قسم قضايا المرافعات
(١) نشأة القسم
في سنة ١٩٣١م، أُنشِئ قسم المرافعات ليختص بالدفاع في قضايا الحكومة، وعُهِدَ إليَّ برياسة هذا القسم.
وقُوبِلَ إنشاء هذا القسم من سائر المستشارين الملكيين ببعض الاعتراض أو الامتعاض، وكان من نتائج الاعتراض أن ظل مستشار المالية مستمسكًا بقضاياها، ومن نتائج الامتعاض أن ضَنَّ عليَّ باقي المستشارين بالخيرين من موظفي أقسامهم.
ولما كان المفروض أن يُنْقَلَ إلى القسم الجديد جميع الموظفين الذين كانوا يباشرون قضايا الحكومة، دون الذين كانوا مختصين بإبداء الرأي، أجرى المستشارون قبيل إنشاء القسم حركة تنقلات بين موظفي أقسامهم، كان من شأنها زيادة عدد موظفي قلم الرأي على حساب قلم المرافعات، ثم اختيار الأكفاء من موظفي هذا القسم لقلم الرأي.
ولم يكن من نصيبي من هؤلاء الأكفاء سوى الأساتذة: مصطفى عبد اللطيف، وعبد الرحيم غنيم، وسامي مازن، ثم المرحوم عبد الحميد سيف النصر. ولفض الخلاف أبلغت الدكتور عبد الحميد بدوي رئيس لجنة القضايا بقبولي تحمُّل مسئولية القسم بمعونة زملائي الأربعة المذكورين.
وبالفعل، فقد نهض القسم نهضة مباركة بفضل هذه المعونة.
ومن المسائل التي اختلفت عليها مع زملائي المستشارين الاختصاص في إبداء الرأي في القضايا القائمة أمام المحاكم. وفي هذه المسألة انتصر لرأيي رئيس اللجنة؛ فاتفقنا على أن إبداء الرأي قبل رفع الدعوى من حق المستشار المختص، وأنه بمجرد رفع الدعوى ينتقل هذا الاختصاص إلى مستشار قسم المرافعات، الذي يصبح أعلم من زملائه بظروف القضية ومستنداتها واحتمالاتها.
وقد اتفقت مع معاوني على حصر المبادئ الهامة التي تدور حولها أكثر القضايا، وتقسيم هذه القضايا إلى مجموعات؛ وفقًا للمبدأ الذي يحكمها، ثم عرضت على كل مجموعة لأضع مذكرة فيها بنفسي تُطبَع وتُوَزَّع على موظفي القسم؛ لتكون نموذجًا لهم في الدفاع في القضايا، وقد بلغت هذه المذكرات سبع عشرة لا زلت أحتفظ بنسخة من كلٍّ منها.
ولم تكن من عادة المستشارين الملكيين المرافعة بأنفسهم أمام القضاء الوطني، وأردت حين أنشئ قسم المرافعات أن أخالف هذا التقليد؛ فأترافع بنفسي في القضايا الهامة.
ولما عرضت لي قضية أُثِيرَتْ فيها نظرية الطوارئ، لأول مرة أمام القضاء المصري الوطني والمختلط، وضعت مذكرتها وتوليت المرافعة فيها.
ومنشأ هذه النظرية أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، عجزت شركة إنارة مدينة بوردو بفرنسا عن القيام بالتزاماتها؛ لصعوبة استيراد الفحم من مناطقه التي اقتحمتها جيوش الألمان في بداية الحرب، وكان لا بد للشركة إذا ما قامت بالتزاماتها من أن تتحمل خسارة باهظة؛ لارتفاع ثمن الفحم ارتفاعًا فاحشًا، وبقاء أجرة الإنارة على حالها، وكان لا بد أن تؤدي هذه الخسارة إلى إفلاس الشركة فتحرم المدينة من الإنارة.
وإذا ما رُفِعَ النزاع بين الشركة والبلدية أمام القضاء العادي لحكم ضد الشركة وفقًا لأحكام القانون المدني؛ لأن هذه الحالة ليست من حالات القوة القاهرة التي نص عليها القانون. ولذلك رُفِع الأمر إلى مجلس الدولة الذي لا يتقيَّد بهذا القانون، فقضى المجلس بأن حالة الحرب، وإن لم تكن من حالات القوة القاهرة، لعدم انقطاع ورود الفحم بتاتًا، إلا أن هذه الحالة طارئة على اتفاق الطرفين فلم تكن متوقعة وقت التعاقد؛ ولذلك قضى بوجوب قسمة الخسارة بين الطرفين. وظاهر أن العدالة والحاجة المُلِحَّة إلى إنارة المدينة كانتا أهم عوامل تقرير هذه النظرية.
ولكن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها أمام القضاء العادي؛ ولذلك لم يأخذ بها هذا القضاء وإن أخذ بها القضاء الإداري.
وكان المستشارون الخديويون كما قدمت، حين يترافعون أمام محكمة الاستئناف المختلطة، يحملون وشاحًا مماثلًا لوشاح مستشاري المحكمة؛ للدلالة على أنهم لا يقلون عنهم في المرتبة.
ولعل زوال هذا التقليد مع الوقت هو الذي جعل رئيس لجنة قضايا الحكومة يرى أن لا محل للمستشار الملكي للحضور بنفسه في قضايا الحكومة أمام المحاكم الأهلية.
ولم تحدث لي متاعب في هذا القسم سوى مرة تحدَّثَ معي المرحوم إسماعيل صدقي باشا بالتليفون، يلومني على الصلح في قضية هامة ضد وفديٍّ كبير، دون أخذ رأي الوزير المختص، قائلًا إنه سأل الوزير عن مبلغ علمه بهذا الصلح؛ فأجابه بأني تصالحت في القضية دون علمه.
وبالاطلاع على ملف القضية، تبيَّن أن الوزير نفسه هو الذي وقَّع على محضر الصلح دون أخذ رأي القسم؛ فأخذت محضر الصلح وعرضته على رئيس الوزراء، ثم قصدت إلى الوزير ولُمْتُه على ادعائه الباطل. وفيما أنا أناقشه اتصل به صدقي باشا بالتليفون طويلًا ولامه هو أيضًا، وأخيرًا اعتذر لي الوزير، وفهمت أن ذلك كان بناء على طلب رئيس الوزراء.
ومن ذلك العهد أصبح قسم المرافعات نواة إدارة قضايا الحكومة الآن، وإن أَنْسَ فلن أنسى فضل صديقي الأستاذ الكبير مصطفى مرعي، حين تولَّى هذه الإدارة وطلب مني صورتي الشمسية ليضعها بمكتبه؛ تكريمًا لي باعتباري منشئ القسم وأول من تولى رئاسته، ولكنني شكرت فضله، واعتذرت عن عدم قبول طلبه، مكتفيًا بهذا الطلب تكريمًا وتقديرًا.
(٢) الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية
في سنة ١٩٣٣م احتفلت مصر بالعيد الخمسيني للمحاكم الأهلية، واشتركت في وضع كتابها الذهبي بمقالين؛ أحدهما: عن إدارة قضايا الحكومة (الجزء الأول ص٣٨٤–٤٠١)، والثاني: عن التسجيل (ص٤٣٥–٤٦٧).
هذا، وإذا جاز لنا أن نختم هذا المقال بأمنية، فإنا نرجو أن يُجعَل من لجنة قضايا الحكومة في القريب العاجل قضاءً خاصًّا للفَصْل في المنازعات التي تقوم بين الحكومة والأفراد على مثال مجالس الدولة في فرنسا.
لقد أصبح اختصاص المحاكم بنظر القضايا المرفوعة على الحكومة، على صورته الضئيلة المعهودة غير كافٍ لحماية الأفراد من تصرفات الإدارة، ولا يتلاءم مع ارتقاء روح التشريع في البلاد؛ فلا بد لتحقيق العدالة من أن تنشأ هيئة يكون لها سلطان على الإدارة تراقب أعمالها، توقف أو تلغي من أوامرها ما ترى فيه تجاوزًا في السلطة أو اعتداء على حق.
ولما كان النظام الدستوري لا يسلم بهذا الاختصاص لسلطة القضاء، عملًا بقاعدة الفصل بين السلطات؛ فإنا نرى أن خير هيئة تستطيع أن تقوم بهذا الاختصاص هي لجنة قضايا الحكومة.
فقد أثبت المستشارون الملكيون على اختلاف هيئاتهم استقلالًا في الرأي، وإنصافًا للأفراد في الحكم، وقدرة على التوفيق بين المصلحة العامة والمصالح الأخرى؛ فأصبحوا محلًّا لثقة الحكومة والأهلين على السواء.
ولن ترى الحكومة مانعًا من أن يكون المستشارون قضاتها الإداريين، فتزيل أسباب شكواها من اعتداء القضاء على سلطة الإدارة، وتطمئن الناس على عدالة تصرفاتها، فتضمن للحكم حسن السمعة، كلما حلَّتْ حكومة بعد أخرى. ويجد الأهلون من هؤلاء المستشارين قضاة أوسع سلطة من سلطة المحاكم على الإدارة، وأنْفَذ كلمة منها لديها، يحكمون بقواعد العدل ولا يتقيَّدون بنصوص القانون، قضاة يلجئون إليهم كلما أُقْفِلَتْ في وجوههم أبواب الإدارة، ويَصِلون إليهم بطريق الدعوى، لا بالالتماس والشكوى، قضاة يُحتكَم إليهم فيحكمون، لا حكامًا يُتظلَّم إليهم وقد لا يجيبون.
ولا شك أن تنفيذ هذا الإصلاح يحتاج إلى وضع نظام تامٍّ للقضاء الإداري، ولكن يمكن التمهيد لهذا الإصلاح من الآن بكلمة واحدة تجعل رأي المستشار الملكي قطعيًّا لا استشاريًّا كما هو الآن.
وقد تحقَّقَتْ أمنيتي بعد ثلاث عشرة سنة، فتقدَّمَت الحكومة بمشروع قانون بإنشاء مجلس الدولة، وكان من حسن حظي أن قُمْتُ أكثر من مرة بالدفاع عن هذا القانون في مجلس الشيوخ.