شئون وزارة الحربية
لا أذكر الكثير من أعمالي في هذه الوزارة بوصفي مستشارًا لها، سوى أن استفتاءاتها كانت كثيرة؛ لأن رجالها كانوا من حملة السلاح، ولأنهم كانوا يحرصون على تغطية مسئوليتهم بأخذ رأي قسم القضايا في كثير من تصرفاتهم.
وكان أكثر قضايا هذه الوزارة ينحصر في قضايا ضباط الجيش، الذين كانوا يُحالون إلى المعاش قبل السن القانونية.
ولم يكن الذنب في ذلك ذنب الوزارة، وإنما يرجع إلى خطأ قسم قضاياها نفسه، في فتوى أصدرها كانت سببًا في أن تتحمَّل الوزارة الآلاف من الجنيهات سنويًّا.
وبيان ذلك أنه بمقتضى أحكام قوانين المعاشات العسكرية، يعمل في تقدير سن الضباط بشهادة الميلاد، أو بمستخرج من دفاتر المواليد، فإذا لم يُقَدِّم الضابط إحدى هاتين الوثيقتين، قُدِّرَتْ سِنُّه بمعرفة لجنة طبية عسكرية، مع جواز إعادة تقدير سنه عند الاقتضاء.
ولتقدير سن ضباط الجيش أهمية كبرى، خلافًا لسائر موظفي الدولة؛ لأن لكل رتبة من رتب الجيش سنًّا خاصة للإحالة إلى الاستيداع أو المعاش، فإذا ما وقع خطأ في تقدير سن الضابط بالزيادة، أُحِيلَ إلى الاستيداع أو المعاش في سن مبكرة، وحُرِم ظلمًا من الترقي إلى رتبة أعلى، كما قد يُحْرَمُ من الترقي أكثر من مرة، ويترتب على ذلك أن يُحرَم الضابط من الفرق بين مرتب الرتبة التي أُحِيلَ فيها إلى المعاش، وبين مرتب الرتبة أو الرُّتَب التي حُرِمَ من الترقي إليها، كما يُحرَم أخيرًا من الفرق بين معاش هذه الرتبة ومعاش الرتبة التي أُحِيلَ فيها إلى المعاش.
وكان مثار الخلاف في جواز وعدم جواز إعادة تقدير سن الضابط، بعد تقدير سنه بمعرفة اللجنة الطبية، ومعاملته على أساس هذا التقدير الأخير.
وكانت وزارة الحربية تَمِيل إلى الجواز، وقد أفتى قسم القضايا بذلك، فأُحِيلَ ضباط كثيرون في سنٍّ مبكرة إلى المعاش على هذا الأساس، ورفعوا دعاواهم على وزارة الحربية مطالبين بالتعويض.
ولما عُرضت عليَّ إحدى هذه القضايا، اطلعت على فتوى قسم القضايا، فوجدتها صادرة من أحد نوابه، إجابة على جملة أسئلة وُجِّهَتْ إلى القسم من الوزارة، ومنها السؤال موضوع الحديث، وكانت إجابة النائب عليه مقصورة على كلمة «نعم» أي بجواز إعادة تقدير سن الضابط، والأخذ بالتقدير الأخير في إحالته إلى المعاش، مع أن قانون لجنة قضايا الحكومة يقضي بوجوب تسبيب الفتاوى وإسنادها إلى نص القانون.
وتبيَّنَ لي بعد البحث خطأ هذا الرأي؛ لأن التقدير الأول أصبح تقديرًا تعاقديًّا على أساسه دخل الضابط خدمة الجيش، وبموجبه تحدَّدَتْ نهائيًّا علاقته بالوزارة في عقد الخدمة، ومن ذلك تحديد مدة خدمته؛ ولذلك أفتيت بعدم جواز إعادة تقدير سن الضابط، ما لم تَعْثُر الوزارة أو الضابط على شهادة الميلاد، فيصبح الحكم لها في هذه الحالة.
وقد أخذت وزارة المالية برأيي، واستصدرت قرارًا من مجلس الوزراء، نشرته على جميع مصالح الدولة.
ثم أخذ القضاء برأيي هذا، بل ذهب مع الوقت إلى أبعد منه، فقضى بأن التقدير الأول لسن الضابط أو الموظف بمعرفة اللجنة الطبية، قاطِعٌ في تقدير العلاقة بينه وبين الحكومة، وأن هذا التقدير من النظام العام لا تَجُوز مخالفته، ولو وُجِدَتْ شهادة الميلاد وكانت مخالفة للتقدير زيادةً أو نقصًا.
وبذلك وَقَّفَتْ وزارة الحربية إعادة الكشف الطبي على الضابط، ووقف بذلك رفع دعاوى جديدة عليها، ورُفِضَتِ الدعاوى التي كانت لا تزال قائمة، أما الدعاوى التي حُكِمَ فيها نهائيًّا فلم يكن من سبيل إلى إعادة النظر فيها.
(١) معاهدة جغبوب
هي معاهدة أو اتفاقية ملنر-شالويا، ولكن لما كان أظهر شيء فيها سلخ واحة جغبوب عن مصر، وضمها إلى مستعمرة طرابلس الغرب التي احتلَّها الإيطاليون، كنا نطلق عليها في وزارة الحربية اسم معاهدة جغبوب.
وقد وَقَّعَ هذه الاتفاقية عن مصر لورد ملنر وزير خارجية إنجلترا، وعن إيطاليا السنيور شالويا وزير خارجيتها، أما مصر المعنية فيها بالذات فلم تُوقِّعها، إنما عُرِضَتْ بعد ذلك على البرلمان فأقَرَّها، على ما أذكر.
وتقضي هذه المعاهدة بضمِّ واحة جغبوب إلى المستعمرة الإيطالية، وضمِّ منطقة صغيرة إلى السلوم تشمل بئر سبع، ثم قسمة الآبار المعروفة بالعوينات في أقصى حدود مصر القبلية، فاختصت إيطاليا منها بالآبار العامرة، واختصت مصر بالآبار الناضبة.
وأهمية هذه الآبار بالنسبة إلى إيطاليا، أنها كونها واقعة على طريق القوافل بين ليبيا وإريتريا، وتصلح مطارًا يصل بين المستعمرتين.
وقامت إيطاليا بتنفيذ المعاهدة من جانبها، فضمت إليها ما اختصت به بموجبها، وتوقفت مصر مدة عن تسلم نصيبها الضئيل منها.
وفي سنة ١٩٢٩م، في عهد وزارة المغفور له محمد باشا محمود، شُكِّلَتْ لجنة من الفريق السيد باشا علي، وكيل وزارة الحربية ومنِّي ومن اللواء شفيق باشا المدير العام لمصلحة الحدود، لتسلُّم ذلك النصيب من حكومة إيطاليا.
وإثر صدور قرار مجلس الوزراء بتشكيل هذه اللجنة، أفهمني رئيس الوزراء بأني بصفتي مستشارًا للجنة المسئول وحدي عن إجراءاتها، كما أبلغ المرحوم جعفر باشا وإلى وزير الحربية وكيله أمرًا بهذا المعنى.
وقبل سفرنا إلى السلوم درست ملف الموضوع، وأعددت مقدمًا مشروع محضر التسليم باللغة الفرنسية.
وقُمْنَا من الإسكندرية في رتل من سيارات مصلحة الحدود، تحت إشراف قائد سلاح الحدود، وهو ضابط إنجليزي برتبة أميرالاي، ومررنا بمرسى مطروح حيث استرحنا بعض الوقت، ثم غادرناها إلى سيدي براني، حيث قضينا فيها الليل، وفي الصباح قصدنا إلى السلوم فوصلنا إليها قبيل الغروب.
وكانت الرحلة ممتعة والاستعداد لها كاملًا والنظام شاملًا، وكان من أروع ما رأيت ذلك الجندي الذي كان يقود سيارته ست ساعات كاملة في كل مرحلة، دون أن يسند ظهره إلى مسند مقعده، ودون أن يتحرَّك يمنة أو يسرة.
وكان يصحبنا في هذه الرحلة أعضاء الوفد الإيطالي، الذين حضروا إلى الإسكندرية للاجتماع بنا فيها بإدارة قسم القضايا، وكان هذا الفريق مُكَوَّنًا من أربعة أعضاء: اثنان منهم يمثلان الحكومة المركزية، وآخران يمثلان حكومة طرابلس، التي كان على رأسها المارشال بادوليو، وكان أحد الأخيرين ابن المارشال، وكانت رياسة الوفد لأحد مُمَثِّلي الحكومة المركزية من رجال السلك السياسي فيها.
وحين قابلتهم أدركت لأول وهلة أن ممثلي موسوليني كانا على جانب كبير من الغطرسة، وأن مأموريتي سوف تكون شاقة؛ ولذلك عَوَّلْتُ على أن أُبادرهم أنا بشيء من الشدة؛ لئلَّا يتغالوا في كبريائهم وحتى تتمَّ مهمتي بسلام.
وأول ما فعلت في هذا السبيل أني حين لاحظت تودُّدَهم لمدير مصلحة الحدود ومغالاة الأخير في مجاملتهم أخطرتهم في مواجهة المدير نفسه بأني المرجع الأول والأخير في أعمال اللجنة، وكان ذلك مدعاة لحقد المدير، فكان يناوئني من حين إلى آخر، حتى إنه طلب مني يومًا أن أضع اسمه قبل اسمي في محاضر الجلسات.
ولما وصلنا إلى السلوم نزلنا بالباخرة عبد المنعم — إحدى قطع مصلحة خفر السواحل — وكان في انتظارنا الأميرالاي بيلي بك محافظ المنطقة والأميرالاي جرين بك وكيلها.
وكان الأميرالاي بيلي المشرف على إدارة المحافظة الغربية، وكان يقيم بالسلوم، وكان محبوبًا من عرب هذه المحافظة حتى كانوا يدعونه سيدي بيلي، وكان الأميرالاي جرين بك منوطًا بالسهر على حدود مصر الغربية للدفاع عنها من تعدِّي الإيطاليين، وكانت مهمته شاقة جدًّا؛ لأن الإيطاليين كانوا يُذيقون عرب ليبيا كل أنواع العسف، فكان هؤلاء العرب يرحلون منها بمتاعهم وإبلهم في ظلام الليل، قاصدين إلى الأراضي المصرية، وكان الإيطاليون يتعقبونهم عبر الحدود المصرية ليرغموهم على العودة إلى بلادهم، وكان الأميرالاي يحمي هؤلاء العرب بكل ما أُوتِيَ من عزيمة كلما عبروا الحدود المصرية، رغم أن الإيطاليين كانوا يطاردون العرب بسياراتهم المصفحة، بينما كان كل ما لدى مصلحة الحدود لوريات مثبتًا في كل منها مدفع رشاش.
وكان أهل السلوم حين يتقابلون كل صباح يُحيُّون بعضهم بعضًا، ثم يتساءلون عن إيراد الصحراء من الإبل في كل ليلة، فكان أحيانًا عشرين أو خمسين أو مائة.
ولذلك كان الإيطاليون يكرهون الأميرالاي جرين، ويتمنون التخلُّص منه بأي وسيلة.
وفي صباح الغد زارنا حاكم المنطقة الإيطالية، وكان مَقَرُّه بردية التي أسموها بورتوبارديا، ورددنا الزيارة مارين بقلعة كابتسو، وهي عبارة عن ورشة كبيرة لإصلاح المصفحات والأسلحة، وبها عدة مدافع ومخازن للذخيرة.
ومما لاحظته أن هذه القلعة تبعد عن السلوم بمسافة تقل عن مدى قذيفة من مدفع متوسط العيار، فكانت السلوم تحت رحمة هذه القلعة.
ولما وصلنا إلى بردية وجدنا بها أكواخًا من الخشب، على كلٍّ منها صبيَّة من بنات العرب، ولما سألت رئيس الوفد الإيطالي عنهن، قال لي إن القوات العسكرية أحضرتهن للترفيه عن ضباطها، ولما انتقدت هذا التصرف بشدة، تلعثم لسانه محاولًا تجاهل الغرض الحقيقي من وجودهن.
قمنا بعد ذلك باستلام بئر سبع، وهي بئر تكاد تكون متلاصقة لشاطئ البحر، ولكن ماءها عذب كماء النيل، وهو أمر مستغرب لم يستطع أن يُعلِّله أحد من سكان المنطقة، ثم عيَّنَّا لجنة لاستلام المنطقة الكائنة غربي السلوم والفاصلة بينها وبين قلعة كابتسو، وطلب الإيطاليون تعيين الحد الفاصل بين مستعمرتهم ومصر، بوضع علامات فاصلة بطول الحد من الشمال إلى الجنوب؛ هادفين بذلك إلى مكافحة تسرُّب العرب إلى الحدود المصرية، فأجبتهم بأن ذلك يحتاج إلى عدة أشهر، وأنه ليس على كل حال من شأن اللجنة المختلطة، وهنا بدأ الإيطاليون يتبرمون.
دُعِينَا بعد ذلك إلى حفلة كبرى أقامها الإيطاليون في بردية تكريمًا لنا، وعند وصولنا إليها تبيَّن أن الأكواخ الخشبية التي أشرت إليها قد أُزِيلَتْ.
وكان من المدعوين إليها الأميرالاي جرين بك، ولكن الأميرالاي لم يحضر الحفلة ولم يعتذر عن عدم حضورها؛ فاستشاط الإيطاليون غضبًا، وطالبوا مدير مصلحة الحدود بأن يعتذر لهم جرين بك رسميًّا، ولما أبى الأخير الاعتذار قالوا إنهم سوف لا يحضرون حفلتنا الختامية، التي سَتُوَقَّعُ فيها محاضر اللجنة مهددين بقطع المفاوضات.
وفي صباح اليوم المحدد لهذه الحفلة حضر إليَّ مدير مصلحة الحدود، قائلًا إنه اتفق مع الجانب الإيطالي على حلٍّ يرضيهم، ويُوفِّق بين وجهات نظر الفريقين، ويقضي هذا الحل بأن ندعو الأميرالاي جرين لحفلتنا الختامية. وحينئذٍ أفهمت اللواء بأن هذا الحل لا يرضيني؛ لأني لن أُغضِب جرين بك، وهو قائم بأكبر عمل إنساني نحو عرب برقة وطرابلس.
وأرسلت على الفور برقية لرئيس الوزراء أبلغه فيها بالحادث، ولكن لم يصلني الرد عليها فاضطررت إلى أخذ المسئولية على عاتقي، ولما حضر مندوبو إيطاليا الأربعة، قال لي رئيسهم إن المسألة قد سُوِّيَتْ بالاتفاق الذي تَمَّ بينهم وبين مدير مصلحة الحدود، فقلت له بأن لا علم لي بهذا الاتفاق، وأن المدير لا يملك عقد أي اتفاق معهم كما أفهمتم في بادئ الأمر، وأرادوا أن يوسطوا وكيل الوزارة، باعتباره رئيس اللجنة المختلطة، فقال لهم أَنْ لا شأن له وأن كل الشأن بيدي.
وحينئذٍ طلبوا أن يُسمَح لهم بالانفراد للتداول فيما بينهم. وبينما كانوا يتداولون أرسلت لهم ورقة، قلت لهم فيها إني سوف أُلقي في نهاية الحفلة كلمةً باسم رئيس اللجنة المختلطة، أحيِّي فيها الحكومة الإيطالية، وأحب أن أعرف من تجب تحيته باسم هذه الحكومة، السنيور موسوليني باعتباره رئيس الحكومة المركزية، أو المارشال بادوليو بوصفه حاكم طرابلس، وكنت أعلم حينئذٍ أن النزاع كان قائمًا بين الاثنين كما كان قائمًا بين ممثليهما في اللجنة.
وبمجرد ما تسلَّموا هذه الرسالة حصل ما توقعت، فقد تركوا موضوع مداولاتهم الأصلي وأخذوا يتناقشون في موضوع سؤالي، ولم تلبث أن اشتدَّت المناقشة بينهم بعنف وصخب؛ لأن المارشال بادوليو كان في ذلك الوقت الشخص الوحيد الذي كان يستطيع تحدي موسوليني؛ ولذلك كان لكلٍّ منهما ممثلان في اللجنة، وبعد ساعة ونصف خرجوا من الغرفة وقال لي رئيسهم بأنهم اتفقوا على أن يفوضوني في الأمر، فأذكر في خطابي من أريد من رئيسيهما، لكنني رفضت تحمل هذه المسئولية، وطلبت منهم أن يجيبوا على سؤالي كتابة؛ وحينئذٍ عادوا إلى الاجتماع والمداولة، وبعد نصف ساعة خرجوا قائلين بأنهم على استعداد لاعتبار مسألة جرين بك منتهية، إذا ما قبلت إعفاءهم من الإجابة على السؤال والتصرف في الأمر وفقًا لما أراه، وقبلت هذا الحل بتردُّدٍ صوريٍّ فشكروني على حسن صنيعي.
وبذلك انتهت أعمال اللجنة في خير وسلام.