شئون وزارة الزراعة
(١) في وزارة الزراعة
كان أكثر قضايا وزارة الزراعة يتعلق بتنفيذ قوانينها الخاصة؛ كقانون خلط أصناف القطن، وقانون تحديد مساحة زراعته، وقانون الأسمدة والمخصبات، وقانون غش التقاوي، وغير ذلك. أما قضاياها المدنية فكانت قليلة جدًّا.
وكانت الوزارة تقوم بتحقيق مخالفات القوانين بواسطة مفتشيها، وكانت تعرض على قسم قضاياها نتيجة التحقيق في البعض منها لإبداء الرأي فيها، وكان بعض الناس يتقدَّمون بالشكوى لقسم القضايا مباشرة، فكُنَّا نطلب ملفات القضايا ونُشِير بما يجب إجراؤه فيها.
أما مشروعات القوانين فكانت كثيرة، وكان بعضها تتقدم به إدارات الوزارة بعد استيفاء بحثها؛ فكانت لا تحتاج إلى عناء كبير في دراستها ووضعها في صيغتها التشريعية، وكان البعض الآخر يتقدَّم به الوزير إلى قسم قضاياه مباشرة سواء من عندياته أو بناء على اقتراح الغير؛ فكانت على العكس من ذلك تستلزم جهدًا كبيرًا في فهم الغرض منها وتنسيقها مع التشريعات القائمة، ثم وضعها في صيغتها القانونية، وأحيانًا تجيء هذه المشروعات مخالفة للقانون أو للصالح العام كما سنرى.
كان الوزراء عادة أشد تشبثًا بهذه القوانين وأكثر استعجالًا لها من غيرها، سواء للظهور بمظهر النشاط والتجديد، أو للقربى من أولياء الأمور.
وكنت دائمًا أتصل بالإدارات المختصة لأخذ رأيها في المشروع، كلما تبيَّنَ لي أن مصدره للوزير وحده، وكان بعض الوزراء يَضِيقون ذرعًا بهذا التصرف، ثم يتبيَّنون في النهاية أني كنت على حق في تصرفي هذا.
عرض عليَّ المرحوم نخلة باشا المطيعي مشروع قانون يقضي بوزن البيض، وقصر تصديره على الأحجام الكبيرة منه، فسألته عما إذا كان قد أخذ فيه رأي القسم المختص، فأجابني بأن المشروع عاجل، وأن الذي اقترحه عليه رجل من كبار رجال المال.
قلت في نفسي إن المشروع قد يكون في صالح المصدرين، ولكنه قد يكون في غير صالح الإنتاج. وفي الحال دعوت الدكتور عسل وأطلعته على المشروع، فقال إن المشروع ليس في صالح البلاد؛ لأن من شأنه نقص الإنتاج في محصول الدجاج، وإن هذا المشروع يخالف على كل حال ما استقر عليه الرأي في مؤتمر مدريد، الذي انعقد في السنة الماضية ومُثِّلَتْ فيه الحكومة المصرية، والذي قرر منع تصدير البيض الكبير الحجم وقصر التصدير على صغيره؛ لأن الأول لازم لزيادة إنتاج الدجاج، بينما الثاني مآله الاستهلاك في الصناعة، وإن جميع الدول وافقت بواسطة ممثليها على هذا القرار بما في ذلك مصر.
وحينئذٍ سلمته المشروع ليقابل وزيره ويعيد على أسماعه ما قرره لي، وعلى ذلك قُبِر المشروع.
ومرة عرض عليَّ المرحوم حافظ باشا حسن مشروع قانون يرمي إلى استنباط نوع جديد من القطن، أسماه في المشروع «القطن الفؤادي»؛ تيمنًا باسم الملك.
ولما راجعت المشروع وجدت فيه أكثر من نص يخالف أحكام القانون العام، ولا يَتَّسق مع أحكام القوانين الخاصة، ولما كنت على وشك السفر في البعثة الملكية لحضور حفلات تتويج إمبراطور إثيوبيا، نبهت على مساعدي بأن يحتفظ بالمشروع حتى عودتي من الرحلة، وألا يتصرف فيه بأي تصرف في غيابي مهما استعجله الوزير.
ولما عدت من الرحلة وجدت مساعدي في انتظاري في داري، وشكا لي من أن الوزير استعجل المشروع أكثر من مرة، وأنه عنفه بشدة، ناسبًا له الإهمال مهددًا بشكواه لجنة القضايا.
وحين وصلت إلى مكتبي في اليوم نفسه اتَّصَلَ بي الوزير بالتليفون، طالبًا مقابلته على الفور ومعي مساعدي بصورة لم تَرُقْ لي.
وكنت أعرف الوزير من قديم، حينما كان معيدًا لنا في الكيمياء والطبيعة في المدرسة التوفيقية، وأعرف أن عقلية المعلمين في ذلك الوقت لا تزال مسيطرة عليه في تصرفاته؛ فذهبت إليه وحدي، وبمجرد دخولي سألني عن مساعدي؛ فأجبته: وما شأنك به؟! إنه موظف بقسم القضايا وليس موظفًا بوزارة الزراعة، وكان نائبًا عني في غيابي، وها أنا حضرت! وحينئذ غَيَّرَ الوزير موضوع الحديث، وسألني عن رحلتي في إثيوبيا، وأخيرًا قال لي في هوادة إنه إنما أراد أن يشكو لي من مساعدي، وإن مشروع القطن الفؤادي يهمه جدًّا؛ لأنه سبق أن عرضه على الملك، ولا بد أنه في انتظار صدور القانون به من وقت إلى آخر، وأجبته بأن لا ذنب لمساعدي؛ لأنني نبهت عليه قبل سفري بألا يتصرف في الموضوع قبل عودتي، وأن المشروع محل اعتراض من نواحٍ كثيرة؛ لمخالفته لأحكام القانون في كثير من أحكامه، ولأنه يرمي إلى تحديد واحتكار صنف من القطن، وفي ذلك مخالفة صارخة لحرية الزراعة والتجارة.
وحينئذٍ قال لي عاتبًا: كان يجب أن تقول لي ذلك قبل سفرك، فأجبته بأنه كان يجب عليه هو ألا يتحدث مع الملك بشأن هذا المشروع، قبل أن يتحقَّق من صلاحيته.
وعليه لم يصدر هذا القانون.
(٢) لورد لويد
كان المغفور له محمد باشا محمود بأوروبا ينوب عنه المرحوم جعفر والي باشا في رياسة الحكومة، وكان الدكتور عبد الحميد بدوي رئيس لجنة قضايا الحكومة بصحبة محمد باشا محمود، وكنت أنوب عنه في رياسة هذه اللجنة، وكانت الوزارة في مصيفها ببولكي.
وفي أحد الأيام دعاني جعفر باشا، وأطلعني على مذكرة من لورد لويد المندوب السامي البريطاني، يعترض فيها على تعيين شخص محكوم عليه بالأشغال الشاقة عمدة لبلدة الشوبك؛ بناء على شكوى تقدمت له من مستر برامل، أحد كبار الزراع البريطانيين في مديرية بني سويف، وكانت عبارة المذكرة تَفُوق في الشدة كل ما اصطُلِح عليه في المكاتبات الرسمية.
أخذت المذكرة وسافرت إلى القاهرة للاطلاع على أوراق تعيين العمدة، وعلى ملف الجناية التي حُكِمَ فيها عليه بالأشغال الشاقة.
وتبيَّنَ لي من مراجعة هذا الملف أنه قام نزاع بين قريتين، فهجم أهل إحدى هاتين القريتين على الأخرى، ودافع أهل هذه القرية عن أنفسهم، وتبادل الفريقان إطلاق الأعيرة النارية، فأُصِيبَ بعض الأشخاص من الجانبين، وأن العمدة، موضوع مذكرة المندوب السامي، كان من أهل القرية التي وقع عليها الهجوم فدافعت عن نفسها، وأن محكمة الجنايات حكمت على بعض المتهمين من الجانبين بعقوبات مختلفة، فقضت على العمدة بالأشغال الشاقة لمدة ثماني سنوات.
إذن لا شك أن العمدة ارتكب جناية وأنه حُكِمَ عليه فيها بالأشغال الشاقة، فلا مفر له من نتائج هذا الحكم.
بقي البحث فيما إذا كان هذا الحكم يَحُول قانونًا دون تعيينه عمدة أو لا، وبمراجعة دكريتو ١٨٩٥م، الخاص بانتخاب العمد ومشايخ البلاد، تبيَّن أن من شروط تعيين العمدة ألَّا يكون قد صدر عليه من المحاكم الجديدة بسبب جناية أو جنحة حكم قضائي يمس بحسن سيرته واستقامته.
ولغموض هذا النص من حيث إن ظاهره يفيد نسبة حسن السيرة والاستقامة إلى الحكم نفسه، بينما الحكم لا يمكن وصفه بإحدى هاتين الصفتين، بل المعني بهما حتمًا الجريمة ذاتها الصادر فيها الحكم، لما كان ذلك رجعت إلى النص الفرنسي للمادة المذكورة في مجموعة القوانين، ولما كانت مجموعات القوانين عادة لا تحرص على وضع علامة الفصل بين كلمات الجملة الواحدة وجدت أن النص الفرنسي كما هو وارد في مجموعة القوانين يزيد غموضًا عن النص العربي.
كان لا بد من أن تُوضَع علامة الفصل بعد كلمتي جناية أو جنحة؛ ليكون مؤدى النص اشتراط كون الجريمة جناية كانت أو جنحة ماسة بحسن السيرة والاستقامة لتكون مانعة من التعيين، أما إذا كانت علامة الفصل بين الكلمتين، أصبح مؤدى النص أن هذا الشرط مقصور على الجنحة، أما الجناية فهي مانعة بذاتها من التعيين، سواء أتحقق فيها هذا الشرط أم لم يتحقق.
وحينئذٍ رجعت إلى أصل المشروع في محفوظات مجلس الوزراء، المُوقَّع عليه من مسيو روكاسيرا واضع التشريع، فوجدت به العلامة الفاصلة بعد كلمتَيْ جناية أو جنحة؛ وإذن يُشْتَرَطُ في الجريمة جناية كانت أو جنحة أن تكون ماسة بحسن السيرة والاستقامة؛ لتكون مانعة من تعيين العمدة.
ولما كانت الجناية التي قُضِيَ على العمدة من أجلها مما لا تمس السيرة أو الاستقامة أصبح التعيين صحيحًا بحكم القانون.
وعلى ذلك وضعت مذكرتي بهذا المعنى باللغة الفرنسية كطلب جعفر باشا، الذي بعث به إلى لورد لويد.
وبعد يومين أو ثلاثة دعاني جعفر باشا، وقال لي إن لورد لويد يريد مقابلتي، وأوصاني ألا أغضبه في المناقشة؛ لأن رئيس الحكومة في الخارج، وأنه لا يريد حدوث أزمة في غيبته.
ذهبت لمقابلة اللورد في الموعد المحدد، ولكنه لم يستقبلني إلا بعد ساعة كاملة، ولما دخلت عليه حييته برفع يدي إلى رأسي، فلم يَرُدَّ عليَّ التحية ولم يَدْعُني إلى الجلوس؛ وحينئذٍ غلى الدم في رأسي، ولما سألني عن موضوع مذكرتي في حدة انعقد لساني على الرغم مني، وتذكرت وصية جعفر باشا لي؛ فزدت حيرة من أمري، ولكن اللورد أدرك موقفي وأحس بألمي من الصورة التي قابلني بها، فدعاني إلى الجلوس وقال لي إنه عرض مذكرتي على سير بوث المستشار القضائي حينئذٍ، الذي أقَرَّ رأيي وأوصاه بالثقة بي، ثم طلب مني أن أُبْلِغ جعفر باشا بأن المسألة في حكم المنتهية.
وكان جعفر باشا في انتظاري في قلق، فرويت له القصة بحذافيرها؛ فبدا عليه الاضطراب أولًا، ولم يلبث أن انبسطت أسارير وجهه وشكرني على توفيقي.