المنديل الأصفر
قال تشارلي: «لا أريد أن أُمْلِي عليكَ أفعالكَ يا فتى. لكنْ لديَّ اعتراضٌ شديد على أن تخوض حملةً أخيرة. لقد نجوتَ بسلامٍ من أوقاتٍ عصيبة واجهتَ فيها رجالًا أشدَّاء، وستكون حسرةً بالِغة إذا ما أصابك مكروه في نهاية المطاف هكذا.»
سألتُه بثقة الشباب الزائدة: «ولكن كيف لي أن أمنع نفسي من خوض حملة أخيرة؟ فكل شيءٍ لا بد أن تُكتَب له النهاية، كما تعلم.»
عقد تشارلي ساقَيه، وأسند ظهره، وفكَّر في المشكلة. ثم قال: «صحيح جدًّا. لكن لماذا لا نعتبر حملة القبض على ديميتريوس كونتوس هي الأخيرة؟ لقد عدتَ منها سالمًا ومفعمًا بالصحة والعافية، رغم كل ما أصابك من بللٍ شديد، و… و…» انقطع صوته هنا، ولم يتمكَّن من الكلام هنيهة. ثم أضاف: «ولن أسامح نفسي أبدًا إذا أصابك أي مكروهٍ الآن.»
ضحكتُ من مخاوف تشارلي لكني أذعنتُ في النهاية لطلبِه النابع من مَحبَّته، ووافقتُ أن أعتبر أنَّني خضتُ الحملة الأخيرة بالفعل. كنا قد قضَينا العامَين الماضيين معًا، والآن حان الوقت لأترُك دورية مكافحة صيد الأسماك الجائر لكي أعود وأكمل دراستي. فقد ربحتُ مالًا، وادَّخرتُ منه ما يكفي لأقضي ثلاث سنوات في المدرسة الثانوية، ومع أن بداية الفصل الدراسي لا تزال بعد عدة أشهُر، كنتُ أنوي أن أعكفَ على المذاكرة استعدادًا لامتحانات القبول.
كانت مُتعلقاتي معبَّأة بنظامٍ وإحكامٍ في صندوقٍ بحري، وبينما كنتُ على أُهبة الاستعداد لشراء تذكرتي وركوب القطار إلى أوكلاند، وصل نيل بارتينجتون إلى بنيسيا. قال إن مركبه الشراعي «ريندير» مطلوبٌ فورًا لإتمام بعض العمل في مكانٍ بعيدٍ في خليج نيويورك السفلي، وذكر أنه ينوي التوجُّه مباشرة إلى أوكلاند بأقصى سرعة. كانت أوكلاند موطنه، وكنا مُتفقِين على أن أعيش مع أُسرته في أثناء فترة دراستي، ولهذا السبب رأى أنني من المفترض أن أضع صندوق مُتعلقاتي على مركبه وأذهب معه.
ومِن ثَمَّ وضعتُ الصندوق على متن المركب، وعند منتصف الأصيل، رفعنا الشراع الرئيسي الكبير وفكَّكنا حبل المرساة لنتحرك. عذَّبنا الطقسُ الخريفي في ذلك اليوم. إذ اختفى نسيم البحر الذي هبَّ باستمرارٍ طيلة فصل الصيف، وحلَّت محله رياحٌ مُتقلِّبة وسماء مظلمة، ما صعَّب علينا التنبُّؤ بموعد الوصول إلى أي مكان. على أي حال، بدأنا الإبحار عند أول الجَزر، وبينما كنَّا ننساب في مضيق كاركينيز، ألقيتُ نظرة أخيرة طويلة على بنيسيا والخليج المُحاذي لحوض ترنر لصيانة السفن، حيث حاصرنا سفينة «لانكشاير كوين» من قبل وقبضنا على بيج أليك، المُلقَّب بملك اليونانيين. وعند مدخل المضيق نظرتُ باهتمامٍ كبيرٍ إلى المكان الذي كنت سأغرق فيه قبل بضعة أيامٍ لولا الخير الكامن في طبيعة ديمتريوس كونتوس.
وجدنا جدارًا ضخمًا من الضباب يتقدَّم عبر خليج سان بابلو ليُقابلنا، وبعد انقضاء بضع دقائق سار المركب متخبطًا وسط تلك العتمة الرطبة. بدا أنَّ تشارلي، الذي كان يتولَّى دفَّة القيادة، يبرع في هذا العمل بالفطرة. وقد اعترف بأنه هو نفسه لا يعرف كيف يفعل هذا؛ ولكن كانت لدَيه طريقة رائعة جدًّا في حساب الرياح والتيارات والمسافة والوقت والانجراف وسرعة الإبحار.
بعد بضع ساعات من دخولنا الضباب: «يبدو كأنه ينقشع. أين نحن برأيكَ يا تشارلي؟»
نظر تشارلي إلى ساعته، وقال غير مبالٍ: «الساعة الآن السادسة، وسيستمر الجَزر ثلاث ساعات أخرى.»
فكرَّر نيل سؤاله: «ولكن أين نحن برأيك؟»
فكَّر تشارلي هنيهة، ثم أجاب قائلًا: «لقد جرفَنَا المدُّ قليلًا عن مسارنا، ولكن إذا انقشع الضباب الآن، كما هو متوقَّع، فستجد أننا على بُعد أقل من ١٠٠٠ ميل عن رصيف ماكنير.»
تذمَّر نيل بنبرة تُبيِّن أنه لا يُوافقه على ذلك، وقال: «لكن يُفترَض أن تكون أدقَّ قليلًا في تحديد المسافة.»
قال تشارلي بنبرةٍ قاطعة: «حسنًا إذن، إنها لا تقلُّ عن رُبع ميل، ولا تزيد على نصف ميل.»
انتعشت الريح ببضع نفحاتٍ صغيرة، وتضاءل الضباب على نحوٍ ملحوظ.
قال تشارلي، وهو يُشير مباشرة إلى الضباب الموجود على جانب السفينة المواجِه للرياح: «إن رصيف ماكنير موجود هناك بالضبط.»
وبينما كنَّا نُحدق نحن الثلاثة باهتمامٍ إلى هذا الاتجاه، ارتطمت سفينتنا مُحدثة صوتًا مكتومًا وتوقفت تمامًا. فركضنا إلى المقدمة، ووجدنا عمودها المائل البارز من مُقدمتها متشابكًا وسط الحِبال المُمتدة من صارٍ آخر قصير وسميك. فقد اصطدمت وجهًا لوجه بسفينةٍ شراعية صينية راسية.
وفي اللحظة التي وصلنا فيها إلى المقدمة، خرج خمسة رجال صينيين من القمرة الصغيرة الواقعة بين سطحَي السفينة، كأنهم سربٌ من النحل، ورأيتُ النوم لا يزال يُخيم على أعيُنهم.
كان يقودهم رجلٌ ضخمٌ مفتول العضلات، وبدا مميزًا بينهم بسبب وجهه المليء بالندوب والمنديل الحريري الأصفر الملفوف حول رأسه. أدركتُ فورًا أنَّ ذلك هو «ذو المنديل الأصفر»، الرجل الصيني الذي اعتقلناه بتُهمة صيد الجمبري بطريقةٍ غير شرعية في العام السابق، والذي كاد يُغرِق مركب «ريندير» آنذاك، مثلما كاد يفعل في تلك اللحظة بانتهاكه قواعد الملاحة.
صاح فيه تشارلي بحدة: «ما الذي تريده أيها الهمجي ذو الوجه الأصفر بوقوفكَ هنا وسط ممرٍّ ملاحي دون أي إشارة تنبيه؟»
أجاب نيل بهدوء قائلًا: «ما الذي يريده؟ انظر هناك؛ هذا ما يريده.»
اتَّبعَت أعيُننا الاتجاه الذي أشار إليه نيل بإصبعه، فرأيناه يُشير إلى السطح المفتوح وسط السفينة الصينية، وحينما دقَّقنا النظر، وجدناه مُمتلئًا حتى نصفه بالجمبري الذي اصطادوه للتوِّ. رأينا مع الجمبري عددًا لا يُحصى من الأسماك الصغيرة التي تراوح حجمُها بين ربع بوصة وأكبر.
حينذاك استنتجنا أنَّ «ذا المنديل الأصفر» رفع شبكة الصيد حينما كانت المياه راكدة عند المد العالي، ثم ظلَّ مرابطًا في مكانه بكل جرأة، مُنتهزًا أنَّ الضباب يواريه عن الأنظار، وانتظر حتى يرفع الشبكة مرة أخرى في أثناء ركود المياه عند المد المنخفض.
همهم نيل، وغمغم قائلًا: «حسنًا، من واقع خبراتي المتنوعة والطويلة في العمل في دوريات مكافحة الصيد الجائر، يجب أن أقول إنني لم أُلقِ القبض على أحدٍ بمثل هذه السهولة من قبل. ماذا سنفعل بهم يا تشارلي؟»
أجاب تشارلي قائلًا: «سنقطر سفينتهم إلى سان رافاييل بالطبع.» ثم التفتَ نحوي. وقال: «انتظر على سفينتهم يا صاح، وسأُمرِّر إليكَ حبل القطر. إذا لم تخذلنا الرياح، سنصل إلى الجدول قبل أن ينخفض المد كثيرًا، ونبيت في سان رافاييل، ثم نصل إلى أوكلاند غدًا بحلول منتصف النهار.»
وبعدما قال تشارلي ذلك، عاد هو ونيل إلى مركب «ريندير» وبدأ الإبحار به، قاطرًا السفينة الصينية من خلفه. أمَّا أنا، فذهبتُ إلى مؤخرة هذه السفينة الصينية التي غنمناها وتوليتُ دفة قيادتها؛ إذ أخذتُ أُوجِّهها بواسطة ذراع توجيه عتيقة ودفة ذات فتحات كبيرة تندفِع المياه من خلالها ذهابًا وإيابًا.
بحلول ذلك الوقت كان الضباب قد انقشع عن آخِره، واتضح لنا أن تشارلي كان مُحقًّا في تقديره لموقعنا حين رأينا رصيف ماكنير على بُعد نصف ميل فقط. واصلنا السير بطول الشاطئ الغربي، ثم التففنا حول رأس «بوينت بيدرو» حتى أصبحنا على مرأًى من قرى الجمبري الصينية، وعندئذٍ ثارت ضجةٌ كبيرة بين أهاليها حينما رأوا إحدى سفنهم الصينية مقطورة خلف المركب الشراعي المألوف المسئول عن مكافحة الصيد الجائر.
كانت الريح القادمة من البر مُتقطعة ومتقلبة نوعًا ما، لكننا كنا نتمنَّى أن تكون أقوى من ذلك لتساعدنا. فجدول سان رافاييل، الذي تحتَّم علينا الوصول إليه لبلوغ المدينة وتسليم سجنائنا إلى السلطات، كان يمرُّ وسط مستنقعاتٍ واسعة، وكان يصعب الإبحار فيه في أثناء تراجُع المد، بل والأدهى أن الإبحار فيه عند انحسار المد بالفعل كان مستحيلًا تمامًا. لذا فمع انحسار المد إلى نصف مستواه بالفعل، تعيَّن علينا أن نُسابق الزمن. غير أن السفينة الصينية الثقيلة منعت ذلك؛ إذ كانت تمضي بتثاقلٍ في الخلف، وتعوق مركبنا بسبب وزنها الثقيل.
ناداني تشارلي أخيرًا، وقال: «مُرْ هؤلاء الحمقى بأن يرفعوا شراع سفينتهم. لا نريد أن نبقى في تلك المياه الضحلة الطينية بقية الليل.»
كررتُ الأمر على «ذي المنديل الأصفر»، فنقله إلى رجاله بتمتمة مبحوحة. كان يُعاني نزلة بردٍ شديدة جعلته ينحني ويتشنَّج من شدة نوبات السُّعال، وجعلت عينَيه ثقيلتَين ومحمرَّتين. وهكذا بدا مظهره أشرَّ من أي وقتٍ مضى، وحينما حدَّق إلى وجهي بشراسةٍ انتابتني قشعريرة؛ إذ تذكرتُ نجاتي منه بأعجوبة في المرة السابقة التي اعتقلناه فيها.
أمسك رجاله بحِبال رفع الشراع وأخذوا يشدُّونها بوجوهٍ متجهمة، وعندئذٍ ارتفع الشراع العجيب ذو الشكل المُثلَّثي والمصبوغ بلونٍ بُنِّي مائل إلى الحُمرة في الهواء. كنَّا نُبحر في اتجاهٍ قريب من اتجاه هبوب الريح، وعندما ضبط ذو المنديل الأصفر زاوية الشراع، انطلقت السفينة الصينية إلى الأمام فجأة، وارتخى حبل القَطر. ومع أنَّ مركب «ريندير» كان سريعًا، فاقته السفينة الصينية سُرعة؛ ولكي أتفادى الاصطدام بها، غيرتُ مسارنا قليلًا لأجعله أقرب إلى مواجهة اتجاه هبوب الريح. لكنَّ السفينة الصينية كانت أقدر على الإبحار في اتجاه الريح أيضًا، وفي بضع دقائق وجدتُ نفسي أبحر بجوار مركب «ريندير»، وأصبحتُ مواجهًا لاتجاه الريح تمامًا. أصبح حبل القطر مشدودًا بالعرض بين السفينتَين، وكان المأزق مضحكًا.
صحتُ قائلًا: «فُك الحبل!»
تردَّد تشارلي.
فأضفتُ: «لا داعي للقلق. لن تحدُث أي مشكلات. سنصِل إلى الجدول لو بقِينا على هذا المسار، وستكون خلفي مباشرةً طوال الطريق حتى سان رافاييل.»
حينها فكَّ تشارلي الحبل، وأرسل ذو المنديل الأصفر أحدَ رجاله إلى المقدمة ليسحب الحبل إلى السفينة الصينية. اشتد الظلام من حولنا، ولم يسعني سوى رؤية مصبِّ جدول سان رافاييل، وبحلول الوقت الذي دخلناه فيه، كدت ألا أرى ضفتَيه. كان مركب «ريندير» متأخرًا عنَّا بخمس دقائق كاملة، وواصلنا الابتعاد عنه بينما كنا نمضي قُدُمًا عكس اتجاه الريح في القناة الضيقة المُتعرِّجة. طمأنني وجود تشارلي خلفنا، وارتأيتُ أنه لا داعي للخوف من سجنائي الخمسة؛ لكنَّ الظلام منعني من مُراقبتهم عن كثب، لذا نقلتُ مسدسي من جيب بنطالي إلى الجيب الجانبي لمعطفي، ليكون أقرب إلى يدي تحسبًا لوقوع أي شيء.
لم أكن أشعر بالخوف إلا من «ذي المنديل الأصفر»، وستُظهر الأحداث اللاحقة أنه أدرك ذلك، واستطاع أن يستغلَّه. كان يجلس على مسافة بضع أقدام منِّي، وتصادف أن مكان جلوسه حينئذٍ كان على جانب السفينة المواجه للرياح. لم أكن أراه بوضوح، لكنني سرعان ما صرتُ على يقينٍ أنه يقترب مني ببطء شديد. لذا ظللتُ أراقب تحركاته بعناية. وبينما كنت أوجِّه الدفة بيدي اليسرى، أدخلتُ يدي اليمنى في جيبي، وأمسكت المسدس.
رأيته يتحرك بضع بوصاتٍ نحوي، فهممتُ بأن آمُره بالتراجع — حتى إن الكلمات كانت على طرف لساني بالفعل — لكني تلقيتُ صدمةً قوية من جسمٍ ثقيلٍ قفز في الهواء ثم نزل فوقي من الجانب الآخر للسفينة. كان ذلك أحد رجاله. ثبَّت ذراعي اليمنى حتى لا أتمكَّن من سحب يدي من جيبي، وفي الوقت نفسه أطبق يَده الأخرى على فمي. بطبيعة الحال كنت أستطيع أن أقاوم حتى أتملَّص منه وأحرِّر يدي أو أفتح فمي لأصرخ صرخة استغاثة، لولا أنني وجدتُ «ذا المنديل الأصفر» فوقي في لمح البصر.
ظللتُ أُقاوم بلا جدوى في أرضية السفينة، بينما كانت أطرافي مُقيَّدة وفمي مُكمَّمًا بإحكامٍ بقماشة اكتشفتُ فيما بعد أنها قميص قطني. ثم تُركت مُستلقيًا على أرضية السفينة. أمسك «ذو المنديل الأصفر» ذراع الدفة، وأخذ يُصدر أوامره همسًا؛ أدركتُ من موقعنا في تلك اللحظة، ومن تغيير زاوية الشراع الذي استطعت تمييزه بصعوبة فوقي كبقعةٍ مُظلمة وسط النجوم، أن السفينة الصينية متجهة إلى مصبِّ مستنقعٍ صغير حيث يُفرغ مياهه في جدول سان رافاييل.
وفي غضون دقيقتين، كنا نمضي بهدوءٍ على طول الضفة، وأُنزِل الشراع بصمتٍ تام. لم يُصدر الصينيون أي صوت. إذ جلس «ذو المنديل الأصفر» على الأرضية بجانبي، وشعرت به يبذل قصارى جهده ليكتم سُعاله الخشن المتكرر. وبعد ذلك بسبع دقائق أو ثمانٍ تقريبًا، سمعت صوت تشارلي في الوقت الذي كان فيه مركب «ريندير» يتخطى مصب المستنقع.
سمعتُه بوضوحٍ وهو يقول لنيل: «لا أستطيع أن أصف لك مدى ارتياحي لأنَّ الفتى أنهى عملَه في دورية مكافحة الصيد الجائر دون أن يُصيبه مكروه.»
عندئذٍ قال نيل شيئًا لم أسمعه، ثم سمعتُ تشارلي يضيف:
«الشاب موهوب في العمل في البحر بالفطرة، وإذا خاض دورةً تدريبية في الملاحة ودخل إلى المياه العميقة عندما يُنهي دراسته الثانوية، فلا أرى أي سببٍ يمنعه من أن يترقَّى ويُصبح رُبَّانًا لأفخم وأكبر سفينة في الدنيا.»
كان هذا الكلام يحمِل إطراءً بالغًا لي، ولكن لأنني كنتُ مستلقيًا هناك، مقيدًا ومُكممًا في قبضة سجنائي، ولأن صوتَي تشارلي ونيل أخذا يتلاشيان رويدًا رويدًا مع تحرُّك مركب «ريندير» وسط الظلام نحو سان رافاييل، يلزمني أن أقول إنني لم أكن في وضعٍ مناسبٍ على الإطلاق للاستمتاع بتخيُّل مستقبلي الباهر. ضاع أملي الأخير مع مركب «ريندير». لم أستطع أن أتخيل ما سيحدث بعد ذلك، لأن الصينيين كانوا عِرقًا مختلفًا عن عرقي، ومما أعرفه عنهم، كنت واثقًا أن الشرف والمروءة ليسا من طبيعتهم.
انتظروا بضع دقائق أخرى، ثم رفعوا الشراع المثلث، وبدأ «ذو المنديل الأصفر» يوجِّه السفينة نحو مصب جدول سان رافاييل. كان المد ينحسر، ما صعَّب عليه الإفلات من الضفاف المُوحلة. تمنيتُ عندئذٍ أن تنغرس السفينة هناك، لكنه نجح في الوصول إلى الخليج دون التعرُّض لأي حادث.
وبينما كنا نُغادر الجدول، دارت مناقشة صاخبة تيقنتُ أنها متعلقة بي. كان «ذو المنديل الأصفر» يتحدث باحتدام، لكنَّ الأربعة الآخرين عارضوه بالقدْر نفسه من الاحتدام. بدا واضحًا جدًّا آنذاك أنه كان يقترح قتلِي وأنهم كانوا خائفين من عواقب ذلك. فقد كنتُ أعرف من درايتي بطبيعة الشخصية الصينية أن الخوف وحدَه هو الذي يردعُهم عن فعلٍ كهذا. لكني لم أستطع استنتاج الخطة البديلة التي اقترحوها بدلًا من قتلي كما أراد «ذو المنديل الأصفر».
لكُم أن تتخيلوا شعوري آنذاك وأنا أرى مصيري مرهونًا هكذا. احتدم النقاش حتى تحوَّل إلى مشادَّة عنيفة، وفي خِضمِّ تلك المشادة، وجدتُ «ذا المنديل الأصفر» يفكُّ ذراع الدفة الثقيلة من مكانها ويقفز نحوي. لكن رفاقه الأربعة اندفعوا ليحُولوا بيننا، وتصارعوا معه بعشوائية ليأخذوا منه الذراع. وفي النهاية تغلَّبوا عليه، فعاد عابسًا إلى دفة قيادة السفينة وسط توبيخاتٍ شديدة منهم على تهوُّره.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ بعد ذلك حتى أنزِلَ الشراع وبدءوا يدفعون السفينة ببطء إلى الأمام باستخدام المجاديف. شعرت بها تتوقَّف بهدوءٍ على الوحل الليِّن. ثم ترجَّل ثلاثة من الصينيين — الذين كانوا جميعًا يرتدون أحذية طويلة مُخصصة للعمل البحري — من السفينة، ووجدتُ الاثنين الآخرين يحملانني ويُمرِّرانني إليهم من فوق حافة السفينة. حملني «ذو المنديل الأصفر» من ساقَي فيما حملني رفيقاه من عند كتفَي، ثم بدءوا يسيرون بي وهم يتعثَّرون وسط الوحل. وبعد مرور بعض الوقت، أضحت خُطى أقدامهم أكثر ثباتًا وأدركتُ أنهم كانوا يحملونني إلى شاطئٍ ما. كنتُ متيقنًا تمامًا من موقع هذا الشاطئ. بدا من المؤكد أنه شاطئ إحدى جُزر مارين، وهي مجموعة من الجُزر الصخرية الصغيرة التي تقع قبالة شاطئ مقاطعة مارين.
وعندما وصلوا إلى الرمال الصلبة التي بقِيَت بعد انحسار المد عن الشاطئ، رموني عليها بمنتهى القسوة. وركلني ذو المنديل الأصفر بتشفٍّ في ضلوعي، ثم عاد الثلاثة إلى سفينتهم وهم يتعثَّرون في الوحل. وبعد لحظة سمعتُ الشراع يرتفع ويرفرف في مهبِّ الريح وهم يشدُّون حِباله. ثم خيَّم الصمت، وتُركتُ لأُحرر نفسي بنفسي.
تذكرتُ أنني رأيت بعض ممارسي الحيل السحرية من قبل وهُم يلوون أجسادهم حتى يتملَّصوا من الحِبال التي تُقيِّدهم، فأخذتُ أتلوَّى بكلِّ ما أوتيت من قوة، لكن العُقَد ظلَّت مُحكَمة كما هي، ولم ترتخِ أي ارتخاءٍ ملحوظ. ولكن بينما كنت أتلوَّى، تدحرجتُ على كومة من أصداف المحار؛ وبدا لي أنها كانت بقايا وليمة من المأكولات البحرية على أحد اليخوت. فتفتَّق ذهني عن فكرة. كانت يداي مُقيدتَين خلف ظهري؛ لكني استطعتُ الإمساك بإحدى الأصداف، وظللتُ أتدحرج مرارًا وتكرارًا فوق الشاطئ، حتى وصلتُ إلى الصخور التي كنتُ أعرف أنها هناك.
وبعدما ظللتُ أتدحرج وأبحث كثيرًا، عثرت أخيرًا على شقٍّ ضيق فحشرتُ فيه الصدفة. كانت حافة الصدفة حادة، لذا بدأت أحكُّ بها الحبل الذي كان يُقيد معصمَي. غير أنها كانت هشة أيضًا، وانكسرت من قوة الضغط عليها. عندئذٍ عدتُ إلى الكومة، ورجعتُ بأكبر عددٍ ممكن من الأصداف التي استطعتُ حملها بكلتا يدي. وهكذا كسرت أصدافًا عديدة، وجرحت يدي عدة مرات، وأصبتُ بتقلصاتٍ عضلية في ساقي من وضعية جسدي المشدودة ومجهودي البدني المضني.
وبينما كنتُ أعاني التقلصات وأستريح قليلًا، سمعت صوتًا مألوفًا يُناديني عبر الماء. كان صوت تشارلي الذي جاء يبحث عني. لكن الكمامة التي كانت في فمي منعتني من الرد، ولم يسعني إلا الاستلقاء هناك وأنا أستشيط غضبًا بلا حولٍ وبلا قوة، بينما كان تشارلي يُجدف مبتعدًا عن الجزيرة وصوته يتلاشى رويدًا رويدًا.
عاودتُ حكَّ الحبل، وبعد نصف ساعة نجحت في قطعه أخيرًا. وكان الباقي سهلًا. فحالما حررتُ يدَي، لم تمر بضع دقائق حتى حللتُ وثاق ساقَي، وأخرجتُ الكمامة من فمي. ركضتُ حول الجزيرة لأتيقن من أنها جزيرة وليست جزءًا من البر الرئيسي بأي حالٍ من الأحوال. فتبيَّن لي أنها إحدى جُزُر مارين بالفعل، ووجدتُها محفوفة بشاطئ رملي ومحاطة ببحرٍ من الوحل. لم يكن أمامي عندئذٍ سوى الانتظار حتى ضوء النهار وتدفئة جسدي؛ إذ كانت تلك ليلةً باردة وقارسة مُقارنة بليالي كاليفورنيا المعتادة، كما كانت مُفعمة برياحٍ شديدة تخترق الجلد وتجعل المرء يرتعش.
وحتى أظل شاعرًا بالدفء ومحافظًا على سريان الدم في أوصالي، ركضتُ حول الجزيرة نحو عشر مرات، وتسلَّقتُ الجزء الصخري المُمتد بطولِ منتصفها نحو ٢٠ مرة؛ وقد اتضح لي بعدئذٍ أن كل ذلك لم يُدفئني فحسب، وإنما أفادني بأكثر مما كنتُ أتوقع. ففي خِضم هذه التمارين البدنية، تساءلت عما إذا كنت قد فقدت أي شيءٍ من جيوبي في أثناء التدحرج مرارًا وتكرارًا على الرمال. واكتشفتُ بالفعل أنني فقدت مُسدَّسي وسكين الجيب. فقد أخذ «ذو المنديل الأصفر» المُسدس؛ لكن السكين ضاعت في الرمال.
وبينما كنتُ أبحث عنها، سمعتُ صوت مجاديف. تبادَر إلى ذهني أن تشارلي هو القادم بالطبع؛ ولكن بعدما أمعنتُ التفكير، أدركت أن تشارلي كان سيُنادي بأعلى صوته وهو يُجدِّف. عندئذٍ اجتاحني شعور مفاجئ بالخطر. فجُزُر مارين منعزلة؛ ومن الصعب أن يأتي إليها أحدٌ بالصدفة في جوف الليل. ماذا لو كان ذا المنديل الأصفر؟ صار صوت المجاديف أوضح. فجثمتُ على الرمال وأرهفت السمع. حينئذٍ كان القارب، الذي استنتجتُ من ضربات المجداف السريعة أنه زورق صغير، يستقر في الوحل على بُعد ٥٠ ياردة تقريبًا من الشاطئ. سمعتُ سُعالًا خشنًا مُتكررًا، فتوقف قلبي عن النبض. اتضح أنه «ذو المنديل الأصفر». ولكيلا يحرمه رفاقه الحذِرون من الانتقام، تسلَّل خلسةً من القرية وعاد وحده.
أخذتُ أفكر بسرعة. كنت أعزَلَ وعاجزًا على جزيرة صغيرة، ومُطارَدًا من بربري آسيوي كان لديَّ مُبرر قوي للخوف منه. ارتأيتُ عندئذٍ أن أي مكان آخر سيكون أكثر أمنًا من الجزيرة، وقادتني غريزتي إلى التوجُّه نحو الماء، أو بالأحرى إلى الوحل. وعندما بدأ يمشي بخُطًى مُتعثِّرة وسط الوحل إلى الشاطئ، بدأت أخوض في الوحل بخُطًى متعثِّرة، متَّبعًا المسار نفسه الذي سلكه الصينيون حين أنزلوني وعادوا إلى سفينتهم.
لم يتوخَّ «ذو المنديل الأصفر» أي حذَر، معتقدًا أنني مُقيَّد بإحكام، وإنما وصل إلى الشاطئ بصخب. وقد أفادني ذلك؛ إذ انتهزت فرصة ضجيجه الذي طغى على أصوات تحرُّكاتي التي جعلتُها خافتةً قدر الإمكان، ومن ثَمَّ استطعتُ أن أقطع ٥٠ قدمًا قبل أن يصل إلى الشاطئ. وعندئذٍ استلقيتُ في الوحل. كان الجو باردًا ورطبًا، وجعلني أرتعش، لكنني لم أرغب في الوقوف والمجازفة بأن تُبصرني عيناه الثاقبتان.
سار على الشاطئ مباشرةً إلى حيث تركوني مُستلقيًا، وانتابني شعور عابر بالندم لأنني لم أتمكَّن من رؤية دهشته عندما لم يجدني. لكن ذلك الشعور كان عابرًا جدًّا، لأن إحساسي بالبرد الشديد طغى عليه، وجعل أسناني تصطك.
بعدئذٍ اضطررتُ إلى تخمين معظم تحركاته بناء على حقائق الموقف الراهن، لأنني كدتُ ألا أراه في ضوء النجوم الخافت. لكنني كنتُ على يقينٍ من أن أول شيء فعله هو الدوران حول الشاطئ ليعرف ما إذا كانت أي قوارب أخرى قد رست على الجزيرة أم لا. كان ليعرف ذلك فورًا من الآثار المتروكة في الوحل.
ولمَّا تيقن من أنني لم أُغادر الجزيرة بأي قارب، حاول تخمين ما حلَّ بي. بدأ من كومة أصداف المحار، وأشعل بعض أعواد الثقاب واحدًا تلوَ الآخر ليتتبَّع آثاري في الرمال. كنت أرى وجهه الشرير بوضوحٍ في هذه اللحظات، وحينما كان الكبريت المنبعث من أعواد الثقاب يُهيِّج رئتَيه، أعترفُ بأن صوت سُعاله الخشن مع الوحل الرطب الذي كنتُ مُستلقيًا فيه جعلاني أرتعِد أكثر من أي وقتٍ مضى.
حيَّره تعدُّد آثار أقدامي. لا بد أنه خمَّن عندئذٍ أنني ربما أكون في الوحل، لأنه خاض فيه ومشى بضع ياردات نحوي، ثم انحنى وأخذ يُدقِّق بعينَيه طويلًا في السطح المعتم. من المؤكد حتمًا أنه في هذه اللحظة كان على مسافةٍ تقل عن ١٥ قدمًا مني، ولو أنه أشعل عود ثقاب لرآني بالتأكيد.
عاد إلى الشاطئ، وراح يتسلَّق الشريط الصخري وهو يبحث عني مجددًا بأعواد ثقابٍ مشتعلة، ودفعني إفلاتي منه بأعجوبة إلى مواصلة الهرب. لم أجرؤ على الخوض في الوحل منتصبًا على قدمَي، لأتفادى الضجيج الذي قد ينشأ من تعثُّر خطواتي والتصاق الوحل بقدمَي، لذا ظللتُ مستلقيًا، وأخذتُ أدفع جسدي فوق سطح الوحل بيدَي. بقيتُ ملازمًا لآثار الأقدام التي تركها الصينيون في مجيئهم ورحيلهم، وظللتُ أتبعها حتى وصلت إلى المياه. عندئذٍ خضتُ فيها حتى عمق ثلاث أقدام، ثم انعطفت جانبًا على مسار مستقيم موازٍ للشاطئ.
خَطَر ببالي أن أذهب إلى قارب «ذي المنديل الأصفر» وأهرب فيه، لكنه عاد إلى الشاطئ في اللحظة نفسها، وكما لو كان متخوفًا من الفكرة التي راودتني، اندفع خلال الوحل ليطمئنَّ أن قاربه ما زال موجودًا. جعلني هذا أسلك الاتجاه المعاكس. ثم أخذت أسبح بنصف جسدي، وأخوض في المياه بالنصف الآخر مُخرجًا رأسي خارج سطح المياه مباشرةً لأتجنَّب إحداث رذاذٍ، وهكذا نجحتُ في الابتعاد نحو ١٠٠ قدم عن الموضع الذي ترجَّل عنده الصينيون من سفينتهم وبدءوا يخوضون في المياه نحو الشاطئ. ثم سحبتُ جسدي خارج المياه واستلقيت على الوحل.
عاد «ذو المنديل الأصفر» مرةً أخرى إلى الشاطئ وراح يُمشط الجزيرة، ورجع مجددًا إلى كومة أصداف المحار. كنتُ أعرف ما يدور في ذهنه بالضبط. فلا بد أنه أدرك أن لا أحد يمكن أن يُخرِج أحدًا من الجزيرة أو يحطَّ عليها دون أن يترك آثارًا في الوحل. وكانت الآثار الوحيدة التي يمكن رؤيتها هي تلك الممتدة من قاربه ومن المكان الذي رست سفينتهم الصينية فيه. لم يَجِدني في الجزيرة. لذا كان متيقنًا تمامًا من أنني تركتها عبر أحد المسارَين اللذين رسمتهما تلك الآثار. ونظرًا إلى أنه كان يمشي للتوِّ على الآثار المؤدية إلى قاربه الصغير، فقد تيقَّن من أنني لم أغادر عبر هذا الطريق. وبذلك تبيَّن له أنني حتمًا قد غادرت الجزيرة عبر مسار الآثار الممتدة من مكان رسو السفينة الصينية. وهكذا بدأ يتفحص تلك الآثار بالخوض في الوحل والسير عليها بنفسه، وأخذ يشعل أعواد الثقاب واحدًا تلوَ الآخر في أثناء ذلك.
وعندما وصل إلى البقعة التي استلقيتُ فيها أول مرة، عرفتُ، من كثرة أعواد الثقاب التي أشعلها والوقت الذي استغرقه هناك، أنه وجد العلامات التي تركها جسدي. تبع تلك العلامات مباشرةً ووجد أنها تقود إلى داخل المياه، لكنه لم يعُد يرى بقيتها لأنها كانت على عُمق ثلاث أقدام تحت الماء. ولكن لأن المدَّ كان لا يزال ينحسر، استطاع بسهولةٍ أن يرى الأثر الذي تركته مقدمة السفينة الصينية بوضوح، وكان في مقدوره أيضًا أن يرى أثر أي قارب آخر استقر في تلك البقعة بالأخص. لكن لم يكن هناك أي أثرٍ لقوارب أخرى؛ وأدركتُ أنه صار موقنًا تمامًا بأنني مُختبئ في مكانٍ ما في الوحل.
لكن البحث عن صبيٍ مختبئ في بحرٍ من الوحل في ليلة ظلماء سيكون أشبه بالبحث عن إبرةٍ في كومة قش، لذا لم يُحاول ذلك. وإنما عاد أدراجه إلى الشاطئ، وظلَّ يتجوَّل خلسة بعض الوقت. كنتُ آمل أن يتخلى عن الرغبة في الإمساك بي ويرحل، لأنني بحلول ذلك الوقت كنت أعاني بشدة من البرد. وأخيرًا، خاض في المياه حتى ركب قاربه الصغير ورحل مُجدِّفًا به. لكن ماذا لو كان رحيله خدعة؟ ماذا لو أنه فعل ذلك لمجرد أن يستدرجني إلى الشاطئ؟
أخذتُ أفكر في الأمر، وعندئذٍ ازداد يقيني من أنه تعمَّد إحداث ضجيجٍ عالٍ بمجاديفه وهو يرحل بقاربه. فبقيتُ مُستلقيًا في الوحل وأنا أرتعش. ظللتُ أرتعش حتى أوجعتني عضلات الجزء السفلي من ظهري وصارت تؤلِمني بشدة كألَم البرد، وتمالكتُ نفسي بكل ما أُوتيت من قوة لأجبر نفسي على البقاء في تلك الوضعية البائسة.
لكن تصرُّفي كان صائبًا لأنني، بعد نحو ساعة تقريبًا، هُيِّئ لي أنني أرى شيئًا يتحرك على الشاطئ. فأمعنتُ النظر، لكن أُذني كوفئت أولًا؛ إذ سمعتُ سُعالًا خشنًا متكررًا أعرفه جيدًا. فقد عاد «ذو المنديل الأصفر» متسللًا، وحطَّ بقاربه على الجانب الآخر من الجزيرة، وأخذ يتمشَّى خلسة ليُباغتني إذا وجدني قد عُدت.
بعدئذٍ خشيتُ العودة إلى الجزيرة على الإطلاق، رغم مرور ساعات دون أن يظهر له أي أثر. لكني في الوقت نفسه كنتُ خائفًا كذلك من أن أموت من شدة الظروف القاسية التي كنتُ أمرُّ بها. لم أتخيَّل قَطُّ أن أحدًا يمكن أن يُعاني مثل هذه المعاناة. اشتد عليَّ البرد، وشعرتُ بالخدر الشديد حتى توقف جسدي عن الارتعاش. لكن آلام عضلاتي وعظامي بدأت تُعذبني. كان المد قد بدأ يرتفع منذ وقتٍ طويل، وظل يدفعني رويدًا رويدًا نحو الشاطئ. وصلت المياه إلى أعلى مستوًى لها في الساعة الثالثة، وعندئذٍ رفعتُ جسدي إلى الشاطئ وأنا أكاد أحتضر وأشعر بعجزٍ تامٍّ عن إبداء أي مقاومة لو انقض عليَّ «ذو المنديل الأصفر».
غير أنه لم يظهر على الإطلاق. فقد تخلَّى عن الإمساك بي وعاد إلى «بوينت بيدرو». لكني كنتُ في حالة يُرثى لها، إن لم نقُل خطرة. فلم أستطع الوقوف على قدمَي، فضلًا عن المشي عليهما. وكانت ثيابي الرطبة والموحلة ملتصقة بجسدي كصفائح من الجليد. حتى إنني ظننتُ أنني لن أخلعها أبدًا. فأصابعي كانت خدرة وخاملة وواهنة بشدة إلى درجة أن خلع حذائي استغرق ساعةً كاملة. فلم أكن أقوى على فك أربطته المصنوعة من جلد الخنزير، وعاندتني العُقَد المربوطة بإحكام. أخذتُ أضرب الصخور بيدَي مِرارًا وتكرارًا لأبعث فيهما شيئًا من الحيوية. وراودني في بعض اللحظات شعور بأنني هالك لا محالة.
لكن في النهاية، بعد وقتٍ طويلٍ مرَّ عليَّ كأنه قرون عديدة، خلعتُ آخر قطعةٍ من ثيابي. كانت المياه عندئذٍ على مقربة منِّي فزحفت إليها متألمًا وغسلت جسدي عاريًا من الطين. لكني لم أستطع الوقوف على قدمي والمشي، وكنت أخشى الاستلقاء ساكنًا. لذا لم يبقَ أمامي سوى أن أزحف بوهنٍ على الرمال جيئة وذهابًا كالحلزون، رغم الألم المُستمر. واصلتُ الزحف هكذا قدر المُستطاع، ولكن بينما أخذ الظلام ينقشع جهة الشرق مع بزوغ الفجر، بدأتُ أستسلم. تحوَّل لون السماء إلى الأحمر الوردي، وظهرت حافة الشمس الذهبية فوق الأفق، لتجدني مُستلقيًا في سكونٍ تامٍّ بلا حول وبلا قوة بين أصداف المحار.
هُيِّئ لي عندئذٍ أنني أرى الشراع الرئيسي المألوف لمركب «ريندير» وهو يخرج بهدوء من جدول سان رافاييل مع نفخةٍ خفيفة من هواء الصباح، كأنني في حُلم. كان حلمًا متقطعًا جدًّا. حتى إنني لا أستطيع تذكُّر بعض أجزائه أبدًا مهما حاولت استرجاعها. لكني لا أزال أتذكر ثلاثة أشياء بوضوحٍ تام: النظرة الأولى التي رأيتُ فيها شراع «ريندير» في أثناء رسوه على بُعد بضع مئات الأقدام مني وبجانبه قارب صغير يتَّجِه نحوي؛ وموقد القمرة وهو يشتعل بنيران حمراء متوهجة؛ وجسدي وهو ملفوف تمامًا بالبطانيات، باستثناء الصدر والكتفَين، اللذين كان تشارلي يدلكهما بكل قوة، وفمي وحلقي وهما يحترقان من القهوة الساخنة التي كان نيل بارتينجتون يسكبها فيهما.
لكن حتى رغم هذا الاحتراق، كُلي يقين أن ذلك منحني شعورًا جيدًا. وبحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى أوكلاند، صرتُ رشيقًا وقويًّا كدأبي دائمًا، مع أن تشارلي ونيل بارتينجتون كانا يخشيان أن أُصاب بالتهابٍ رئوي، وظلَّت السيدة بارتينجتون تُراقبني بقلقٍ طيلة الأشهر الستة الأولى من دراستي تحسبًا لظهور أي بوادر لإصابتي بالسُّل.
ما أسرع الزمن! يبدو لي أنني بالأمس فقط كنت فتًى في السادسة عشرة من عمره في دورية مكافحة الصيد الجائر. ولكن ها أنا الآن قد وصلت صباح اليوم من الصين في رحلةٍ سريعة بفضل كفاءتي، وأصبحت رُبان سفينة «هارفستر» ذات الأشرعة الثلاثة. وأعلم أنني سأذهب صباح غدٍ إلى أوكلاند لألتقي نيل بارتينجتون وزوجته وعائلته، ثم سأذهب لاحقًا إلى بنيسيا لألتقي تشارلي لو جرانت ونتحدَّث معًا عن الأيام الخوالي. كلَّا؛ لن أذهب إلى بنيسيا. فقد تذكرتُ الآن أنني يُفترض أن أحضر عُرسًا مهمًّا جدًّا سيُقام قريبًا. فأليس ابنة بارتينجتون ستتزوج، ولأن تشارلي وعد بأن يكون إشبين العريس، فسيتعيَّن عليه المجيء إلى أوكلاند بدلًا من البقاء في بنيسيا.