المحامين، ولم يَفُزْ بعضويتها إلا مرة واحدة بأغلبية ضئيلة.
والحق أن من لم يعرف الأستاذ عن قرب كان على عذر في مؤاخذته بظاهره، ولما كان ظاهره يَحُول دون القرب منه كان أكثر الناس يجهلون حقيقة أمره، ويقسون في الحكم عليه.
على أن الواقع أن باطن الأستاذ كان غير ظاهره؛ فقد كان طَيِّبَ القلب كريم النفس، كان سريع الغضب، ولكنه كان في الوقت نفسه سريع الندم، كانت ترتسم على وجهه علائم القسوة، بينما كان قلبه يَفِيض بالرحمة.
ولست أدري سببًا لهذا التباين بين الظاهر والباطن، ولكنني كنت على يقين منه.
كان الأستاذ يعامل موظفي مكتبه بقسوة لا تُحتمَل، وكان في نهاية كل سنة يُوزِّع عليهم نصيبًا من إيراد المكتب يبلغ ضعف مرتباتهم أو يزيد، وقد بلغ هذا النصيب مرة أربعمائة من الجنيهات.
وكان إذا رأى سائلًا على بابه نَهَرَه، وكان مع ذلك يُوزِّع على الأُسر الفقيرة مرتبات شهرية.
وكان له أخ كبير قاطَعَه الأستاذ لإسرافه، ولما شرع دائنوه في نزع ملكيته من المائتي فدان التي يملكها اشتراها الأستاذ ووقفها عليه.
ومن المحزن حقًّا أن هذا الأستاذ الكبير، الذي كان أكثر ما يمتاز به عقله ولسانه، قد أُصِيبَ فيهما الاثنان في أخريات أيامه.
ومن أسوأ الذكريات أنه سافر إلى الخارج للعلاج، ولما عاد دخل علينا في غرفة المحامين موفور الصحة في الظاهر، وإذا به يتعثر لسانه ويهذي في كلامه؛ مما أثار الأسى في نفوس أصدقائه وخصومه على حد سواء.
(٤-٥) أحمد بك لطفي
كان الشقيق الأصغر للمرحوم عمر بك لطفي وكيل مدرسة الحقوق، وكانت وظيفة الأستاذية في هذه المدرسة لا تمنع صاحبها من ممارسة المحاماة؛ فكان المكتب معروفًا باسم الشقيق الأكبر، ولكن حمله كان على الأصغر.
كان أحمد بك محاميًا ممتازًا، كان من أكثر المحامين تَعمُّقًا في القانون، وكان أكثرهم ابتكارًا في وسائل الدفاع، وبخاصة في القضايا المدنية، وكان مشهورًا بالاختصار في مرافعاته، مع دقة البحث واستيفاء الدفاع.
وقد تُوفِّي إلى رحمة الله بالإسكندرية، وهو لا يزال في سن الكهولة وفي أوج الشهرة.
لقد قصرت ذكرياتي على بعض كبار المحامين، الذين توفاهم الله فأصبحوا في حكم التاريخ، وإذا كنت لم أتحدث عن جميع ذوي الفضل منهم، فليس في ذلك إنقاص من قدرهم ولا نسيان لفضلهم، وإنما مرجعه إلى ضيق المقام فحسب.
أما زملائي وأصدقائي الذين على قيد الحياة أطال الله بقاءهم، والذين قد لا يقل فضلهم عن فضل من ذكرت من أسلافهم، فحسبي في إغفالهم أن الحديث عنهم ملء الأسماع في كل مكان.
(٥) هَنَاتُ بعض القضاة والمحامين
(٥-١) هنات بعض القضاة
لا يستوفي الحديث عن القضاة والمحامين بالإشادة بفضل البعض منهم، دون الإشارة إلى مواضع النقص في غيرهم؛ لأن الذكريات ليست أداة للملق أو المدح، ولكنها سجل لوقائع التاريخ، ولأن الصالح العام يقتضي الأمانة في ذكر أحداث التاريخ حسنها وسيئها على السواء؛ ليفيد الناس من عبراتها جميعًا بالاقتداء بحسنها واتقاء سيئها.
قدمت أن القاضي كسائر البشر قد تضعف إرادته بتأثير من الغير، وقد يقع هذا التأثير دون أي عمل إيجابي من الغير، فقد يتأثر القاضي من نفسه بشخصية الخصوم أو المحامين، وقد يقع عليه التأثير من أحد رؤسائه، تحت ستار تحقيق العدالة أو مراعاة المصلحة العامة؛ فيهون أمره على القاضي وينساق بحسن نية إلى تحقيق غرض رئيسه.
وتقع هذه الأحداث عادة في الوقت الذي تنمو فيه روح الحزبية ويشتد ساعدها في الحكم، وبخاصة إذا كان القاضي بحكم عقيدته الوطنية يميل لأحد الأحزاب، أو لرأي خاص في سياسة البلاد.
تُوفِّي وجيه عن تركة واسعة تشمل خمسة آلاف من الأفدنة، وعن زوجتين وأولاد كثيرين؛ فانقسم الورثة — كما هي العادة — إلى فريقين: فريق يشمل الزوجة الأولى وأولادها وعلى رأسهم أرشد أولاد المورث، وفريق يشمل الزوجة الثانية وأولادها الصغار.
وُكلت مع صديقي الأستاذ أحمد رشدي عن الفريق الأول، ووُكل عن الفريق الثاني أحد حضرات المحامين، وكنا قد رفعنا دعويين؛ إحداهما: دعوى قسمة، والأخرى: دعوى حراسة. فقُضِيَ في الأولى بتعيين خبراء لإجراء القسمة، وفي الثانية بتعيين أرشد أولاد المورث من فريقنا حارسًا على التركة.
حينئذٍ رأى الخصوم أن يستعينوا في قضاياهم بأحد كبار المحامين من زعماء الأحزاب، وبدأ المحامي الكبير عمله بطلب توقيع الحجز التحفظي على زراعة القطن والأرز القائمة على الخمسة آلاف فدان، ولكن رئيس المحكمة أمر برفض الطلب لسبق تعيين حارس على التركة، ولم يعارض الخصوم في أمره.
ولمَّا قام الرئيس بالإجازة وحَلَّ محله وكيل المحكمة، تقدَّمَ له المحامي عن الخصوم بطلب جديد مماثل، فاستجاب القاضي إلى طلبه وأمر بالحجز وشرع المُحضر في تنفيذ الأمر.
ولما تظلمنا من الأمن أشرنا في مرافعتنا إلى طلب الخصوم السابق الذي صدر عليه أمر الرئيس بالرفض، والذي أبى الخصوم التظلم منه إليه، ولكنا لم نعثر على هذا الطلب، ثم استندنا في موضوع التظلم إلى سبق الحكم نهائيًّا في دعوى الحراسة وعدم تغيُّر أسبابها، وأن الحجز على محصول الأطيان يتعارض مع مهمة الحارس.
فكان لا بد من أن يُحكَم في هذه الظروف بقبول التظلم، وكان لا بد من أن يبادر القاضي في إصدار حكمه خشية تلف المحصول أو تبديده، ولكن القاضي أمر بإصدار حكمه بعد أسبوع.
وفي هذه الأثناء استدعاني القاضي وأشار عليَّ بالصلح في القضية، وحينئذٍ فهمت أنه وقع بين أمرين: حق موكلي من جهة، وتأثره بشخصية محامي الخصوم من جهة أخرى، يريد إنصاف موكلي، ولكنه يخشى في الوقت نفسه إغضاب المحامي والزعيم الكبير.
رأينا — زميلي رشدي وأنا — أن من المصلحة في هذه الظروف العمل على التوفيق بين الطرفين، إذا ما بدت لنا رغبة جدية في ذلك من جانب محامي الخصوم، وأخيرًا تَمَّ الصلح بين الطرفين بعد جهود طويلة مضنية، كانت نتيجتها إنقاذ محصول خمسة آلاف فدان من التلف أو التبديد.
والطريف في هذا الصلح أنه وقع أثناء العطلة القضائية، بينما كان المحامون يقضون أشهر الصيف في رمل الإسكندرية، فكانت اجتماعاتنا في فندق فيكتوريا بمحطة زيزنيا، ودامت هذه الاجتماعات أيامًا متواليات. وحين أعددنا محضر الصلح والأوراق الكثيرة الملحقة به، أَصَرَّ زميلنا محامي الخصوم على وجوب التوقيع من كلٍّ من طرفي الخصومة على كل صفحة من صفحات هذه الأوراق، غير قانع بالتوقيع عليها من المحامين، ودون أن يدرك ما سوف تقتضيه هذه التوقيعات من جهد وما تستغرقه من وقت. ولمَّا عملنا بإرادة الزميل بلغت التوقيعات خمسة آلاف أو تزيد، وطالت مدتها من الساعة الثانية إلى الساعة التاسعة مساء؛ ولذلك أطلقنا على هذا الصلح فيما بيننا اسم «معاهدة زيزنيا»!
ومرة رفعت دعوى حراسة على وقف كبير، يقوم بالنظارة عليه أمير عربي، ويُدِيره وكيل من ذوي البطش والنفوذ، وكانت كل أسباب الحراسة مبنية على تصرفات هذا الوكيل، دون الناظر الذي ما كان يعلم من أمر هذه التصرفات شيئًا لِبُعْده عن القطر وانشغاله بمهام إمارته.
وقضت المحكمة ابتدائيًّا بالحراسة، فاستأنف الوكيل الحكم، ونُظِرَت القضية استئنافيًّا أمام دائرة كان رئيسها قاضيًا فاضلًا لا يمكن السعي إليه؛ لذلك بَذَلَ الوكيل مسعاه لدى الوزير، فأظهر الوزير للقاضي اهتمامه بالقضية، بحجة أنها من القضايا التي قد تَمَسُّ العلاقة السياسية بين البلدين.
وكان من مظاهر تَدَخُّل الوزير إعلان سرية الجلسات في هذه القضية، وإطلاع الوزير أولًا بأول على محاضر جلساتها.
وكان من عادتي في بعض القضايا الهامة مراجعة محاضر جلساتها بنفسي؛ خشية وقوع خطأ فيما سُجِّلَ فيها على لساني، ولما طلبت يومًا من قلم الكتَّاب إطلاعي على أحد محاضر هذه القضية، قِيلَ لي بأنه غير موجود بالملف، ولما سألت عن السبب أجابني الكاتب بسلامة نية بأن الوزير تحدَّثَ بالتليفون مع رئيس الجلسة، فطلب الأخير المحضر المطلوب وذهب به لمقابلة الوزير.
وذهبت على الأثر لمقابلة الوزير، ولُمْتُه صراحة على تَدَخُّله في القضية؛ فأنكر كل تدخُّل منه، بل أكَّدَ لي بألَّا علم له بهذه القضية إطلاقًا، ولما قلت له بأن القاضي كان اليوم عنده أجابني أن حضوره كان في شئون أخرى، ولما فاجأته بأن محضر جلسة القضية كان معه أَحْضَرَه له بناء على طلبه، تردَّدَ الوزير ثم أكَّدَ لي أن العدالة سوف تأخذ مجراها على كل حال.
وكانت كل ظواهر القضية في المحكمة تطمئنني إلى ذلك؛ فالقاضي مشهود له بالنزاهة والكفاية معًا، وكان واسع الصدر في سماع مرافعاتنا إلى أقصى حَدٍّ، مُلِمًّا بظروف القضية محيطًا بكل دقائقها.
وحين نطق القاضي بإلغاء الحكم المستأنف، ورفض دعوى الحراسة، أدركتُ أن نظرية تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة التي استغلَّها الوزير كان لها الفوز الأخير.
ومن حوادث هذه القضية أن المرافعة فيها دامت أربع جلسات، وأن وكيل ناظر الوقف كان يُهدِّدني بالقتل أثناء الاستراحة كلما استطاع أن يخلو بي؛ أملًا في بَثِّ الذعر في نفسي والحيلولة دون أداء الواجب عليَّ.
ومن هنات المحامين الحزازات التي تقع أحيانًا فيما بينهم بسبب المهنة أو بسبب خارج عنها؛ فتدفعهم إلى السعي في إلحاق الضرر ببعضهم البعض، دون مراعاة لحقوق الزمالة أو لمقتضيات العدالة.
ومن أسوأ هذه الحزازات ما يكون كامنًا في نفس صاحبها لا يدركه خصمه، فيعد له عدته. وأسوأها جميعًا ما يستره صاحبه بستار الود والصداقة؛ فلا يدركه ضحيته إلا بعد فوات الوقت.
كان لي زميل يُبدِي لي جميع مظاهر الود، وكنت أبادل وده الظاهر بود خالص.
ولما قام النزاع بيني وبين خصيمتي، عرض عليَّ الزميل مساعدتي في إزاحة الستار عن بعض الحقائق، ثم تبيَّن لي أنه إنما كان يضللني فيما كان يَذْكُره لي من الوقائع، كما تَبيَّنَ لي أنه كان في ذلك الوقت وكيلًا عن خصمي.
وكان لي زميل وصديق كان مني في منزلة التلميذ والابن معًا، وكنت في الوقت نفسه وكيلًا عن شقيقته في قضاياها، وكان كلما حاول العبث بحقوق هذه الشقيقة قُمْتُ سدًّا في وجهه، وكانت إذا رفضت له طلبًا قالت له: إن هذا الرفض كان بإشارتي، وترتَّبَ على ذلك أن قام العداء نحوي في نفس زميلي بدل الصفاء.
ولما تُوفِّيَتْ شقيقة المحامي رفع الدعوى على كريماتها، يطالبهن بمبلغ جسيم على سبيل التعويض والأتعاب، ولما وُكلت في هذه القضية عن المدعى عليهن، زارني طالبًا مني التخلي عن وكالتهن، ولما أبيت عليه هذا الطلب سعى لدى بعض ذوي القربى مني، وأوهمهم بأن لهم في ذمتي مبالغ طائلة نتيجة لإدارتي بعض الأطيان، التي كانت مشتركة بيني وبين والدهم، قائلًا لهم إنه وحده يعلم سِرَّ هذا الدفين، وإن تحت يده المستندات القاطعة بصحته.
وتمكَّنَ الأستاذ بهذه الطريقة من الحصول على توكيل منهم برفع الدعوى عليَّ، وحينئذٍ عرض عليَّ مرة ثانية التخلِّي عن توكيل خصيماته، مقابل الحصول من موكليه على مخالصة بالدَّيْن الذي يدَّعونه، نظير مبلغ زهيد من المال.
ولما رفضت هذه المساومة الحقيرة قدَّمَ للنيابة العامة في حقِّي باسم موكليه ثلاث شكاوى الواحدة تلو الأخرى يتهمني فيها بالاختلاس، وبعد التحقيق أَمَرَت النيابة بحفظ الشكوى قطعيًّا، مشيرة عليَّ برفع دعوى البلاغ الكاذب على الشاكين.
ولما حُكِمَ ابتدائيًّا لمصلحة موكلاتي في الدعوى التي رفعها الأستاذ عليهن، قدَّمَ للنيابة العامة ضدي ست شكاوى جديدة الواحدة تلو الأخرى، يتَّهمني فيها بأني ارتكبت في حقه وفي حق شقيقته ومورثته جميعَ أنواع الجرائم التي تُرتكَب على المال، فضلًا عن إخلالي بواجبات المهنة نحو شقيقته، في قضاياها التي وُكلت فيها في حياتها!
وهذه الشقيقة هي التي قدمت بأنها قد وكلتني في أربع عشرة قضية، كسبت لها منها ثلاث عشرة قضية إحداها ضد الأستاذ نفسه، ثم اصطلحت في الأخيرة بناء على طلبها.
وكان موضوع الشكاوى يرجع إلى عشرين سنة مضت، فظن الأستاذ أني لست ذاكرًا من موضوعها شيئًا، وأن ليس في محفوظاتي شيء عنها، ولكنني وجدت في ملف كل قضية سندًا بخط وتوقيع الأستاذ نفسه يقطع بكذب شكواه ويُؤيِّد علمه بكذبها؛ وحينئذٍ قررت النيابة حفظ الشكوى، وأمر النائب العام برفع دعوى البلاغ الكاذب على الأستاذ، ثم قُضِيَ عليه نهائيًّا بالعقوبة والتعويض، وصعب على نفسي أن أطالبه بهذا التعويض حتى الآن.
لقد أسميت هذه التصرفات هنات تأدبًا، ولكنها في الواقع جرائم كان يجب على المحامين التنزُّه عنها إطلاقًا.
(٦) بعض شئون المحامين
(٦-١) أزمة المحاماة
كان المحامون قبل صدور قانون النقابة في سنة ١٩١٢م أَوْثَقَ ارتباطًا فيما بينهم عمَّا هم الآن؛ كانوا يعهدون إلى كبارهم في رعاية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم قبل أن تكون لهم نقابة، وكانت لهم من التقاليد ما يكفل لهم حسن المعاملة فيما بينهم، قبل صدور القانون بتحديد حقوقهم والتزاماتهم نحو بعضهم البعض.
ولَعَلَّ مرجع ذلك إلى قلة عددهم، ووثوق الرابطة فيما بينهم في ذلك العهد؛ ولذلك كان عهد المحاماة بالأمس خيرًا منه اليوم.
وليس مرجع ذلك إلى قانون النقابة في ذاته، ولا إلى أعضاء النقابة أنفسهم؛ لأن هذا القانون كان لا بد منه لتنظيم المهنة على أسس صحيحة معينة، ولأن مجالس النقابة قامت من عهد إنشائها، ولا تزال تقوم في حدود قانونها بأجل الخدمات للمحامين.
على أن مما لا شك فيه أن هناك أزمات تُعانيها المهنة تحتاج إلى العلاج.
وأُولى هذه الأزمات وأخطرها جميعًا كثرة الإقبال على المحاماة، بنسبة تزيد عن الحاجة بكثير؛ مما يترتب عليه حتمًا كساد المهنة، وفقًا لقانون العرض والطلب. وليس من نتيجة كثرة الإقبال على المهنة كسادها فحسب؛ لأن هذا الكساد نفسه يلد الفساد بين صغار المحامين، ويدفعهم إلى مخالفة أصول المهنة والحط من كرامتها.
كان خريجو مدرسة الحقوق في سنة ١٩٠٥م حوالي الخمسين، وبلغ عددهم في سنة ١٩٢٦ المائة أو يزيد، والآن عددهم بالمئات، ولا يلتحق من هؤلاء بوظائف الدولة سوى عشرات، أما الراسبون في الالتحاق فكلهم يصبحون في عداد المحامين.
ومع أن الناس في مصر ينزعون إلى التقاضي لأتفه الأسباب، فإن نسبة الزيادة في عدد المحامين إلى عدد القضايا قد تضاعفت، ثم وصلت إلى حد غير معقول؛ حيث لا يقل عددهم حاليًّا عن ثلاثة عشر ألف، بينما عدد القضايا لم يزد عن أربعة أضعافها.
في سنة ١٩٢٥م، انْتُخِبَ المرحوم أحمد بك لطفي نقيبًا للمحامين، وانْتُخِبْتُ وكيلًا للنقابة، ولما كان النقيب بأوروبا مدة نقابته غير مصرح له بالعودة إلى الوطن قمت بأعمال النقابة نيابة عنه.
وجدت بين ملفات النقابة عدة شكاوى، كان أكثرها موضوعها واحد، يقول الشاكي فيها: وكلت المحامي ودفعت له الأتعاب، وسلمته الرسوم لرفع الدعوى فلم يرفعها، أو أن المحامي قال إنه رفعها، وحدد يوم نظرها، وفي ذلك اليوم لم يجد الموكل قضيته مقيدة برول الجلسة.
وحينئذٍ أدركت أن إصلاح شأن المحامين لا يكون بإحالة العشرات منهم إلى مجلس التأديب، وإنما يجب علاج الأمر بدرس أسباب العلة ووصف الدواء القاضي على هذه الأسباب.
وبعد التحقيق في أسباب العلة تبيَّنَ لي أن العلاج واضح، وهو ينحصر في وجوب الحد من عدد المحامين.
وحينئذٍ وضعت مشروع قانون للمحاماة في نحو مائة مادة، وعرضته على زملائي أعضاء مجلس النقابة فأقرُّوه، ثم طبعتُه ووزَّعتُه على المحامين، ونَشَرْتُه على صفحات الجرائد.
وأثار مبدأ إقفال الجدول الذي حبذته في مشروعي معارضة بعض الكتَّاب على صفحات الجرائد، فرددت عليهم بما أَقْنَعَ غير المتعنتين منهم.
وكانت حجة المعارضين تنحصر في أمرين، الأول: أن في الحد من عدد المحامين اعتداء على الحرية الشخصية. والثاني: أن تزاحم المحامين من شأنه ظهور الصالح الحديث منهم على غير الصالح القديم، كما تطرد العملة الصالحة العملة غير الصالحة على حد قول الاقتصاديين.
ولا شك في وجاهة هذين السببين، ولكنهما لم يَقْوَيَا على الوقوف في سبيل مشروع القانون، ولكن طلبة المدارس استغاثوا حينئذٍ بالزعيم الكبير المغفور له سعد باشا زغلول؛ فوعدهم بعدم إقرار المشروع وبذلك قَضَى عليه في مهده.
ومن الغريب أن المرحوم محمود بك بسيوني، بمجرد أن فاز عليَّ في انتخابات النقابة بعد ذلك بسنتين، وبعد وفاة سعد باشا بسنة واحدة، طلب مني صورة مشروع القانون، ووعدني بتقديمه للبرلمان وتأييده أمامه بكل قواه.
حين تخرَّجَنا في مدرسة الحقوق، واشتغلنا بالمحاماة في سنة ١٩٠٥م، كان عدد المحامين «الأفوكاتية والوكلاء» لا يزيد عن الثلاثمائة؛ فكان الإقبال علينا عظيمًا وبخاصة من كبار المحامين الذين لم يدرسوا القانون في معاهده، ولا يعرفون الفرنسية المراجع من كتب الفقه في شتى الموضوعات.
والآن، وقد بلغ عدد المحامين ثلاثة عشر ألفًا أصبح هذا الإقبال قليلًا، بل معدومًا عَمَلًا بقانون العرض والطلب؛ وبذلك أصبحت مهنة المحاماة الشريفة موضعًا لأحاديث العالم بما لا يتفق وشرف هذه المهنة.
لذلك كان واجبًا علينا أن نبحث عن حل لهذه الكارثة، ولو جاء هذا الحل متأخرًا على طول الزمان.
ولا بد أن ينحصر هذا الحل في أمرين: الإقلال ما أمكن من محامين جدد، والامتناع عن قبولهم عند الاقتضاء، ثم معاونة حاملي شهادة الحقوق في حياتهم الاجتماعية على قدر المستطاع.
وعن الأمر الأول أعرض بعض الاقتراحات، أرجو قبولها كلها أو بعضها، كما سوف تراه نقابة المحامين وعلماء القانون وكبار رجال الدولة.
ومن هذه الاقتراحات
-
(١)
قصر المحاماة أمام محكمة النقض من الآن على: المحامين المقررين أمامها، وعلى القضاة والمستشارين المحالين إلى المعاش، والمقررين أصلًا محامين أمام هذه المحكمة، وتحديد عدد المحامين المقبولين؛ فلا يُقبَل جديد منهم إلا عند الخلو.
-
(٢)
قسمة نقابة المحامين إلى نقابات بعدد محاكم الاستئناف، وتخويل هذه النقابات كافة الاختصاصات التي للنقابة حالًا، فيما عدا المسائل العامة التي لها شأن بجميع المحامين، والتي تصبح من اختصاص الجمعية العمومية التي تشملهم جميعًا.
-
(٣)
قصر عمل المحامي على محكمة الاستئناف التي يقع في دائرتها محل إقامته، وعلى المحاكم الابتدائية التابعة لها. ويتبع المحامي محكمة الاستئناف التي قررت قبوله أو المحكمة التي يُنْقَلُ إليها بناء على طلبه.
-
(٤)
يجوز للمحامين المقررين أمام محكمة النقض المرافعة أمام أي من المحاكم الاستئنافية بإذن خاص منها.
ويجوز للمحامين المقررين أمام محكمة الاستئناف المرافعة أمام المحاكم الابتدائية التابعة لها دون المحاكم الجزئية.
ويجوز للمحامين المقررين أمام المحكمة الابتدائية المرافعة أمام المحاكم الجزئية التابعة لها.
-
(٥)
يُعْتَبَرُ حكم محاكم الجنايات في الدرجة حكم محاكم الاستئناف، وكذلك محاكم مجلس الدولة والمحاكم الإدارية الأخرى إذا ما تعددت درجاتها.
-
(٦)
يُحَالُ إلى المعاش المحامي في سنة معينة.
-
(٧)
تُضاعَف قيمة الاشتراك أمام مختلف درجات القضاء.
-
(٨)
يُحَدَّدُ عدد المقبولين للمرافعة أمام المحاكم على اختلاف درجاتها؛ فلا يُقْبَلُ محامون جدد إلا عند الخلو.
ولا شك أن تحديد عدد المحامين من شأنه الإقلال من الإقبال على كلية الحقوق إلى الحد المعقول؛ فلا يحتاج الأمر إلى إغلاق الكلية.
إلى غير ذلك من القيود التي وإن كانت قاسية بعض الشيء، إلا أن فرضها في مصلحة المحامين أنفسهم ومصلحة العدالة تبعًا.
ولا تقتضي أزمة المحامين إغلاق كلية الحقوق؛ لأن القانون علم من العلوم، والعلم غاية لا وسيلة، فالحاصل على إجازة الحقوق إنما درس علمًا تقتضيه ضرورة الحياة؛ فيؤهله لتولِّي وظائف الدولة مختلفة الأنواع صغيرها وكبيرها، ومباشرة الأعمال الحرة الخاصة والعامة، إلى غير ذلك من ضرورات الحياة وليست المحاماة وحدها هي الغاية من إجازة الحقوق.
وأما الأمر الثاني لتحسين بيئة المحامين وإصلاح حالهم فلا يحتاج إلى تشريع جديد، وفي يد رجال الدولة إجراؤه آليًّا بقصر بعض الوظائف الإدارية أو الكتابية على حملة الليسانس، وهذه الوظائف كثيرة تستوعب بسهولة الآلاف منهم؛ وبذلك تُحَلُّ لعدد كبير من المواطنين عقدة من أكبر العقد.
(٦-٢) انتخابات نقابة المحامين
صدر قانون المحاماة في سنة ١٩١٢م، فكانت انتخابات نقابة المحامين مراعى فيها مصلحة المهنة وحدها. ولما قام النزاع بين رجال السياسة في مصر في سنة ١٩٢١م، بدأ تدخل الحزبية في انتخابات المحامين.
ولا شَكَّ أن في ذلك انحرافًا عن جادَّة الحق؛ لأن مهمة النقابة مهنية قبل أن تكون سياسية، فلكل محامٍ الحرية الكاملة في اختيار طريقه في سياسة بلده، دون أن يمنع ذلك المحامي من أن يكون في مقدمة مَنْ يذودون عن البلاد المطالبين بحريتها واستقلالها الكاملين.
ولكن المحامين عجزوا عن مقاومة تدخل الحزبية في صفوفهم؛ فكان لا بد أن يكون ذلك على حساب مهنتهم.
وقد بلغت المنافسة بن المحامين أشدها في سنة ١٩٢٥م، حين قرر الوفديون صراحة دخول الانتخابات على أساس الحزبية. وفي هذه السنة خُذِلَ الوفديون بانتخاب أحمد بك لطفي نقيبًا، كما خُذِلُوا في سنة ١٩٢٦م بانتخاب حافظ بك رمضان نقيبًا أيضًا؛ لأنه حتى في هاتين السنتين كانت أغلبية المحامين لا تزال تُفرِّق بين الانتخابات المهنية ومقتضيات السياسة الحزبية.
(٦-٣) المحامون تحت التمرين
في سنتي ١٩٢٥م، ١٩٢٦م لقيت صعوبة كبرى في إلحاق عدد كبير منهم للتمرين بمكاتب المحامين، ولا بد أن هذه الصعوبة قد تضاعفت تدريجيًّا من ذلك العهد حتى الآن.
وهذه إحدى كبريات مشاكل المحاماة التي يجب علاجها دونما إبطاء. ففي رأيي أنه لا يمكن توفير أماكن للتمرين في مكاتب المحامين لكثرة عدد المحامين المتخرجين، وعدم صلاحية مكاتب كبار المحامين للتمرين؛ لضخامة قضاياهم ومباشرتهم لها بأنفسهم، ثم عدم استطاعة سائر المحامين لدفع مرتبات المحامين الحديثين.
وخير حل لهذه المشكلة إلغاء نظام التمرين؛ لأن المحامي عند تخريجه ليس في حاجة إلى الاستزادة في القانون، قدر حاجته إلى تعرف الإجراءات العملية؛ لتقديم الدعاوى، وإيداع المستندات، وتبادل المذكرات. وهي أعمال إدارية أكثر منها قضائية. ولأن المحامي الحديث لا يفيد كثيرًا من معونة أستاذه في المرافعات أو في تحرير المذكرات، فالأستاذ قلَّما يعاون المحامي في درس القضايا أو يصحبه في المرافعات أو يشاركه في مراجعة المذكرات؛ لأن عمل الأستاذ يَعُوقه عن ذلك كله.
(٦-٤) تعيين حملة إجازة الحقوق في وظائف الدولة
وليس هناك ما يمنع من شروط تعيين المحامين الحديثين في مختلف إدارات المحاكم، فقد كان حملة الليسانس قديمًا يُعيَّنون كتبة جلسات، قبل أن يُعيَّنوا معاونين للنيابة ومساعدين لها. وليس ما يمنع من قصر التعيين في وظائف الدولة الأخرى على حملة إجازة الحقوق.
كل هذه حلول من شأنها علاج أزمة المحامين.
(٦-٥) إلغاء القضاء المختلط
مما تجب الإشارة إليه بداية تسجيلًا لحوادث التاريخ أن المحاكم المختلطة كانت وليدة الامتيازات الأجنبية، التي كانت نفسها وليدة الأحكام الشرعية الإسلامية السمحاء في أقضية غير المسلمين، ثم اتسع نطاق هذه الأحكام بمقتضى المعاهدات الدولية، التي كانت تمنحها الحكومة العثمانية للدول الأجنبية في كبرياء وعظمة، وأخيرًا زاد اتساعها في مصر بحكم العادات والتقاليد.
يدل على ذلك آيات كريمة من سورة المائدة، وعبارات المعاهدات العثمانية نفسها، وما جرى به العمل بعد ذلك في مصر.
فازت مصر أخيرًا بعد عهد طويل باستقلالها التشريعي والقضائي، وبإلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة، وكان المفروض وقد أُلْغِيَت المحاكم المختلطة وأُحِيلَتْ قضاياها إلى المحاكم الوطنية، أن يحل المحامون الوطنيون محل المحامين أمام المحاكم المختلطة، وأن يتولوا وحدهم مباشرة القضايا القائمة، التي تقوم بين الوطنيين وأجانب وبين هؤلاء أنفسهم أمام المحاكم الوطنية.
ولكن اتفاقية مونترو حفظت للمحامين أمام المحاكم المختلطة الملغاة حقَّ المرافعة أمام القضاء الوطني، ما لم يختاروا تَرْكَ هذا الحق مقابل تعويض مناسب.
ولما كانت مصالح الأجانب في مصر كبيرة، وبخاصة لقيام الشركات والمصارف الأجنبية فيها بنشاط اقتصادي واسع النطاق؛ اختار أكثر هؤلاء المحامون الاحتفاظ بمكاتبهم، وشاركوا المحامين الوطنيين في ممارسة المحاماة أمام قضائهم.
ولا شك أن المفاوضين المصريين في مؤتمر مونترو لم يُولوا هذه المسألة العناية الكافية؛ للاحتفاظ بحقوق المحامين الوطنيين في الاستقلال بمهنة المحاماة في بلادهم، شأنهم في ذلك شأن جميع الوطنيين في سائر دول العالم.
ولعل عذرهم في ذلك أنهم فهموا أن المحامين أمام المحاكم المختلطة سوف يعجزون عن القيام بعملهم أمام القضاء الوطني، وأن عددهم على كل حال آيل إلى النقص فالزوال.
ولكن هؤلاء المحامين عرفوا كيف يحتفظون بنشاطهم، مؤيَّدين في ذلك من موكليهم الأجانب: أفراد وشركات، مؤازرين من بعض المحامين المصريين أنفسهم؛ ذلك أن كثيرين من رجال القضاء المصري قد انضموا إلى المحاماة بعد اعتزالهم خدمة القضاء؛ فلجأ إليهم المحامون أمام المحاكم المختلطة ليعاونوهم في مكاتبهم مقابل أجر كبير. وقد استجاب أولئك الرجال لهؤلاء المحامين وقَبِلوا الأشغال في مكاتبهم؛ فأضاعوا على أنفسهم وعلى زملائهم حقَّهم الطبيعي في الاستقلال بالمحاماة في بلادهم.
ولأن نقابة المحامين كانت تستطيع الوقوف في سبيل ذلك، سواء باستغلال روح الوطنية في نفوس المحامين الوطنيين، أو بتعويض المحامين الأجانب من أموال النقابة، والتي بلغ رصيدها وقتها مائتي ألف جنيه.
(٧) وصايا
(٧-١) الأمانة
إن تجاربي في المحاماة، وما تلقيته عن كبار المحامين، وما أدركته من سيرتهم يؤهلني جميعًا لأداء بعض الوصايا لأبنائي المحامين، الذين يطمحون إلى النجاح في مهنتهم النبيلة الشاقة.
وللنجاح في هذه المهنة عامل أساسي واحد، وهو الأمانة في أداء الوكالة، وهي تقتضي أمرين؛ الأول: رعاية مصلحة الموكل وحدها، مع مراعاة أصول القانون وهو ما يسمونه بطهارة الذمة. والثاني: التوافر على تحقيق هذه المصلحة، بالجد والنشاط في أداء المهمة.
وليست حدة الذكاء والتناهي في طلاقة اللسان كما يظن البعض من عوامل النجاح الأساسية، بل هي في نظري من العوامل الثانوية أو الكمالية بعد العاملين السابقين.
فأثر هذين العاملين مقصور على القضايا الجنائية؛ حيث يتدارك المحامي بذكائه حرج بعض المواقف في القضية، أو يتخذ من بعضها ترجيحًا لدفاعه فيها، وحيث يصيغ المحامي دفاعه بطلاقة لسانه في صورة رائعة. ولكن المحامي يستطيع في سائر القضايا بتوافره على درس القضية الدفاع فيها على أحسن وجه، ولم تَعُدْ لطلاقة اللسان في وقتنا الحاضر ميزتها في العهود السابقة؛ لزيادة عناية القضاة بجوهر القضية دون العرض، وقلة تأثرهم بطلاوة الدفاع.
والميزة الوحيدة في المحاماة أصبحت محصورة في توفير الوقت للمحامي لدراسة القضية، بينما ميزة طلاقة اللسان أصبحت مقصورة على ظهور صاحبها بالتمكن من قضيته على خلاف الواقع أحيانًا؛ فكثيرًا ما تُغرِّر طلاقة اللسان بصاحبها، فيقصر في دراسة القضية ولا تسعفه طلاقته في الوقت الملائم.
لا شكَّ أن حِدَّة الذكاء والتناهي في طلاقة اللسان صِفتان لهما أثرهما الظاهر في نجاح المحامي، فإذا ما اجتمعتا فيه بصفة الأمانة في أداء الوكالة توافرت لديه جميع أسباب النجاح، ولكن الذي لا شك فيه أيضًا أن الصفتين الأوليين لا تُغْنِيان عن الثالثة، بينما هذه قد تُغْنِي عنهما.
لذلك قُلْتُ إنَّ الأمانة في أداء الوكالة هي العامل الأساسي في نجاح المحامي، وإنَّ حدة الذكاء والتناهي في طلاقة اللسان إنما هما عاملان مُكَمِّلان لنجاحه.
وهناك إلى جانب عوامل النجاح في المحاماة تقاليد تجب مراعاتها، حفظًا لكرامة هذه المهنة النبيلة؛ لأن في كرامتها كرامة للمحامين أنفسهم، وتيسيرًا لهم في مهمتهم.
بعد هذا التعميم أنتقل إلى التفاصيل بالتطبيق على الأسس المتقدمة، وعلى النحو الذي جرى عليه مَنْ ذكرت من كبار المحامين.
(٧-٢) إعلان المحامي عن نفسه
لا تعلن عن نفسك إعلان التجار عن سلعهم، فلستَ تاجرًا؛ لأن المحاماة ليست تجارة، ولأن في الإعلان ترغيبًا للناس فيك، وليس ترغيبهم من تقاليد المحاماة الشريفة، فقد يكون في الترغيب استلابٌ لإرادة موكليك.
فأثِّثْ مكتبك ببساطة، ولا تُحاوِل أن تجعل منه مظهرًا للفت الأنظار للإيهام والتضليل؛ فليس مكتب المحامي معهدًا للتجميل.
كانت مكاتب جميع من ذكرت من كبار المحامين آيةً في البساطة، حتى مكتب المرحوم أحمد بك عبد اللطيف، الذي اشتهر بالأناقة والترف في معيشته.
ولا شكَّ أن المحامي الذي يقضي ستة شهور في إعداد مكتبه، وينفق في سبيل ذلك آلاف الجنيهات؛ فيكسو جدرانه بالخشب الثمين، ويفرشه بالأثاث النفيس، وينيره بالثريات الخفية، ويُعِدُّ مكانًا خاصًّا لعاملة التليفون، وغرفة تستقبل فيها سكرتيرته الخاصة أصحاب القضايا، لا شك أن هذا المحامي قد أساء إلى كرامة مهنته وإلى نفسه من حيث لا يدري.
واجعل لافتتك مقصورة على اسمك ومهنتك، دون الإشارة إلى جميع جهات القضاء التي تمارس عملك أمامها.
كنا قديمًا نُصِرُّ على اقتران أسمائنا بعبارة «الأفوكاتو»؛ حرصًا منا على إظهار الفارق بيننا وبين الوكلاء من المحامين، الذين لم يكن مُصرَّحًا لهم بحمل هذا اللقب، والآن لم يَعُدْ هناك موجب لهذا التعيين.
كان من بين المحامين القدامى محامٍ يُصِرُّ على ذكر اسمه في عرائض الدعوى نفسها، مقرونًا بهذه الأوصاف: المحامي أمام المحاكم المختلطة، ومحكمة الاستئناف الأهلية، والمحاكم الشرعية والمالية، ومجالس التأديب، والمحاكم العسكرية، وصاحب مجلة الاستقلال، الكائن مكتبه بالدور الثالث صعودًا من المنزل رقم كذا، بشارع عبد العزيز! ورغم تزاحم هذه الأوصاف جميعًا ظلَّ المحامي في مكانه حتى اعتزل المحاماة.
ولا تعلن عن نفسك على صفحات الجرائد بالأجر، ودع الصحف تنشر وحدها الهامَّ من القضايا، ولا تُوعِز لموكليك بشكرك في الصحف؛ فقد ملَّ الناس هذا النوع من الإعلان، ولم يَعُد له عندهم أي مكان.
(٧-٣) اختيار المحامي معاونيه
أَحْسِن اختيار معاونيك؛ لأن أخطاءهم تعود بالمسئولية عليك. قد تحسن عملك فيفسده عليك زميلك أو وكيلك أو كاتبك، وقد تكون أمينًا في عملك فتقع الخيانة من أحد منهم.
واحرص على معاونك النشيط الأمين، وكافئه على عمله بكرم، وخصِّصْ لمعاونيك نصيبًا من إيراد مكتبك، كما كان يفعل المرحوم أحمد بك عبد اللطيف تزدهم أمانة ونشاطًا في مصلحتك.
(٧-٤) قبول الوكالة في القضية
حين تُعْرَضُ عليك قضية استمع إلى صاحبها في أناة وهوادة، وناقشه في وقائعها، واجتهد أن تلم بها واستوفِ بياناتها، فمن الناس من لا يجيد شرح وقائع قضيته؛ جهلًا بالهام وغير الهام منها، ومنهم من يحاول إخفاء بعض ظروفها؛ حتى لا تتحرج من قبول الوكالة فيها.
وبعد استيفاء المناقشة اطلع على مستندات القضية، وحاول أن تتعرف من صاحبها وجوه دفاع خصمه فيها، ثم اعكف على دراستها، فإن رأيتها محتملة الكسب اقبلها وإلا فارفضها، وصارح صاحبها برأيك في الحالتين؛ فلا تجعله يأمل في كسب قضية خاسرة أو يزيد في تفاؤله بنتيجتها.
ومن القضايا ما يبين من ظروفها أن الحق في جانب صاحبها، ولكن الأدلة غير متوافرة فيها، فمن رأيي قبول هذه القضية، فقد يتغلَّب الحق على الباطل في نهاية الأمر، بعناية المحامي حينًا وبأخطاء الخصم حينًا؛ فتتعادل الأدلة، ثم تنقلب في صالح الحق. وقد تلهم العدالة القاضي نفسه فيجد وحده السبيل إلى نصرتها؛ فيفوز موكلك أخيرًا بحقه على يديك، أو بفعل خصمه أو بنصرة القضاء.
إن الشواهد على ذلك لديَّ كثيرة، فكثيرًا ما فاز صاحب الحق في هذا النوع من القضايا التي وُكِّلت فيها رغم ما كان يبدو لي عند قبولها من الضعف في أدلتها.
ومن القضايا ما يبين الظلم فيها سافرًا رغم استيفاء الأدلة فيها، ويحصل ذلك عادة عند عدم التعادل بين الطرفين في قوة الإرادة؛ لضعف إدراك الطرف المغبون، أو لاضطراره إلى التعامل مع قاهره لأي سبب من الأسباب. ففي هذه الحالة يجب على المحامي رفض الوكالة في القضية؛ لأن مهمة المحامي نصرة الحق لا تحقيق الظلم، ولأن أكثر هذه القضايا قد يصيبها الفشل أخيرًا، رغم بوادر النجاح فيها أولًا.
وفي قضايا محمود أمين أبو زيد، التي أشرت إليها فيما سبق الأدلة القاطعة على صحة رأيي في هذين النوعين من القضايا.
(٧-٥) أتعاب المحامين
جرى عرف المحامين الوطنيين بقسمة الأتعاب إلى نصفين، يُدْفَعُ نصفها معجلًا، والنصف الآخر مؤجلًا معلقًا على كسب الدعوى.
أما المحامون أمام المحاكم المختلطة فقد جرت تقاليدهم على أن يُدفَع لهم مبلغ تحت حساب الأتعاب عندما يُعْهَدُ إليهم بالقضية، وقد يتكرر هذا الدفع عند الاقتضاء أثناء سير الدعوى، وعند الانتهاء من نظر القضية يتحاسب المحامي مع موكله على أتعابها نهائيًّا.
وفي فرنسا يُعتبَر تعليق دفع الأتعاب أو جزء منها على نتيجة الحكم في القضية مخالفًا لتقاليد المهنة، التي تقتضي ألا يكون للمحامي مصلحة ما في القضية، ويُحال المحامي الذي يعقد اتفاقًا من هذا النوع إلى مجلس التأديب، وكثيرًا ما حُكِم بمحو اسمه من جدول المحامين لهذا السبب.
ومن الغريب أن تقاليدنا، كما في فرنسا، تمنع المحامي من أن يكون له مصلحة في الدعوى، ومع ذلك جرت هذه التقاليد على السماح بتعليق دفع الأتعاب على نتيجة الحكم فيها. وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى.
قد يُقال إن حق القضاء في تقدير أتعاب الوكيل، رغم الاتفاق عليها، قد يخفف من وقع هذه المخالفة، ولكن قل أن يطالب المحامي أمام القضاء بتعديل أتعابه على هذا الأساس، وأقل منه أن يحكم له القاضي بذلك.
إذن فما هي الطريقة المثلى للاتفاق على أتعاب المحامي التي تضمن له حقه بنسبة عمله ولا تظلم موكله، وتتفق مع التقاليد القويمة في وقت واحد؟
ومن رأيي أن يتفق المحامي مع صاحب القضية بداية على أتعابه نظير دراسة القضية وإبداء الرأي فيها، وإذا ما قبل الوكالة في القضية اتفق مع صاحبها على أتعابه في مباشرتها، تُدْفَعُ له كلها مرة واحدة إذا كانت القضية في الدرجة النهائية، أو على مرات أثناء سير القضية في درجات القضاء. فإذا ما حُكِمَ في القضية نهائيًّا حُقَّ له طلب تعديل أتعابه بالزيادة بنسبة عمله في القضية، سواء بالاتفاق مع موكله أو بتحكيم نقابة المحامين.
ولست أجهل أن كبار المحامين يستطيعون وحدهم فرض هذا الاتفاق على موكليهم، دون صغارهم الذين يصعب عليهم إقناع موكليهم بعدالة هذا الاتفاق؛ لاعتقادهم هؤلاء أن في الإنفاق على مؤجل الأتعاب حافزًا لوكلائهم على الاهتمام بقضاياهم.
ولا بأس إذا عهد المحامي في موكله عرفان الجميل وقدرته على الوفاء، من أن يقبل منه مبلغًا تحت حساب الأتعاب، ويترك أمر تقديرها إلى ما بعد الانتهاء من مهمته، وإذا ما اختلف مع موكله عليها أخيرًا كان الفصل فيها بطريق التحكيم، أو من نقابة المحامين أو القضاء.
ويجب على المحامي القناعة في تقدير أتعابه، قناعة أستاذنا المغفور له عبد العزيز باشا فهمي. فلا يجوز له المبالغة في تقديرها استنادًا إلى مركزه؛ لأن في ذلك استغلالًا لحاجة موكله إليه، ولأن المحامي مُطالَب بنصيبه من الخير؛ لأن مهمته نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، ولا ننسى أن في روما كان الدفاع بغير مقابل.
وليس معنى ذلك أن يرضخ المحامي لطمع الغني في قناعته ومحاولته هضم حقه، وإنما يجب على المحامي في هذه الحالة أن يطالب بأتعابه كاملة لا زائدة ولا منقوصة، كما يجب على المحامي أن يرعى جانب الموكل رقيق الحال، وإعفاء الفقير من دفع الأتعاب.
وتحضرني في هذا المقام قصة سيدة عرضت عليَّ التوكيل في قضية لها، فاعتذرت عن عدم قبولها لضيق وقتي، وظنَّتْ أني رفضتها لِضِيق ذات يدها عن دفع الأتعاب التي أستحقها، فانصرفَتْ كسيرة الخاطر.
وفي المساء لما عدت إلى داري، وجدت كريمتي قد مرضت مفاجأة، وارتفعت حرارتها إلى الأربعين؛ فاعتقدت أن الله سبحانه وتعالى إنما أراد أن يجزيني على فعلي، وفي الصباح أوفدت اثنين من كتبتي للبحث عن هذه السيدة أين تكون. ومن حسن حظي أن عثر أحدهما عليها في دار المحكمة؛ فأحسنت وفادتها وقبلت قضيتها بدون مقابل، ولم يمضِ على ذلك يومان حتى أبلت كريمتي من وعكتها، وهبطت حرارتها إلى درجتها الطبيعية.
وعلى ذكر أتعاب المحامين، تحضرني كذلك الوقائع الآتية أيضًا:
وُكلت عن بطريركية الأقباط الأرثوذكس في جميع قضاياها عشر سنوات كاملات، وكنت أتقاضى منها أتعابًا سنوية قدرها اثنان وسبعون جنيها، وهي مقابل مرتب الكاتب المختص بمباشرة قضاياها.
وحين تركت المحاماة إثر تعييني مستشارًا ملكيًّا في سنة ١٩٢٩م ضاع عليَّ الكثير من مؤخر أتعابي؛ لأن الموكل لا يفكر عادة في دفع هذه الأتعاب إلا متى كان في حاجة إلى محاميه، وحين تعرض له قضية جديدة.
وأخيرًا حين عدت للمحاماة في سنة ١٩٣٥م، وفي اليوم الأول الذي قصدت فيه إلى مكتبي وجدت به أحد موكليَّ القدامى؛ فاستبشرت خيرًا بوجوده وقلت في نفسي: ها هو قد عاد إليَّ بقضاياه الكثيرة، وإذا بالموكل يقول لي إنه وكلني في إحدى قضاياه، ودفع لي من أتعابها مائة جنيه، ثم تركتُ المحاماة؛ فاضطر إلى توكيل محامٍ آخر فيها دفع له خمسين جنيهًا؛ ولذلك فهو يرجوني أن أردَّ له المائة جنيه.
ولما كنت قد رفعت الدعوى وقدمت فيها المستندات ومذكرة، اتفقت معه على أن أردَّ إليه خمسين جنيهًا فقط، وأعطيته شيكًا بالمبلغ.
وهكذا كانت فاتحة عملي في مكتبي في الدور الثاني من المحاماة.
ومما تصح الإشارة إليه في هذا المقام أخيرًا، أنه مع وجوب قناعة المحامي في تقدير أتعابه، يجب ضمان وفائها له بجعلها بنصٍّ صريحٍ دينًا ممتازًا على الأموال موضوع النزاع في القضية، شأنها في ذلك شأن الرسوم القضائية وأتعاب الخبراء.
(٧-٦) رفع الدعوى
قبل أن ترفع دعواك يجب عليك دراسة قضيتك بعناية ومراجعة مستنداتها بدقة، ثم التعرُّف على دفاع خصمك فيها إن أمكن أو فرض ما قد يدفع به دعواك؛ للاحتياط في تكييفها قبل صياغة صحيفتها.
وإذا رأيت داعيًا لأعذار خصمك قبل رفع الدعوى، فالتزم القصد ما أمكن فيما تضمنه أعذارك، فقد تحرره قبل استيفاء بيانات القضية، فيَرِد على لسانك فيه ما يخالفها، وقد تضمنه واقعة قد يتضح لك أثناء سير القضية أنه كان أولى بك ألا تذكرها؛ وحينئذ ترتبط بما جاء بأعذارك على حساب مصلحة موكلك.
كذلك وللأسباب عينها يجب القصر ما أمكن في تحرير صحيفة الدعوى اكتفاء بالبيانات التي نَصَّ عليها القانون، مع الاختصار في بيان موضوع الدعوى.
ويجب أن تعلم أن من أصعب مهام المحامي اختيار الصورة الصحيحة لرفع دعواه، سواء من ناحية الشكل، أو الاختصاص، أو الموضوع. فعلى أساس الصورة التي ترفع بها دعواك، يتوقف نجاحك في الدعوى أو فشلك فيها.
وفي طريقة رفع الدعوى يمتاز المحامون بعضهم عن بعض، وكثيرًا ما يَحَار المحامون في اختيار هذه الطريقة، فإذا ما وُفِّقُوا في اختيارها اجتازوا أكبر عقبة فيها.
ولذلك نرى القضاء أحيانًا يُقَدِّرُ أتعاب المحامين كاملة على مجرد رفع الدعوى.
وما يُقَال عن عريضة الدعوى يُقَال عن صحيفة الاستئناف.
وإذا كنت مشغول البال بدعواك، ولم تهتدِ بَعْدُ إلى الطريقة المُثْلَى لرفعها، أو لم تجد حلًّا لعقدة فيها، فحين تأوي إلى فراشك ضَعْ مفكرة وقلمًا إلى جانبك؛ فكثيرًا ما تُلْهَمُ بالطريقة أو الحل قبل الاستغراق في النوم، أو في يقظة من يقظات الليل.
(٧-٧) تقديم المستندات
رَتِّبْ حافظة مستنداتك بنفسك وفقًا لترتيب دفاعك في مذكرتك، ولا تزحم حافظتك بالمستندات، بل قَدِّمْ منها على قدر ضرورتك في الدفاع.
وَوَقِّعْ على كل مستند تُقدِّمه بختم مكتبك وإمضائك، واذكر ذلك بحافظتك التي يجب أن تكون هي الأخرى مشمولة بالتوقيعين، وصِفْ كل مستند في الحافظة وصفًا كافيًا؛ وذلك كله تلافيًا لسرقة المستند أو إبداله، كما حصل في قضية الفيوم، أو التلاعب فيه كما في قضية السيدة زينب كما قدمت.
وأولى بك أن تحتفظ بمستندات موكلك في خزانتك إن خشيت عليها من الضياع، أو أن تكلف موكلك نفسه بإيداعها عند الاقتضاء.
وإذا كان سند موكلك هامًّا أَوْدِعْه بمحضر إيداع، كما كان يفعل أستاذنا عبد العزيز باشا فهمي.
(٧-٨) إيداع الأمانات خزانة المحكمة وسحبها منها
اعهد إلى موكلك دائمًا بهذه المهمة، ولا تركن فيها إلى كتبتك اتقاء لمسئوليتك.
(٧-٩) الاطلاع على أوراق القضية
استوفِ الاطلاع على أوراق القضية، ورَتِّبْها في ملف وفق ترتيبها بملف المحكمة؛ ليسهل عليك الاستدلال عليها، أو إرشاد المحكمة عنها.
(٧-١٠) تقديم المذكرات
ضَعْ مذكرتك الأولى قبل رفع دعواك، وبينما تكون مستنداتها لا تزال بين يديك، ثم لخص من مذكراتك صحيفة دعواك فبذلك وحده تأمن الزلل فيها.
وقَدِّمْ مذكرتك الثانية؛ ردًّا على دفاع خصمك.
أما مذكرتك الختامية فضعها قبل قفل باب المرافعة لكي تتأكَّد عندها من إلمامك بجميع دقائق القضية؛ لأن الاعتماد في المرافعة على الذاكرة غير مأمون العاقبة، ولا تُقدِّم هذه المذكرة إلا بعد المرافعة؛ حتى تتبين لك نواحي دفاع الخصم كلها وما يبدو لك من اتجاه القاضي أثناءها، وحتى يتيسَّرَ لك حينئذٍ إعادة النظر في مذكرتك، وإضافة ما ترى إضافته إليها.
(٧-١١) مراجعة القضية عند تأجيلها
إذا تأجلت المرافعة في القضية فأعِدْ دراستها من جديد، من جهة حتى لا يفوتك شيء منها بحكم النسيان، ومن جهة أخرى لأنك كلما درست القضية وجدتَ فيها جديدًا يؤيِّد دفاعك أو يهدم دفاع خصمك.
(٧-١٢) معاملة الزملاء
جامِلْ زميلك ما استطعت، شرطًا ألا يكون ذلك على حساب موكلك؛ فإن مجاملتك لزميلك تدعو إلى مجاملته لك. وفي ذلك تهوين لمتاعب المحاماة.
وكن رفيقًا بزميلك في المرافعة، زِنْ عبارتك كلما ناقشته؛ ليكون حديثك له جدلًا لا مهاترة.
إن من مميزات المحامي أن يُصِيغ دفاعه في صورة لائقة، وأن يثير نقده لدفاع خصمه في عبارة مقبولة. ومن العجز حقًّا أن لا يسعف المحامي حسن البيان أو سلامة اللسان؛ فيحيد عن واجب المجاملة وأدب المناقشة.
كان كبار محامينا جميعًا على هذه الصورة، ولم يشذ منهم سوى واحد، كانت حدة طبعه تتغلب على طيبة قلبه رغمًا منه، وكان أثر حدته عادة على حسابه وليس على حساب غيره.
(٧-١٣) كسب ثقة القاضي
إن كسب ثقة القاضي من أهم عوامل نجاح المحامي.
فنجاح المحامي يبدأ بتشجيع القاضي له ويظل منوطًا به، ثم يبلغ أشده عندما يفوز المحامي أخيرًا بثقة القاضي.
وليس كسب ثقة القضاء من الهينات؛ فالأمانة والصدق والفضيلة ونصرة الحق ومحاربة الباطل هي عوامل كسب ثقة القاضي، وهي في الوقت نفسه من عوامل كسب رضاء الله.
لكسب ثقة القاضي يجب عليك: ألا تقبل الوكالة إلا في القضايا الحقة، أن تكون أمينًا في سرد وقائع الدعوى، أمينًا في الاستئناس بمستنداتها، حريصًا في تفسير أحكام القانون على وجهها الصحيح، أمينًا في نقل مراجع الفقه وأحكام القضاء.
كانت ثقة القضاة بالمحامين في نقل هذه المراجع ضعيفة في الأصل؛ ولذلك كنا عادة ننقل أحكام القانون بنصها، ونورد مراجع الفقه بلغتها ثم نُعرِّبها، حتى إذا ما ضمنَّا ثقة القاضي بنا اكتفينا بالإشارة إليها.
إن من المحامين من يخالف هذه الوصايا؛ فيخسر ثقة القاضي به، ويصبح الأخير دائمًا على حذر منه، ويضيق المحامي في الوقوف أمامه، وقد يتعرض لملاحظات منه تؤذيه في كرامته، على النحو الذي كان المرحوم مجدي باشا يعامل به بعض المحامين.
وبذلك يصبح المحامي في نظر القاضي خصمًا للحق، فيشك الأخير في صحة أقواله وإن كانت هي الصدق.
أما مَنْ يعمل بهذه الوصايا ويكسب ثقة القاضي، يصبح في نظره نصيرًا للحق، وتصبح أقواله سجلًّا المصدق.
وهناك قضايا قد تتعادل فيها أدلة الطرفين، أو تتهاتر فيها الأدلة من الجانبين؛ فيكون المراجع الوحيد في الدعوى شخصية المحامي، فإن كان حاصلًا على ثقة القاضي فاز في دعواه، وكذلك الحال إذا كان زميله غير حاصل على هذه الثقة.
ويحكم القاضي في هذه الحالة، غير متأثر في ظاهره بعقيدته في المحامي، ولكن هذه العقيدة تُؤثِّر في حكمه على الرغم منه.
(٧-١٤) الشجاعة في الدفاع عن حق موكله
إذا كان من أوجب الواجبات على المحامي احترام القضاة، فلأن المفروض فيهم قيامهم أنفسهم بأقدس الواجبات عليهم؛ وهو مراعاة العدالة التامة بين المتقاضين.
أما إذا بدا من القاضي انحراف عن هذا الواجب، سقط حقه في احترام المحامي، وأصبح واجبًا على الأخير مخاصمته بكل ما أُوتِيَ من شجاعة للذود عن حق موكله.
وليس من الأمانة أن يتردَّد المحامي في القيام بهذا الواجب، خشية إغضاب القاضي؛ لأنه إنما وُكل في القضية للذود عن حق موكله، وأخطر ما يخشاه منه على هذا الحق انحراف القاضي، ولأن القانون رسم طريقًا لمخاصمة القاضي حرصًا على العدالة من هذا الانحراف.
والوصية الأخيرة أن تصدقني في كل ما قلت.
(٨) بين سنة ١٩٠٥م وسنة ١٩٢٩
(٨-١) سان جرفيه
في سنة ١٩٠٥م اشتغلت بالمحاماة، وفي سنة ١٩٢٩م التحقت بخدمة الحكومة، مستشارًا ملكيًّا في لجنة القضايا.
وفي بحر هذه المدة وقعت حوادث وأحداث، أروي منها ما لا يزال عالقًا بذاكرتي.
في سنة ١٩٠٩م مرضت زوجتي وأُجْرِيَتْ لها جراحة خطيرة، فسافرنا بعدها إلى أوروبا للاستجمام، وقضينا في جبال السفواي العالية بقرية سان جرفيه شهرين كاملين، وكان يصحبنا ولدنا البكر كمال مع مربيته.
وسان جرفيه قرية في سفح جبل مون جولي، على ارتفاع ثمانمائة متر، وهي تُطِلُّ على وادي الأريف، وتقابل الجبل الأبيض الشهير، وتحتوي على حوالي عشرة أكواخ صغيرة، وثمانية فنادق كبيرة أحسنها فندق مونجولي، وهي مشهورة بجودة عسلها وجبنها وخبزها، وكلٌّ من هذه المواد الثلاث ينتسب لها بالاسم.
وتمتاز هذه القرية من الناحية الصحية بأمرين، الأول: أن بأسفلها مدينة سان جرفيه ليبان الشهيرة بحماماتها الكبريتية، التي تقل نسبة الكبريت فيها كثيرًا عنها في حمامات حلوان، ولكنها تمتاز عنها بسخونتها الطبيعية. الثاني: أن القرية ذاتها مقصد لمجهدي الفكر والمتوتري الأعصاب، فيها يزول أثر الإجهاد والأرق في أسرع من لمح البصر.
كان طفلي قبل الإقامة في هذه القرية لا ينام الليل، ويُكثِر من العويل ليل نهار؛ حتى كان نزلاء كل فندق نحلُّ فيه يضجون من عويله، ويطالبون مديره برحيلنا منه، وفي الليلة الأولى التي قضيناها في سان جرافيه نام ولدي نومًا هادئًا، وفي الصباح تبدل عويله مرحًا.
وهناك تعرفت بمسيو أندريه النائب العام بمحكمة استئناف باريس، فروى لي أنه كان مُجْهَد الفكر مضطرب الأعصاب إثر المنازعات التي قامت وقتئذٍ بين رجال الدين والحكومة، بشأن تنفيذ قانون تسجيل تحف الكنائس واعتبارها من أملاك الدولة العامة، وأنه لم يَمْضِ عليه يومان على إقامته بهذه القرية حتى عُوفِيَ تمامًا من مرضه.
وعلى ذكر هذه المنازعات، أذكر أنِّي كنت يومًا ألعب التنس مع نجل النائب العام، ونجل نييله من قدماء الأسر الفرنسية العريقة في الكاثوليكية، وإذا بالكونتس دومولان والدة الأخير تقتحم علينا الملعب، وتؤنِّب ولدها بصوتٍ عالٍ وفي حِدَّة من الغضب؛ لأنه تجرَّأ على اللعب مع ابن النائب العام، الذي يقوم بتنفيذ قانون حصر أملاك الكنيسة. وكان قد صدر في فرنسا لأول مرة قانون يقضي بحصر أموال الكنائس وكنوزها وضمها إلى أموال الدولة العامة، وقد عارض الفرنسيون بالقوة تنفيذ هذا القانون، ووقعت بسبب ذلك اضطرابات عِدَّة تدخَّلَ فيها البوليس والنيابة العامة لوقف هذه الاضطرابات والقضاء عليها.
أما أجرة الفندق عنَّا نحن الأربعة، فكانت تسعة وعشرين فرنكًا، أي ما يعادل المائة وستة عشر قرشًا بما في ذلك الطعام.
(٨-٢) لوزان
وفي سنة ١٩١٢م قصدت إلى مدينة لوزان بسويسرا، لإزالة زوائد في الأنف بمعرفة البروفسور ميرمو الشهير، الذي كان أول من وُفِّقَ إلى إزالة هذه الزوائد بطريق الكي بالكهرباء، وفي سنة ١٩١٢م صحبت له ابني كمالًا، فنجح في علاجنا نحن الاثنين، ولم يعاودنا المرض حتى الآن، وكان البروفسور يتقاضى أتعابه بواقع ستة فرنكات في كل زيارة.
وفي هذه السنة نفسها، وفي لوزان أيضًا استشرت البروفسور جوناس طبيب العيون الشهير، فوجدت في عيادته مصادفة المغفور له عدلي باشا يكن، وقد أوصاني الطبيب بحمل نظارة للطريق حدَّد أوصافها، وقال لي إني سوف لا أحتاج إليه أبدًا طول حياتي.
ولا زلت أحمل هذه النظارة حتى الآن.
أما أتعابه فكانت خمسة وعشرين فرنكًا فقط، ومن أطباء لوزان العالميين البرفسور رو، الذي اشتهر في جميع أنحاء العالم بجراحة المصران الأعور.
كنت مرة بميدان سان فرنسوا، وإذا الجمهور الغفير يُصفِّق بحماس منقطع النظير لرجل نحيف يسير على قارعة الطريق، ويصيح بأعلى صوته: «ليحيَ، وليحيَ رو …» ولما سألت عن من يكون هذا الرجل العظيم، لعلَّه رئيس الجمهورية أو أحد ملوك أوروبا؛ أجابني أحدهم بأنه رو، كيف لا تعرف رو؟! إنه خير من رئيس الجمهورية ومن الملوك أجمعين! وعلمت بعد ذلك أن كفاية هذا الرجل لا يعادلها سوى قناعته، ولا يعادله فيها طبيب آخر في العالم كله، فقد أجرى ثلاثة آلاف عملية استئصال للمصران الأعور، وإنه من سنتين مضتا احتفل بتمامهما في حفل لا يقل روعة عن الحفلات الوطنية، وأنه استدعي مرة لإجراء جراحة لمليونير في نيويورك، ولما اعتذر عن عدم إمكانه السفر ومغادرة مرضاه بلوزان حضر إليه المليونير على يخته الخاص من نيويورك حتى ميناء الهافر في فرنسا، ومنها إلى لوزان بقطار خاص، وعند مغادرة المستشفى ترك للطبيب شيكًا بمبلغ ثلاثة آلاف من الجنيهات، ولكن الأخير رفض قبول الشيك، وطالب بأتعابه وقدرها خمسة عشر جنيهًا فقط، وأجرة المستشفى وقدرها ستون جنيهًا، قائلًا لمريضه إنه إذا ما أَصَرَّ على إعطاء الشيك فعليه أن يُسلِّمه لمحافظ المدينة لذمة الفقراء.
حقًّا إن أطباء سويسرا من أكفأ أطباء العالم ومن أكثرهم قناعة.
(٨-٣) أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى
في صيف سنة ١٩٢٠م قصدت إلى أوروبا، بعد أن حَرَمَتْنا الحرب من زيارتها ست سنوات، سافرت من الإسكندرية إلى فنسيا على ظهر الباخرة ماركو بولو الإيطالية، التي أصبحت الباخرة الأولى في البحر الأبيض المتوسط، بعد غرق البواخر الجميلة التي كانت تَصِل الإسكندرية بمواني أوروبا، والبواخر الضخمة التي كانت تَصِل مواني الشرق الأقصى بأوروبا مارَّةً ببورسعيد، قبل الحرب العالمية الأولى.
ولم نجد للحرب أثرًا ظاهرًا بمعالم البندقية؛ لأن إمبراطور ألمانيا كان قد أوصى بألَّا تُمَسَّ معالمها بسوء. فكنيسة سان مارك، وميدان سان مارك، والبرج الكبير، وبرج الساعة، وسائر مباني المدينة وتماثيلها ظلت على حالها. ولم ينقص من هذه التماثيل سوى الأربعة جياد المُذَهَّبة التي كانت تعلو الكنيسة، والتي نقلها الإيطاليون خشية أن يُصِيبها التلف أثناء الحرب، ولم تكن قد رُدَّتْ إلى موضعها بعد.
ولكن الحرب مع ذلك كانت لها أثرها الظاهر في الحياة في هذه المدينة، فلم يكن لفنادقها ومطاعمها ومخازنها ما كان لها قبل الحرب من وسائل الراحة والأناقة ومظاهر الإقبال والرواج.
وسافرنا من فنسيا إلى فيينا عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر قبل الحرب، والتي أصبحت بعدها قاعدة النمسا فحسب، بعد أن سُلخت منها المجر، وأصبحت دولة مستقلة، وانْتُزِعَتْ منها البوسنة والهرسك وضُمَّتا إلى سربيا؛ فكوَّنَت الثلاثة دولة يوغسلافيا، ثم اقتُطِعَ منها تريستا وجورتسيا وجزء كبير من التيرول وضُمَّتْ إلى إيطاليا، ولم يَبْقَ من النمسا إلا مساحة حول فيينا، ولم تكن مواردها كافية لتموين هذه المدينة العظيمة.
لذلك كان للنمسا وفيينا بشكل خاص أكبر نصيب من أوزار الحرب، لا في معالمها التي لم تُمَسَّ، ولكن في حياة أهلها الذين ذاقوا مرارة الفقر بعد الثراء وآلام الجوع بعد الشبع.
كنا نرى الرجال والنساء يسيرون في الطريق حفايا وأثوابهم ممزقة بالية، وكنا إذا جلسنا في مقهى وبقي من شرابنا قطعة من السكر، أو قصدنا إلى مطعم وتخلَّف من وجبتنا بقية من الخبز، أقبلت علينا سيدة ترجونا أن نعطيها قطعة من السكر أو بقية الخبز. كان القادرون منا على تناول الطعام في المحال العامة يحرصون على إرخاء الستائر؛ حتى لا يراهم المارة وهم يأكلون.
كان الجوع في فيينا يعض الفقير والغني على السواء؛ لأنه لم يَبْقَ فيها غني بعد الحرب، كان صاحب العمارات الكبيرة يحسد بوابة العمارة على ثرائها؛ لأن إيجار المباني كان بالكورون، الذي يساوي خمسة قروش قبل الحرب، فأصبح الجنيه يساوي ألفَيْ كورون، وكان القانون يمنع من زيادة الإيجار، بينما بوابة العمارة كانت تتقاضى أجرها بنسبة قوة الكورون الشرائية لأثمان مواد الغذاء والحاجيات، فإذا ارتفعت أسعارها ارتفع أجرها. وفي ذلك أشارت لي إحدى السيدات إلى عمارتين مجاورتين للفندق الذي كنا فيه، وقالت لي إنها المالكة لهما، وإن إيجارهما لا يفي بأجرة البوابتين وجبر ما يُكسَر من زجاجهما، أو ما يُتلَف من مرافقهما.
وكنا نصرف الجنيه يوم وصولنا إلى فيينا بثمانمائة كورون، وكانت قيمة الكورون تهبط يومًا بعد يوم، فبعد أسبوع أصبح الجنيه يساوي ألفَيْ كورون، وكنا إذا قصدنا إلى أحد المخازن لشراء أي سلعة أو مادة غذائية، وأردنا دفع ثمنها بالكورون دفعنا ثمنها المُحدَّد، وإذا اشتريناها بالجنيه الإسترليني دفعنا نصف هذا الثمن فقط.
تلك كانت حال النمسا وفيينا بنوع خاص بعد الحرب، وإذا كانت النمسا هي سبب تلك الحرب، فانقلب رخاؤها إلى فقر وعزها إلى ذل، فإنما كان ذلك جزاء وفاقًا.
ومن فيينا قصدت إلى مرينباد في تشكوسلوفيا، التي كانت لا تزال بعد الحرب الأولى تابعة للنمسا، وهي بلدة جميلة والحياة فيها ميسورة على خلاف الحال في فيينا.
وفي مرينباد تعالج البدانة؛ لأن مياهها مسهلة وحماماتها مضيئة، وطرقها ممهدة جميلة وجوها ملائم للرياضة، وفيها عيادات خاصة مجهزة بأنواع الآلات لعلاج البدانة، ومنها عيادة للدكتور برمنجر، وهو طبيب معروف لأهل حلوان؛ حيث كانت له في حمامها عيادة خاصة يعمل فيها كل شتاء.
وأجمل ما في مرينباد هضبة تعلوها، وتطل على أجمل بقعة رأتها العين. وفي هذه الهضبة مقهى يتناول الزائر فيه الشاي والمرطبات، وتقوم بالخدمة آنسات تستقبلك الواحدة منهن بدورها أحسن استقبال، ثم تُعيِّن لك مقعدك وتُقدِّم لك طلبك، ولكنها لا تحاسبك بل تحييك وتودعك، وعند الخروج بالقرب من باب المقهى تجد سيدة تخبرها بما تناولت، فتُقدِّر لك الثمن وتقبضه منك في غيبة الآنسة التي قامت بخدمتك؛ حتى لا يكون في حضورها شبهة الرقابة عليك.
ومن مارينباد سافرت إلى ميونيخ، عاصمة مقاطعة بافاريا من بلاد ألمانيا، وهي مدينة كبيرة جميلة، أصابها من جراء الحرب ما أصاب فيينا، من حيث هبوط سعر العملة، وما يترتب على ذلك من الأحداث في اقتصادياتها.
نزلت بأكبر فندق هناك يُدْعَى باير شرهوف أي فندق بافاريا، وهو عبارة عن مدينة صغيرة أو حي في مدينة، تجد فيه مكتبًا للبريد، وآخر للتلغراف، وثالثًا للسكك الحديدية، ثم مصرفًا وعيادة طبيب وصيدلية ومستشفى ومحل حلاقة وغير ذلك.
وبالرغم مما كان يعتري أهل الفندق من أزمة في مواد الغذاء، كنت لا تحس إطلاقًا بهذه الأزمة في هذا الفندق. ففي صباح كل يوم كان يدخل عليَّ الخادم بسلة فيها جميع أصناف الفاكهة، يتركها بالغرفة طول النهار، وكان الفطور أشبه شيء بغذاء كامل، يحتوي على الشاي أو القهوة مع اللبن والزبد والمربى واللحم أو السمك، وعلى هذا القياس في وفرة الطعام كانت وجبة الغداء والعشاء.
وخصصت إدارة الفندق لإقامتي جناحًا، قِيلَ لي إنه الجناح الذي كان يُقِيم فيه عادةً الخديوي عباس عند زيارته لمدينة ميونيخ، وهو يحتوي على: غرفة نوم بسريرين، وغرفة استقبال، وغرفة تواليت، وحمام. وكانت أبواب الغرف من خشب الموهوجني، ويظهر كل باب مرآة كبيرة، وكانت جدران الغرف مكسوة بالحرير.
وحين دخلت هذا الجناح قلت في نفسي إن أجرته لا بد تزيد عن عشرين جنيهًا يوميًّا، ثم قلت: ولِمَ لا أعيش عيشة الملوك أسبوعًا، ومعي ما يكفيني من المال لذلك، ما دمت قد حُرِمْتُ من السياحة ست سنوات كاملات؟!
وبعد انقضاء الأسبوع وحين قصدت إلى صراف الفندق لدفع الحساب، تبيَّنَ أن أجرة الجناح مع الطعام والشراب مائة وخمسون ماركًا؛ أي ما كان يعادل مائة وعشرين قرشًا في ذلك الوقت.
وتعرَّفتُ بالفندق بأحد علماء الألمان، الذي كان يتباهى بتقدُّم الصناعة في بلاده، ومن قوله: إن قاعدة علم الطبيعة التي تقول «بألا يضيع شيء، ولا يخلق شيء» مُطبَّقة في ألمانيا بأوسع معانيها. ومن الأمثلة التي ذكرها لي على ذلك، أنهم يصنعون من الزجاج المكسور زجاجات البيرة، ومن فضلات الخبز بيرة الفقراء، ومن صفيح علب المحفوظات لعب الأطفال.
ومما لاحظته في ميونيخ أنه بالرغم من مضي سنة ونصف على انتهاء الحرب، ومن انكسار ألمانيا فيها، فإن الروح الحربية فيها لم تنطفئ جذوتها، وكانوا يستعدون لحرب ثانية بمجرد توقيع الصلح في الأولى.
ففي يوم الأحد مرت أمام الفندق جماعات متراصة من الشباب، في زي عسكري حاملين البنادق وفي صفوف متراصَّة، كلٌّ منها مُكوَّن من ثمانية شبان، وظلَّتْ جموعهم تمر حوالي الساعتين، وقد هُرِع سكان الفندق يصفقون لهم ويهللون، وكان بجانبي ذلك العالم، فسألته عما يكون عددهم، فأجابني أنهم يزيدون عن عشرة آلاف، ولما سألته عن أمرهم أجابني بأنهم طلبة المدارس يتمرنون على ضرب النار بالذخيرة الحية كل يوم أحد، ولما لاحظت بأن ذلك مخالف لشروط الصلح، رَدَّ عليَّ ساخرًا بأنهم طلبة مدارس وليسوا جنودًا.
وانتقلت من ألمانيا إلى سويسرا عن طريق رومانسهورن، ثم غادرت سويسرا إلى إيطاليا عن طريق دومودوسولا فوصلت إلى ميلانو. ومنها زرت منطقة بسكايا التي جرت فيها أعظم المعارك بين النمساويين والإيطاليين؛ فكانت آثار الدمار في هذه المقاطعة بادية للعيان، مشيرة إلى فظائع الحروب وظلم الإنسان فيها للإنسان.
ولكن الإيطاليين ما لبثوا أن أعادوا الحياة إلى هذه المقاطعة، بمجرد أن تولى الفاشيست مقاليد الحكم في البلاد بزعامة موسوليني.
(٨-٤) نشأة الفاشيسم في إيطاليا
زرت إيطاليا في سنة ١٩٢٢م. وحالما نزلنا في تريستا لاحظنا أن الحالة في المدينة غير عادية، فساحة الميناء ترابط فيها قوات من الجيش مزودة بمدافع الميدان، وعلى باب كل فندق، وكذلك على باب كل مصرف جنديان مدججان بالسلاح، ولم نكن نعلم سبب هذا الاستعداد العسكري، حتى قيل لنا إن هناك عراكًا دائمًا بين الشيوعيين مُمَثَّلين في طبقة العمال والفاشيين الذين أخذوا على عاتقهم مقاومة حركة الأولين، وإن القوتين متعادلتان والحكومة حائرة بينهما، عاجزة عن حفظ الأمن في البلاد.
على أن قعود الحكومة أخيرًا عن مقاومة الشيوعيين مَكَّنَ الفاشيين من تولِّي زمام الأمر.
ومن الشواهد على ذلك، أننا عَوَّلْنَا على مغادرة هذه المدينة الصاخبة بقطار الساعة التاسعة صباحًا من غداة وصولنا، فركبنا القطار في الموعد، ولكنه لم يغادر رصيف المحطة؛ لأن عُمَّاله قد أضربوا عن العمل تأييدًا لإخوانهم الشيوعيين، وظللنا بالقطار لا ندري ماذا نفعل، حتى كانت الساعة الثانية عشرة، حيث أقبل على المحطة جماعة من الفاشيين، تولى بعضهم قيادة القطار، وتولى البعض الآخر حراسة عرباته. ولما كان المفروض أن هذا القطار سيكون الأول والأخير في ذلك اليوم، صدر الأمر بوقوفه في جميع محطات الخط؛ فكنا نَجِد مباني كل محطة مهدمة والقطارات فيها مهشمة، فخفنا أن لا نَصِل بسلام. ومن الطريف أن رجال الفاشيست مَرُّوا بنا أثناء السفر، طالبين منا إعانة مقابل سفر القطار وحراسته.
وفي محطة ليفكو في التيرول الإيطالي غادرنا القطار، ونزلنا بفندقها الكبير الوحيد. وليفكو مدينة صغيرة مياهها حديدية تفيد مرضى الأعصاب والمجهدين، على أنه بالرغم من قلة عدد سكان هذه المدينة، فإن أهلها كانوا منقسمين إلى شيوعيين وفاشيين، كما هي الحال في المدن الكبيرة، وكان بها سينما واحدة صغيرة، يؤمها سكان المدينة ونزلاء الفندق، وكان قبل العرض يقوم النزاع بين الطائفتين، بين صياح بحياة الشيوعية وصياح آخر بحياة الفاشية، ثم لا يلبث الفريقان أن يتلاحما، فيُوقَف العرض وينصرف الجمهور.
وإزاء هذه الحالة اضطررنا إلى مغادرة ليفكو وإيطاليا كلها قاصدين إلى سويسرا، ثم اقتضتنا الظروف إلى العودة عن طريق إيطاليا للسفر من فتزيا على الباخرة التي حجزنا عليها أماكننا، وفي فتزيا كنا نستمع إلى فرقة موسيقية بميدان سان مارك. ولما عزفت الفرقة النشيد الوطني، صاح بعضهم: «لتحيَ الشيوعية!» وردَّ عليهم البعض الآخر: «لتحيَ الفاشية!» ثم تلاحم الفريقان على عادتهم فَلُذْنا بالفرار.
وهكذا عاصرنا الفاشية في نشأتها.
(٨-٥) ثورة سنة ١٩١٩
وفي سنة ١٩١٩م، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، قامت ثورة مصر على الإنجليز، بزعامة سعد وعبد العزيز وشعراوي، وتألف وفد مصر لمفاوضة حكومة ملك بريطانيا، ثم ثار الخلاف بين أعضاء الوفد، واشتَدَّ أثر خطبة شبرا بالزعماء فوقعت الفرقة بينهم، ولم يلبث أن تأسَّسَ حزب الأحرار الدستوريين؛ فأصبح في مصر أحزاب ثلاثة: الحزب الوطني، وحزب الوفد، ثم حزب الأحرار الدستوريين.
وبذلك انصرف المصريون عن مناوأة الإنجليز في سبيل استقلال الوطن، إلى محاربة بعضهم البعض في سبيل الوصول إلى الحكم.
وأصبح الدستور الذي ظَنَّ المصريون أنه سيكون أداة لتنظيم الحكم في البلاد، أداة لاستشراء الفوضى فيها على حساب الشعب وحده.
وهذا كله معلوم للمصريين جميعًا ممن عاصروا ذلك العهد، وليس هذا على كل حال موضوع حديثي في هذه الذكريات؛ لأنه من ذكريات الجميع. ولذلك أقصر حديثي على بعض الوقائع على هامش تلك الحوادث.
ففي سنة ١٩١٩م كنت أُقِيم بحلوان الحمامات، وكان لي فيها صديق إنجليزي من رجال الأعمال وخبير زراعي أمام المحاكم المختلطة، وكان يعاونني في إنشاء حديقتي. ولما قامت الثورة هلعت قلوب الإنجليز، رغم ما قاموا به من وسائل القمع والإرهاب، وقد بلغ الهلع من قلب صديقي إلى حد أنه كان يومًا معي بالقطار، وفي محطة حلوان دعوته ليسبقني في النزول فامتنع، ثم ألَحَّ عليَّ في النزول قبله، قائلًا لي في صراحة إنه لن يتركني خلفه خشية الغدر به.
وفي سنة ١٩٢٢م دعاني سير برسيفال — وكيل محكمة الاستئناف — لمقابلته، وقال لي إنه دعا سير هيرست، المستشار القانوني للجنة ملنر لزيارة المحكمة، وإنه يرغب في تمكينه من حضور جلساتها ليتبيَّن مدى تقدُّم القضاء المصري، ثم سألني عن رأيي في ذلك، فأجبته على الفور في صراحة بأن المصريين جميعًا مُجْمِعون على مقاطعة لجنة ملنر، وهم جادُّون في ذلك غير هازلين، وأنه إذا دُعي أحد أعضاء اللجنة لزيارة المحكمة فسوف يقاطعه المحامون، وأني بالرغم من صداقتي له سأكون أول هؤلاء المقاطعين، وحذرته من أن هذه الزيارة قد تلقى من المحامين أعمالًا إيجابية، ولن تقف عند المقاطعة السلبية.
وحينئذٍ قال لي سير برسيفال إن سير هيرست صديق له قديم، وكان زميلًا له مدة الدراسة، وإنه قد وعده بهذه الزيارة، فكيف يرجع في وعده له؛ فأصررت على رأيي مُحَمِّلًا إياه مسئولية ما ينجم عن هذه الزيارة.
وقد أخذ سير برسيفال بنصيحتي، فلم يَدَعْ صديقه لزيارة جلسات المحكمة، وعلمت بعد ذلك أنه قنع بزيارته في مكتبه، وأن هذه الزيارة تَمَّتْ في غفلة من المحامين وأنا من بينهم.
(٨-٦) اغتيال الشهيد حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي
وفي سنة ١٩٢٢م، اغتيل الشهيدان حسن باشا عبد الرازق وإسماعيل بك زهدي، على باب دار حزب الأحرار الدستوريين، ولم يكونا المقصودين بالقتل بالذات، وإنما كان التربص لاغتيال عدلي باشا يكن رئيس الحزب نفسه.
وكنا — حسن باشا وإسماعيل بك وأنا — نكوِّن في الحزب شعبة واحدة، وكان سائر الأعضاء يدعوننا بالمتطرفين، وكان أستاذنا المرحوم الهلباوي بك ينعتنا بالشبان المجانين.
وكنا نحضر إلى دار الحزب معًا ونغادرها معًا، في سيارة المرحوم حسن باشا عبد الرازق، وفي يوم الحادث نزلت من مكتبي لأمر بمكتب زميلي إسماعيل بك المجاور لي، في انتظار مقدم حسن باشا في سيارته، وحين نزلت وجدت بصندوق البريد إخطارًا من سكرتارية الحزب بتأجيل الاجتماع؛ فصعدت إلى مكتبي وأخذت في مباشرة أعمالي، ولم تَمْضِ ساعتان حتى علمت بوقوع الفاجعة.
وحينئذٍ أدركت أني نجوت منها بأعجوبة، وأن عناية الله وبركة والدي قد أدركتاني مرة أخرى لإنقاذي من مخالب الموت.
(٨-٧) الانتخابات البرلمانية
وفي سنة ١٩١٦م قامت الهدنة بين سعد باشا وعدلي باشا، وكان من أعراضها توزيع الدوائر الانتخابية بين الحزبين، فدعاني عدلي باشا لمقابلته بنادي محمد علي، وقال لي إنه يعلم مبلغ حرصي على أعمال مكتبي، وإنه لذلك قد اختار لي بالاتفاق مع سعد باشا دائرة قريبة مني، وهي دائرة بشتيل بمديرية الجيزة، وأكَّدَ لي بأني لن أجد من يزاحمني في هذه الدائرة؛ لأن المنافس القوي فيها زعيم أسرة غراب في أوسيم، وهو وَفْدِيٌّ يخضع لأمر سعد باشا، فلن يزاحمني بل سوف يعاونني في تلك الدائرة.
قبلت الترشيح شاكرًا مُعَوِّلًا على أصدقائي في معاونتي، شارطًا على نفسي ألا أنفق في سبيل الانتخابات سوى ثمن سيارة خاصة للمرور بها في أنحاء الدائرة، واشتريت فعلًا سيارة فورد من الصاج لم يزد ثمنها عن مائة وستين جنيهًا.
وبدأت الحملة الانتخابية يعاونني فيها زميلي الأستاذ أحمد رشدي بخطاباته، وصديقي القديم الأستاذ عطية رزق الله الفسخاني بالتهوين على متاعبها بمداعباته ونكاته المليحة.
ولقيت عونًا كبيرًا من المرحوم إسماعيل بك العسيلي، القائم بإدارة وقف الشيخ عباس المهدي، الذي يضم حوالي ألف فدان في تلك المنطقة، وكذلك من أهالي بعض الدوائر الفرعية، وبخاصة دائرة بشتيل التي كان يرأسها زميلي الأستاذ محمود سليمان غنام.
وكانت الظواهر كلها تبدو لي مُبشِّرة بالنجاح، حتى قبيل الانتخاب ببضعة أيام حين فُوجِئْنا بعوامل لم تكن في الحسبان.
وكان أخطر هذه المفاجآت أن زعيم أسرة غراب، الذي كفل لنا الوفد تَنَحِّيَه عن الانتخابات ومعاونته لنا فيها، أعلن ترشيح نفسه وبَعَثَ بأعوانه لجميع زعماء الناخبين في سائر الدوائر الفرعية؛ ليعلمهم بأن الوفد مؤيد لترشيحه، وأن الهدنة بينه وبين عدلي باشا قد نُقِضَتْ.
وفي يوم زيارتنا لدائرة أوسيم تجمهر حول الدار التي قصدنا إليها حوالي مائة رجل من حملة النبابيت، مطالبين بانسحابنا من الدائرة، وقد رأيت الإذعان لأمرهم منعًا من وقوع شجار عنيف قد تُرَاقُ فيه الدماء.
وفي يوم أقام لنا عمدة إحدى القرى وليمة كبرى، تجلَّى فيها الكرم بأجلى مظاهره، وخطب في القوم هذا الشيخ الوقور مُعدِّدًا مزاياي على منافسي، ثم أكَّدَ لي أن دائرته ودائرتين أخريين في قبضة يده؛ لأن عمدة إحدى هاتين الدائرتين أخوه وعمدة الأخرى صهره.
وعندما هممنا بالانصراف شاكرين هذا الشيخ الوقور على وطنيته وكرمه وإخلاصه، انتحى بي قائلًا: «إنما المال هو السلاح لمن أراد قتالًا.»
وفي دائرة أوسيم التي كان يتزعمها صديق لي هو المرحوم يوحنا بك باخوم، باعتباره المالك الوحيد لجميع الأطيان الواقعة في هذه الدائرة، والذي أكَّدَ لي بأن جميع الناخبين سيكونون في صفِّي، علمت أنه جمعهم قبيل الانتخاب بأيام قليلة، ونصحهم بأن يكونوا أحرارًا في انتخاباتهم، وألا يتقيَّدوا بصداقته لي. ولم يكن ذلك في سبيل حرية الانتخاب، وإنما إذعانًا لإرادة منافسي.
وإلى جانب هذه المفاجآت القاسية، كانت هناك متاعب يحمِّلنا إياها مُؤيِّدونا؛ فكان لكل ناخب رجاء يطلب مني تقديمه لجهات الحكومة، وكان لبعضهم قضايا يعهدون بها إليَّ مقابل مؤازرتهم لي في الانتخاب، وظَلَّ بعض هؤلاء يلاحقونني بتوصياتهم وقضاياهم سنين عِدَّة، بالرغم من فشلي في الانتخاب.
ومن المتاعب التي عانيتها أخيرًا أنه كلما ارتكب منافسي جريمة انتخابية صُمَّ رجال الإدارة عن سماع الشكوى منها؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالهدنة التي قامت بين الأحزاب، وكانوا يتوقعون عودة الوفد للحكم.
ومن المتاعب التي دون ما تقدَّمَ في الدرجة، والتي يلاقيها المرشح من أنصاره، زيارته لهؤلاء الأنصار، واضطراره إلى متابعتهم في عاداتهم، رغم ما قد يلحقه بسببها من الإيذاء في نفسه أو في صحته.
كان يجب على المرشح أن يزور أنصاره في دُورهم واحدًا بعد الآخر، وإذا ما تخلَّفَ عن زيارة أحدهم حسبها إهانة له، وإذا ما زار في اليوم الواحد خمسين رجلًا من أنصاره، وجب عليه شرب القهوة عند كُلٍّ منهم وإلا اعتبر ذلك تحقيرًا له.
وإذا كان البعض يُقَدِّم للمرشح قدح القهوة، ويضع فيه السكر بيده بعد كسره بأسنانه؛ فلن يستطيع المرشح مع ذلك أن يتخلى عن ابتلاع محتوى هذا القدح، دون أن يبدو عليه أي تردُّد قبل شربه، أو أي ضجر بعد التهامه.
كنا مرة في زيارة سيدة من القرويات الموسرات، فرأت أن تبالغ في الحفاوة بنا، فبعثت لنا القهوة معطورة بماء الكولونيا، بدلًا من أن تمزجها بماء الزهر، كسائر السيدات اللاتي دونها في المقام، وكان واجبًا علينا بعد شرب القهوة أن نشكرها على هذا الكرم الحاتمي.
تلك كانت انتخابات البرلمان في ذلك العهد؛ ولذلك كان ترشيحي هذا له الأول والأخير، وكنت أُوثِر عليه دائمًا التعيين في مجلس الشيوخ، الذي ظللت عضوًا فيه من سنة ١٩٣٣م؛ حتى حُلَّ أخيرًا بعد حل مجلس النواب.
(٨-٨) في فيتيل
وفي سنة ١٩٢٧م قصدت إلى فيتيل للعلاج، ونزلت مع أسرتي بفندق جران أوتيل، وكان من نزلاء هذا الفندق الخديوي عباس باشا مع سيدة فرنسية، والمرحوم مرقص حنَّا باشا، والأستاذ مكرم عبيد وقرينته، ثم الأستاذ محمد محمود خليل.
وبعد أيام قليلة وصلَتْ إلى المدينة الملكة نازلي مع أولادها، وكان في معيتها والدها المرحوم عبد الرحيم باشا صبري، والمرحوم سعيد باشا ذو الفقار كبير الأمناء، ونزلت الملكة في دار خاصة أُعِدَّتْ لها، بينما كان الملك فؤاد يقوم في ذلك الوقت بزيارة لعواصم البلاد الأوروبية.
فكان وجود الملكة والخديوي عباس في فيتيل في وقت واحد مدعاة لارتباك بعض إخواننا المصريين، وبخاصة من كان منهم يُقِيم مع الخديوي في فندق واحد.
وكان سعيد باشا صديقًا لي لأني كنت محاميه، فكان يزورنا في الفندق من وقت إلى آخر، وكان في الوقت نفسه يستطلع أخبار الخديوي ومَنْ يُقرِّبه من المصريين. وفي أول مرة زارني أبلغته في صراحة أن الخديوي يُسلِّم علينا إذا ما مَرَّ بنا ويجالسنا أحيانًا، وأن ليس من الأدب ألَّا نَرُدَّ له التحية أو أن نتهرَّبَ من مجلسه، وأن هذا لا يعني إطلاقًا التردد في إخلاصنا لصاحب العرش، وأمَّن كبير الأمناء على قولي، وترك لي حرية الاتصال بالخديوي، ولعلَّه رأى خطأ أن في ذلك تيسيرًا لمهمته في الاستطلاع.
ومَرَّةً شكا لي الخديوي من أن سعيد باشا قابَلَه في عين المياه وتجاهَلَه، رغم أن «لحم كتفيه من فضل خيره»، وأن محمد محمود خليل ومرقص باشا حنا يتهربان منه أيضًا، مع أن الأول «ابن خادم السراي» الذي جمع ماله بفضل الرضاء عنه من الخديوي توفيق، وأن الثاني «مِمَّنْ جروا عربته إثر توليه الحكم في مظاهرة كبرى؛ تعبيرًا عن الإخلاص له!»
بعد ذلك سافر مرقص باشا والأستاذ مكرم وقرينته إلى بلدة لوكسوي، وفي صباح الغد من يوم سفرهم قابلني الخديوي، وأبلغني نعي المغفور له سعد باشا، قائلًا لي إنه غير متأكد من صحة الخبر؛ وإنه لذلك أرسل برقية لأحد عملائه في القاهرة لينبئه الخبر اليقين. وفي المساء أبلغني الخديوي بصحة الخبر؛ فاتصلت فورًا بمرقص باشا ومن معه بالتليفون، ونعيت لهم رئيس الوفد.
وكان زعماء الوفد في ذلك الوقت متفرقين في أوروبا، وكان السيد مصطفى النحاس في فيينا، فاجتمعوا به وعادوا إلى مصر على ظهر باخرة واحدة، كنت وأسرتي من العائدين عليها.
وكان المرحوم فتح الله باشا بركات بالقاهرة؛ ولذلك عجلوا في عودتهم لتلافي الخلاف معه على رياسة الوفد.
وظهر لي أن الخديوي كان إلى سنة ١٩٢٧م لا يزال آملًا في العودة إلى عرش مصر، وأنه كان يسعى فعلًا إلى ذلك، وأن سعدًا كان من العقبات التي تعوق سبيل عودته.
وهذا ما يُفسِّر حقد الخديوي على سعد، كما يُفسِّر ذلك منع عودة بعض أنصار الخديوي إلى أرض الوطن، ومنهم المرحومان أحمد بك لطفي وحافظ بك رمضان. وظَلَّ هذا الحقد في نفس الخديوي عباس على حكام مصر إلى أن اتفق معه المرحوم إسماعيل باشا صدقي على طول العدول نهائيًّا عن مطمعه، مقابل المرتب السنوي الذي قررته له الحكومة المصرية وقدره ثلاثون ألف جنيه.