شئون وزارة المعارف العمومية
كانت استشارات وزارة المعارف وقضاياها قليلة، ولكن تشريعات الجامعة كانت كثيرة متلاحقة؛ فكان مديرها المرحوم الدكتور علي باشا إبراهيم يلاحقنا بمشروعات القوانين، فلا نكاد ننتهي من واحد منها حتى يبعث لنا بآخر، ولا يكاد يصدر القانون حتى يرسل لنا تعديلًا له، وكان الدكتور يعلل ذلك بأن الجامعة حديثة العهد وأن قوانينها لا تزال في المهد.
(١) تمثال نفرتيتي
لما كنت مستشارًا لوزارة المعارف التي تتبعها مصلحة الآثار، كنت بحكم وظيفتي عضوًا بلجنة الآثار، وكنت ألاحظ دائمًا أن الرقابة على ثروتنا الأثرية ليست مُحْكَمة، وأن أحكام القانون بشأن التنقيب عن الآثار لا توفر وسائل حفظها، بل إن هذه الأحكام نفسها تعاون على تسربها، ومع ذلك لم تفكر مصلحة الآثار ولا وزارة المعارف صاحبة الهيمنة عليها، في تعديل قانون الآثار لاستدراك عيوبه.
وأكثر من ذلك كلما ظهرت خيانة في تسرب آثارنا حِيلَ دُونَ تحقيقها، وإن حُقِّقَتْ أُهْمِلَ في تحقيقها حتى تضيع معالمها، ثم تنتهي إلى التَّرْك والنسيان.
ولعل السبب في ذلك أن القائمين بالبحث عن الآثار في بلادنا كانوا جميعًا من علماء الآثار الأجانب، ممولين من حكوماتهم أو من بعثاتهم، ولأن تعديل القانون لا يصادف هوى في نفوسهم، وأخيرًا لأن القائمين على إدارة مصلحة الآثار كانوا من الأجانب أيضًا، وكان تعيينهم في وقت ما التزامًا على الحكومة.
وشأن الكاشفين عن الآثار في بلادنا شأن الباحثين عن البترول في تدللهم وطمعهم، ولكنا إن اضطررنا إلى احتمال هؤلاء فلأن البترول سلعة تجارية، لا غنى لنا عن استخراجها من بطون الأرض لاستهلاكها أو للانتفاع بثمنها. أما الآثار فهي خارجة عن التعامل، ولسنا في حاجة إلى الإسراع في الكشف عنها، فإما أن يُوضَع قانون يضمن لنا حقَّنا كاملًا فيها، وإما أن تظل في مخابئها حتى يكون لنا من العلماء ورجال المال المصريين من يقوم بالكشف عنها.
أقول ذلك خاصة لمناسبة حادثِ تسرُّبِ تمثالِ نفرتيتي الموجود الآن بألمانيا الغربية، والذي يُعتبَر أثمن تمثال أثري في العالم.
تبيَّن لي من تحقيق هذا الحادث أن أحد علماء الآثار الألمان عثر عليه وأدرك في الحال قيمته، فعمل على إخراجه من مصر بالاتفاق مع مفتش آثار فرنسي، فطَلَا التمثال بطلاء قابل للزوال، وشهد المفتش بألا قيمة أثرية له وصرَّحَ بإخراجه، حتى إذا ما وصل التمثال إلى بر الأمان، أُزِيلَ عنه الطلاء فإذا هو تمثال نفرتيتي أقدم وأجمل تمثال في العالم.
ولو أن حقيقة هذا التمثال عُرِفَتْ قبل تسربه لحجزته الحكومة وفقًا لأحكام القانون، ما دام ليس له مثيل في دار الآثار المصرية.
هذا ما ثبت من التحقيق، فما هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في هذا الحادث قِبَل الباحث أو المفتش الفرنسي أو مدير الآثار؟ لا شيء!
(٢) قانون حماية الآثار والمواقع الجميلة
كان مسيو هوت كور مدير الفنون الجميلة بوزارة المعارف أكثر الموظفين زلفى لولاة الأمور في مصر.
قَدَّمَ لي هذا المدير مشروع قانون لحماية الآثار والمواقع الجميلة، وكان المشروع غير مُسْتَوْفٍ بحثًا، فطلبت منه بيانات عن كيفية حماية الآثار لم يعطها لي، وسألته عن المقصود بالمواقع الجميلة، فاكتفى بأن ذكر لي مثلين منها؛ وهما: سان جيوفاني وهو المكان الذي أُقِيمَ عليه ركن فاروق في مدينة حلوان على شاطئ النيل، ثم مجموعة الأشجار القديمة الموجودة بمصر القديمة على الضفة الشرقية من منيل الروضة، ولم يتصل بي هوت كور بعد ذلك ولم يعطني أي بيان آخر.
وفيما كنا نحن أعضاء لجنة القضايا في إحدى التشريفات، سألنا الملك فؤاد عن مشروع القانون، قائلًا إن مسيو هوت كور يشكو من تعطيله في قسم القضايا دون مبرر، فاضطررنا — الدكتور بدوي وأنا — إلى الذهاب فورًا لمقر لجنة القضايا بالبذلة الرسمية، وطلبت ملف المشروع وبيَّنْتُ للدكتور وجوه النقص فيه؛ فاقتنع.
وحتى الآن لم يصدر القانون؛ لأن لاهوت كور لم يكن جادًّا في مشروعه، وإنما كان يحاول الظهور بمظهر الجاد في عمله للتقرب من ولاة الأمور.
(٣) قنديل جامع المؤيد
أبلغ مسيو فييت — مدير مصلحة الآثار — المغفور له الملك فؤادًا بأنه عثر في دير أنبا أنطونيوس على قنديل قديم، يرجع عهده إلى القرن الثاني عشر ميلاديًّا، وأن هذا القنديل كان مخصصًا لجامع المؤيد، وأنه لا بد قد سُرِقَ منه وبِيعَ للدير.
واهتم الملك فؤاد بهذا الحادث المثير؛ فأمر بإحضار القنديل، وطلب مني بوصفي مستشارًا لوزارة المعارف اتخاذ الإجراءات لتنفيذ أمره.
ولما بحثت الموضوع بوسائلي الخاصة علمت أن هذا القنديل وآخر مثله كان قد أهداهما أحد الملوك الفاطميين للدَّير إثر زيارته له، وأن أحدهما قد سرق من الدير، وهو الموجود عند البارون روتشلد في قصره في باريس على حد قول مسيو فييت، والذي لا يقل ثمنه عن عشرة آلاف من الجنيهات على حد قوله أيضًا، وأنه إثر سرقة هذا القنديل حاقت بالدير أزمات شديدة، منها: محاصرة البدو للدير مدة طويلة؛ حتى كادت تفرغ مؤنته وأشرف الرهبان على الهلاك جوعًا، وتهدم سور الدير الشبيه بأسوار القلاع، ثم مرض الرهبان بمرض جماعي كاد يقضي على أكثرهم، وكان الرهبان ينسبون هذه الأزمات إلى حادثة سرقة القنديل، وأنهم لذلك لن يفرطوا في القنديل الآخر، بأي وسيلة ولأي سبب ولو كان بأمر البطريرك نفسه.
قابلت البطريرك، فقال لي إنه راغب في الصدوع لأمر الملك، على أن يحتفظ بالقنديل في دار الآثار العربية كهدية من الدير، لا على أساس دعوى مسيو فييت بأنه مسروق من الجامع. ولكن ما الحيلة في انتزاعه من أيدي الرهبان وهم مستمسكون به كتعويذة للدير؛ نظرًا لما أصابهم إثر سرقة القنديل الأول؟! وأكد لي البطريرك بأن الرهبان إذا ما علموا بالرغبة في الاستيلاء على القنديل، أخفوه في إحدى مغاور الجبل فلن يعثر عليه أحد.
وأخيرًا اتفقنا على أن يقوم وكيل الدير المقيم ببوش بهذه المهمة الدقيقة، فسافر الوكيل في قافلة إلى الدير في الجبل حيث يوجد القنديل.
وقد بُنِيَ هذا الدير في القرن الرابع للمسيح، على قمة عالية من الجبل تطل من بُعد على البحر الأحمر، ولا يمكن الوصول إليه إلا في قوافل بقيادة أدلاء من عرب المنطقة.
وتسلم الوكيل القنديل النفيس بحجة الاحتفاظ به في دير بوش التابع للدير الأصيل؛ حيث وصل إلى علم الحكومة أن العرب أعدوا عدتهم للهجوم على الدير؛ للاستيلاء على آثاره النفيسة.
ونجح وكيل الدير في إقناع رهبانه فتسلم القنديل، وبينما هو في طريقه إلى بوش وقبل أن يَعْبُر النيل، هاجمت قوة من البوليس القافلة واستولت على القنديل وأحضرته إلى قصر عابدين؛ وذلك لأن الحكومة شكَّتْ في نية وكيل الدير، وخشيت أن يخفي القنديل بدلًا من تسليمه لها وفقًا لاتفاقي مع البطريرك.
وقد أساء هذا الحادث البطريرك كما أساءني بالذات، وشكوت لصدقي باشا الذي سوَّى الحادث بمهارته على أحسن وجه بالاعتذار للبطريرك وهبة ثلاثة آلاف من الجنيهات لإصلاح أسوار الدير المنهارة.
أما القنديل فهو أثر جميل من الصناعة العربية الدقيقة، مصنوع من النحاس والزجاج المُلَوَّن، ومنقوش عليه اسم «الجامع المؤيد».
ويقال إن زجاجه من أقدم الزجاج الموجود في كنائس العالم المسيحي إن لم يكن أقدمها إطلاقًا.
(٤) سرقة أوراق الامتحان من المطبعة السرية
تجرأ بعض الطلبة على سرقة أوراق امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وكان وزير المعارف حينئذٍ المرحوم مراد باشا سيد أحمد، فأمر بتشكيل لجنة برياستي لتحقيق الحادث.
وكان الطلبة يحضرون أمام لجنة التحقيق عارِي الرأس مكشوفي الصدر، رافضين الإجابة مقررين بأنهم يعرفون السارقين ولكنهم لن يدلوا بأسمائهم، وقد أصروا على موقفهم هذا رغم نصحي وتهديدي لهم بإحالة التحقيق إلى النيابة، التي تملك من الإجراءات ما سوف يضطرهم إلى الإجابة.
وأخيرًا اضطررت إلى إبلاغ الأمر للوزير، الذي أحال التحقيق إلى النيابة التي تولَّتْه بنفسها، ولستُ أذكر ما تَمَّ فيه.
وكم أسفت لاجتراء أبنائنا على السرقة ولموقفهم في التحقيق، ثم اضطراري إلى التخلي عن التحقيق معهم وإحالتهم إلى النيابة العامة.
(٥) امتحان كلية الحقوق
انتُدِبْتُ مرارًا لامتحان طلبة كلية الحقوق، وكان من حسن حظي أن امتحنت أول طالبة في امتحان الليسانس في مادة القانون المدني، وهي السيدة نعيمة الأيوبي، التي كانت متفوقة في هذه المادة، فحصلت فيها على أعلى درجة في الامتحان الشفوي.
وممن امتحنتهن من الآنسات: الآنسة إنجي، كريمة صديقي الأستاذ أحمد رشدي، التي لم تُرِدْ أن تُعَرِّفني بنفسها إلا بعد انصرافي من لجنة الامتحان؛ حتى لا تُؤثِّر صداقتي لوالدها في تقدير درجاتها على حد قولها، فكان كبرياؤها هذا وحده دليلًا على تَفَوُّقها.