عدالة وابتسام

الجمعة ١٦ أبريل

رياح عاتية. يجعلني هبوب الرياح الجافة والقوية في ربيع طوكيو أمتعض. اقتحمَ الترابُ الغرفةَ وبات سطح مكتبي خشنًا من تراكم التراب عليه، وكثر التراب على وجنتيَّ فعكَّر مِزاجي. يجب أن أنتهي من الكتابة ثم أستحم. أشعر أن التراب قد تسلل حتى ظهري ولا أستطيع تحمله.

قررتُ أن أبدأ كتابة يومياتي من اليوم؛ لأنني بدأت أشعر مؤخرًا أن كل يوم من حياتي في منتهى الأهمية. لقد قال روسو — على ما أذكر — إن شخصية الإنسان تتشكل في الفترة ما بين السادسة عشرة والعشرين من عمره، وربما كان ذلك صحيحًا. وقد بلغتُ أنا أيضًا السادسة عشرة من عمري بالفعل فصدر صوت قرقعة تعلن عن تغير الإنسان الذي كنتُه تغيرًا تامًّا. ويستحيل أن يلاحظ الآخرون هذا. لأنه تغيير ميتافيزيقي إن صح التعبير. في الواقع ما إن بلغت السادسة عشرة حتى بدأت أرى الجبال والبحار والزهور والناس في الطرقات والسماء الزرقاء بطريقة مختلفة تمامًا. وأدركتُ قليلًا وجود الشر. استطعت أن أتوقع بضبابية أن الشر معضلة عويصة في هذا العالم، ولكنه موجود في الواقع بكثرة وعنف. ولهذا السبب بتُّ مؤخرًا متعكر المزاج. وصرت غضوبًا بدرجة شنيعة. يقال إن تناول ثمرة المعرفة يُفقد الإنسان ابتسامته. لقد كنت فيما مضى مرحًا وبارعًا في تعمد إظهار فشلي وغبائي حتى أجعل أهلي يضحكون، ولكن بدأت مؤخرًا أشعر أن ذلك المزاح الساذج حماقة شديدة. لا يمزح إلا الشاب الذليل. لم أعد أطيق تلك الوحدة التي تجعل المرء يمزح حتى يحبه الآخرون. مجرد خواء. يجب على الإنسان أن يعيش بجدية أكثر من ذلك. ولا يجب على الشاب أن يطلب الحب من الآخرين. بل يجب عليه أن يبذل كل جهده لكي يحصل منهم على «الاحترام والتبجيل». ويبدو أن ملامح وجهي مؤخرًا باتت حادة. حادة أكثر من اللازم لدرجة أن أخي الأكبر نصحني في نهاية المطاف الليلة الماضية قائلًا:

سوسومو! تبدو مهمومًا مؤخرًا. وهذا يجعلك تبدو عجوزًا.

قال أخي ذلك ضاحكًا بعد وجبة العشاء. ففكرت بعمق ثم أجبتُ عليه قائلًا.

لدي مسائل صعبة بشأن الحياة. يجب علي القتال من الآن فصاعدًا.

على سبيل المثال: نظام الاختبارات في المدرسة …

عندما بدأت قول ذلك انفجر أخي ضاحكًا: مفهوم. ولكن لا ضرورة لكي تظل متحفزًا بذلك الوجه المخيف كل يوم. ويبدو أنك نحفت مؤخرًا. دعني أقرأ عليك فيما بعد الإصحاح السادس من إنجيل متى.

يا له من أخ رائع. لقد التحق قبل أربع سنوات بقسم الأدب الإنجليزي في الجامعة الإمبراطورية، ولكنه لم يتخرج بعد. بمعنى أنه رسب سنة ولكنه لا يعبأ بذلك. وأنا كذلك لا أعتقد مطلقًا أن هذا الأمر يسبب له عارًا، لأنه لم يرسب بسبب غبائه. هذا مؤكد. فعلى الأرجح أن الدراسة بالنسبة له مملة جدًّا ولا يطيقها. فهو يسهر الليل كله حتى الصباح يكتب روايات.

في الليلة الماضية قرأ لي أخي الإصحاح السادس من إنجيل متى من الآية السادسة عشرة. إنها أفكار في منتهى الأهمية. توردت وجنتاي خجلًا من عدم نضجي. ولكيلا أنساها سأكتبها هنا بخط كبير:

«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً.»١

أفكار دقيقة وعميقة. ومقارنة بذلك كنت بسيطًا وساذجًا لدرجة لا تقارن. كنتُ مهملًا ومتطفلًا. يجب عليَّ أن أراجع أفكاري وأندم.

«حقق العدالة مع الابتسام!»

لقد وجدتُ شعارًا جيدًا للحياة. سأكتبه على ورقة وأعلقه على الحائط. آه … انتظر فهذا خطير! على الفور أقع في هذا! أحاول أن أعلقه على الحائط «لِكَيْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ!» ربما أكون منافقًا شديد النفاق!

يجب عليَّ الحرص جيدًا جدًّا. فثمة نظرية تقول إن شخصية الإنسان تُحدد في العمر الواقع بين سن السادسة عشرة حتى سن العشرين. حقًّا إن هذا الوقت في منتهى الأهمية.

سوف أبدأ من اليوم في تسجيل يومياتي من أجل مساعدتي في توحيد أفكاري الفوضوية من جهة، ومن جهة أخرى من أجل أن تكون حياتي اليومية مصدرًا لإعادة التفكير، ومن جهة ثالثة، من أجل أن تكون توثيقًا أحنُّ إلى شبابي من خلاله، وفي ذهني مشهد لي بعد عشر سنين، ثم بعد عشرين سنة، وأنا أقرأ هذه اليوميات في الخفاء وأبرُم شاربي العظيم مبتسمًا.

ولكن أيضًا يجب ألا أغدو متصلبًا وأُفْرط في «الهموم».

حقق العدالة مع الابتسام! يا لها من كلمة منعشة.

انتهت أول صفحة من افتتاحية يومياتي.

كنت أفكر فيما يلي في كتابة بعض الأحداث التي وقعت اليوم في المدرسة، ولكن هذا التراب فظيع. لقد بدأ يتسلل إلى فمي وأشعر بذرات التراب الخشنة داخله. لا أطيق ذلك. سأذهب لأستحم، وأؤجل الكتابة على مهل فيما بعد، بعد أن كتبتُ هذا قلت لنفسي فجأة: ما هذا! لا أحد يعاملك بندية، فشعرت بخيبة الأمل. فهي يوميات لن يقرأها أحد، وإن كتبتُها بتزمُّت متقمِّصًا دور الكاتب فلن أشعر إلا بالوحدة فقط. ثمرة المعرفة تُعلمنا الغضب، ثم الوحدة.

في طريق العودة من المدرسة اليوم ذهبتُ مع كيمورا لتناول حلوى اللوبيا الحمراء، كلا، لأكتب عن ذلك غدًا. فكيمورا أيضًا فتًى يشعر بالوحدة.

السبت ١٧ أبريل

توقفت الرياح، ولكن ظل الجو غائمًا ضبابيًّا منذ الصباح، وفي الظهيرة أمطرت السماء قليلًا، ثم بدأت السماء تصحو تدريجيًّا، وفي المساء ظهر القمر. الليلة أعدت قراءة يوميات أمس، فشعرت بالخجل. في الواقع كتابة غير ماهرة. تورَّد خداي. لم أكتب أيَّ ما يُظهر معاناة سن السادسة عشرة. ليس فقط الجمل مضطربة ومبعثرة بل أفكار الكاتب نفسها طفولية. ولكن يبدو أنه لا حيلة في ذلك. أمر فكرت فيه الآن فجأة، تُرى لماذا بدأت كتابة اليوميات في يوم ١٦ أبريل وهو يوم في منتصف الشهر؟ أنا نفسي لا أدري. أمر عجيب! لقد كنت أنوي كتابة يومياتي منذ زمن، ولكن أول أمس تعلمت كلمة جيدة من أخي الأكبر، فشعرتُ بالإثارة، وربما عزمتُ بقوة قائلًا: حسنًا، لأبدأ غدًا. يوم ١٦ وعمري ١٦ والآية ١٦ من الإصحاح ٦ من إنجيل متى. ولكن، لا يزيد كل ذلك عن مجرد صدفة عارضة. ومن غير اللائق السرور بسبب صدفة مملة. لأجرب التفكير بعمق أكثر. أجل! فهمت شيئًا قليلًا. السر ليس في عدد الأيام الستة عشرة، بل السر في يوم الجمعة، أليس ذلك؟ إنني رجل أميل إلى التفكير ميلًا مريبًا يوم الجمعة. إن بي هذه الخصلة من قبل. يوم أشعر فيه بدغدغة مريبة. لقد كان هذا اليوم تعيسًا بالنسبة للسيد المسيح. وعلمتُ أنه بسبب ذلك يُعد يومًا مشئومًا في الدول الأجنبية وينفرون منه. بالطبع أنا لا أقلد الأجانب مطلقًا في الإيمان بتلك الخرافة، ولكن لسببٍ ما لم أستطع أن أقضي ذلك اليوم هادئًا قط. تذكرت، إنني أحب ذلك اليوم. ربما لأنني أميل إلى حب التعاسة. المؤكد أنه هذا هو الأمر. إنه أمر تافه، ولكنه اكتشاف هام جدًّا. ربما تصبح تلك الصفة الشخصية بالاشتياق إلى التعاسة، مكونًا رئيسًا لشخصيتي مستقبلًا. عندما فكرتُ هكذا، شعرتُ بالقلق إلى حدٍّ ما. أحسست بأن شيئًا خطيرًا على وشك أن يقع. يا له من شيء ممل هذا الذي بدأت التفكير فيه! ولكن ما باليد حيلة لأنها الحقيقة. لا يعطي اكتشاف الحقيقة بالضرورة إحساسًا بالمتعة. فثمرة المعرفة مُرَّة.

حسنًا، يجب عليَّ اليوم الكتابة بشأن كيمورا، ولكن، لقد كرهت الكتابة بالفعل. وإن تحدثت بإيجاز؛ فقد شعرتُ أمس بإعجاب شديد تجاه كيمورا. إن كيمورا طالب سيئ السمعة حتى داخل المدرسة. رسب عدة مرات، ويُفترض أنه في التاسعة عشرة من العمر. ولم يسبق لي حتى الآن أن تحدثتُ معه حديثًا متأنيًا، ولكنه جرجرني معه وقت العودة من المدرسة أمس، فذهبنا إلى محل يبيع كرات أرز معجون مع لوبيا حمراء، وتناولناها ونحن نتبادل معًا لأول مرة نقاشًا حول الحياة.

وعلى عكس ما توقعت كان كيمورا مجتهدًا في الدراسة. يقرأ نيتشه. ولأنني لم أسمع من أخي الأكبر شيئًا عن نيتشه فلا أعلم عنه أي شيء بالمرة، لذا توردت وجنتاي خجلًا. فتحدثت إليه عن الكتاب المقدس وعن الأديب روكا ولكنني لم أستطع مجابهته. وينفِّذ كيمورا أفكاره في حياته المعيشية لذا فهو رائع. وبناء على رأي كيمورا فأفكار نيتشه ترتبط مباشرة بأفكار هتلر. وشرح لي كيمورا شرحًا فلسفيًّا عن سبب ارتباط نيتشه بهتلر، ولكنني لم أفهم شيئًا واحدًا مما قال. في الواقع يدرس كيمورا بجِد. ورأيت أن ذلك الصديق عظيم. وأنني أرغب في الارتباط معه في صداقة عميقة أكثر من ذلك. قال لي إنه سوف يتقدم لاختبار دخول مدرسة ضباط القوات البرية في العام القادم. وكما هو متوقَّع، لذلك عَلاقة بأفكار نيتشه. ولكن مدرسة ضباط القوات البرية صعبة جدًّا وربما لا يفلح في دخولها.

وعندما قلتُ له بصوت خافت: من الأفضل أن تمتنع عن ذلك.

نظر كيمورا لي بعيون تطلق شرارًا، فأصابني الرعب، وقررت أن أدرس أنا أيضًا بجد لا يقل عنه. قررت وقتها قرارًا حاسمًا أن أدرس كتاب الألف كلمة إنجليزية وأن أعيد استذكار الجبر والهندسة من البداية. ولكنني لسببٍ ما لم أجد رغبة في قراءة نيتشه، رغم إعجابي القوي بأفكار كيمورا.

اليوم هو يوم السبت. كنتُ أتأمل خارج النافذة في المدرسة شارد الذهن أثناء سماعي لمحاضرة الأخلاق. تناثر أغلب زهور الكرز التي كانت قد تفتحت وملأت النافذة بأكملها، والآن بقيت فقط كئوسها السوداء والحمراء وكأنها تشاكس الطبيعة. فكرت في أمور عديدة. أول أمس قلتُ: «لدي مسائل صعبة بشأن الحياة» ثم أفلتت من لساني قولة: «على سبيل المثال نظام الاختبارات في المدرسة». فقرأ أخي الأكبر أفكاري، ولكن ربما ليس سبب ثمة للاكتئاب الذي أصابني مؤخرًا، وأن الأمر كله مرجعه اختبارات المدرسة العليا العام القادم. آه، كم أكره ذلك الاختبار! أمر مرعب أن يتحدد تمامًا مصير ومستقبل إنسان من خلال اختبار لا يستغرق مجرد ساعة أو ساعتين فقط! إن هذا تدنيس للرب. من المؤكد أن جميع الأساتذة الذين يختبرون مصيرُهم الجحيم. إن أخي الأكبر لأنه يراني أفضل من حقيقتي، يقول لي إنني أستطيع النجاح في الاختبار في السنة الرابعة، ولكنني لا أثق في نفسي مطلقًا. وأيضًا تعبت تمامًا من حياتي في المدرسة المتوسطة، ولو فشلت العام القادم في الالتحاق بالمدرسة العليا، سوف أدخل سريعًا أي فصل تأهيلي في جامعة مرحة. حسنًا، يجب عليَّ الآن أن أتقدم للأمام وأضع هدفًا لا يتزعزع لمستقبل حياتي، ولكنها مسألة صعبة جدًّا. فأنا لا أدري مطلقًا ما الذي يجب أن أفعله؟ أنا في حيرة ولا أدري ماذا أفعل إلا البكاء كالأطفال. لقد قيل لنا من الأساتذة منذ المرحلة الابتدائية: «كونوا عظماء»، ولكن لا كلمة أكثر ضبابية من تلك الكلمة. لا أفهم أي شيء بالضبط. أنهم يتعاملون معنا على أننا أغبياء. كلمة من لا يتحمل المسئولية. فأنا لم أعد طفلًا. وبدأت تدريجيًّا أدرك مصاعب الحياة في هذا العالم. على سبيل المثال: حياة مدرسي المدارس المتوسطة المخفية في منتهى البؤس. ألم يكتب سوسيكي ذلك بالتفصيل في «بوتشان»؟ فمنهم من بات زبونًا للمرابين، ومنهم من تنهره زوجته بغضب. بل لدرجة أن منهم من يعطي انطباعًا كأنه جندي مسكين من الفلول المهزومة في الحرب. بل لا يبدو تحصيلهم العلمي ممتازًا. إنهم مملون دائمًا، يتحدثون بإسهاب ويقين عظيم فيكررون نفس الدروس التي تبدو عظيمة ولكنها لا نفع فيها ولا ضرر، ولذلك نصبح نحن التلاميذ كارهين من أعماق قلوبنا للمدرسة. كم سيساعدنا لو علمونا على الأقل استراتيجيات محددة وقريبة منَّا! فمؤكد أننا سنتأثر بالتأكيد لو تحدثوا لنا عن فشلهم في الحياة أحاديثَ صادقة بلا زخرفة! ولكنهم يكررون بإلحاح نفس الكلام البديهي المفهوم سلفًا عن تعريف الحقوق والواجبات، وعن التفرقة بين الأنا الصغرى والأنا العليا … إلخ. فمثلًا حصة مادة الأخلاق اليوم كانت مملة مللًا خاصًّا. كان عنوانها عن الأبطال والأقزام، ولكن الأستاذ كانيكو كان يمدح نابليون وسقراط فقط ويقدح بؤس الأقزام في المجتمعات. ولا فائدة لذلك. فلن يصبح كل البشر مثل نابليون أو مايكل أنجلو، وثمة جلال ومهابة في قتال الأقزام ومعاناتهم في حياتهم العادية، إن أحاديث الأستاذ كانيكو كلها هكذا نظرية ولا نفع فيها. هذا ما يقال عنه الرجل العامي! من المؤكد أن عقله قديم. ولا حيلة في ذلك فقد تخطى الخمسين من عمره. آه، إنها النهاية أن يُشفق الطلاب على الأساتذة. فهؤلاء الناس لم يعلموني شيئًا. يُفترض أنني يجب عليَّ أن أختار العام القادم بين القسمين العلمي والأدبي. فالأمر عاجل وطارئ. بالتأكيد الأمر خطير. ما العمل؟ ليس أمامي إلا الحيرة. وأثناء سماعي لحديث الأستاذ كانيكو عديم المحتوى، اشتقتُ بشدة إلى الأستاذ كورودا الذي فارقنا العام الماضي. بتُّ أحن إليه حنينًا حارقًا. فذلك الأستاذ كان يملك بالتأكيد شيئًا ما. أولًا كان ذكيًّا ورجوليًّا ونشيطًا. ولا مناص من القول إنه لاقى احترام وتبجيل جميع من في المدرسة المتوسطة. في إحدى حصص اللغة الإنجليزية، بعد ما أنهى الأستاذ كورودا ترجمة أحد فصول الملك لير قال فجأة، وقد تغيرت نبرة كلامه تمامًا. على الأرجح ذلك ما يوصف بأنه نبرة الكلام الذي يُلقَى بغلظة واستياء. على أي حال، كانت نبرة كلامه في منتهى الفظاظة. وعلاوة على ذلك تكلم فجأة ودون أي مقدمات مما أصابنا بالرعب:

هكذا انتهى الأمر. الدنيا زائلة وكأنها حلم لا يتحقق. في الواقع إن العَلاقة بين المعلم وتلاميذه من نوع مريب. إذا ترك المعلم الوظيفة يصبح بعدها غريبًا عنهم. ليس هذا عيبكم ولكن العيب على المعلم. ففي الواقع المعلمون كلهم أغبياء وحمقى! سواء رجلًا أو امرأة، فلا خلاف على أنهم جميعًا حمقى لا يفقهون شيئًا. ومن المؤسف أن أتوجه إليكم أنتم بهذا القول، ولكنني لم أعد أطيق صبرًا. لم أعد أتحمل هواء غرفة المدرسين. جهلة! مغرورون! لا يحبون التلاميذ. لقد اجتهدت طوال عامين في غرفة المدرسين تلك. ولكنني لم أعد أستطيع الاستمرار. أقَلتُ نفسي قبل أن أُقال. اليوم هذه آخر حصة. ربما لا أستطيع لقاءكم بعد الآن، ولكن يجب علينا جميعًا الاجتهاد أكثر وأكثر في الدراسة. إن الدراسة شيء رائع. يبدو أن هناك من يفكر أن دراسة الجبر والهندسة لن تنفعه شيئًا بعد تخرجه من المدرسة، ولكن هذا خطأ شنيع. يجب دراسة كل شيء ما دام ثمةَ وقت لذلك، النبات والحيوان والفيزياء والكيمياء. إن الدراسة التي تبدو ليس لها فائدة مباشرة في الحياة المعيشية، هي بالذات التي تشكل الصفات الشخصية لكم مستقبلًا. لا ضرورة لكي تفتخروا بمعلوماتكم بتاتًا. يجب أن تدرسوا، ثم تنسوا ما درستموه تمامًا. ليس المهم هو الحفظ ولكن المهم هو أن تتثقفوا. فليست الثقافة هي حفظ الكثير من الكلمات والجمل الرسمية عن ظهر قلب، بل هي أن تملك قلبًا متفتحًا ورحبًا. بمعنى أنها معرفة الحب. الشخص الذي كان لا يستذكر دروسه وهو طالب حتى بعد خروجه للعمل في المجتمع، يصبح بالضرورة مغرورًا وهمجيًّا. إن العلم لا بأس من نسيانه بعد وقت حفظه. ولكن حتى وإن نُسي كله تمامًا سيتبقى في قاع الدراسة والتدريب حَفنة من التِّبر. هذا هو. هذا هو الذي لا يُقدَّر بثمن. يجب الحرص على الدراسة. ثم من الخطأ محاولة ربط العلم غصبًا وجعله مفيدًا في الحياة. كونوا بشرًا ثُقِّفوا ثقافة حقيقية ببطء وتأنٍّ! هذا فقط ما أردت قوله لكم. لم أعد أستطيع الدراسة معكم في هذا الفصل بعد الآن، ولكنني سأظل أحفظ أسماءكم للأبد ولن أنساها. وأرجو منكم أن تتذكروني من حين لآخر. إنه وداع مفاجئ، ولكن لنفترق ببساطة رجلًا لرجل. وفي النهاية أتمنى أن تكونوا في صحة جيدة.

ثم انحنى الأستاذ كورودا لنا نحن التلاميذ بوجهٍ شاحب أزرق دون أن تند عنه ابتسامة ولو قليلًا.

كنت أريد أن أقفز وأحضنه باكيًا.

أصدر يامورا رئيس الفصل أوامره بصوت شبه باكٍ: وقوف! انحناء!

فوقف ستون تلميذًا في هدوء وسكون بالغ، وانحنَوا من أعماق قلوبهم.

– لا تقلقوا من الاختبار القادم.

قال المعلم ذلك ثم ابتسم لأول مرة ابتسامة بشوشة.

قال شيدا الطالب الراسب بصوت خافت: الوداع يا أستاذ!

فتبعه ستون تلميذًا منادين معًا بصوت واحد: الوداع يا أستاذ!

كنت أريد أن أصرخ باكيًا بصوتٍ عالٍ.

تُرى ماذا يعمل الأستاذ كورودا الآن؟ ربما استُدعي للقتال في الحرب. لأنه يُفترض أنه ما زال في الثلاثين من عمره.

لقد نسيت، وأنا أكتب هكذا ما يتعلق بشأن الأستاذ كورودا، مرور الوقت حقًّا. اقترب الوقت من الثانية عشرة في منتصف الليل. يكتب أخي في هدوء عملًا أدبيًّا في الغرفة المجاورة. يبدو أنه رواية. قال لي إنها وصلت الآن لمائتي صفحة. لقد قلَب أخي الليل والنهار. يصحو كل يوم في الساعة الرابعة عصرًا على الأغلب. ثم يظل مستيقظًا طوال الليل بالضرورة. تُرى أليس هذا مضرًّا بالصحة؟ أنا الآن أشعر بالنعاس ولا أستطيع المقاومة. وأنوي أن أقرأ قليلًا في سجل ذكريات روكا ثم أخلد إلى النوم. غدًا يوم الأحد، لذا أستطيع النوم حتى وقت متأخر. هذه هي المتعة الوحيدة ليوم الأحد.

الأحد ١٨ أبريل

يتراوح الجو بين صحو وغائم. استيقظتُ اليوم الساعة الحادية عشرة صباحًا. وهو ليس بالأمر الغريب مطلقًا. بل هذا هو الأمر الطبيعي. من الخطأ انتظار حدوث أمر جيد لأنه يوم الأحد. الحياة أمر عادي جدًّا. وغدًا أيضًا يوم الاثنين. سأذهب إلى المدرسة لمدة أسبوع. يبدو أن شخصيتي خاسرة. لا يمكنني الاستمتاع باليوم الآني على أنه يوم الأحد العطلة. ولكنني أرتعب من ملامح المشاكسة التي تظهر على وجه يوم الاثنين المختفي خلف يوم الأحد. الاثنين أسود والثلاثاء دم والأربعاء أبيض والخميس بني والجمعة ضوء والسبت فأر، ثم الأحد إشارة حمراء تنبيهًا للخطر. من المفترض أن أشعر بالوحدة حقًّا.

درست باجتهاد منذ ظهيرة اليوم الكلمات الإنجليزية والجبر. كان يومًا حارًّا رطبًا بدرجة مقيتة. ذاكرت مرتديًا بيجامة من قماش المناشف دون اعتبار لشكل أو لحركة. وكان الشاي الأخضر بعد وجبة العشاء لذيذًا. وقال أخي أيضًا إنه لذيذ. وفكرت أن طعم الخمور هو ذلك الطعم.

حسنًا، ماذا أكتب الليلة؟ ولأن ما من شيء يستحق الكتابة، فلأجرب أن أكتب عن أسرتي. تتكون أسرتي حاليًّا من سبعة أفراد. أمي وأختي الكبرى وأخي الأكبر وأنا، ثم كيجيما الطالب المقيم وأوميه الخادمة وأخيرًا الممرضة سوغينو التي أتت للبيت منذ الشهر الماضي، سبعة أشخاص. وقد مات أبي عندما كنت في الثامنة من عمري. ويبدو أنه كان في حياته شخصيةً شهيرة إلى حدٍّ ما. تخرج من جامعة في أمريكا، ويعتنق المسيحية، ويبدو أنه كان من مثقفي عصره. ومن الأفضل أن أطلق عليه رجل أعمال أكثر من وصفه بالسياسي. في نهاية حياته دخل عالم السياسة وعمل جيدًا من أجل حزب سِيوكاي، لمدة أربع أو خمس سنوات فقط، ولكنه قبل ذلك كان رجل أعمال. ويبدو أنه فقد نصف ثروته خلال خمس أو ست سنوات بعد دخوله عالم السياسة. أن أتحدث أنا عن الثروة لهو أمر مضحك، ولكن يبدو أن أمي عانت الأمرَّين في ذلك الوقت. وأيضًا بعد موت أبي اضطُررنا إلى الانتقال من بيت أوشيغومي الضخم إلى بيتنا الحاليِّ هذا في كوجيماتشي. ثم مرضت أمي، وهي حتى الآن ترقد في الفراش بلا حركة. ولكنني لا أكره أبي مطلقًا. كان أبي يناديني دائمًا بكلمة يا صبي، يا صبي. لا يتبقى في ذاكرتي شيءٌ تقريبًا عنه. ولكنني أتذكر بوضوح تام أنه كان يغسل وجهه صباح كل يوم بحليب البقر. ويبدو أنه كان إنسانًا في منتهى الأناقة. ولو نظرنا إلى صورته التي تُزيِّن غرفة الضيوف سنجده بوجه متناسق عظيم. ويقال إن أختي هي أكثرنا شبهًا بأبينا في ملامح الوجه. إن أختي إنسانة بائسة. بلغت هذا العام السادسة والعشرين. وستتزوج أخيرًا في السادس والعشرين من هذا الشهر. لم تستطع الزواج لمدة طويلة بسبب تمريضها لأمنا ورعايتها لنا أخويها الأصغر منها. أصيبت أمي بمرض هشاشة عظام فقرات الظهر بعد موت أبي مباشرة، ومنذ ذلك الوقت وهي ترقد مريضة. ترقد في الفراش بدون حركة منذ ما يقرب من عشرة أعوام. أمي رغم مرضها إلا إنها سليطة اللسان وأنانية، وكلما وظفنا ممرضة لها تطردها على الفور. ولا ترغب أن يمرضها أحد إلا أختي. ولكن في بداية هذا العام تحدث أخي معها بصرامة وجعلها توافق على زواج أختي. عندما يغضب أخي يكون مخيفًا جدًّا. ولأن زواج أختي قد اقترب موعده، جاءت الممرضة سوغينو الشهر الماضي، وبدأت ترعى أمي وهي تتعلم من أختي طريقة رعايتها. يئست أمي من الوضع وبدأت رغم كثرة شكواها تتقبل رعاية الممرضة سوغينو لها. حتى أمي لا تستطيع مواجهة أخي. أمي! أرجوك من أجلي ومن أجل أخي أن تظلي بصحة جيدة دون أن تهبط نفسيتك حتى مع رحيل أختي. إن أختي مسكينة فقد بلغت السادسة والعشرين من عمرها. أوه! لا يجب ذلك! لقد تحدثتُ بلغة الكبار. ولكن الزواج أمر في غاية الأهمية في حياة البشر. خاصة بالنسبة للنساء، ربما يكون الأمر الوحيد المهم لهن. لنفكر في الأمر بدون خجل.

فأختي ضحيةُ مهمة. فليس من قبيل المبالغة القول إن أجمل وقت في شباب أختي انقضى ما بين الأعمال المنزلية وتمريض أمي. ولكنني أرى أن تحمُّل العذاب الطويل لم يكن بلا فائدة. فلا شك أنها تملك حكمة عميقة جدًّا بما لا يمكن مقارنته معنا. فتحمل العذاب يُصقل شخصية الإنسان. إن عيون أختي باتت مؤخرًا في منتهى الصفاء. إنها عظيمة! مهما اقترب موعد الزِّفاف لا تغتر وتثير ضجة، ولا يأخذها العُجب بنفسها. يبدو أنها سوف تبدأ الحياة الزوجية بمشاعر هادئة. يقترب عمر زوجها السيد سوزوأوكا من الأربعين ويعمل في منصب هام. ويبدو أنه يحمل الحزام الرابع في رياضة الجودو. ويبدو أنه إنسان طيب القلب وعيبه الوحيد تلك الأنف الدائرية الحمراء. وأنا لا أحبه ولا أكرهه. فهو في النهاية غريب عني. ولكن أخي قال إن وجود خَتَن مثله مطمئن في أي أمر يفعله الإنسان. ربما كان الأمر كذلك حقًّا. ولكنني لا أنوي أن أكون في رعايته. أنا فقط أصلي دائمًا من أجل سعادة أختي. إلى أي مدى سيغدو البيت في وحشة برحيل أختي عنه؟ ربما سيشبه الوضع وكأن أنواره قد أُطفئت. ولكننا سنصبر على ذلك. إذا أضحت أختنا سعيدة فهذا يكفي. من المؤكد أنها ستكون زوجة عظيمة. إنني أضمن ذلك متحملًا كامل المسئولية بصفتي أحد أقاربها. أستطيع أن أوصي بها كأفضل زوجة في الوجود. لقد أرهقنا أختنا حقًّا. ولا أدري كيف كان الوضع لو لم تكن أختي معنا. ربما بتُّ أنا الآن مراهقًا مشاغبًا وشريرًا. لقد ربتنا أختنا بدفءٍ بعد أن أدركت حقيقة شخصيتنا. فارتبطنا معًا بعَلاقة أفلاطونية راقية. كان بيننا حلف مقدس. وقادتنا أختنا بتلقائية طبيعية لأنها تتفوق علينا من الناحية العقلية. ولذا حتى في حياتها الزوجية من المؤكد أنها ستحقق سعادة هادئة. وتملك أختي قوة مبجلة لا تدنس سعادة الزوجين حتى في حالة الكوارث العاتية. هنيئًا يا أختي! ستكونين سعيدة يا أختي في حياتك. من سوء الأدب أن أتدخل في الأمور الشخصية، ولكن أعتقد أن أختي لا تعرف شيئًا بعد عن الحب بين الزوجين. (حتى أنا لا أعرف شيئًا البتة. ولا أستطيع حتى تخيله. ربما كان شيئًا مملًّا على غير المتوقع) ولكن إذا كان في هذا العالم ثمة شيء يُدعى الحب الزوجي، من المؤكد أن أختي سوف تحقق الشكل الأمثل منه. أختي! أرجوك ألا تحطمي «وهمي» الجميل هذا!

وداعًا! ارحلي وعيشي في أمان! لو كان هذا هو الوداع الأبدي عيشي في أمان إلى الأبد.

انتهى! لقد كتبت ذلك وفي نيتي أنني أتحدث في سريَّة إلى أختي العزيزة فقط، ولكن ربما لن تنتبه أختي لتلك الكلمات إلى الأبد. لأن هذا دفتر يومياتي السريَّة المخصص لي فقط. ولكن لو رأته أختي على الأرجح أنها ستضحك.

من المحزن أنني جبان لأنني لا أملك الشجاعة لكي أقول كلمات الوداع هذه لأختي مباشرة.

غدًا يوم الاثنين. اليوم الأسود. لأخلد إلى النوم. إلهي! أدعوك ألا تنساني!

الاثنين ١٩ أبريل

يوم صحو في الأغلب. في الواقع مزاجي اليوم متعكر. لقد فكرت في ترك فريق كرة القدم بالمدرسة. حتى لو لم أتركه فلقد كرهت ممارسة الرياضة بالفعل. من الآن سوف أتعامل معهم بتهاون. لأنهم هم أصلًا متهاونون فما باليد حيلة. لقد لكمت كاجي كابتن الفريق. إن كاجي وغد.

تجمع اليوم جميع أعضاء الفريق في الملعب بعد انتهاء الحصص، وبدأنا أول تدريب لنا في هذا العام الدراسي. مقارنة بالفريق العام الماضي، ففريق هذا العام أقل كثيرًا من الناحية الفنية وأقل كذلك في الرُّوح القتالية. وأشك في أننا يمكننا لعب مباراة مع فريق آخر في هذا الفصل الدراسي، فلقد تجمع فقط العدد المطلوب ولكن لا وجود للعمل الجماعي ولو قليلًا. الكابتن هو السبب؛ فكاجي غير مؤهل لكي يكون الكابتن. كان يُفترض أن يتخرج هذا العام ولكن لأنه رسب في اختبار التخرج أصبح الكابتن بسبب أقدمية السن فقط. قوة الشخصية ضرورية وهامة من أجل قيادة الفريق أكثر من التسديد الرائع. ولكن شخصية كاجي وضيعة. أثناء التدريب لا يقول إلا مزاحًا قذرًا فقط. مهذار. ليس كاجي فقط، ولكن جميع أعضاء الفريق هازئون، ومهملون. لدرجة أنني أريد أن أمسك بتلابيب كل فرد منهم وأغرقه في الماء. بعد نهاية التدريب، وفي نهاية المطاف ذهب الجميع إلى الحمام العام القريب المسمى «حمام الخوخ» للاستحمام. وفي مكان خلع الملابس قال كاجي فجأة شيئًا قبيحًا. بل وكان ذلك بخصوص جسدي أنا. إنها كلمة لا أستطيع كتابتها مهما حاولت. وقفت أمام كاجي وأنا عارٍ تمامًا وقلت له: هل أنت رياضي حقًّا؟

فقال أحدهم: كفى، كفى.

أعاد كاجي مرة أخرى لبس قميصه الذي كان على وشك أن يخلعه ثم قال وهو يضحك مبرزًا أسنانه البيضاء وعاوجًا فكه: هل تنويها؟ هيا!

فلكمتُ ذلك الوجه لكمة قوية. ثم قلت له: إن كنت رياضيًّا حقًّا فيجب أن تخجل من نفسك!

فركل كاجي الأرضية الخشبية بقدمه. ثم بكى قائلًا: اللعنة عليك أيها الحيوان.

في الواقع لم أتوقع ذلك. إنه إنسان جبان. دخلت حوض الاستحمام سريعًا وغسلت جسمي.

لا يمكنني مدح العراك عاري الجسم تمامًا. ولذلك كرهت الرياضة. ثمة مثل يقول: العقل السليم في الجسد السليم، ولكن يبدو أن الجملة الأصلية باللغة اليونانية تقول: «ليت العقل السليم يكون في جسم سليم!» بمعنى أنه أمنية ورجاء أن يتحقق ذلك الأمر. لقد علَّمني أخي ذلك ذات مرة، أن معنى ذلك الكلام هو: يا له من أمر رائع أن يكون العقل السليم في جسم سليم، آه، ولكن في الواقع لا يتحقق ذلك. فحتى كاجي يملك جسدًا قويًّا ومتينًا جدًّا، جسدًا خسارة فيه حقًّا. ليته كان مع رُوحٍ ذكية وفطنة!

لقد سمعت الليلة برنامجًا إذاعيًّا عن السيدة هيلين كيلر. فتمنيت أن يسمعه كاجي. كانت تمتلك جسدًا غير كامل ميئوسًا منه وتعاني من العمى والبَكَم والصمَم، ولكنها اجتهدت لتستطيع التحدث وتستطيع سماع ما تقوله سكرتيرتها، واستطاعت أن تؤلف، وفي النهاية حصلت على درجة الدكتوراه. ومن المؤكد أننا نحترم ونبجل تلك السيدة احترامًا لا نهاية له. وعندما سمعت البرنامج الإذاعي، من حين لآخر كنت أسمع تصفيق السامعين يأتي كالرعد، وحرَّك انبهار السامعين ذلك قلبي مباشرة، فسالت دموعي. ثم قرأت قليلًا بعضًا من مؤلفات السيدة كيلر. أغلبها أشعار دينية. ربما الإيمان هو ما أصلح هذه السيدة. فشعرت من أعماق قلبي بقوة قدرات الإيمان. إن الدين هو القدرة على الإيمان بالمعجزة. فالإنسان العقلاني لا يفهم الأديان. الدين هو القدرة على الإيمان باللامنطقي. «الإيمان» له قدرات متميزة لأنه لامنطقي … آه، كفى! لم أعد أفهم. لأسأل أخي مرة أخرى.

غدًا الثلاثاء … أكرهه، أكرهه. يقال إن الفتى إذا تخطى مجاله وخرج منه يقابل بسبعة أعداء، وهذا حقًّا ما يحدث بالضبط. لا يجب التهاون مطلقًا. فالذَّهاب إلى المدرسة لا يختلف كثيرًا عن الذهاب إلى ساحة وغًى بها مائة عدو. وأنا لا أريد أن أُهزم، سأبذل قُصارى جهدي لكي أنتصر بسهولة. هل المنتصر هو البائس؟ مستحيل؟ يا كاجي! لنتصافح غدًا ونحن نبتسم ببشاشة! فكما قلتَ أنت في الحمام العامِّ تمامًا، إن جسمي أبيض بياضًا مفرطًا! كلا! لا أتحمل ذلك! ولكنني لا أضع مكياجًا أبيض في أماكن غريبة! لا تستغبني! لأقرأ الكتاب المقدس الليلة ثم أنام.

«تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لَا تَخَافُوا»٢

الثلاثاء ٢٠ أبريل

طقس صحو، ومع قول ذلك إلا إنه ليس الصحو الياباني المعتاد. بل يمكن القول إنه صحو تقريبًا. لقد تصالحتُ اليوم سريعًا مع كاجي. لأنني كرهت أن أظل دائمًا بمشاعر قلقة، فذهبت إلى فصل كاجي واعتذرت له ببساطة.

كان كاجي فرحًا مسرورًا.

شعور وحدة جعلني أبتسم
ردًّا على ابتسامة صديق
يخفي بها شعور الوحدة.

ولكنني ظللتُ أحتقر كاجي كما كنت في السابق. وهذا أمر لا حيلة لي فيه. قال كاجي بصوت خافت النبرة وكأنه يفكر بعمق، وكذلك كأنه يثق فيَّ ثقة مطلقة: لقد كنت أفكر في استشارتك، لقد التحق بفريق كرة القدم خمسة عشرة عضوًا جديدًا من الطلاب المستجِدين في السنة الأولى، ولكن لا يجب قبولهم جميعًا، فالسماح بالتحاق الفاشلين يُخفض من قوة الفريق، ولكن حتى أنا لا أعرف ما يجب عمله، أرجو منك أن تفكر في الأمر.

ولكن لم يبد لي ذلك إلا سخرية. إنه دفاع عن النفس منه. يحاول أن يلقي بمسئولية فشله على الطلاب الجدد. إنه في النهاية إنسان وضيع.

وعندما قلتُ له: لا مانع من كثرة العدد. إن أعطيناهم تدريبات شاقة، سيسقط الفاشل، ولن يبقى إلا الجيد.

قال بصوت عال: لا يمكن فعل ذلك.

ثم ضحك ضحكات غبية فارغة. ولم أفهم لماذا لا يمكن فعل ذلك. في كلا الحالين، لم أعد متحمسًا تجاه فريق كرة القدم كما كنت في السابق. فليفعلوا ما يحلو لهم. فمن المؤكد أن الناتج هو فريق متراخٍ.

أثناء عودتي من المدرسة عرَّجت على دار عرض ميغورو السينمائية، وشاهدت فيلم «للأمام يا جنود التنين!»٣ فكان مملًّا. في الواقع عمل رديء. لقد خسرت ثلاثين سنتًا. ثم بعد ذلك خسرت وقتي أيضًا. لأن الطالب الفاشل كيمورا قال لي بكل ثقة إنه عمل فني رائع ولا نظير له فذهبت لمشاهدته وأنا أتطلع لعمل باهر، ولكن ما هذا؟ إنه فيلم تنبعث منه رائحة كريم الشعر الرخيص، ويليق عليه أن تُعزف معه موسيقى آلة الهارمونيكا. تُرى ما الذي أبهر كيمورا في هذا الفيلم؟ أمر غير مفهوم! هل هو طفل على غير المتوقع؟ يفرح بمجرد رؤية جواد يجري! بدأت لا أثق في نيتشه الذي قال لي عنه. ربما يقصد عِلكة نيتشه.

اليوم ذهبت أختي إلى حي غينزا بعد محادثة هاتفية مع السيد سوزوأوكا. إنه ما يسمى التعارف قبل الزواج. على الأرجح يسير الاثنان بوجه جاد وصارم في شوارع غينزا، ويتناولان أيس كريم بالصودا في متجر شيسيدو. وربما على غير المتوقع يشاهدان «للأمام يا جنود التنين!» وينبهران به. يا لها من راحة بال على الرغم من اقتراب حفل الزِّفاف. من الأفضل أن يتوقفا. لقد تعصبت أمي منذ فترة قصيرة مضت؛ قالت إن ماء الطَّسْت المعدني المخصص لغسل جسمها ساخن سخونة مفرطة فقلبت الطَّست رأسًا على عقب. وبكت الممرضة سوغينو. وظلت الخادمة أوميه تدور وتلف في صخب. كانت ضوضاء عظيمة. ظل أخي يستذكر دروسه متظاهرًا بعدم العلم بشيء. أما أنا فلم أستطع الهدوء. لو كانت أختي موجودة لانتهى الأمر دون حدوث شيء بتاتًا. ولكن يبدو أن الممرضة سوغينو ظلت لوقت طويل تبكي وتنشِج أسفل درجات السُّلَّم، وكان مشهد الطالب المقيم كيجيما وهو يواسيها بنبرة فخمة متصنعًا سمت الفلاسفة مشهدًا هزليًّا. على ما أسمع أن كيجيما من أقرباء أمي، تخرج منذ خمس أو ست سنوات من المدرسة الابتدائية العليا في الريف، ثم جاء للإقامة في بيتنا. عاد مرة واحدة فقط من أجل فحص التجنيد الإجباري، ولكنه رجع لبيتنا مرة أخرى بعد فترة وجيزة؛ فقد حصل على إعفاء بسبب قصر نظره الشديد. لديه بثور شديدة ولكنه ليس بالوجه السيئ. يبدو أن حلمه المثالي أن يصبح سياسيًّا. ولكنه على الأرجح سيفشل لأنه لا يدرس مطلقًا. كان ينادي أبي خارج البيت بلقب «عمي». إنه إنسان بسيط ليس سيئ الطوية. ولكن هذا كل ما هنالك. ربما تكون نيته البقاء في بيتنا طوال حياته.

أخيرًا عادت أختي إلى البيت. الساعة العاشرة وثماني دقائق.

أنا الآن درست ثلاثين درسًا في الجبر. تعبتُ لدرجة الرغبة في البكاء. يقول روبرت: «وكأن شخصًا مزعجًا يُعيق جسدي ويُطلق على ذلك اسم الصدق» ويقول سوسومو سريكاوا: «وكأن شخصًا مزعجًا يُعيق جسدي ويطلق على ذلك اسم المذاكرة.»

أريد الالتحاق بمدرسة بلا اختبارات!

الأربعاء ٢١ أبريل

طقس غائم، وممطر ليلًا. يستمر الاكتئاب بلا نهاية. وبتُّ أكره حتى كتابة اليوميات. اليوم في حصة الرياضيات، جاء تانوكي بحذاء مطاطي طويل وقذر وقال: كم الذين سيدخلون السنة الرابعة في هذا الفصل؟ فليرفعوا أياديهم، لذا رفعت يدي فجأة بلا وعي، فكنتُ أنا الوحيد الذي رفع يده. حتى كيمورا رئيس الفصل احترس ولم يرفع يده. بل ظل يتململ وهو مطأطئ الرأس. شخص جبان. قال تانوكي: هيه! سريكاوا فقط! ثم ابتسم ابتسامة مقززة. شعرت بالخجل، ولحظيًّا بات العالم مظلمًا ظلامًا شديدًا.

– أين تريد أن تختبر؟

كانت نبرة كلام تانوكي غارقة في احتقار محدثه.

أجبت: لم أقرر بعد.

فلم يكن لدي الشجاعة لأقول: المدرسة العليا الأولى. يا للحزن!

ضحك تانوكي وهو يضع إحدى يديه على شاربه. في الواقع كنتُ مستاء.

ولكن اتخذ تانوكي ملامح الجد على وجهه مرة أخرى ودار بناظريه على الجميع قائلًا: ولكن، الجميع أيضًا، يجب ألا تكون مشاعر الجميع هي دخول الاختبار من أجل أنه ثمة إمكانية للدخول من السنة الرابعة، ولكن يجب عليكم دخول الاختبار بعزيمة قوية على النجاح المؤكد. إذا دخلتم الاختبار بمشاعر متأرجحة ثم رسبتم، ستلتصق بكم عادة الرسوب وحالات كثيرة تفشل بسبب ذلك حتى عند دخول الاختبار في السنة الخامسة. عليكم اتخاذ القرار بعد التفكير العميق في الأمر. كانت طريقة الكلام وكأنه يقتل بالصمت وجودي وكياني كله.

فكرت أن أقتل تانوكي. فكرت أن من الأفضل أن أحرق مثل هذه المدرسة التي يدرِّس بها مثل هذا المدرس عديم الأدب! مهما حصل سوف أنتقل إلى مدرسة أخرى من السنة الرابعة. مستحيل أن أبقى لسنة خامسة. سوف يتعفن جسمي. لم تكن نتائجي في الرياضيات جيدة مقارنة باللغات، ولكن بسبب ذلك، لهذا السبب كنتُ أذاكر كل يوم وكل ليلة. آه، أريد أن أدخل المدرسة العليا الأولى وأجعل تانوكي ينقلب على رأسه من الدهشة، ولكن ربما أفشل. لقد بدأت أكره المذاكرة نوعًا ما.

أثناء عودتي من المدرسة عرَّجت على دار عرض موساشينو وشاهدتُ «الجريمة والعقاب». كانت الموسيقى المصاحبة في منتهى الجودة. عندما أغمضت عيني واستمعت إلى الموسيقى فقط، دمعت عيناي، وفكرتُ أنني أريد أن أسقط.

لم أذاكر دروسي بعد عودتي للبيت. وألَّفتُ قصيدة شعر طويلة. وكان معنى ذلك الشعر: إنني الآن أزحف في قاع عميق، ولكن بدون يأس، فسوف ينبثق شعاع غامض من مكان مجهول، ولكنني شخصيًّا لا أدري ما ذلك الشعاع. لا أستطيع فهم معنى الشعاع الذي بين يديَّ. كنتُ في ارتباك عظيم. أيها الشعاع العجيب! كتبتُ مثل هذا المعنى. وأفكر أن أريه لأخي يومًا ما. إنني أغبط أخي، لأنه يمتلك موهبة. يرى أخي أن الموهبة تظهر عندما يحمل المرء اهتمامًا غير عادي تجاه شيء ما، ويستغرق فيه بكل حواسه، أو كما قال، ولذا فمن المحال أن يكون حالي كل يوم هكذا؛ أكره وأغضب وأبكي ثم أستغرق بكل حواسي بإفراط عشوائي ومتهور، فيكون ذلك دافعًا لظهور موهبة. على العكس ربما يكون ذلك علامة على أنني معدوم الموهبة. آه، ألا يوجد أحد يحدد لي ذلك بوضوح؟ هل أنا غبي أم ذكي أم كاذب؟ هل أنا ملاك أم شيطان أم مبتذل؟ هل أنا شهيد أم عالم أم أديب وفنان عظيم؟ هل أنتحر؟ حقًّا بل حتى الرغبة في الموت تشتعل داخلي. لم يسبق لي أن شعرتُ شعورًا واقعيًّا بألم غياب أبي مثل هذه الليلة. من العجيب أنني أنساه دائمًا. إن «الأب» له وجود كبير جدًّا ودافئ. وإنني لأتفهم مشاعر المسيح عندما وصلت به المعاناة إلى منتهاها فصرخ بأعلى صوته: «يَا أَبَا الْآبُ»

أكثر وُدًّا
من حب الأم
وأكثر عمقًا
من أي أساس
يشمخ أعلى
من مشاعر الناس
يُضحي أوسع
من أي سماء
(كتاب التراتيل: الترتيل رقم ٥٢)

الخميس ٢٢ أبريل

طقس غائم. لم يتغير شيء، لذا لن أكتب شيئًا. تأخرت عن المدرسة.

الجمعة ٢٣ أبريل

طقس ممطر. جاء كيمورا لزيارتي في بيتي ومعه غيتار، فطلبت منه أن يعزف عليه، فكان غير ماهر في العزف، ولكنني كنت ألتزم الصمت حتى النهاية. قال كيمورا: أستأذن في الانصراف ثم رحل. يا له من غباء منه أن يأتي حاملًا الغيتار خصوصًا في هذا الجو الممطر. سأنام مبكرًا لأنني تعبتُ. الخلود للنوم، الساعة التاسعة والنصف.

السبت ٢٤ أبريل

طقس صحو. تغيبت عن المدرسة طوال اليوم منذ الصباح. خسارة أن أذهب للمدرسة في يوم جيد الطقس مثل هذا اليوم. فذهبت إلى حديقة أوينو، وأكلت وجبة الغداء على دكة الحديقة، وقضيت بعد الظهر كله في المكتبة. أخرجت الأعمال الكاملة للشاعر شيكي ماساأوكا من المجلد الأول وحتى المجلد الرابع، وأخذت أقرأ فيها هنا وهناك دون ترتيب. ثم عدت للبيت عندما أظلمت السماء.

الثلاثاء ٢٧ أبريل

طقس ممطر. أشعر بالعصبية. لا أستطيع النوم. أسمع في الواحدة بعد منتصف الليل صوتًا خافتًا لعمال الوردية الليلية. عمل صامت تحت هطول الأمطار. يأتيني صوت الجرافة وصوت الحصى فقط على فترات منتظمة ورتيبة. لا يُسمع صوت تشجيعٍ واحد من العمال لبعضهم البعض. غدًا حفل زِفاف أختي. هذه آخر ليلة تَبيتُ فيها في هذا البيت. تُرى ما مشاعرها؟ لا شأن لي بأمر الآخرين. انتهى!

الأربعاء ٢٨ أبريل

طقس صحو ممتع. جلست أمام أختي وانحنيت لتحيتها ثم ذهبتُ سريعًا للمدرسة. عندما انحنيت نادت أختي: سوسومو! ثم بكت. وكانت أمي تنادي عليَّ من الداخل: سوسومو! سوسومو! ولكنني انطلقت عدْوًا من مدخل البيت دون أن أربط رباط حذائي.

السبت ١ مايو

طقس صحو في أغلب الأوقات. بتُّ مهملًا في كتابة اليوميات. ولا سبب لذلك. فقط لأنني لم أرغب في الكتابة. وأكتب الآن لأنني رغبتُ فجأة في الكتابة. اليوم اشترى لي أخي غيتارًا. فقد ذهبنا معًا بعد تناول وجبة العشاء للتنزه في حي غينزا، وأثناء المشي اختلست النظر على نافذة عرض أحد محلات بيع الآلات الموسيقية وقلت بدون تعمد: إن كيمورا يملك مثل هذا.

فقال أخي: هل تريده؟

– حقًّا؟

نظرت إلى وجه أخي بخوف نوعًا ما، فدخل أخي بصمت إلى المحل واشتراه لي.

من المؤكد أن أخي يشعر بالوحدة أضعاف ما أشعر.

الأحد ٢ مايو

طقس ممطر أعقبه صحو. مع أن اليوم الأحد، إلا إنني استيقظت في الثامنة صباحًا على غير العادة. بعد استيقاظي قمت مباشرة بتلميع الغيتار بقطعة قماش. لقد جاء كيه ابن عمي لزيارتنا. أول زيارة له بعد أن أصبح طالبًا في كلية التجارة. كان الزي الموحد الجديد براقًا جدًّا.

وعندما قلت له مجاملًا: لقد اختلفتَ نوعيًّا.

ضحك بمرح: هيهيهي. شخص مهمل. وهل يتغير الإنسان نوعيًّا بمجرد دخوله كلية التجارة؟ كان يرتدي قميصًا بخطوط حمراء متصنعًا الأهمية بغرابة. ألم يقرأ حتى الآن مقولة: «لا يغلب اللبس الجسم»؟

قال: إن اللغة الألمانية في منتهى الصعوبة.

هيهيهي حقًّا؟ كما هو متوقع الطالب الجامعي يتغير نوعيًّا. شعرتُ بالغضب وظللت أعزف على الغيتار فقط. عرض عليَّ الذَّهاب معه إلى غينزا، فرفضت.

إنني الآن لا أذاكر ولو قليلًا. لا أفعل شيئًا «Doing nothing is doing ill» عدم فعل أي شيء هو ارتكاب للإثم. ربما حملت مشاعر غيرة تجاه كيه. شيء وضيع. لأفكر جيدًا.

الثلاثاء ٤ مايو

طقس صحو. أُقيم اليوم حفل استقبال المستجِدين في فريق كرة القدم بالقاعة الرياضية في المدرسة. ألقيت نظرة سريعة ثم عدت للبيت على الفور. في الفترة الأخيرة حياتي اليومية ليس بها حتى المأساة.

الجمعة ٧ مايو

طقس غائم. ممطر ليلًا. أمطار دافئة. أمسكت مظلة في وقت متأخر من الليل، وخرجت سرًّا لتناول سوشي. تتناول نادلة في منتهى السُّكْر مع نادلة أخرى غير سَكْرى السوشي في صمت. قالت النادلة السكرى قولًا وقحًا لي. ولكنني لم أغضب. ابتسمت فقط ابتسامة مريرة.

الأربعاء ١٢ مايو

طقس صحو. أعطانا تانوكي مسألة تطبيقية في حصة الرياضيات اليوم. والزمن عشرون دقيقة.

– من حلها؟

لم يرفع أحد يده. كنت أعتقد أنني استطعت حلها ولكنني كرهتُ أن يلحقني الخجل الذي جربته يوم الأربعاء قبل ثلاثة أسابيع فتظاهرت بعدم الحل.

ضحك تانوكي ضحكة ساخرة قائلًا: ماذا! ألم يستطع أحد حلها؟ جرِّب يا سريكاوا أن تحلها.

تُرى لماذا طلب مني أنا خصوصًا؟ أصابني الرعب. وقفت وذهبتُ وكتبت الحل على السبورة. لو أخذنا مربع الضلعين فلن نستطيع القسمة. لذا فالحل هو صفر. كتبت الحل صفر، ولكن لأنني اعتقدت أنني سينالني العار مثل المرة السابقة لو كان الحل خطأً، كتبت: الحل صفر على الأرجح، وعندها ضحك تانوكي عاليًا: واهاهاها. ثم هز رأسه عدة مرات وقال: حتى سريكاوا لا يعرف الحل حقًّا.

ثم بعد أن عدتُ لمكاني ظل يتأمل وجهي بإلحاح وقال بلا استحياء: إن الجميع في غرفة المدرسين يقولون عنك إنك ظريف!

فانفجر الفصل كله بالضحك.

حقًّا لقد شعرت بالضيق. فاق شعور الاستياء ما حدث الأربعاء الماضي. وشعرت أنني سأخجل من النظر إلى أحد من زملاء الفصل. وفكرت أن أعصاب تانوكي وكذلك جو غرفة المدرسين شيء في منتهى الانحطاط وقلة الأدب الذي لا يمكنني الصبر عليه مطلقًا. وفي طريق عودتي من المدرسة قررت ببساطة ترك المدرسة. وفكرت أن أهرب من البيت وأستقل في المعيشة وأصبح ممثلًا سينمائيًّا. فقد تذكرت بوضوح أن أخي قال لي في وقت ما: إنك يا سوسومو لك موهبة في التمثيل.

ولكن لم أترك المدرسة إذ دار بيننا الحوار التالي في وقت وجبة العشاء:

– أكره المدرسة. لا أستطيع الاستمرار وأريد الاستقلال.

– إن المدرسة مكان كريه حقًّا. ولكن ألا ترى أن من تعظيم الحياة الدراسية التردد عليها ونحن كارهون لها؟ يبدو قولًا متناقضًا، ولكن المدرسة وُجدت من أجل أن تُكره. حتى أنا أكرهها بشدة. ولكنني لم أفكر أبدًا أن أتركها في المرحلة المتوسطة.

– حقًّا ما تقول.

لم يبق لدي صبر. آه، كم هي رتيبة تلك الحياة!

الاثنين ١٧ مايو

طقس صحو. بدأت كرة القدم مرة ثانية. لعبنا اليوم مباراة مع فريق المدرسة المتوسطة الثانية. وسجلت هدفين في الشوط الأول وهدفًا في الشوط الثاني. وانتهت النتيجة ٣/٣. أثناء العودة من المباراة شربتُ بيرة مع زملائي الأكبر مني سنًّا في حي ميغورو.

بدأت أشعر أنني منخفض الذكاء.

الأحد ٣٠ مايو

طقس صحو. قلبي مكتئب رغم أن اليوم الأحد. يستمر الربيع في الانقضاء. جاء هاتف من كيمورا في الصباح. يعرض عليَّ الذَّهاب إلى يوكوهاما. فرفضت. بعد الظهر ذهبت إلى كاندا وجمعت كل الكتب والمراجع اللازمة لاختبارات دخول المدرسة العليا. قررت أن أنتهي من كتاب أبحاث الجبر (الجزآن الأول والثاني) قبل عطلة الصيف، وأراجع جميع تمرينات الهندسة المستوية في عطلة الصيف. وفي الليل أعدتُ ترتيب رفوف الكتب.

غم وكآبة. أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ، مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي٤

الخميس ٣ يونية

طقس صحو. في الحقيقة من اليوم ولمدة ستة أيام رحلة السنة الرابعة العلمية، ولكنني لم أشترك في الرحلة لأنني أكره نوم جميع التلاميذ معًا في غرفة خانٍ ياباني تقليدي ووقوفنا جميعًا في صفوف طويلة لمشاهدة المعالم الشهيرة.

وأنوي أن أقضي الستة أيام في قراءة الروايات. وبدأت اليوم في قراءة رواية «ضوء وظلام» لسوسيكي ناتسوميه. رواية كئيبة، كئيبة. هذه الكآبة لا يفهمها إلا من وُلد في طوكيو وتربى فيها. جحيم لا يطاق. على الأرجح أن زملاء الفصل يَغُطون في نوم عميق الآن في القطار الليلي. يا لها من براءة!

عندما يقف الشجاع وحيدًا يكون الأقوى! … (هل هذا قول شيلر؟)

الأحد ١٣ يونية

طقس غائم. جاء أوساوا وماتسومورا عضوا فريق كرة القدم الأكبر مني لزيارتي بدون موعد. لا أطيق استقبالهما وضيافتهما من شدة غبائهما. كانا في منتهى الإثارة وهما يبلغاني أن معسكر الصيف للفريق سيُلغى، وأن الأمر خطير. ولكن لأنني كنت قد قررت ألا أشارك في معسكر الصيف هذا العام، فعلى العكس الأمر مناسب لي، إلا إن الأمر بالنسبة لهما معناه أن تنقص متعة من المتع التي كانا يتُوقان إليها فشعَرا بالسخط. ويبدو أن الكابتن كاجي ارتكب أخطاء غبية في ميزانية الفريق فلم تسمح المدرسة بدفع تكاليف إقامة المعسكر. وبلغ الغضب مداه بماتسومورا وقال إنه يجب إعفاء كاجي من منصبه. على أي حال فالجميع حمقى! وكنتُ أريد منهم أن يرحلوا بأسرع وقت.

وفي الليل، دلكت قدم أمي بعد غياب طويل.

– عليك بالصبر على كل الأحوال.

– حاضر.

– كن على عَلاقة حسنة بإخوتك.

– حاضر.

كررت أمي قول: «اصبر» ثم بعد ذلك: حسِّن عَلاقتك بإخوتك.

الأربعاء ١٤ يوليو

طقس صحو. بدأت الاختبارات النهائية للفصل الدراسي الأول من يوم ۱۰ يوليو. وسوف تنتهي غدًا. وستظهر النتائج بعد أسبوع، ثم تبدأ عطلة الصيف أخيرًا. أشعر بسعادة. كما هو متوقع سعيد حقًّا. تنطلق مني صرخة آه انطلاقة تلقائية. لا تهم النتائج مهما كانت. لأنني تحيرت حيرة فكرية شديدة في هذا الفصل الدراسي، فربما تنخفض النتائج انخفاضًا كبيرًا. أعتقد أن اللغة اليابانية والكانجي والإنجليزية والرياضيات ارتفعت نتائجي فيها، ولكنني لا أملك اليقين حتى موعد الإعلان عنها. آه، إنها العطلة الصيفية! عندما أفكر بهذا أبتسم دون وعي. مع أن ثمة اختبارًا غدًا، إلا إنني أرغب في كتابة اليوميات ولا أصبر عليها. فلقد كسلت عن اليوميات مؤخرًا كسلًا شديدًا. لأن الحياة اليومية لم يكن بها شيء يستحق كتابته. على الأرجح لأنني أنا نفسي كنت خاليًا من المضمون! كلا، بل السبب وجود خيبة أمل عميقة الجذور. لقد بتُّ في منتهى اللؤم. أمسيت أكره أن أقول ما أعتقده للآخرين بدون تمييز. لا أريد أن يعرف الآخرون أفكاري حاليًّا. ولكنني أستطيع أن أقول كلمة واحدة: «إن هدفي في المستقبل تقرر في غفلة من الزمن!» ولن أقول شيئًا آخر. غدًا لدي اختبار. المذاكرة، المذاكرة.

الأربعاء ٤ يناير

طقس صحو. قضيت أول أيام العام والثاني والثالث والرابع في اللعب. لعبت طوال الوقت ليلًا ونهارًا. وليس معنى اللعب أنني ألعب وقد نسيت كل شيء تمامًا، ولكنني كنت ألعب وأنا أجر معي قلقي ومعاناتي بالقول في سري: آه، كم كرهت الحياة! آه، الأمر غير ممتع! وإن تحدثتُ عن مشاعر الوحدة بعد انتهاء اللعب فهي من درجة استثنائية. أقصى درجات الوحدة. كلما ذاكرت أفكر فيها بشدة. أشعر أنه لم يحدث لي أي تقدم خلال الشهر الماضي. مشاعر اللهفة وعدم الصبر. أريد حقًّا هذا العام أن أذاكر بدون ترك ثغرات. لقد قضيت العام الماضي وأنا محطم بمشاعر غير مستقرة كل يوم وكأنني أركب سيارة على وشك التحطم، ولكنني أشعر بميلاد آمال ممتعة مع بداية هذا العام. بدأت أشعر أن شيئًا جيدًا على مقربة مني أمامي مباشرة وأنني إذا مددتُ يدي سأتمكن من الإمساك به.

١٧ عامًا. عام كريه نوعًا ما. أشعر أنني أصبحت أخيرًا جادًّا. وأشعر أنني بتُّ إنسانًا عاديًّا فجأة. ربما أصبحت راشدًا.

في شهر مارس من هذا العام لدي اختبار الالتحاق بالمدرسة، لذا يجب عليَّ التوتر. قررت كما هو متوقع اختيار المدرسة العليا الأولى. وبالقطع القسم الأدبي! لقد قطعت صلتي تمامًا بالقسم العلمي بعد أن أرهقني تانوكي العام الماضي أكثر من مرة.

وافقني أخي وقال ضاحكًا: إن عائلة سريكاوا ليس بها دماء عالم في العلوم.

حسنًا، ومع اختياري القسم الأدبي إلا إنه ثمة شك في أنني أملك موهبة أدبية بنفس درجة أخي. وفي البداية لا أملك ثقة في نفسي أنني سأجتاز اختبار الالتحاق بالمدرسة العليا الأولى قسم الأدب الإنجليزي. قال أخي بخفة: لا مشكلة لا مشكلة، ولكن لأنه التحق بالجامعة بسهولة يبدو أنه يعتقد أن الآخرين يقدرون مثله على الالتحاق بها بنفس السهولة. يبدو أن أخي لا يعترف بوجود عوائق للبشر. يبدو أنه يظن أن الجميع لديهم نفس القدرات التي لديه. ولذا أحيانًا ما يفرض عليَّ بهدوء غريب أمورًا مستحيلة تمامًا. ويقول بلا وعي أشياء في منتهى القسوة. ربما تربى مدللًا. على الأرجح أنني لن أفلح في الالتحاق بالمدرسة العليا الأولى. على الأرجح أنني سأرسب. إن رسبت أنوي أن ألتحق بجامعة ريكيو الخاصة. فلست أنوي الاستمرار في الدراسة للسنة الخامسة في المدرسة المتوسطة. فالموت أفضل لي من البقاء لعام آخر في ظل استهزاء تانوكي بي. وأعتقد أن جامعة ريكيو ستكون ممتعة لأنها جامعة مسيحية وسأستطيع دراسة الكتاب المقدس بها بعمق. إنها جامعة مشرقة ومرحة.

لعبت في اليوم الأول واليوم الثاني لعبة الإشارات، كانت ممتعة في البداية، ولكن في اليوم الثاني، ضجرت منها جدًّا، وبناء على اقتراح من كيه ابن عمي المقيم في كاماكورا قرأنا نحن الأربعة بصوت عالٍ مسرحية «عودة الأب» أخي ومامه المقيمة في شينجوكو وأنا وكيه. كنتُ الأمهر على الإطلاق. كان تأدية أخي لدور الأب سيئًا بسبب مبالغته في العمق. وفي اليوم الثالث قررنا نحن الأربعة الذَّهاب إلى جبل تاكاو في نزهة جبلية شتوية. كانت نزهة مزعجة بسبب البرودة. تعبت تعبًا شنيعًا فاستندتُ على كتف أخي في قطار العودة ونمت. بات كل من كيه ومامه في بيتنا الليلة الماضية.

واليوم بعد عودتهما كل إلى بيته، زارني كيمورا وسائكي. كنتُ قد قررت ألا ألعب مع تلاميذ المدرسة المتوسطة المملين هؤلاء ولكنني كما هو المتوقع لعبت معهم. لعبنا كوتشينة. لعبة ۲، ۱۰، جاك اليابانية. وذُهلتُ من قذارة لعب كيمورا. لقد أخذ كيمورا مائتي ين من البيت وأخذ يلعب، وسافر بين يوكوهاما وأتامي ثم جاء لبيتي شاردًا بعد نفاد المال، فاتصلت بالهاتف على الفور ببيته وأخبرتهم. على ما سمعت أن أهله قدِموا للشرطة لكي تبحث عنه. وتعتبرني أسرته الآن صاحب جميل كبير عليهم. يبدو أن أسرة كيمورا غير جيدة ولكن كيمورا نفسه أحمق. مجرد مراهق جامح. إن نيتشه يبكي. حتى سائكي نفسه أحمق. مزاجه متعكر جدًّا مؤخرًا. ابن البرجوازية الكبرى، بجسد طويل ورفيع يبلغ طوله ستة أقدام. يقول إنه لن يواصل الدراسة وسيكتفي بالمدرسة المتوسطة بسبب ضعف بنيته الجسمانية. في البداية كان يتحدث معي عن الأدب الأجنبي فشعرت بالإثارة الشديدة كما حدث عندما حدثني كيمورا عن نيتشه، وفكرتُ أن سائكي هو صديقي الوحيد، فكنتُ أذهب من نفسي إلى بيته لزيارته ولكن يبدو أنه ضعيف الإرادة. عندما يكون في البيت يرتدي كيمونو من نوع كاسوري الذي يرتديه الأطفال من عمر خمس أو ست سنوات ولكن بمقاس كبير، ويقول على الطعام: مَمْ، مثل الأطفال. حصل لي رعب. ومع تعاملي معه تدريجيًّا بدأت لا أنسجم معه في الحديث. لا تعرف أهو رجل أم امرأة؟ يخرج لسانه كثيرًا، ويبدو وجهه كأنه على وشك أن ينزل من فمه اللعاب. قال لي منذ مدة، وكأنه يستحق الثناء: إنه لن يلتحق بالجامعة لأن بنيانه الجسماني ضعيف ويريد أن يدرس معي الأدب في البيت بهدوء. ومستحيل أن أوافقه على ذلك. فقلت له: من الأفضل أن تعيد التفكير في ذلك.

غرَبت الشمس أثناء قضاء الوقت مع كيمورا وسائكي. وأكلنا موتشي معًا. وبعد أن رحل الاثنان، جاءت هذه المرة الآنسة «مفعوصة». نحيفة جدًّا. وهذه الآنسة هي أخت أبي الصغرى. ولذا فهي عمتنا. وعمرها الحقيقي خمس أو ست وأربعون سنة، أي إنها بلغت من العمر عتيًّا. وعزباء. أستاذة كبيرة في فن تنسيق الزهور. ورئيس لجمعية ما من الجمعيات النسائية. ويقول أخي إن الآنسة «مفعوصة» عار على عائلة سريكاوا. ليست شريرة ولكنها نوعًا ما «مفعوصة» قليلًا. لقد اخترع أخي العام الماضي لها اسم مفعوصة. في حفل زِفاف أختي جلست عمتي هذه مجاورة لأخي. وعرض رجل غريب على عمتي خمرًا. فقالت الآنسة وهي تلوي جسمها عدة مرات: عذرًا فأنا لا أشرب.

– ولكنه كأس واحد فقط.

– هاهاهاها. حسنًا، سأتناول القليل!

يا له من أمر مقزز! قال لي أخي إنه من شدة إحساسه بالخجل كان يرغب في ركل المقعد ومغادرة الحفل. معظم النار من مستصغر الشرر! إنها متكلفة بدرجة لا تُحتمل. الليلة أيضًا نظرت إلى وجهي وقالت: أوه، سوسومو! لقد بدأ ينبت لك شعر أسود أسفل أنفك! أرجوك أن تصبح أكثر وعيًا.

سخيفة! قذرة! عنيفة! خرقاء! إنها حقًّا عار على العائلة! أرفض التواجد معها في مكان واحد. تبادلت إيماءة خفية مع أخي وخرجنا معًا من البيت. كان حي غينزا مزدحمًا ازدحامًا شديدًا. شعرت بالرعب عندما فكرت: تُرى هل خرج الجميع من بيوتهم مثلنا لإحساسهم بالملل؟ شعرتُ بالرعب عندما همس أخي أثناء تناولنا للقهوة في متجر شيسيدو قائلًا: يبدو أن عائلة سريكاوا تسري فيها دماء الانحلال.

وأثناء العودة تناقشنا في الباص حول «الإخلاص». يبدو أن أخي أيضًا بدأ في الانهيار مؤخرًا. فيجب عليه الاهتمام بأمور الأسرة بعد غياب أختي عن البيت، وكذلك لا تسير الرواية على ما يرام.

عدنا في الساعة الحادية عشرة. وكانت الآنسة مفعوصة قد غادرت.

حسنًا، من غدٍ يجب عليَّ التقدم للأمام وأنا أحمل أملًا جديدًا طازجًا ورُوحًا معنوية عالية. فلقد بتُّ في السابعة عشرة من عمري. أقسم لك يا إلهي! أن أستيقظ في الساعة السادسة وأذاكر باجتهاد.

الخميس ٥ يناير

طقس غائم. رياح عاصفة. لم أفعل اليوم شيئًا. ففي يوم العواصف الشديدة لا يمكن فعل شيء. وحتى الصحيان من النوم كان في الواحدة بعد الظهر. لقد بتُّ أكثر إهمالًا من العام الماضي. استيقظت وجلست محتارًا فيما أفعل، فجاءني اتصال هاتفي من أختي التي تملك الآن بيتًا في حي شيتايا. قالت لي: «تعال لزيارتي!» فانزعجتُ قليلًا. ولكن بسبب طبيعة شخصيتي إياها غير الحاسمة أجبت: «حاضر، سأفعل». في الحقيقة إنني أكره بيت السيد سوزوأوكا. فهو مبتذل. حتى أختي تغيرت. عندما جاءت لبيتنا بعد زواجها مباشرة كانت قد تغيرت بالفعل. كانت جافة جدًّا. مجرد ربة بيت. ولم يعد بها أي مظهر من مظاهر الغنى. اندهشتُ جدًّا. فلم يمر على زواجها عشرة أيام ومع ذلك كان ظهر يديها في منتهى الاتساخ. وغير ذلك باتت جشعة جشعًا ممقوتًا لدرجة النفعية. بذلت أختي جهدها لإخفاء ذلك ولكنني عرَفته بالفعل. إنها الآن تنتمي بالكامل إلى عائلة سوزوأوكا. حتى ملامحها بدأت تشبه ملامح وجه زوجها السيد سوزوأوكا. وبذكر الوجوه، فإنني في كل مرة أتذكر وجه توشيو أرتبك ارتباكًا شديدًا. توشيو هو أخو سوزوأوكا الأصغر. تخرج العام الفائت من مدرسة متوسطة في الريف ثم جاء لطوكيو وهو الآن يقيم مع أختي وزوجها ويدرس الآداب في جامعة كيو. لا ينبغي قول ما سأقول، ولكن توشيو هذا أقبح رجل رأته عيناي حتى الآن. إنه في الواقع شنيع. حتى أنا لست جميل الوجه بأي حال، فلا أريد حقًّا أن أتحدث عن وجوه الناس، ولكنني أرتبك دائمًا لأن وجه توشيو هذا في منتهي الدمامة فعلًا. لم تكن مشكلة أن الأنف كذا والفم كذا. ولكن كانت تقاطيع الوجه في المجمل متنافرةً وليس بها أي فكاهة. عندما أرى ذلك الوجه أغرَق دائمًا في تفكير عميق. إن نسبة وجود هذا الوجه هي واحد من بين عشرة آلاف وجه. تصيبني هذه الطريقة في القول أنا نفسي بالضيق ولا يجب قولها ولكنها الحقيقة فلا مفر منها. لأول مرة منذ ولادتي أرى مثل هذا الوجه. لقد كنت أُومن بقوة بالقول إن وجه الرجل لا يُعَد معضلة مطلقًا، وإذا حمل الرجل رُوحًا سامية مرحة فهو يستطيع العيش في هذا المجتمع حياة عظيمة، ولكنني أعتقد أن توشيو مع شبابه ودراسته للآداب في جامعة باهرة مثل جامعة كيو، إلا إنه يعاني معاناة شديدة بسبب ذلك الوجه. بل لدرجة أنني شخصيًّا أكره هذه الحياة عندما أقابل ذلك الوجه. إنه وجه شنيع حقًّا وصدقًا. هذا الشخص طوال حياته القادمة كم من المرات سيشار إليه بالأصابع ويُغتاب ويبتعد عنه الناس بسبب هذا الشيء الخِلقي! عندما أفكر في ذلك، أغدو متشككًا تجاه تركيبة المجتمع الإنساني المعاصر، وتبدو هذه الحياة بغيضة. فأكره مشاعر البرود التي يحملها الناس في هذا المجتمع. أشعر شخصيًّا بالسخط. إن استطاع توشيو في المستقبل أن يتوظف في وظيفة معتبرة وألا يعاني من أجل الحصول على قوت يومه فسيكون ذلك في الواقع أمرًا حميدًا ويستحق السعادة. ولكن لنفكر في حالة زواجه. تُرى كم سيشعر بمشاعر مأساوية عندما يجد امرأة تصلح لتكون زوجة له ولكنه لا يقدر على الزواج منها بسبب دمامة وجهه! من المؤكد أن صراخه سيكون مدوِّيًا. آه، التفكير في أمر توشيو يصيبني باكتئاب. أتعاطف معه من أعماق قلبي ولكنني مع ذلك أكرهه، فهو شنيع. لا أستطيع وصفه بأي وصف. أريد بقدر الإمكان ألا أراه. ربما كنتُ باردًا سيئ الطوية مثل باقي المجتمع. كلما فكرت زاد ارتباكي وحيرتي. لم أذهب إلى بيت شيتايا منذ العام الفائت إلا مرتين فقط. أريد أن أقابل أختي ولكن زوجها السيد سوزوأوكا يعاملني معاملة الأخ الكبير المبجل ويناديني: يا فتى يا فتى، فلا أتحمل ذلك. ربما يكون ذلك ما يُطلَق عليه صفات العظماء ولكنني أعتقد أن نداء «يا فتى» مبالغة. شيء مَقيت، وقد بلغت السابعة عشرة من العمر، أن ينادَى عليَّ بكلمة «يا فتى» فأجيب «نعم». فكرت ألا أرد عليه وأظهر غضبي الشديد، ولكنني أخاف منه لأنه على أي حال يملك الحزام الرابع في الجودو. فبتُّ تلقائيًّا ذليلًا. عندما أرى وجه توشيو أصبح مرتبكًا ومحتارًا، وتجاه السيد سوزوأوكا أُصاب بالخوف، ذَهابي لبيت شيتايا يجعلني شخصًا فاشلًا. وأمس أيضًا قالت لي أختي: ألا تأتي لزيارتي، فأجبت بكلمة نعم دون وعي، ولكنني ظللت محتارًا فترة طويلة. لا أريد الذَّهاب مهما حصل. وفي النهاية استشرت أخي.

– قيل لي أن أذهب لزيارة شيتايا. ولكنني لا أريد الذَّهاب. خاصة في عاصفة مثل عاصفة اليوم.

ولكن قال أخي مشاكسًا: ولكنك قلت لهم إنك ستذهب. أليس كذلك؟

إنه على علم تام بطبيعتي غير الحاسمة.

– لذا يجب عليك الذهاب.

– أي، أي! فجأة بدأت بطني تؤلمني.

ضحك أخي.

– إذا كنت تكره الذَّهاب لهذه الدرجة كان من الأَولى أن ترفض بوضوح. إنهم في انتظارك الآن. أنت تريد أن تكون دائمًا الطفل المحبوب من الجميع لذلك تفشل هكذا.

وصل الأمر أخيرًا إلى محاضرة وعظ. أنا أكره الوعظ. حتى ولو كان وعظ أخي فأنا أكرهه. لم يحدث لي حتى الآن أن وُعظت فندمت وتبت للرب ولو مرة واحدة. ولم يسبق لي حتى الآن أن شعرت بعظمة الواعظين ولو مرة واحدة. الوعظ مجرد نشوة ذاتية للواعظ. تظاهر أناني. إن الإنسان العظيم حقًّا ينظر إلى فشلنا مبتسمًا في صمت. ولكن لأن تلك الابتسامة في منتهى الصفاء فحتى لو لم يقل شيئًا تتأثر بها قلوبنا بشدة. وعندما ننتبه نجدنا في دهشة بالغة. ونندم حقًّا ونتوب. أكره الوعظ مهما كان. حتى ولو كان وعظ أخي. لقد غضبت. فقلت: من الأفضل أن أرفض بوضوح أليس كذلك؟

ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت ببيت شيتايا بانفعال قليل فحدث ما لم أتوقعه ورَدَّ السيد سوزوأوكا.

– هذا أنت يا فتى؟ عام جديد سعيد.

– أجل. عام سعيد.

فهو يحمل الحزام الرابع في الجودو.

– أختك الكبرى تنتظرك. تعال بسرعة.

يا له من متملق يقول أختك الكبرى!

– آسف … ولكن … بطني تؤلمني.

حتى أنا نفسي شعرت بالخجل.

– أرجو أن تبلغ تحياتي لتوشيو.

بل وقلت مجاملة لا داعي لها.

لم أستطع أن أُرِي وجهي لأخي فتسللت ذاهبًا إلى غرفتي وانعزلت بها حتى الغروب أقرأ هنا وهناك في كتاب كيركغارد «التدريب في الديانة المسيحية». لم أفهم سطرًا واحدًا. بل كنت أنقل عيني بين الحروف المطبوعة بينما أفكر في أمور أخرى لا نهاية لها.

كان اليوم يوم الحمقى بامتياز. مهما فعلت، يظل بيت شيتايا من المعضلات بالنسبة لي. عندما أفكر في أختي التي تضحك في سعادة بعد أن ذهبت لذلك البيت، أفقد القدرة على فهم أي شيء. وعندما قلت أثناء وجبة العشاء: ما الذي يتحدث الأزواج بشأنه؟

أجاب أخي بنبرة تدل على الملل: لا أدري. على الأرجح لا يتحدثون؟

أعتقد أنهم كذلك.

إن أخي ذكي جدًّا. يعرف ملل بيت شيتايا.

في الليل آلمتني حنجرتي فسأنام مبكرًا. الساعة الثامنة. أكتب اليوميات وأنا في الفراش. حالة أمي الصحية جيدة مؤخرًا. إن تخطت شتاء هذا العام فربما تتجه نحو التعافي أخيرًا. فعلى أي حال هي مريضة بمرض عضال. ومع ذلك ألا أجد خمسة ينات؟ فيجب أن أعيدها إلى سائكي. أعيدها له بالكامل ثم أقطع عَلاقتي به تمامًا. يبدو أن الإنسان عندما يكون مديونًا لا يستطيع مشاكسة دائنيه. هل أبيع كتبي القديمة لأحصل على المبلغ؟ أم أطلبه من أخي؟

كُتب ما يلي في سِفر التثنية: «لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا!»٥ الأسلم أن أطلب من أخي. مع أنه يبخل عليَّ أحيانًا.

ما زالت الرياح شديدة.

الجمعة ٦ يناير

طقس صحو. والبرودة قاسية. أخجل من أنني كل يوم أتخذ قرارات ولا أفعل منها شيئًا. بتُّ أكثر براعة في عزف الغيتار، ولكنه أمر لا أفخر به في أي حال. آه، أريد تمضية يومٍ واحد بدون ندم! سئمتُ من بداية العام. شُفي ألم حنجرتي، والآن أشعر بصداع. لا رغبة لدي في الكتابة.

السبت ٧ يناير

طقس غائم. في النهاية أسبوع بلا فعل. من الصباح أكلت وحدي صندوق يوسفي كامل تقريبًا. لدرجة أن راحة يدي غدت صفراء.

عار عليك يا سوسومو سريكاوا! إنك في الفترة الأخيرة مهمل جدًّا في يومياتك. ما من أثر لإنسان مثقف. يجب أن تتشجع أكثر. هل نسيت طموحك؟ لقد بتَّ في السابعة عشرة بالفعل! وقت أن تغدو مثقفًا كامل الأهلية. يا له من إهمال! هل نسيت أنك في المرحلة الابتدائية كنتَ تذهب كل أسبوع إلى الكنيسة مرافقًا لأخيك لدراسة الكتاب المقدس؟ ويُفترض أنك استوعبت وفهمت تمامًا آمال السيد المسيح. هل نسيت تعهدك لأخيك بأن تضحى مثل المسيح؟ هل نسيت تلك الليلة عندما قرأت: «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا.»٦ ثم بكيت تلقائيًّا بصوتٍ عالٍ؟ كل يوم كل يوم عزمك فقط عظيم، ولكن في النهاية قضيتَ أسبوعًا كاملًا تلهو كالأغبياء.

تنتظرك اختبارات القبول في شهر مارس القادم. ليس اختبار القبول الهدف النهائي للحياة، ولكن كما يقول أخي، ثمة قيمة عالية لحياة الطالب في قتاله هذا. حتى المسيح كان يدرس. درس الكتب المقدسة وقتها دراسة مستفيضة دون أن يترك منها شيئًا. كل العباقرة قديمًا درسوا عشرات أضعاف الشخص العادي.

يا سوسومو سريكاوا! أنت أحمق كبير! دع عنك اليوميات وغيرها! إن اليوميات المتساهلة تلك التي يكتبها أحمق مدلل لا فائدة منها، ولا تصبح طعامًا حتى للخنازير. هل أنت تعيش من أجل أن تكتب يومياتك؟ من الأفضل أن تتوقف عن كتابة تلك اليوميات المتساهلة، تلك التي غرضها الرضا عن الذات. إن حياة العدم مهما أعدتَ التفكير فيها ومهما رتبتَها وضبطتَها فهي عدم. وتكرار كتابتها في الواقع شيء مضحك وهزلي. إن يومياتك باتت بلا معنى.

«يهدف ندمنا على الأخطاء الصغيرة إلى إقناع الآخرين بعدم وجود خطايا كبرى لنا» فرانسوا دو لاروشفوكو.

أرأيت!

سيبدأ الفصل الدراسي الثالث من بعد غدٍ.

تقدم للأمام بكل ما في طاقتك!

السبت ١ أبريل

طقس غائم قليلًا. ورياح عاصفة. يوم مصيري. يوم يجب ألا يُنسى طوال العمر. لقد ذهبت لرؤية النتيجة في المدرسة العليا. وقد رسبت. شعرت وكأن معدتي وأمعائي قد اختفَوا فجأة. شعور وكأن أحشائي فارغة. لم يكن شعورًا بالحسرة. ولكنني شعرت بالدُّوار. كان سوسومو مثيرًا للشفقة. شعرت أنه من الطبيعي أن يرسب.

لم أرغب في العودة للبيت. رأسي ثقيلة وأذني تصفِّر وحلقي جافٌّ جفافًا شديدًا. ذهبت إلى غينزا. ووقفت في ركن المربع الرابع، وبينما كنتُ واقفًا أنتظر إشارة المرور والرياح تهاجمني، سالت دموعي لأول مرة. كدتُ أن أصرخ باكيًا. لا حيلة في الأمر فهذا أول رسوب لي في حياتي كلها فلم أستطع التحمل. لا أدري كيف مشيت. مر بجواري اثنان، فالتفتا للخلف نحوي. ثم ركبت قطار الأنفاق. وجئت إلى بوابة كاميناريمون بأساكوسا. زحام شديد. توقفت عن البكاء. شعرت أنني راسكولينكوف . ثم دخلت قاعة ميلك هول. كان سطح المنضدة أبيض بسبب التراب. وكان لساني أيضًا خشنًا من التراب. كنتُ أتنفس بصعوبة. طالب راسب. وصف لا يليق! أحس بإرهاق في قدميَّ وكأنها على وشك الانفلات من جسمي. وتلوح أشباح أمام ناظريَّ.

تنصب أشعة الغروب على أطلال روما فتثير حزنًا عميقًا. تختفي داخل البوابة الحجرية امرأة تلتحف برداء أبيض منكَّسة الرأس.

يَنِزُّ عرَق بارد من جبهتي. دخلت امتحان القبول في جامعة ريكيو أيضًا، هل …؟ ولكن، كلا، لا مانع من أي شيء. فحتى لو دخلتها سيكون الأمر شكليًّا فقط. فليس لدي الرغبة في التخرج منها. من غدٍ سوف أستقل بحياتي. لقد قررت ذلك بالفعل قبل العطلة الصيفية العام الماضي مباشرة. لقد كرهت العيش في طبقة الأغنياء المتمتعين بوقت فراغ كبير. كم كنت وضيعًا بائسًا يتطفل على تلك الطبقة تمامًا! «إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ الرَّبِّ!»٧ أليست تلك فرصةً جيدة؟ من غدٍ لن أحتاج لرعاية أسرتي. آه، أيتها العاصفة! أيتها الرُّوح! من غدٍ سوف أخوض غمار الحياة. مرة أخرى تلوح الأشباح أمام ناظريَّ.

خضار مزدهر ازدهارًا مرعبًا. وتفور مياه من نبع. تفور بكثرة ثم تتدفق فوق العشب الأخضر. وأسمع خرير المياه الصاخب. ثم تنطلق الطيور.

تختفي. تجلس بجوار منضدتي فتاة دميمة الوجه ترتدي زيًّا غربيًّا شاردة الذهن وأمامها فنجان قهوة فارغ. أخرجت من حقيبتها علبة مكياج صغيرة وأخذت تضرب أرنبة أنفها بقطعة الإسفنج الممتلئة بالمسحوق. كانت ملامحها وقتها أشبهَ بالمتخلفين عقليًّا. ولكن كانت ساقاها رفيعتين والجوارب شفافة جدًّا. ثم جاء رجل. رجل بدا كأنه دهن حتى وجهه بكريم تلميع الشعر. ابتسمت الفتاة ثم وقفت. أشحتُ بوجهي بعيدًا. تُرى هل أحب المسيح حتى مثل هذه المرأة! تُرى هل لو خرجتُ من البيت سأتبادل المزاح مع مثل هذه المرأة ببساطة؟ لقد رأيت شيئًا كريهًا. جف حلقي. لأشربْ كوبًا آخر من الحليب. ستكون زوجتي في المستقبل امرأة بارزة الفك مثل هذه، وصديقي في المستقبل مثل هذا الرجل الأنيق الذي يدهن جسمه كله بكريم تلميع الشعر كريه الرائحة! سوف تتحقق تلك النبوءة. خارج المحل تتدفق أعداد مهولة من البشر. تُرى هل يملك الجميع عُشًّا يجب العودة إليه؟

– عودة حميدة. لقد عدتَ مبكرًا اليوم، أليس كذلك؟

– بلى. لقد انتهى العمل اليوم بطريقة جيدة.

– هذا جيد. هل تدخل للاستحمام؟

عش عادي وهادئ للراحة والاسترخاء. أما أنا فلا مكان أعود إليه. فتى راسب! يا له من عار! لا أدري كم احتقرت التلاميذ الراسبين احتقارًا شديدًا حتى الآن. لقد كنت أفكر أنهم نوعية مختلفة من البشر، يا لها دهشة! لقد خُتم على جبهتي بالحديد المحمَّى كلمة طالب راسب. منتمٍ جديد للعصبة! تقبلوا تحياتي.

ألم ترَوا طالبًا في المدرسة المتوسطة ليلة الأول من أبريل يسير متسكعًا في غابة أضواء النيون بأساكوسا مثل الكلب الضال؟ هل رأيتموه؟ لو رأيتموه فلماذا لم يوقفه أحد منهم قائلًا له: «عزيزي، توقف»؟ من المؤكد أنني كنتُ سأنظر عاليًا إلى وجهك وأطلب منك قائلًا: «أرجو منك أن تكون صديقي!» وبالتأكيد كنا سنتبادل معًا القسم مرات ومرات ونحن نسير معًا في العاصفة قائلين: سوف ننقذ الفقراء! يا له من أمر رائع بالنسبة لك وبالنسبة لي العثور على رفيق في العالم الواسع من حيث لا نحتسب. ولكن لم يوجِّه أحد إليَّ كلامًا. فعدت إلى بيتي في حي كوجيماتشي خائر القوى.

إن كتابة ما يلي أكثر عذابًا مما مضى. أقسم لك يا إلهي ألا أفعل مثل هذا الشر مرة أخرى فيما يلي من حياتي! لقد لكمتُ أخي الأكبر! في الساعة العاشرة ليلًا تقريبًا، عدتُ متسللًا إلى البيت، وبينما كنتُ أفك رباط الحذاء في مدخل البيت المظلم أُشعلَت الأضواء فجأة وجاء أخي.

– هاه، ما النتيجة؟ هل رسبت؟

صوت مرتاح البال. التزمت الصمت، ثم خلعت الحذاء ووقفتُ على عتبة الدار وأجبتُ وأنا ابتسم ابتسامة خافتة متكلَّفة: أليس هذا مؤكدًا!

تحشرج صوتي في حلقي.

حملق أخي بعيون مستديرة وقال: هاه! أحقًّا هذا؟

– أنت المخطئ.

ثم لكمتُ أخي بدون سابق إنذار. آه، شُلَّت تلك اليد! غضب ليس له مبرر. لكمتُ وجه أخي بعد أن اجتاحتني نوبة انفعال عنيفة تقول: على الرغم من العار الذي كلل وجهي هكذا لدرجة الرغبة في الموت، إلا إنكم تعيشون عيشة هنية بوجوه مستبشرة تتصنع الرقي، اللعنة عليكم! بكى أخي كالأطفال.

– آسف، آسف، أسف.

حضنتُ عنق أخي وبكيتُ بمرارة.

حملني الطالب كيجيما على أكتافه ثم جاء بي إلى غرفتي وقال لي بصوت هامس وهو يخلع عني ملابسي: غير ممكن. أليس كذلك؟ غير ممكن لأنك في السابعة عشرة من عمرك. آهٍ لو كان الوالد على قيد الحياة! آه.

يبدو أنه أساء الفهم.

– لم يكن عراكًا بيننا. أيها الغبي. لم نتعارك.

كررت ذلك القول عدة مرات وأنا أواصل البكاء. هذا أمر لا يفهمه شخص مثل كيجيما. بسط كيجيما لي الفراش ونمت.

وأنا الآن أنام على بطني في الفراش أكتب «نهاية» هذه اليوميات. يكفى هذا. سوف أترك هذا البيت. من غدٍ سوف أستقل بحياتي. وسوف أترك هذه اليوميات كأثر من آثاري في هذا البيت. من المؤكد أن أخي إن قرأها سيبكي. كان أخًا رائعًا. منذ كنت في الثامنة من العمر بات أخي الأكبر بديلًا عن أبي واهتم بي بحب وأرشدني في حياتي. لو لم يكن أخي موجودًا لربما كنت الآن شابًّا منحرفًا جدًّا وسيئ الطباع. من المؤكد أن أبي مستريح الآن في العالم الآخر لأن أخي بمثل هذا الصفات الحكيمة. ولقد تعافت أمي مؤخرًا، لدرجة أنني أعتقد أنها سوف تُشفى تمامًا عمَّا قريب. أمر مفرح. أرجو منكِ ألا تقلقي وتعيشي في راحة وأن تثقي بنجاح سوسومو حتى لو غاب عن البيت. فلن أرسب مطلقًا. سوف أنتصر على هذا المجتمع بالتأكيد. وسوف أجعلك يا أمي تسعدين في التو والحال. الوداع أيها المكتب، أيتها الستائر، أيها الغيتار، أيتها البييتا. الوداع لكم جميعًا. باركوا رحيلي من البيت ضاحكين غير باكين!

الثلاثاء ٤ أبريل

صحو. إنني أعيش الآن في سعادة كبيرة ببيت صيفي بمنطقة كوجوكوريهاما. اصطحبني أخي اليوم وجئنا إلى هنا. غادرنا اليوم محطة ريوكوكو بالقطار في الساعة الواحدة وثلاثة وعشرين دقيقة بعد الظهر، فكنت أتأمل بشغف المناظر خارج النافذة وكأنها أول رحلة سفر لي منذ ولادتي. غادرنا ريوكوكو وظلت لفترة مصانع تليها مصانع على جانبي قضبان القطار، ثم ملأَت المسافاتِ بينها بيوتُ الفقراء الصغيرة وكأنها تشبه حشرات مَنٍّ. ثم انفتح المنظر قليلًا على أراضٍ خضراء وتبدو فيها هنا وهناك أسطح صغيرة لمباني من الطوب الأحمر بدا أنها منازل أصحاب الياقات البيضاء. فكرت في حياة هؤلاء البشر الذين يعيشون في الضواحي التي تشبه النفايات. آه، إن حياة الجماهير مفتقدة بشدة وكذلك حزينة. وقلت لنفسي إنني ما زلت بعيدًا جدًّا عن المعاناة. انتظرنا خمسة عشرة دقيقة في محطة تشيبا ثم غيَّرنا إلى القطار المتجه إلى كاتسوءورا، فوصلنا كاتاكاي مع الغروب. ولكن لم نجد الباص. قيل لنا إن آخر باص غادر قبل وصولنا بثلاثين دقيقة. حاولنا نحن الاثنان أن نتفاوض مع تاكسي ولكن كان السائق مريضًا ولا يستطيع القيادة.

فقال أخي لي وهو يقلِّص عنقه من البرودة: ما رأيك هل نذهب سيرًا على الأقدام؟

– أجل. وسوف أحمل أنا الأمتعة.

ضحك أخي وقال: لا عليك.

توجهنا أولًا إلى ساحل البحر. فالمسافة أقرب نسبيًّا إذا مشينا بمحاذاة البحر. كانت الرمال صفراء اللون رائعة الجمال بعد أن انعكست عليها أشعة الغروب، ولكن الرياح القوية تضرب وجهينا فشعرنا بالبرد. لم نأت للبيت الصيفي هذا في كوجوكوريهاما منذ أربع أو خمس سنوات، فهو بعيد جدًّا عن طوكيو، والمكان أيضًا موحش، وفي العطلة الصيفية كنا نذهب غالبًا إلى بيت عائلة أمي في نومازو. ولكن عندما أتينا بعد فترة غياب، وجدنا أن بحر كوجوكوريهاما ما زال متسعًا كما هو وزرقته لا تتغير منذ الماضي. ويتكرر بلا انقطاع مجيء الموجات العملاقة ثم تنهار. لقد كنا نأتي في طفولتي كل عام تقريبًا. يُطلق على البيت لقب «ماتسوكازوين» وكان علَمًا من أعلام كوجوكوريهاما. يأتي الكثير من المصطافين لزيارة حديقة البيت، ويبدو أن أبي كان يرحب بالجميع دون تفرقة بين هذا وذاك ويعاملهم معاملة لطيفة، فيعود الجميع مسرورين. كان أبي يحب إسعاد الناس حقًّا. حاليًّا يسكن البيت شرطي يُدعى السيد إيتشيتارو كاواغوي وزوجته العجوز السيدة كين، ويحرسانه أثناء غيابنا، ولكن لا يأتي أحد من أسرتي، فقط الآنسة مفعوصة تأتي مع تلاميذها ومعارفها في مرات نادرة، ولذا بات كالبيوت المهجورة تقريبًا. وحتى الحديقة أصابها الخراب واندثر لقب «ماتسوكازوين» حاليًّا. وعلى الأرجح أن المصطافين في كوجوكوريهاما قد نسوا «ماتسوكازوين». انعدمت حتى زيارات المعجبين المهووسين الذين يزورون الحديقة. مشيت خلف أخي أفكر في الأمور وقدماي تصدران صوتًا جافًّا من وطء الرمال. يسقط فوق الرمال ظلان أسودان طويلان جدًّا لنا. اثنان . لم يعد في بيت سريكاوا إلا اثنان، أخي ثم أنا. وقررت بقوة أن نعيش بعَلاقة جيدة معًا وأن يساعد بعضنا بعضًا.

وعندما وصلنا البيت الصيفي كان الظلام الدامس قد سيطر على المكان بالكامل. ولأننا أرسلنا برقية فقد كانت العجوز كين تنتظرنا وقد أنهت جميع الاستعدادات. دخلنا للاستحمام على الفور، ثم تناولنا وجبة العشاء من السمك اللذيذ، ثم رقدنا على ظهورنا في غرفة الطعام. انطلقت تنهيدة كبيرة من أعماق البطن.

وظننتُ أن جحيم الفوضى التي حدثت في أول وثاني أيام الشهر وكأنها الآن حلم من الأحلام. في صباح اليوم الثاني من أبريل استيقظت في الظلام ووضعت أغراضي في حقيبة سفر وهرَبتُ من البيت سرًّا. والمال، كان قد بقي معي أكثر من نصف مصروف شهر أبريل، ويصل إلى عشرين ينًّا، الذي تسلمته في أول الشهر. ولكن مع ذلك كنت أشعر بقلة المبلغ لذا لم أنس أن أحمل معي ساعة التوقيف الرقمية التي استعرتها من أخي وساعة يدي. ربما يمكنني بيعهما معًا بمبلغ مائة ين. كان الضباب كثيفًا جدًّا في الخارج. عندما وصلت إلى يوتسويا ميتسكيه كان الصباح قد بدأ يشرق تدريجيًّا. ركبت قطار الضواحي إلى يوكوهاما. ولا أستطيع أنا نفسي أن أشرح بمهارة لماذا اشتريت تذكرة القطار حتى يوكوهاما. مجرد أنني شعرت أنني لو فقط ذهبت إلى يوكوهاما فسأجد الحظ السعيد في انتظاري. ولكن، لم أجد شيئًا. جلست على دكة في إحدى حدائق يوكوهاما حتى الظهر تقريبًا. أتأمل سفن الميناء البخارية. والنَّوْرس يطير في المكان. اشتريت خبزًا من محل الحديقة وأكلته. ثم حملت حقيبة السفر وذهبت إلى محطة ساكوراغيتشو، واشتريت تذكرة حتى محطة أوفونا. لو لم أجد قوت يومي فلأصبحْ ممثلًا. فقد نالني الاحتقار من مدرس الرياضيات الملقب بتانوكي، فقررت ببساطة أن أترك المدرسة، وقررت وقتها أيضًا أن أستقل بحياتي وأصبح ممثلًا سينمائيًّا. ويبدو أنني لسبب مجهول أملك غرورًا غريبًا في نفسي أنني لو أصبحت ممثلًا بأي طريقة فسوف أحقق نجاحًا عظيمًا. ولم يكن ذلك الغرور بسبب وجهي. بل غرورًا بشأن ثقافتي وفني. ولكنني لم أكن مفتونًا بالممثلين. بل لدرجة أنني كنت أدرك أنها مهنة شاقة وكذلك مهنة لها جانبها البائس. ولكنني لم يصل بي التفكير إلى مهنة أخرى أستطيع القيام بها خلاف تلك المهنة. لم يكن لدي ثقة بنفسي في العمل في مهنة توزيع الألبان. نزلت في محطة أوفونا. قررت أنه مهما حصل فسوف أماطل وألح حتى أستطيع لقاء مخرج سينمائي ولو واحدًا. وكنت قد قررت ذلك بخفةٍ بعد معرفتي مباشرة برسوبي في اختبار قبول المدرسة العليا الأولى. وفي النهاية حسمت قراري ذلك. ذهبت إلى بوابة استوديو التصوير بحماس غريب لدرجة أنني لم أكن أرى أي شيء أمام عينيَّ، ولكن انتهى الأمر بضحكات مريرة وخطيرة. كان ذلك يوم الأحد! يا لي من طفل متهور! ربما كان كل ذلك بمشيئة الرب. لأنه كان الأحد فقد تبدل مصيري مرة أخرى من النقيض إلى النقيض.

حملت حقيبة السفر وعدت إلى طوكيو مجددًا. كان غروب طوكيو جميلًا. جلست على دكة رصيف محطة يوراكوتشو، أتأمل إضاءات المباني التي تومض براقة، وقتها ملأَت الدموع عينيَّ لدرجة عدم القدرة على الرؤية. وعندها ربت رجل أنيق على كتفي برفق. لم يكن يجب عليَّ أن أبكي. أُخذت إلى نقطة الشرطة ولكن عاملني الجميع بتهذيب ورعاية. ويبدو أن اسم أبي كان ذا فاعلية. جاء أخي وكيجيما لاستلامي. ركبنا السيارة نحن الثلاثة، وبعد فترة قال كيجيما فجأة:

أليست الشرطة اليابانية هي الأفضل في العالم كله؟

لم يتلفظ أخي بكلمة واحدة.

وفي الوقت الذي نزلت فيه من السيارة أمام البيت، قال أخي بنبرة سريعة دون أن يوجه كلامه إلى أحد: لم نبلغ أمي بأي شيء.

ونمت في تلك الليلة من التعب وكأنني ميت. وهكذا في اليوم التالي، اصطحبني أخي وجئنا إلى كوجوكوريهاما. أي أمس. ثم سرنا بمحاذاة البحر ووصلنا إلى هذا البيت الصيفي وقت الغروب. ثم استحممنا وأكلنا وجبة عشاء شهية ثم انقلبنا نائمَين على ظهورنا، خرجت تنهيدة كبيرة من أعماق البطن. وفي الليل نمت في فراش مجاور لأخي بعد غياب طويل.

– لقد أخطأتُ أن جعلتك تختبر للقبول بالمدرسة العليا الأولى. إنه خطأ أخيك الأكبر.

تُرى ما هو الرد المناسب الذي يجب أن أقوله؟ فأنا لا أستطيع مطلقًا أن أقول كلا إنه خطأي أنا وأعيد الأمور في نصابها بسلاسة. لا أستطيع أن أقول ذلك القول الذي يتضح عدم إخلاصه وضوحًا تامًّا. بل كنتُ فقط في مكان عميق جدًّا من قلبي أعتذر سرًّا للرب، لأخي، بمشاعر مؤلمة قائلًا: الرجاء مسامحتي. لويت جسمي داخل الفراش لويًا شديدًا. كنتُ أعاني في العثور على موضع لجسمي.

– لقد رأيت يومياتك. وعندما قرأتها حتى أنا اجتاحتني الرغبة في الهروب من البيت.

قال أخي ذلك ثم ضحك ضحكة خافتة.

– ولكن من المؤكد أنه سيكون موقفًا هزليًّا، أليس كذلك؟ لا حيلة في الأمر. حتى أنا لو تركت البيت غاضبًا في لحظة انفعال سيكون الأمر بلا معنى. من المؤكد أن يندهش كيجيما. وهكذا حتى كيجيما يقرأ تلك اليوميات وترك البيت. ثم أمي وأوميه، يترك الجميع البيت، ثم نقوم جميعًا بتأجير بيت جديد. مثلًا.

ضحكتُ أنا أيضًا دون إرادتي. كان أخي يقول مثل هذا المزاح لكيلا يجعلني أشعر بالحرج. إنه يفعل ذلك دائمًا. إن أخي الأكبر إنسان ذو رُوح معنوية أضعف مني.

– متى نتيجة جامعة ريكيو.

– يوم ٦.

– أعتقد أنك ستنجح في جامعة ريكيو، ما رأيك. هل تنوي إذا نجحت أن تواصل الدراسة بها للنهاية؟

– لا مانع من ذلك ولكن …

– من الأفضل أن تقول رأيك بوضوح. لا نية لديك، أليس كذلك؟

– بلى. لا أنوي.

ثم ضحكنا معًا.

– لنتحدث معًا بلا كلفة. في الحقيقة لقد تركت الجامعة الشهر الماضي؛ فلا معنى لدفع الرسوم الدراسية بلا فائدة. ونويت على وضع خطة لمدة عشر سنوات من الآن لكتابة رواية جيدة، فكل ما كتبته حتى الآن لا ينفع. كنت مغرورًا. ليست روايات بتاتًا. فقد كنت مهملًا في حياتي. كنت أظن من نفسي أنني كاتب كبير فأسهر طوال الليل. ولكنني هذا العام أنوي البدء من جديد تمامًا. ما رأيك أنت أيضًا يا سوسومو! ألا تبدأ الدراسة معي هذا العام؟

– الدراسة؟ هل أدخل اختبار القبول بالمدرسة العليا الأولى مرة ثانية؟

– ماذا تقول؟ لن أطلب منك هذا الأمر المستحيل. الدراسة لا تقتصر فقط على الدراسة من أجل اختبارات القبول. ألم تكتب ذلك في يومياتك؟ لقد كتبت أن هدفك في المستقبل قد تقرر بالفعل في غفلة من الزمن. هل كان ذلك كذبًا؟

– كلا لم يكن كذبًا. ولكن في الحقيقة حتى أنا لا أدري جيدًا. أشعر أنه مقرر بوضوح تام ولكنني لا أدري ما هو بالتحديد.

– ممثل سينمائي.

– مستحيل.

ارتبكتُ ارتباكًا شنيعًا.

– بل هذا هو. أنت تريد أن تصبح ممثلًا سينمائيًّا. وهذا ليس سيئًا بتاتًا. لو أصبحت أفضل ممثل في اليابان فهو أمر عظيم. ومن المؤكد أن تفرح أمك.

– هل أنت غاضب؟

– ما من سبب لكي أغضب. ولكنني قلق عليك. قلق قلقًا غير عادي. عزيزي سوسومو أنت في السابعة عشرة من العمر. ما زال أمامك الكثير والكثير لكي تتعلمه مهما كانت المهنة التي ستعمل بها. هل تدرك ذلك؟

– لأنني لست ذكيًّا مثلك يا أخي فلم أجد مهنة أخرى يمكنني العمل بها. ولذلك فكرت في التمثيل …

أنا المخطئ! لم يكن لي أن أجعلك محاطًا بهذا الجو الفني بدون تحمل المسئولية. كان ذلك عدم انتباه مني. عقاب.

– أخي!

غضبت قليلًا.

– هل الفن سيئ لتلك الدرجة؟

– لأنك لو فشلت تكون مأساة. ولكن لو كنت تنوي الدراسة في هذا المجال بجد واجتهاد، فلن أعترض. ليس فقط لن أعترض، بل أنوي أن أدرس معك وأن نتعاون ويساعد كل منا الآخر. هل تقدر على فعل ذلك؟

– أقدر.

– حقًّا؟

تنهَّد أخي.

– إن كان الأمر كذلك، فاذهب أولًا لجامعة ريكيو. بغض النظر عن التخرج من عدمه، ادخل جامعة ريكيو في أي حال. فمن الأفضل خوض تجربة حياة الطالب الجامعي ولو قليلًا. توعدني، أليس كذلك؟ ثم بعد ذلك لا تحاول الاتجاه الآن إلى الأفلام مباشرة، ولكن تتردد على فرقة مسرحية ذات مستوًى رفيع خمس أو ست سنوات، كلا بل سبع أو ثماني سنوات، وتتعلم بصرامة المهارات الأساسية. ولنبحث معًا فيما بعد عن فرقة مسرحية تلتحق بها. لا اعتراض حتى الآن أليس كذلك؟ إنني أشعر بالنعاس. دعنا ننام. لدينا مالٌ يكفي لنعيش هذه المعيشة بتفاصيلها الدقيقة لمدة عشر سنوات. فلا داعي للقلق.

فكرت أن أعطي أخي نصف السعادة التي سأحصل عليها مستقبلًا. كلا بل أربعة أخماس. لأن سعادتي أكبر بكثير من حاجتي.

صحيت في الساعة السابعة اليوم. تُرى كم كان هذا الصباح منعشًا بعد غياب طويل!

هذا الصباح انطلقت أنا وأخي إلى رمال الشاطئ بأقدام حافية، فأخذنا نتبارى جريًا أو نتصارع مصارعة السومو أو القفز العالي أو القفز الثلاثي، وبعد الظهر بدأنا نلعب الغولف. ومع قول غولف فهو ليس بالقواعد الرسمية للغولف بل لففنا قنينة الحبر لفًّا محكمًا بقماش وجعلناها كرة، وكنا نضرب بمِضرب البيسبول ولكن بطريقة الغولف، من أجل إدخالها في حفرة خلف الحقول الزراعية تحت شجرة صَنَوبر تبعد حوالي مائة متر. وكانت الحقول التي في المنتصف عقبة صعبة. استمتعنا بها. تبادلنا الضحك بصوتٍ عالٍ. تشعر بمشاعر رائعة حقًّا عندما تضرب قنينة الحبر لتطير في الهواء، طراااخ! أحضرت العجوز كين لنا موتشي ويوسفي. ثم واصلنا لعب الغولف مجددًا ونحن نأكل شاكرين لها. أدخلت الكرة ست مرات فقط في الحفرة. هذا هو سجل اليوم. وفي غفلة من الزمن وجدنا أربعة من أطفال الشاطئ يتبعوننا.

– لقد حفظتها.

– أنا أيضًا حفظتها. الهدف هو إدخالها في تلك الحفرة.

هكذا كانوا يتحاورون معًا بصوت هامس. يبدو أنهم يريدون أن نشركهم معنا في اللعب.

فقال أخي وهو يعطيهم المِضرب: هيا جربوا أن تضربوا.

فأخذوا يواصلون الضرب بالمضرب وهم يكررون بفرح القول: «لقد حفظناها. لقد حفظناها» كانوا في منتهى الظرف. عندما فكرتُ ماذا يفعل هؤلاء الأطفال كل يوم لكي يلعبوا شعرت بالتعاطف معهم. آه، يريد الجميع العيش في سعادة. لعِبَ الأطفال وكأنهم حقًّا «منغمسون» تمامًا في اللعب. أما نحن فتدحرجنا لننام على الرمال من التعب. شفق الغروب. كانت الأشعة الحمراء التي تُرى من ثغرات الغيوم وكأنها فيونكة أرجوانية تشتعل. رفعت رأسي للنظر عاليًا، فكانت غابات الصنَوبر التي تحيط ببيتنا الصيفي تتألق في حمرة فاقعة وهي تستقبل تلك الأشعة الحمراء. وبدا البحر، وكذلك شبه جزيرة تشووشي، بلون بنفسجي باهت، ولون خط الأفق البحري بلون أخضر خفيف وكأنه حافة مرآة. يطير نَورس صغير على مسافة قريبة من سطح الماء يكاد أن يرتطم به. تصخب الأمواج عالية بلا انقطاع ثم تنهار. آه! ثمة مثل هذه اللحظة في الحياة! آه! اليوم يجب أن أتذوق هذه السعادة الرائعة برضًا دون أي مراعاة لأحد! لا مانع أن يغدو الإنسان أحمق عندما يكون سعيدًا. وسيغفر الرب له ذلك. كان هذا اليوم يوم سبتنا نحن الاثنين. كتب أخي شعرًا على قوقعة.

فقلت وأنا أختلس النظر: ماذا؟

فقال وهو يضحك: كتبتُ صلاة سرية.

ثم ألقى بالقوقعة في البحر.

عدنا إلى البيت واستحممنا وبعد أن أنهينا وجبة العشاء، شعرنا بالرغبة في النعاس. دخل أخي إلى الفراش، ونام على الفور مُصدرًا شخيرًا بصوتٍ عالٍ. لم يسبق لي أن رأيت أخي ينام كثيرًا هكذا. غفوتُ غفوة سريعة ثم استيقظت مجددًا وها أنا أكتب هذه اليوميات. كتبت ما حدث في الأيام الثلاثة الماضية دون أن أكذب كذبة واحدة. لا تنس هذه الأيام الثلاثة طوال عمرك!

الأربعاء ٥ أبريل

رياح شديدة. لا يمكن لساكني المدن تخيل هذه الرياح العاصفة التي هبت صباح اليوم. شنيعة. رياح غربية أرغب في أن ألقبها بالأعاصير، تهب مُصدِرةً أصداءً أرضية. ولا يمكن الصبر لأن بسببها قُلعت شجرتان أو ثلاث شجرات من أشجار الصنَوبر التي تقع في الجانب الغربي من البيت. كانت قوتها وكأنها سوف تقسم هذا البيت إلى نصفين. على أي حال كانت شنيعة. بل لدرجة الإحساس بالمتعة قليلًا. لم نستطع أن نخرج من البيت ولو خطوة واحدة. وبعد الظهر تحولت الرياح الغربية إلى رياح شمالية شرقية. في الصباح أحضرت جِراء السيد كاواغوي الأليفة إلى البيت ولعبت معها. خمسة جراء. قيل لي إنها وُلدت منذ أيام قليلة ماضية. في الحقيقة كانت في منتهى الظرف. ولكنها يبدو أنها كانت خائفة من الرياح العاتية فكانت ترتعش. مسحت خدودها بخدي ففاحت رائحة الحليب فجأة. رائحة أفخم من رائحة أي عطور. وضعت الخمسة في حجري فأحسست بدغدغة فصرختُ دون وعي: «واه!»

أما أخي فقد جلس على مكتبه منذ الظهر يكتب بحماس في أوراق المسودات. رقدتُ بجواره وقرأت قليلًا في رواية «قبل الفجر». أسلوب الجُمل عسير على الأفهام.

وفي الليل خمدت الرياح قليلًا. ولكن مع ذلك ظلت تحرك الأبواب الحامية من الأمطار بعنف. مع أن القمر كان في الخارج جميلًا جدًّا. أيتها الريح، لا مانع من أن تهبي بشدة وعنف، ولكن أرجوك حافظي على وجود القمر والنجوم ولا تلقي بهما بعيدًا. واصل أخي الكتابة طوال الليل. أما أنا فقد واصلت أيضًا قراءة «قبل الفجر» مرة أخرى في الفراش.

غدًا الإعلان عن نتيجة جامعة ريكيو. يُفترض أن كيجيما سوف يبلغنا النتيجة ببرقية. بالي منشغل بها قليلًا.

الخميس ٦ أبريل

طقس صحو أحيانا وغائم أحيانًا. وفي الصباح أمطرت قليلًا. أمطار الشاطئ فيلم صامت. مهما هطلت لا يصدر لها صوت، تمتصها رمال الشاطئ المبللة. توقفت الرياح تمامًا. استيقظتُ وتأملت أمطار الحديقة قليلًا ثم قلت لنفسي: «آه، اخلد إلى النوم!» فدخلت الفراش مجددًا. ينام أخي نومًا هادئًا كالأطفال بوجه يشبه بوشكين. يسخر أخي بنفسه من سمار وجهه، ولكنني أحب كثيرًا الوجه الأسمر مثل وجه أخي الذي به ظلال كثيرة. إن وجهي مسطح وأبيض فقط علاوة على أن خدودي حمراء وليس بها أي كآبة. سمعت أنه يمكنني إزالة هذا اللون الأحمر من الخدود بجعل علَقة تمتص الخد، ولكنني لا أملك الشجاعة لتنفيذ ذلك بسبب شعوري بالتقزز. حتى الأنف، فأخي أنفه معظمة وبذلك تتكون الأرنبة من درجات مزدهرة يجعلها تملك أصالة، أما أنفي فهي مجرد أنف دائرية كبيرة فقط. حدث في أحد المرات عندما تحدثتُ عن ملامح أحد الأصدقاء بحماسٍ تدخَّل أخي في الحديث فجأة قائلًا: «أنت جميل الوجه» فتسبب في تعكير جو الجلسة، وقتها شعرت تجاهه بالضغينة. فلم يحدث يومًا أن شعرت أنني جميل الوجه وأن الجميع غيري دميمون. فهذا أمر مستحيل الحدوث. وأعتقد أن من يرى نفسه جميلًا جمالًا منقطع النظير لا يهتم مطلقًا بملامح الآخرين. بل يكون متسامحًا شديد التسامح مع دمامة الآخرين. ولكن الشخص الذي لا تعجبه ملامح وجهه البتة مثلي، يهتم بملامح الآخرين اهتمامًا لا يطاق. ويشعر بالتعاطف قائلًا من المؤكد أنه يشعر بالكآبة. ولا يصبر على اللامبالاة. إن وجهي مقارنة بوجه أخي ليس جميلًا ولا بنسبة واحد في المائة. فليس به شيء واحد رُوحاني. وكأنه طماطم. يسخر أخي بنفسه من سمار وجهه، ولكنه لو أصبح الآن أديبًا مشهورًا لا شك أنه سيرتبك بشدة عندما يصفه الناس أنه أجمل الروائيين وجهًا. إنه يشبه بوشكين قليلًا. أما وجهي فتجده في كروت لعبة الكاروتا المسماة مائة بيت شعر لمائة شاعر. نمت نومًا خاطفًا فرأيت أحلامًا عديدة. كان المكان يشبه محطة أُوينو، تحيط بي القطارات من الجهات الأربع، وكنت غاطسًا في حوض الاستحمام فأُصبت بالدهشة. وفجأة سمعت صدى السيمفونية السابعة لبيتهوفن فوق رأسي وكأنها الرعد. أصابني الذعر والبلبلة فوقفت ورفعت يديَّ عاريًا وبدأت تقليد قائد الأوركسترا. كانت قيادتي عنيفةً في حين وكبيرةً بتريث في حين آخر، وتجعل الجسم كله يلتوي بليونة في حين ثالث. ثم اختفت السيمفونية فجأة. نظر ركاب القطار من نافذة القطار تجاهي ببرود. شعرت بالخجل. كنت واقفًا داخل حوض الاستحمام عاريًا تمامًا وجسدي ملتوٍ في وضع المايسترو. يا لها من هيئة مخجلة لا يمكن وصفها! انفجرت ضاحكًا فصحوت من النوم. كان حلمًا قصيرًا، ولكنني حمِدتُه لأنني استطعت سماع السيمفونية السابعة لبيتهوفن التي كنت أريد سماعها. ثم عندما نمت نومًا خفيفًا مرة أخرى حلمت هذه المرة بالاختبار. قلت لنفسي يا لها من قاعة اختبار عظيمة واجهتها عبارة عن مسرح، فقيل لي إنه اختبار الالتحاق بالجامعة الإمبراطورية. ولكن المراقب الذي جاء كان تانوكي لذا ارتبت في الأمر. وجميع الطلاب هم جميعًا طلاب السنة الرابعة المألوفون لي. ورغم أنه اختبار للغة الإنجليزية إلا إن ورقة الأسئلة رُسم عليها صورة نمر. لا يمكنني حل الاختبار مهما فعلت. اقترب تانوكي مني وقال لي: هل أعلمك الحل؟ فقلت له: كلا اغرب عن وجهي. فقال: كلا سوف أعلمك. ثم ضحك ضحكات مكتومة. كنت كارهًا لذلك ولا أطيقه. وعندما قلت له: المطلوب كتابة مأساة، أليس كذلك؟ قال تانوكي: كلا بل ملابس من الريش. وعندما قلت لنفسي يا له من قول عجيب دق الجرس. سلمتُ تانوكي الورقة بيضاء وخرجت إلى الممر. في الممر كان الجميع في حالة صخب وضوضاء.

– ما هو اختبار غدٍ؟

– اختبار الرحلة المدرسية. سيكون متعبًا.

– قلت لك انتبه من الحلوى!

– أنا لست عضوًا في فريق السومو.

يبدو أن هذا هو كيمورا.

– إنه حذاء بخمسة وعشرين ينًّا.

– لنشرب الخمر ثم نذهب لمشاهدة أوراق الخريف الملونة.

يبدو أن هذا أيضًا هو كيمورا.

– يكفي الخمر فقط.

– لقد نجحت يا سوسومو!

كان هذا صوت أخي في الواقع. يقف بجوار الوسادة ضاحكًا.

– جاءت البرقية من كيجيما تقول: نجاح باهر!

للحظة شعرت بخجل عظيم غير مفهوم. وعندما تسلمت البرقية من أخي، وجدتها كُتِب فيها: نجاح باهر. مرحى، مرحى! فزاد خجلي أكثر. شعرت بالخجل بلا سبب لأن جميع من حولي يثيرون ضجة حول نجاحي المتواضع. بل لدرجة إحساسي أنهم يسخرون مني.

– يا له من مبالغٍ كيجيما هذا! صيحة مرحى هذه تدل على الاستهانة. قلت ذلك ودفنت رأسي داخل الغطاء. لم أستطع العثور على رد فعل آخر غير هذا.

– من المؤكد أن كيجيما أيضًا فرح من أعماق قلبه.

قال أخي ذلك بنبرة عاتبة، ثم أضاف: بالنسبة له جامعة ريكيو جامعة عظيمة لا يحلم بها. وفي الواقع فاسم الجامعة لا يهم فالمحتوى كله سواء.

– أعلم هذا يا أخي العزيز. أخرجتُ وجهي من تحت الغطاء وابتسمتُ ابتسامة بشوشة بلا وعي. لم يكن الوجه المبتسم وجه تلميذ في المدرسة المتوسطة. تحوَّل تلميذ المدرسة المتوسطة الذي غطى رأسه بالغطاء إلى طالب جامعي أصلي وحقيقي عندما أخرج وجهه، كان بحق «بلا حيلة ولا جذور». كتبتُ ذلك بمبالغة شديدة. يا لخجلي! ماذا تعني جامعة ريكيو هذه!

اليوم مهما مشيتُ كنت أشعر أن قدمي معلقتان في الهواء ولا تلمس الأرض. أشعر وكأنني أمشي فوق السحاب. وحتى أخي قال لي: حتى أنا أشعر اليوم بنفس الشعور.

وفي الليل ذهبنا نحن الاثنين إلى مدينة كاتاكاي واندهشنا. وكأنها مدينة أخرى. لم تكن هيئة كاتاكاي السابقة. ولا يُعقل أنني أرى استمرارًا للحلم الذي رأيته في صباح اليوم. كانت المدينة موحشة بدون أي أثر للحياة. كان الظلام يسيطر على كل مكان هنا وهناك. وكان الهدوء قاتلًا. لا أثر لبشر. ما من مصباح واحد مضاء الآن في شارع غينزا بمدينة كاتاكاي التي كانت تفيض بالمصطافين في الصيف قبل خمس سنوات. ظلام حالك. ويُسمع من بعيد نُباح كلاب مهول لدرجة مريبة. لم يكن ذلك بسبب الموسم فقط، بل من المؤكد أن مدينة كاتاكاي نفسها قد باتت مهجورة.

قلت لأخي: أمر بالغ الدهشة. وكأننا خُدعنا من ثعلب!

فقال بجدية: كلا. بل ربما خُدعنا حقًّا. فالأمر غريب جدًّا.

جربنا أن ندخل ساحة البلياردو التي اعتدنا أن نرتادها في الماضي. كانت خالية تمامًا ليس بها إلا مصباح كهربائي مُعتِم. وفي العمق كانت عجوز مجهولة نائمة. قالت بصوت محشرج: تلعبون؟ لو أردتم اللعب خذوا الكرات من هذه الخزانة.

فكرتُ في الهرب. ولكنني فوجئت بأخي يدخل بلا مبالاة إلى الغرفة الداخلية ويتخطى فراش العجوز ويفتح الخزانة ليأخذ الكرات ثم يعود. على ما أتذكر كان أخي أيضًا مريبًا اليوم. قررنا أن نلعب مباراة واحدة فقط، ولكن بدت لي الكرات التي تتدحرج ببطء فوق القماش الصوفي الأسود وكأنها كائن حي، فشعرت بالنفور قليلًا، وقبل أن يتحدد الفائز بالمباراة خرجت مسرعًا وأنا أقول: كفى، يكفي هذا. ثم ذهبنا إلى مطعم سوبا، فقلت وأنا أتناول سوبا مع تمبورا باتت باردة: تُرى ماذا حدث هذه الليلة؟! يبدو أن الإرادة والفعل متباعدان تمامًا. هل أصابني سوء؟

فقال أخي وهو يضحك بخبث: لقد شعرت حقًّا أن اليوم يوم مريب منذ قيل، إن سوسومو بات طالبًا جامعيًّا.

شعرت أنني ضُربت في مقتل فقلت: آه، مستحيل!

ربما كان الغرور الذي أصابني قليلًا هو سبب غرابة اليوم وليس مدينة كاتاكاي. ولكن من الغريب أن يوافقني أخي ويقول إنه أيضًا مثلي شعر بأن قدميه لا تسير على الأرض. تُرى هل يشعر أخي أيضًا بالفرح مثلي فأصابته الإثارة؟ يا له من أخ غبي! يُستثار من أمر بهذه التفاهة!

حسنًا، يجب أن أسعده أكثر وأكثر عمَّا قريب. فكنت اليوم كأنني أرى حُلمًا، ولكن إن كان حُلمًا فأرجو ألا أصحو. ترن أصوات الموج في أذني فلا أستطيع النوم بسهولة. ولكنني مع هذا شعرت أن طريقي نحو المستقبل قد تحددت معالمه. يجب أن أحمد الرب.

الجمعة ٧ أبريل

طقس صحو. تهب رياح ضعيفة خافتة من الشرق. أرغب في العودة إلى طوكيو. بدأت أشعر بالملل قليلًا من كوجوكوريهاما. تناولنا وجبة الإفطار، ثم بدأنا على الفور لعب الغولف على الشاطئ، ولكن لم يكن ممتعًا مثل المرة الأولى. فتَر حماسنا. أثناء لعبنا الغولف، جاء طالب المتوسط الذي يبلغ الثامنة عشرة من عمره ويسمى شيغيو إيكوتا ويسكن بجوار بيتنا الصيفي، ألقى علينا التحية فرددنا عليه بنفس التحية، فقال على الفور: أرجو منك حل مسألة الجبر هذه.

ووضع تحت أنفي كراسته. قلت لنفسي يا له من وقح! لقد كنتُ متعودًا على اللعب معه كثيرًا في الصغر، ولكن مع ذلك فمن سوء الأدب أن نتقابل بعد غياب طويل فيقول لي: «أرجو منك حل هذه المسألة» في الوقت الذي لم ننته بعد من تبادل التحية بشكل لائق. بل لدرجة أنني ارتبت أنه يحمل تجاهنا مشاعر العداء. كانت بشرته سمراء تمامًا لدرجة أنني أوشكت ألا أعرفه، وأصبح فتى الشواطئ.

قلت دون أن أنظر بجدية للكراسة: لا يبدو أنه في إمكاني حلها.

فألح بالقول: ولكنك دخلت الجامعة، أليس كذلك؟

كانت نبرة من يستعد للعراك. فشعرت بالانزعاج الشديد.

فسأله أخي بهدوء: من أين سمعت بذلك؟

فأجاب شيغيو بحماس: ألم تأت برقية بذلك أمس؟ لقد سمعته من العجوز كاواغوي.

فأومأ أخي وابتسم قائلًا: هل الأمر كذلك؟ نعم أخيرًا استطاع النجاح. ولكن سوسومو لم يذاكر كما ينبغي من أجل اختبارات القبول ولذا فهو غير قادر على حل مسألة أنت نفسك لا تستطيع حلها.

فملأت الفرحة وجه شيغيو سريعًا وقال: هل الأمر كذلك؟ لقد اعتقدت أنه قادر على حل مثل هذه المسألة، ما دام عبقريًّا استطاع دخول الجامعة من السنة الرابعة، فجئت أطلب منه حلها، آسف حقًّا على سوء أدبي. إن مسألة تحليل العوامل هذه صعبة جدًّا. إنني عازم على الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا العام القادم. ولكن لأنني لست عبقريًّا فسوف أختبر في العام الخامس. هاهاهاها.

ضحك تلك الضحكات العدمية الضحلة جدًّا ثم رحل. فتى أحمق! ربما البيئة التي عاش فيها هي التي جعلته فاسد النفس هكذا، ولكن كم يصبح هذا العالم مظلمًا بلا معنًى بسبب وجود مثل هؤلاء الحمقى! فلا داعي مطلقًا لكي يتنافس معي دائمًا هكذا ويبخل عليَّ بالنجاح. فليس في نيتي التكبر مطلقًا لأنني دخلت جامعة ريكيو، ولا يمكن أن يخطر على بالي البتة أن أحتقر أحدًا.

حتى أخي عندما رأى شيغيو يرحل منتشيًا، تنهد ثم همس: بسبب وجود مثل هذا الشخص …

وهبطت معنوياتنا تمامًا وشعرنا أن بقاءنا في هذا المكان للترفيه شيء في منتهى السوء.

فعندما قلت: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ؟٨
ضحك أخي وقال: هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟٩

لو سمع شيغيو وأقرانه مثل هذا الحوار، من المؤكد أنهم سيشعرون أنه حوار ممتلئ بالغرور الذي لا يطاق. حسنًا، ماذا يجب أن نفعل الآن؟ إننا لم نكن مصابين بالغرور على الإطلاق. بل كنا دائمًا نراعي الآخرين مراعاة كبيرة. آه، أريد العودة إلى طوكيو. فالريف صعب جدًّا. لم نجد لدينا القوة المعنوية لمواصلة لعب الغولف، فعدنا إلى البيت ونحن نتبادل مزاحًا حزينًا.

وفي الظهر فشلتُ مرة أخرى. كان ذلك فشلًا كبيرًا. بل وكنت أنا المخطئ من البداية للنهاية، لذا فلم أكن أحتمل.

بعد أن انتهينا من وجبة الغداء، أرغمت أخي على الخروج للحديقة والتقطت صورًا له، فسمعنا حوارًا هامسًا بين حفيدي السيد إيشيزوكا خارج السور الشجري.

قال الولد بافتخار: أنا أيضًا صورني عندما كنت في الثالثة.

– في الثالثة؟

صوت بنت.

– أجل. كنتُ أضع قبعة. ولكنني لا أتذكر ذلك.

انفجرت أنا وأخي في الضحك. ثم قال أخي بصوتٍ عالٍ: تعالا لكي نلعب معًا. سوف نلتقط لكما صورًا.

سيطر السكون على الطرف الآخر من السور. كان العجوز إيشيزوكا يعمل في الماضي حارسًا لبيتنا الصيفي، ويسكن حاليًّا قريبًا من المنطقة. وحفيداه الولد في العاشرة تقريبًا، أما البنت ففي السابعة من العمر. أخيرًا دخل الاثنان الحديقة بوجه فاقع الاحمرار ثم توقفا على الفور وبات وجهاهما في منتهى الحمرة من الخجل ولا يستطيعان التقدم للأمام خطوة واحدة. كان استحياؤهما راقيًا جيدًا يعطي انطباعًا رائعًا. شاور لهما أخي بيده قائلًا: تعالا هنا.

ثم بعد ذلك، آه، في الواقع قلت شيئًا لا ينبغي قوله: سوف أعطيكما حلوى.

رفعت البنت ووجهها فجأة، ثم استدارت وأعطتني ظهرها وجرت هاربة. ولم يكن الولد حساسًا بنفس درجة حساسية البنت، فاحتار للحظات ولكنه هرب أيضًا في إثر البنت.

قال أخي بمشاعر متأسفة: حتى الطفل يشعر بالإهانة إذا قلت له فجأة سأعطيك حلوى. فلديهم كبرياء. إنهم لم يأتوا من أجل ذلك. يا لك من أحمق! هذا هو سبب كراهية شيغيو لك.

لم أستطع النطق بكلمة واحدة للدفاع عن نفسي. على الأرجح إنني كنت هائج المشاعر. إنني شخص مهمل وتافه يا أخي العزيز.

يبدو أن الريف لا ينفع معي. فأنا في فشل متواصل. لدرجة أنني فكرت في الذَّهاب إلى بيت العجوز إيشيزوكا والاعتذار للأخوين الصغيرين، ولكنني لم أذهب. شعرت أن ذلك مبالغة فلم أستطع الذهاب مهما فعلت بسبب الخجل.

قررت العودة إلى طوكيو غدًا. وعندما استشرت أخي وافقني على ذلك قائلًا إنه كان بالفعل يريد العودة في القريب العاجل.

وفي المساء عندما نظرت إلى المرآة بعد استحمامي، وجدت أرنبة أنفي شديدة الحمرة من لفح الشمس، وكأنها رسم مانجا. ويتغير جفناي في كل مرة أطرِف عيني فتنشأ لهما طيتان مرةً وثلاث طيات مرةً وطية واحدة مرة. ربما السبب أن عينيَّ سقطتا في مَحجِريهما. لقد أفرطت في ممارسة الرياضة فكانت النتيجة العكسية أنني نَحِفت. فشعرت أنني خسرت خَسارة شديدة. أريد العودة إلى طوكيو بأسرع وقت. فأنا ابن المدينة.

السبت ٨ أبريل

طقس كوجوكوريهاما صحو، وطوكيو ممطر. عدنا إلى البيت في الساعة السابعة والنصف مساء تقريبًا. كانت أختي في البيت. قالت أختي بهدوء: لقد جئت لتوي في زيارة سريعة.

ولكن فيما بعد سرَّب كيجيما لنا بلا مبالاة معلومة أنها جاءت منذ ليلة أمس الأول. تُرى لماذا تكذب أختي كذبة لا ضرورة لها؟ ربما ثمة سبب وراء ذلك. في كل الأحوال كنا مرهقَين فأخذنا حمامًا ونمنا مباشرة.

الأحد ٩ أبريل

سماء غائمة. صحوت في الواحدة بعد الظهر. ينام المرء في بيته نومًا هانئًا وعميقًا. ربما كان الفراش السبب. يبدو أن أخي استيقظ قبلي بوقت طويل جدًّا. ثم يبدو أنه تعارك مع أختي. كان كل منهما يتجهم للآخر بالتبادل. لا شك أن شيئًا وقع. ومن المؤكد أن الأمر سيتضح مع الوقت. عادت أختي في المساء إلى شيتايا بدون أن تتحدث معي حديثًا ذا بال.

وفي الليل صحبني أخي وذهب بي إلى كاندا واشترى لي قبعة وحذاء الزي الجامعي. فاعتمرت القبعة أثناء العودة. وفي الباص سألت أخي: ماذا حدث لأختي؟

فعبر أخي عن استيائه بقرقعة لسانه ثم قال: إنها تقول قولًا غبيًّا. أختك تلك حمقاء!

ثم التزم الصمت التام بعد ذلك. كان ذلك حقًّا الوجه الذي يوصف بأنه وجه من مضغ حشرة مرة الطعم. يبدو أنه غاضب غضبًا شديدًا.

لا شك أن شيئًا قد وقع. ولكنني لم أستطع الحديث لأنني لا أعرف ماذا حدث. لأراقب عن بعد لفترة من الوقت.

سيأتي غدًا الحائك لكي يأخذ مقاسات ملابسي الغربية. قال أخي إنه سيشتري لي مِعطفًا للمطر. بتُّ أتجه تدريجيًّا لأن أكون طالبًا جامعيًّا اسمًا وواقعًا. ليكن ما يكون! شعرت الليلة من كل قلبي أن نجاحي في دخول جامعة ريكيو أمر جيد. وأنوي أن أبدأ دراسة المسرح بعد وقت قليل. أولًا سيعرِّفني أخي على أستاذ مسرحي جيد. ربما كان يقصد الأستاذ سايتو. لقد باتت أعمال السيد إيتشيزو سايتو بالفعل أعمالًا كلاسيكية في اليابان، أنا بالطبع لست مؤهلًا للنقد المسرحي ولكن محتواها به الكثير من البديهيات وتعطي شعورًا بأن ثمة ما ينقصها. ومع ذلك فهو عظيم جدًّا، فربما يكون أفضل أستاذ لي.

يقول أخي إن طريق الفن صعب. ولكنها الدراسة. الدراسة تمحو أي قلق. وهكذا بفضل أخي استطعت السير في الطريق الذي أريد السير فيه. يجب أن نتعاون معًا طوال حياتنا ونحقق النجاح. ومن المؤكد أنه حتى أمي ستفرح بذلك فهي تقول دائمًا: «قوُّوا عَلاقتكم معًا كإخوة» يتحدث أخي منذ مدة مع أمي في غرفتها. حديث طويل جدًّا. لا شك أن شيئًا قد وقع أخيرًا. صبري نفد.

الاثنين ١٠ أبريل

طقس صحو. وصل الإشعار الرسمي بالنجاح من الجامعة. بداية الدراسة يوم ٢٠ أبريل. أتمنى أن يلحق الزي الجامعي بالموعد. لقد جاء الحائك اليوم لأخذ المقاسات. طلبت طرازًا محافظًا وليس الطراز الشائع حديثًا. أكره الطرازات الشائعة لأن ارتداءها والسير بها يجعل المرء يبدو غبيًّا، أما ارتداء طراز متواضع والسير به يجعل المرء يبدو ذكيًّا جدًّا. أخي أيضًا يرتدي زيًّا جامعيًّا عاديًّا. وهكذا يبدو في منتهى الذكاء.

في المساء، جاءت يوشي تشان لزيارتنا. إنها أخت كيه الصغرى طالبة الجامعة التجارية. أي إنها ما زالت طالبة ولكنها صفيقة الوجه.

– هل نجحت في اختبار جامعة ريكيو؟ مع أنه من الأفضل عدم دخولها.

تحية شنيعة. وعندما قلت لها: أكيد لأن الجامعة التجارية أفضل.

ردت بالقول إنها مملة. وعندما سألتها ماذا تفضلين أجابت: أفضل شيء هو تلميذ المدرسة المتوسطة فهو ظريف. لا نفع من الحوار معها!

جعلَت الخادمة أوميه تصلح لها شق تنورتها، وعندما انتهت خياطة الشق عادت سريعًا لبيتها. فكرت بخصوص الملابس الغربية، ما سبب أن زي الطالبات المدرسي غير مهندم بهذا القدر ويبدو قذرًا؟ ألا يمكن صنع زي مهندم ومريح قليلًا؟ ألا ترون أنه لا يحدث أن يتوقف المرء أثناء سيره في الطريق وينبهر قائلًا: ما هذا! ولو مرة واحدة فقط؟ تبدو جميع الفتيات وكأنهن فئران أوحال. إن كانت تلك هي ملابسهن فلا عجب أن تقع قلوبهن في حالة فوضى وحيرة مثل فئران الأوحال. ويتعجب المرء من الانعدام التام لأي احترام لديهن تجاه الذكور.

خرج أخي اليوم من البيت بعد الظهيرة. الوقت الآن العاشرة ليلًا ولكنه لم يعد للبيت بعد. اتضحت لي أغلب تضاريس ما حدث.

الاثنين ٢٤ أبريل

طقس صحو. زال وهم الجامعة سريعًا. بتُّ كارهًا لها بالفعل منذ يوم حفل بداية الدراسة. ما من اختلاف ولو قليلًا عن المدرسة المتوسطة. الجو الديني الطاهر الذي تأملتُه لا وجود له في أي بقعة من الجامعة. عدد الطلاب في الفصل الواحد سبعون طالبًا تقريبًا، ورغم أن أغلبهم حتى وهم شباب في العشرين من العمر تقريبًا، إلا إنهم من ناحية القدرات المعرفية كأنهم أطفال صغار. يصخبون ويُحدِثون ضجيجًا مزعجًا فقط. لدرجة أنني ارتبتُ في أنهم متخلفون عقليًّا. جاء معي من نفس المدرسة المتوسطة طالب واحد فقط هو أكاساوا، ولكنه جاء من السنة الخامسة، لذا فعَلاقتي به ليست قوية. نتبادل التحية بالعيون في صمت. ولذلك كنتُ وحيدًا وحدة تامة في الفصل. وبسرعة في يوم حفل بداية الدراسة قسَّمتُ أنواع طلاب الفصل كالتالي: خمسة عشر طالبًا متخلف عقليًّا، وعشرة مهووسون للحصول على الدرجات، وخمسة انتهازيون، وخمسة معنِّفون. وأعتقد أن هذا التقسيم صحيح إلى حد كبير. لأن قوة ملاحظتي بارعة جدًّا ولا تخطئ. ولم أعثر على طالب واحد به صفات العبقرية. وهذا في الواقع أصابني بخيبة أمل قوية. وبهذا كنت الوحيد في هذا الفصل الذي له شخصية. الكثير من الأحداث التي ليس بها تنافس. بعدما كنتُ أظن بوجود عدد لا يُحصى من المنافسين المتفوقين أستطيع أن أتبادل معهم الحديث والتشجيع، بات الأمر وكأنني التحقت من جديد بالصف الأول المتوسط. بل وثمة طالب يدخل قاعة الدرس وفي يده آلة هارمونيكا! فالأمر لا يطاق. واصلت الذَّهاب للجامعة ثلاثة أيام متواصلة، ۲۱ و۲۲ و۲۳، ثم لم أعد أحتمل. وفكرت في ترك الدراسة والالتحاق سريعًا بأي فرقة مسرحية هنا أو هناك والبدء في تدريب حقيقي صارم. شعرت أن الدراسة بلا أي فائدة مطلقًا. وأمس بقيت في البيت طوال اليوم وانتهيت من قراءة كتاب «فصول طرق التهجئة» ولم أستطع النوم ليلًا بسبب التفكير. إن مؤلفة كتاب «فصول طرق التهجئة» من نفس عمري. لذا شعرت بالاستعجال ونفاد الصبر. حتى الفتاة الفقيرة التي لم تتلق أي قدر من التعليم استطاعت إنجاز هذا العمل. وقلت لنفسي ألا تكون البيئة الجيدة التي تُوهَب للفنان على العكس سببًا في تعاسته؟ وجاءتني رغبة في الهروب سريعًا من البيئة المحيطة بي حاليًّا ونسيان كل شيء والغرق في المسرح فقط كممثل مبتدئ فقير في إحدى الفرق المسرحية. في الساعة الرابعة والنصف صباحًا بدأت أخيرًا النوم نومًا خاطفًا، وأفزعني المنبه من النوم في الساعة السابعة صباحًا وعندما استيقظت شعرت بدُوار. ومع ذلك ذهبت إلى الجامعة بخطوات ثقيلة كأنه واجب شاق.

وجدت مقر الجامعة هادئًا هدوءًا مريبًا، فذهبت إلى مبنى الإدارة فوجدته خاليًا هو أيضًا من البشر، فانتبهت فجأة للأمر. اليوم المهرجان الكبير لمعبد ياسوكوني، لذا فالجامعة في عطلة. فشل ذريع للانعزالي. لو كنت أعلم أن اليوم عطلة لكانت ليلة أمس أكثر متعة. يا لغبائي!

ولكن اليوم الطقس جيد. لأعرج في طريق العودة على مكتبة يوشيدا لبيع الكتب في إيكيبوكورو وأبحث في الكتب القديمة بتأنٍّ. أشعر بدُوار من حين لآخر. اخترت فقط بضعة أعداد من مجلة «تياترو»، وكتاب «فن الممثل» تأليف كوكلين، وكتاب «المسرح الحر» تأليف تايروف وجعلت البائع يلفهم لي معًا. استمر الدوار بلا انقطاع. فعدت مباشرة للبيت ونمت. وتبدو درجة حرارتي مرتفعة قليلًا. ألقيت نظرة على فهارس الكتب التي اشتريتها اليوم وأنا راقد في فراشي. إنني أعاني من عدم وجود كتب المسرح في مكتبات بيع الكتب. فيما يتعلق بالكتب الغربية فأخي يملك عددًا قليلًا منها ولكنني لا أستطيع قراءتها بعد. يجب عليَّ من الآن فصاعدًا الاجتهاد في إتقان اللغات الأجنبية إتقانًا كافيًا. يبدو أن عدم إتقان اللغات الأجنبية معجز.

نمت نومًا خفيفًا وصحيت الساعة الثالثة عصرًا. وصنعت العجوز أوميه لي كرات أرز أكلتها وحيدًا. ولكن أكلت واحدة فضاق صدري وشعرت برعشة برد غريبة فعدت إلى فراشي مرة أخرى. وقلقت الممرضة سوغينو علي فقاست لي درجة الحرارة. ٣٧٫٨ درجة. سألتني: هل أستدعي الدكتور كاغاوا؟ فرفضت قائلًا: لا داعي له. الدكتور كاغاوا هو الطبيب الذي يعالج أمي. لا يروق لي لأنه متملق. أخذتُ من سوغينو قرص أسبرين وتناولته. وعندما غفوت قليلًا نزَّ مني عرَق كثير وارتاحت حالتي المعنوية قليلًا. أعتقد أنني تحسنت. سمعتُ أن أخي ذهب إلى شيتايا بسبب الموضوع إيَّاه ولم يعد إلى الآن. يبدو أن المشكلة لم تُحل بسهولة. عدم وجود أخي يجعلني نوعًا ما أشعر بالقلق. قاست لي سوغينو درجة الحرارة مرة أخرى فكانت ٣٦٫٩ درجة. استجمعت شجاعتي وزحفت على أربع لأكتب يومياتي. زال وهم الجامعة سريعًا. كنت أريد كتابة تلك الجملة مهما كلفني الأمر. أشعر أن ذراعيَّ مجهدان. الوقت الآن الثامنة ليلًا. رأسي منتبهة انتباهًا شديدًا ولا يبدو أنني سأستطيع النعاس.

الثلاثاء ٢٥ أبريل

طقس صحو. رياح شديدة. اليوم أخذتُ راحة من الجامعة. حتى أخي يقول من الأفضل أن أرتاح. زالت الحمى فكنت أصحو حينًا وأنام حينًا.

أما عن الحادث فهو أن أختي الكبرى صرحت فجأة برغبتها في الانفصال عن السيد سوزوأوكا. ولا يبدو أن ثمة سببًا مباشرًا. تقول إنها كرهته فقط. وتقول إن الكراهية هي السبب الأكبر وما من سبب خفي لا تستطيع البوح به، أي إنه لا سبب محدد تشير إليه. ولذا ثار أخي غاضبًا. غضب لأن ذلك أنانية منها. وعلى الأرجح أنه يشعر بالأسف تجاه السيد سوزوأوكا. أما عن السيد سوزوأوكا فليس لديه أي نية في الانفصال مطلقًا. إذ إنه يحب أختي جدًّا. ولكنها كرهته بدون سبب. حتى أنا لا أحب السيد سوزوأوكا ولكنني مع ذلك أرى هذه المرة أن أختي أنانيَّة قليلًا. وأشعر أنه لا مفر من غضب أخي تجاهها. تقيم أختي حاليًّا مع الآنسة مفعوصة في حي ميغورو. فيبدو أن أخي رفض بوضوح عودتها إلى بيتنا في كوجيماتشي. وعندها حملت أغراضها واستقر بها المقام عند الآنسة مفعوصة. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير أن عمتي مفعوصة لها دور خفي في وقوع هذا الأمر. وسمعت أن السيد سوزوأوكا واقع في حيرة شديدة. لقد حكى لي أخي وهو يضحك بمرارة عن السيد سوزوأوكا وهو ينظف البيت وتوشيو يُعِد الطعام، ويبدو أن منظرهما رغم أنه متأزم جدًّا ويثير الشفقة إلا إنه منظر غريب لدرجة تجعله على وشك الانفجار ضحكًا رغمًا عن إرادته. وأنا أيضًا أراه كذلك. فصورة صاحب الحزام الرابع في الجودو يشمِّر ساعديه وينفض الأبواب الورقية بمِنفضة الغبار، وتوشيو يقطب وجهه النادر ذلك بملامح وحدة وهو يشوي السمك، آسف أن أقول ذلك، ولكن مجرد تخيله فقط يجعله مشهدًا في قمة الكوميديا. أشعر بالأسى عليهما. يجب أن تعود أختي لبيتها. هي تقول إنه لا سبب، ولكن ربما ثمة سبب محدد وعظيم. وإن كان الأمر كذلك فيجب البحث عن ذلك السبب وإصلاح ما يجب إصلاحه لتُحَل المشكلة وتعود المياه إلى مجاريها. ولكنني في الواقع أشعر بالتبرم إذ لم يفكر أحد في أخذ رأيي. بل لم يبلغني أي منهم حتى ما حدث. وقررت أن أتخذ في هذا الأمر موقف المراقب من بعيدٍ لفترة وأجتهد في التجسس في سرية لمعرفة الحقيقة. أنفي تشم رائحة الآنسة مفعوصة في هذا الحادث. لو ضُغِط عليها ربما تعترف بالحقيقة. لأذهبْ إلى بيتها قريبًا وكأن شيئًا لم يكن وأتحرى الأمر. من المؤكد أنها حرَّضت أختي على ذلك لأنها عزباء وتحتال أن تجعل أختي أيضًا عزباء مثلها بأي وسيلة. فالسيد سوزوأوكا لا يبدو إنسانًا شريرًا، وأختي تملك رُوحًا عظيمة. من المؤكد أن طرفًا ثالثًا شريرًا هو الذي تدخل بينهما. في كل الأحوال يجب عليَّ التحري عن التفاصيل بوضوح أكثر. ولكن يبدو أن أمي تقف في صف أختي بصرامة، فهي تريدها بجانبها إلى الأبد. ويبدو أن لا أحد من باقي الأقارب على علم بهذا الأمر بعد، وحتى الآن أمي والآنسة مفعوصة في جانب أختي. وأخي في جانب السيد سوزوأوكا. أي إن أخي يقاتل ببسالة بمفرده. وهو متعكر المزاج مؤخرًا. وحدث عدة مرات أن عاد للبيت في وقت متأخر من الليل في حالة شنيعة من السكر. أخي يصغر أختي بعام واحد فقط. ولذلك لا تستجيب أختي لكل ما يقوله أخي بحذافيره. ولكن أخي هو رب البيت حاليًّا ولديه سلطة إعطائها الأوامر. وهذا هو الذي يصعِّب الأمر. فيبدو أنه متشدد في رأيه هذه المرة. وأختي كذلك لا يبدو أنها ستستجيب له بسهولة. فلن يحدث ذلك ما دامت الآنسة مفعوصة في جانبها. وفي كل الأحوال يجب عليَّ أن أزيد من عدد مرات التحري. تُرى ما الذي يحدث بالفعل؟

وبَّخني أخي اليوم. فبعد انتهاء وجبة العشاء همست بنبرة لاهية متصنعًا اللامبالاة: لقد كان ذلك في مثل هذا الوقت من العام الماضي، الوقت الذي تزوجت فيه أختنا. يا للهول هل مرت سنة حقًّا؟

فانفضح أنني أريد الحصول على معلومات من أخي عما حدث.

سواء سنة أم شهر، العُرف لا يسمح للعروس التي ذهبت لبيت زوجها أن تعود بلا سبب. إنك يا سوسومو تملك اهتمامًا مريبًا، وهذا ليس من شيم الفنان النبيل.

سكتُّ مهزومًا. ولكنني لا أتجسس على ذلك الأمر بسبب مشاعر دنيئة، بل لأنني أرجو السلام والوئام لبيت أختي، ولأنني أحاول أن أساعد أخي. لا أستطيع التظاهر بعدم رؤية معاناته. ولكنني سكتُّ؛ لأن قول ذلك سيجعله هذا المرة يصرخ فيَّ قائلًا: لا تتحدث بصفاقة! فأخي هذه الأيام مخيف جدًّا.

وفي الليل قرأت في الفراش مجلة تياترو هنا وهناك بعشوائية.

الأربعاء ٢٦ أبريل

طقس صحو. ومن المغرب ممطر مطرًا خفيفًا. عندما ذهبت للجامعة عرَفت أن أمس كذلك كان عطلة بسبب مهرجان معبد ياسوكوني الكبير، فقلت في نفسي: ما هذا! أي إن يومَي أمس وأول أمس كانا عطلة متتالية. إذا كنت أعرف ذلك لاطمأن قلبي أكثر ونمت بارتياح. يبدو أن الانعزاليين يشعرون في تلك الحالة بالخسارة نوعًا ما. ولكن مع ذلك سأستمر انعزاليًّا مؤقتًا. وعلمت أن أخي أيضًا كان انعزاليًّا أثناء الجامعة. تقريبًا بلا أصدقاء. مجرد أن يأتي لزيارته السيد شيمامورا والسيد كوباياكاوا في أوقات نادرة. ربما يُضطر الشخص صاحب المثاليات العالية أن يظل فترة من الوقت انعزاليًّا. يجب ألا ينهزم المرء أمام انحطاط المجتمع.

محاضرة الأدب الصيني اليوم كانت ممتعة نوعًا ما. بعد أن كنت أشعر بالضيق لتوقعي أن تكون المحاضرة من نفس نوعية حصص المدرسة المتوسطة لأن المقرر كان هو نفسه، ولكن محتوى المحاضرة اختلف. وانبهرت من أن المحاضر ظل يشرح على مدى ساعة كاملة جملة واحدة هي: «يا لها من متعة أخرى أن يأتي الأصدقاء من مكان بعيد!» دُرِّست لنا هذه الجملة في المدرسة المتوسطة على أن معناها فقط: يا لها من فرحة أن يأتي الأصدقاء الحميمون لزيارتي من أماكن بعيدة. على ما أتذكر أن غاماسن مدرس الأدب الصيني علمنا ذلك. قال غاماسن وهو يبتسم ابتسامة عريضة وغارقًا بمفرده في حالة من النشوى: من المؤكد أن الإنسان سيسعد في وقت الملل، عندما يظهر له صديق من حافة البيت المطلة على الحديقة حاملًا هدايا في يده مثل قنينة من الساكي الفاخر وذكر بط يقول: أوه! وربما كان ذلك الوقت هو أمتع وقت في الحياة.

ولكن المفاجأة أن الشرح اختلف اختلافًا كبيرًا. فطبقًا لمحاضرة السيد تائتشي يابيه اليوم، فهذه الجملة لا تتحدث عن متع الحياة اليومية المبتذلة من قنينة خمر فاخر وذكر بط، ولكنها جملة ميتافيزيقية تمامًا. أي إن معنى تلك الجملة هو: حتى لو لم يعترف المجتمع بأفكاري على الفور، فيا لها من متعةٍ أن أسمع صوت تأييد لها من أناس في أماكن بعيدة لا أتوقعها! إنها جملة تتغنى بالفرحة التي يشعر بها الإنسان شعورًا خفيفًا عندما يلوح له في الأفق بوادر إصابة مبتغاه.

وقال المحاضر: إن هذه الجملة تتضمن التغني بأعظم أمنية للشخص المثالي. فلم تكن حالة صاحب هذا الكلام هي حالة الاستلقاء من الضجر فوق حصير التاتامي بتاتًا، بل هي حالة اندفاع مستمر وباسل تجاه المثالية. وثمة معاني متعددة وصعبة لقوله «أخرى» في شطر الجملة القائل: يا لها متعة أخرى، شرح لنا السيد يابيه شرحًا مطولًا ومستفيضًا، ولكنني نسيته. وفي كل الأحوال، لم يكن شرح غاماسن مدرس المدرسة المتوسطة عن قنينة الخمر الفاخر وذكر البط إلا تفسيرًا مبتذلًا لا يليق أبدًا. ولكن، إن تحدثت بصدق، حتى أنا لا أشعر بالاستياء من تفسير قنينة الخمر الفاخر وذكر البط. فهو شرح ممتع متعة كافية. وأشعر أنه من الصعب التخلي تمامًا عن تفسير غاماسن. إن المثالية بالنسبة لي هي أن تُفهم أفكاري من الأماكن البعيدة، ثم تأتيني أيضًا قنينة ساكي فاخرة وذكر بط في وقت غروب جيد، ولكن ربما كان ذلك مبالغة في الشهوات. على كلٍّ الحقيقة هي أنني بينما كنت أسمع محاضرة السيد تائتشي يابيه المَهيبة، شعرت بحنين غريب إلى غاماسن مدرس المدرسة المتوسطة. لا شك أنه يشرح قنينة الساكي الفاخر وذكر البط في حصة المدرسة المتوسطة هذا العام أيضًا واثقًا في نفسه. إن شرح غاماسن عبارة عن قصص خيالية للأطفال.

في راحة الغداء، بقيت في قاعة المحاضرات وقرأت كتاب كاورو أوساناي بعنوان «مبادئ التمثيل المسرحي» فدخل إلى القاعة طالب في نفس الجامعة بلحية شعثاء بخطوات متثاقلة ثم صرخ بصوتٍ عالٍ: أين سريكاوا؟ ما هذا، لا أحد هنا؟

ثم زم شفتيه وتوجه لي أنا بالسؤال قائلًا: ألا تعلم أين ذهب سريكاوا؟

يبدو أنه إنسان في منتهى الارتباك. فأجبته بوجه عابس: أنا سريكاوا!

فحك رأسه قائلًا: أحقًّا؟ أنا آسف، أعتذر لك.

كان وجهه طفوليًّا بريئًا.

– أنا عضو في فريق كرة القدم، ألا تأتي معي قليلًا؟

خرج بي إلى فناء الجامعة، فوجدت خمسة أو ستة من طلاب الجامعة منهم الواقف ومنهم الجالس جلسة القرفصاء ينتظرون مجيئي تحت ظلال أشجار الكرز بوجوه في منتهى الجدية على أي حال.

– هذا هو سوسومو سريكاوا.

هكذا قال الطالب المرتبك ثم دفع بي أمام الجميع.

– حقًّا!

هكذا أومأ ببسالة طالب ذو جبهة عريضة جدًّا تجعله يبدو في الأربعين من عمره وتعطي له عمقًا. ثم سألني بدون أن يبتسم ولو قليلًا: هل تركت كرة القدم؟

شعرتُ بضغط نفسي نوعًا ما، فأنا أكره الأشخاص الذين يتحدثون مع الآخرين لأول مرة دون ابتسامة ولو خافتة. فأجبتُ مع ابتسامة رضوخ: أجل، تركتها.

فسألني وهو ينظر إلى عيني مباشرة دون أن يبتسم: ألا تعيد التفكير مرة أخرى؟

فتدخل طالب آخر وأضاف: أليس تلك خسارة؟ ففي مرحلة المتوسط كنت عالي الصيت جدًّا.

– إنني …

ثم قررت أن أتحدث بوضوح: أفكر في الالتحاق بنادي الصحافة والمَجلات.

فقال أحدهم بصوت خافت، ولكن بنبرة ساخرة سخرية واضحة: أدبي!

تنهد الطالب عريض الجبهة وقال: لا ترغب؟ ولكننا نريدك معنا.

كان الأمر شاقًّا عليَّ جدًّا. لدرجة أنني فكرت في دخول فريق كرة القدم. ولكن من المؤكد أن تدريبات فريق كرة القدم في الجامعة أكثر وأعنف من تلك التي كانت في المدرسة المتوسطة. وبذلك لن أستطيع دراسة المسرح، لذا دُست على قلبي وأجبت: لن أفعل.

فقال أحدهم بنبرة ساخرة مرة أخرى: أوه، يرفض هذه المرة بوضوح!

– كلا.

التفت عريض الجبهة للخلف وكأنه ينهاهم عن السخرية وقال: لا فائدة من الإجبار. فمن الأفضل أن يفعل المرء ما يحبه بكل اجتهاد. فيبدو أن جسد سريكاوا مصاب.

– جسدي متين وبلا إصابات.

اندفعت في الفخ وقلت ذلك لدحض ما قال.

– ولكنني الآن مصاب ببوادر برد خفيف.

– حقًّا؟

لأول مرة يضحك ذلك الطالب العميق.

– أنت شخص ظريف. زرنا من حين لآخر في فريق كرة القدم.

– أشكرك.

استطعت أخيرًا الهروب من الموقف، ولكنني انبهرت من شخصية ذلك الطالب عريض الجبهة. ربما كان كابتن الفريق. أتذكر أن كابتن فريق كرة القدم في جامعة ريكيو في العام الماضي كان اسمه أوتا، فربما كان ذلك الطالب عريض الجبهة هو الكابتن أوتا الشهير. حتى لو لم يكن هو أوتا ففي كل الأحوال الطالب الذي يصبح كابتن فريق كرة القدم بالجامعة له مهابة من ناحية الصفات الشخصية نوعًا ما.

حتى أمس كنت فاقدًا لأي أمل في الجامعة، ولكنني اليوم عدَّلت رأيي في الجامعة قليلًا من خلال محاضرة الأدب الصيني ومن خلال موقف ذلك الكابتن.

حسنًا، ثم وقع اليوم كذلك حدث عظيم، وبسبب ذلك الدور العظيم الذي لعبته فأنا الآن في منتهى التعب والإرهاق ولا أستطيع كتابته بالتفصيل. وفي الواقع أشعر بمتعة وإثارة. لأكتبْ ذلك غدًا.

الخميس ٢٧ أبريل

طقس ممطر. هطل المطر طوال اليوم. وفي الصباح برق عنيف. كان الاستيقاظ اليوم صعبًا لأن إرهاق الأمس بسبب الدور العظيم الذي لعبته لم ينقشع كلية. ارتديت معطف المطر الجديد الذي اشتراه لي أخي لأول مرة وذهبت للجامعة. وعرَفت أن طالب الأمس عريض الجبهة هو كما توقعت الكابتن أوتا الشهير. عرَفت ذلك بعد أن سمعت زملائي في القاعة يتحدثون عنه في وقت الراحة. يبدو أن كابتن أوتا هو فخر جامعة ريكيو. ويبدو أنه الكابتن منذ كان في السنة الأولى. انبهرت وقلت في سري الأمر مفهوم إذن. ويبدو أن اسم الشهرة هو موسى. وتجاه ذلك أيضًا انبهرت وقلت في سري هذا أيضًا أمر مفهوم.

أريد فيما يلي أن أكتب عمَّا أثار انبهاري في محاضرة الكتاب المقدس اليوم، ولكن ربما ثمة فرصة فيما بعد لأكتب عنه. فاليوم أريد أن أكتب ما وقع أمس قبل أن أنساه. فمهما قلت فهو حادث مهول.

في طريق العودة من الجامعة أمس، فكرت فجأة في المرور على بيت الآنسة مفعوصة في ميغورو، وعندما طرأت عليَّ تلك الفكرة شعرت أنني يجب أن أذهب بأي شكل. ساء الطقس بعد الظهر وأمطرت السماء، ومع ذلك ذهبت إلى ميغورو وأنا منهك تمامًا. كانت الآنسة مفعوصة في بيتها وكذلك كانت أختي معها. قالت أختي بوجه مرتبك: أوه يبدو وجهك قد هزَل جدًّا يا صغيري. عمتي؟

– أوه، لا تقولي صغيري. فلن أبقى صغيرًا إلى ما لا نهاية!

قلت لها ذلك وأنا أجلس متربعًا أمامها.

حملقت أختي فيَّ بعيون واسعة قائلة: أوه!

– طبيعي أن يقل وزني. فقد مرضت بمرض خطير. واليوم استطعت أخيرًا ترك الفراش والمشي.

قلت ذلك بمبالغة ثم قلت: عمتي! أعطني شايًا. فحلقي جافٌّ جفافًا لا يطاق.

تجهم وجه عمتي وقالت: ما هذه الطريقة في الكلام؟ لقد بتَّ شابًّا منحرفًا تمامًا.

– لا مفر من أن أَبِيت منحرفًا. فحتى أخي يعود مؤخرًا كل يوم للبيت سكرانَ. بات الأَخَوان معًا منحرفَين في وقتٍ واحد. أعطني الشاي!

تحول وجه أختي لملامح جادة وقالت: سوسومو! هل قال أخي لك شيئًا؟

– لم يحاول قول كلمة واحدة.

– وهل حقًّا مرضتَ بمرض خطير؟

– أجل، قليلًا. أصابتني حمى بسبب القلق.

– وهل حقًّا يعود أخي كل يوم سكرانَ؟

– أجل. لقد تغيرت شخصيته بالكامل.

أشاحت أختي بوجهها عني. فقد كانت تبكي. وأنا أيضًا كدت أن أبكي ولكنني كتمت البكاء قائلًا لنفسي ليس هنا.

– أين الشاي يا عمتي؟

– حاضر، حاضر.

أجابت الآنسة مفعوصة هكذا بنبرة مستخفة بي تمامًا، ثم قالت وهي تُعِد الشاي: بمجرد أن دخلتَ الجامعة بصعوبة، وارتاح بالك قليلًا، تحاول تقليد المنحرفين هكذا!

– منحرفين؟ متى أصبحت منحرفًا؟ أليس المنحرف هو أنت يا عمتي؟ ماذا تقولين يا آنسة مفعوصة!

– أوه! ما هذه الوقاحة!

غضبت عمتي غضبًا حقيقيًّا.

– حتى أنا تتحدث معي بهذه البذاءة! انظر! لقد جعلتَ أختك تبكي. أنا أعرف. فقد وبَّخك أخوك فجئت هنا بنيَّة التنفيس عن نفسك بهذا العنف. يا للبؤس. أنا أعرف ما يجري خلف الكواليس. ماذا تقصد بالآنسة مفعوصة؟ يجب أن تحترس وأنت تتحدث معي.

– الآنسة مفعوصة هو اسم شهرتك يا عمتي. هكذا ندعوك في بيتنا. ألم تكوني على علم بذلك؟ حسنًا، سأشرب قليلًا من الشاي.

شربت الشاي بنهم شديد، ونظرت بطرف عيني إلى أختي. كانت مطأطأة الرأس وبائسة. وأخيرًا قويت مشاعر الكراهية تجاه عمتي لأنها هي السبب في كل ذلك.

– بيت كوجيماتشي بيت سعيد بوجود أطفال مطيعين. عد يا سوسومو إلى بيتك لأنك ولد مطيع. وعندما تعود للبيت أبلغ أخاك إن كان لديه ما يقوله فليأت كالرجال ليقوله بنفسه ولا يستخدم الأطفال في قوله. ماذا! يتحدث من وراء الظهر سرًّا ولا يحاول أن يأتي إلى ميغورو مطلقًا. فأنا لديَّ الكثير الذي أود قوله لأخيك. يعود كل ليلة سكران؟ يا للعار!

– أرجوك لا تسبي أخي.

غضبت غضبًا حقيقيًّا.

– أنت يا عمتي من يجب أن تحترس في الحديث. فلم آت إلى هنا لأن أخي حرضني على المجيء. وأنا أرفض أن تستهيني بي بقولك طفل، طفل. فحتى أنا أستطيع جيدًا معرفة الشخص الطيب من الشخص الشرير. لقد أتيت اليوم للعراك معك أنت يا عمتي. ولا عَلاقة لذلك بأخي. فأخي لم ينبِس ببنت شفة لأحد بخصوص هذا الأمر. ثم هو الآن يعاني وحيدًا من القلق. إن أخي ليس شخصًا دنيئًا.

– حسنًا، ما رأيك، هل تأكل حلوى؟

عمتي الداهية الماكرة!

– إنها كعكة كاستلا لذيذة. عمتك تفهم كل شيء فلا داعي لأن تتحدث معي بهذه الكلمات البذيئة السخيفة. تناول الحلوى ثم عد إلى بيتك. لقد تغيرت شخصيتك تمامًا بعدما صرت طالبًا جامعيًّا. هل تتحدث بهذه اللهجة العنيفة في البيت مع والدتك أيضًا؟

– كاستلا؟ أريد تناولها بالطبع.

أكلت بنهم.

– لذيذة جدًّا. يجب ألا تغضبي يا عمتي. أعطني كوبًا آخر من الشاي. أنا يا عمتي لا أعرف أي شيء عن الأمر هذه المرة، ولكنني أشعر أنني أتفهم مشاعر أختي.

جربت هذه المرة أن أجعل نبرة كلامي لينة.

– لا أدري ما الذي تقوله.

ضحكت عمتي ضحكات خافتة. ولكن مزاجها تحسن قليلًا.

– مثلك لا يمكن أن يفهم.

– حقًّا؟ ولكنني أرى أن ثمة سببًا واضحًا ومحددًا بالتأكيد.

– هذا حق.

مالت عمتي تجاهي وأضافت: قول ذلك لطفل مثلك لا معنى له، ولكن ثمة وثمة، وثمة كبيرة أيضًا!

في أي حالٍ كانت كلمات عمتي هي البذاءة الحقيقية، لذلك التزمتُ الصمت. وأرى أن قول ثمة وثمة شنيع.

– أولًا، ماذا يعني عدم إبلاغ الزوجة كم ثروته وكم دخله بالتفصيل رغم مرور سنة كاملة على الزواج؟ أليس هذا أمرًا مريبًا؟

استمعت صامتًا لذلك. وبدا أن عمتي ظنت أنني أسمع مبهورًا بكلامها، فازداد حماسها وواصلت: إن حالة السيد سوزوأوكا حاليًّا لا بأس بها، ولكن لو بحثنا عن الأصل، ألم يكن مجرد خادم للسيد والدكم؟ فأنا أعلم ذلك. لقد كنتم صغارًا وربما لا تعرفون، ولكنني أعرف كل شيء، فلقد رعاه رعاية طويلة جدًّا.

– هذا الأمر انتهى منذ زمن.

أخيرًا بدأت أشعر أنها مزعجة قليلًا.

– كلا، لم ينته. يمكن القول إنني من المقربين. ثم ماذا! بيت كوجيماتشي في الآونة الأخيرة يهملني تمامًا. أجل أنا عزباء لا نفع لي ولا حيلة أن يستخف بي الآخرون، ولكن أن يفعل ذلك أقرب الأقرباء …

كانت مندفعة في الكلام وكأنها على وشك أن تضرب حصير التاتامي بيدها. فقلت وأنا أضحك: لقد انحرفت عن مسار الحديث يا عمتي.

فضحكت أختي أيضًا وقالت: يكفي هذا. ولكن ألست يا سوسومو أنت وأخي تكرهان بيت شيتايا كراهية شديدة؟ حتى توشيو تستخفان به جدًّا …

– هذا غير صحيح.

شعرتُ بالارتباك.

– أجل. لم تأتيا في رأس السنة، ليس أنتما فقط، بل ما من أحد من الأقارب فكر أن يمر على بيت شيتايا لزيارتي.

لقد فكرتُ. مفهوم، هل حدث هذا فعلًا؟ تنهدتُ بدون وعي تنهيدة كبيرة وطويلة.

– لقد كنت أنتظر في شوق مجيئك يا سوسومو في رأس السنة. رغم أن سوزوأوكا يحبك حبًّا من أعماقه. يتحدث عنك دائمًا قائلًا: الصبي، الصبي.

لقد آلمتني بطني. بطني.

وقعتُ في حيرة وعرِقت. وانتبهتُ لأول مرة أن ذلك الأمر كان ضربة مؤلمة جدًّا لموقف أختي.

– من الطبيعي ألا يذهب.

هذه المرة وقفت عمتي إلى صفي.

– انفرط العِقد. فلا أحد يأتي من هناك. إن بيت كوجيماتشي لا يسألون عني أنا منذ زمن طويل، بل لا يرسلون لي مجرد بطاقة التهنئة بالعام الجديد. أمر طبيعي فأنا لا أعني لهم شيئًا.

يبدو أنها تريد البدء مجددًا.

قالت أختي بهدوء: كان ذلك خطأً. إن سوزوأوكا ربما بسبب أنه ينحدر من شخصية الطالب المجد، فهو يهمل التواصل ليس مع كوجيماتشي وميغورو فقط، بل إنه لا يتواصل مع أهله. ومهما تحدثت معه عن ذلك، يقول لنؤجل ذلك الأمر. ولا يرجع له من وقتها.

– أليس ذلك أفضل؟

فجأة أحببت السيد سوزوأوكا قليلًا.

– إن الرجل إذا أُجبر على الذَّهاب إلى الأقارب لتحيتهم بتحيات مجاملة مرهقة كأنهم أغراب، فلن يستطيع إنجاز عمله ولا إنجاز شيء.

فقالت أختي بفرح: هل ترى ذلك؟

– هو كذلك. لا داعي لأن تقلقي. هل تعلمين من الذي يصاحب أخي في سُكره كل ليلة ويدور معه على الحانات؟ إنه السيد سوزوأوكا. يبدو أنهما منسجمان جدًّا. ويتصل السيد سوزوأوكا هاتفيًّا باستمرار.

– هل هذا حقيقي؟

فتحت أختي عينيها باتساع وحملقت في وجهي. كانت عيناها تتلألآن من السعادة. فانتفختُ وقلت لها: أليس هذا هو الطبيعي؟ إن السيد سوزوأوكا يشمر عن ساعديه كل صباح وينظف البيت بنفسه. ثم يرتدي توشيو المريول الأحمر ويقوم بإعداد الطعام. لقد سمعت ذلك من أخي فأحببت بيت شيتايا فجأة. ولكن أريد فقط الامتناع عن نعتي بالصبي.

– سنمتنع.

طارت أختي من الفرحة.

– ما بيدي حيلة، سوزوأوكا هو الذي يقول ذلك فغدت تلك الكلمة عالقة بلساني.

بدا كلامها بالنسبة لي استعراضًا لانسجامهما معًا. ولكن السخرية من ذلك أمر وضيع.

– حتى أنا كنت مخطئًا، وكذلك أخي به بعض التهور. أعتذر لك يا عمتي عن تحدثي معك بذلك العنف منذ قليل.

هكذا حرصتُ أيضًا على إصلاح مِزاج عمتي.

– حتى أنا يسعدني الصلح بينهما.

يا لها من عمة ماهرة في انتهاز الفرصة. غيرت موقفها تمامًا.

– ومع ذلك لقد أصبحت ذكيًّا جدًّا يا سوسومو لقد عجزت عن الكلام انبهارًا بك. ولكن عليك أن تمتنع عن السخرية من الأكبر منك سنًّا بقولك مفعوصة أو غيرها.

– سأمتنع.

كنت سعيدًا. تناولت وجبة العشاء في بيت عمتي، ثم عدت إلى البيت. وفي حياتي لم أنتظر عودة أخي للبيت بلهفة مثل تلك الليلة. وعندما سمعتْ أمي أنني ذهبت إلى بيت ميغورو وتناولتُ وجبة العشاء، باتت لديها رغبة عارمة في معرفة أحوال أختي، فكانت تستجوبني عنها بأسئلة مزعجة، ولكنني شعرت أن إعلامها بما حدث فيه سيكون خَسارة، فكنت أجيب بإجابات مبهمة لا تجعلها تدرك جوهر الموضوع، ثم أقول لها: اسألي أخي عن التفاصيل فأنا لا أعرف شيئًا، وهربتُ سريعًا من غرفتها.

في الساعة الحادية عشرة عاد أخي إلى البيت في حالة سكر شنيعة.

فذهبت إلى غرفته وقلت له: أخي، هل أحضر لك ماءً؟

– لا حاجة لذلك.

– أخي، هل أفك لك رباط العنق؟

– لا حاجة لذلك.

– أخي، هل أساعدك في تغيير السروال؟

– يا لك من مزعج! أسرع إلى النوم. هل انتهت نزلة البرد؟

– لقد نسيتها تمامًا. لقد ذهبت اليوم إلى ميغورو.

– أي تغيبت عن الدراسة!

– مررت عليهم في طريق عودتي من الجامعة. وصتني أختي أن أبلغك تحيتها.

– أبلغها أنني ليس لدي آذان تسمع. وأنت يا سوسومو عليك أن تيأس من تلك الأخت. فقد باتت امرأة غريبة عنا.

– ولكن أختي تفكر في أمرنا بشدة. لقد تأثرتُ إلى حد البكاء.

ما الذي تقوله؟ نم سريعًا. إذا اهتممتَ بمثل هذه الأمور السخيفة فلن تستطيع أن تكون أفضل ممثل في اليابان. بل إنك لا تذاكر مؤخرًا البتة. فأنا أعلم كل شيء جيدًا.

– ألست أنت يا أخي العزيز الذي لا يذاكر مطلقًا؟ بسبب شربك للخمر كل ليلة.

– لا تتحدث بصفاقة أيها الوقح! فأنا بسبب إحساسي بالأسف تجاه السيد سوزوأوكا …

– ولذلك أليس من الأفضل أن تُسعد السيد سوزوأوكا؟ لقد قالت أختي إنها لا تكره السيد سوزوأوكا مطلقًا.

– تقول ذلك لك أنت. لقد بعت نفسك أخيرًا يا سوسومو.

– مستحيل أن أبيع نفسي بقطعة كاستلا. مفعوصة … أقصد عمتي هي السبب عمتي هي التي حرضتها. لقد تحدثت عن أمور بذيئة مثل أنه لا يخبرها عن ثروته إلخ. ولكن ليس هذا هو المهم. بل في الحقيقة نحن السبب.

– لماذا؟ ما فعلنا؟ أعتذر منك سأنام.

بدل أخي المنامة بملابسه ودخل فراشه. فأطفأتُ أنوار الغرفة وأشعلتُ له المصباح السهاري.

– لقد بكت أختي. عندما قلت لها إنك تخرج كل ليلة لتشرب الخمر ولا تعود إلا متأخرًا في حالة سكر، أخذت تبكي على الفور.

– يجب أن تبكي. فهي التي تطالب مطالب أنانيَّة يعاني منها الجميع. ناولني السجائر التي هناك يا سوسومو.

نام أخي في الفراش على بطنه. فأشعلت له السيجارة بالولاعة.

– ثم قالت إنك يا أخي وإنني أنا أيضًا نكره بيت شيتايا.

– ماذا؟ إنها تقول قولًا مريبًا.

– ألم تكن هذه هي الحقيقة؟ الآن اختلف الأمر، ولكنك يا أخي لم تذهب مطلقًا لزيارة بيت شيتايا، أليس كذلك؟

– حتى أنت لم تذهب.

- أجل، لقد كنتُ مخطئًا. فقد كنت خائفًا لأنه يحمل الحزام الرابع في الجودو.

– بل إنك احتقرت توشيو بشدة.

– ليس احتقارًا ولكن لم أرغب أن ألقاه. أشعر بالكآبة. ولكنني الآن سأحسِّن عَلاقتي معه. عندما فكرت جيدًا وجدت أنه وجه حسن.

ضحك أخي وقال: أحمق. إن السيد سوزوأوكا وكذلك توشيو أشخاص صالحون جدًّا. كما هو متوقع الإنسان الذي لاقى معاناة في حياته مختلف. ولكنني حتى من قبل لم أكن أرى أنه سيئ، لو كنت أعتقد أنه إنسان سيئ لم أكن لأوافق أن تتزوجه أختي، إلا إنني لم أكن أتوقع أنه إنسان جيد لهذه الدرجة. تيقنت من ذلك بشدة خلال هذه المدة. إن أختي لم تعرف جيدًا بعدُ جودة زوجها. ماذا! هل تريد الانفصال عن زوجها لأننا لا نذهب لزيارتهم؟ لا يصلح هذا سببًا بأي حال. هذا ما يقال عليه أنانية. فهي ليست عروسًا في التاسعة عشرة أو العشرين من عمرها. يا لها من حالة!

لا يستسلم بسهولة. ربما كان ذلك كبرياء رب البيت. فدافعت عنها باستماتة.

– إن أختي تعرف حقًّا جودة السيد سوزوأوكا، ولكنها فكرت أننا لا يمكننا التوافق معه، فهي تحبك يا أخي وتحبني جدًّا. نحن السبب. لا أعتقد أن أختي تصبح غريبة عنا لمجرد أنها تزوجت.

– حسنًا، ماذا يجب أن أفعل؟

بدأ أخي التفكير بجدية.

لا يجب عليك أن تفعل شيئًا بصفة خاصة. فأختي الآن في منتهي الفرحة. فعندما قلت لها إنك هذه الأيام تسكر كل ليلة مع سوزوأوكا وأنكما منسجمان معًا، قالت: حقًّا؟ وبدت على وجهها فرحة لا توصف.

– أحقًّا هذا؟

تنهد أخي، ثم ظل لفترة ثابتًا لا يتحرك. ثم نهض أخي فجأة وقال: الساعة الثانية عشرة؟ يا سوسومو لا مانع، اتصل الآن بالسيد سوزوأوكا، وقل له إنني سوف أذهب له على الفور، ثم اتصل بشركة أساهي للسيارات الأجرة واطلب منها إحضار سيارة على وجه السرعة. وخلال تلك المدة سوف أتحدث مع أمي في الأمر.

بعد أن ودعت أخي إلى شيتايا، هدأ بالي وبدأت في كتابة يوميات ذلك اليوم، ولكنني لأجل هذا كنت في منتهى التعب، ولذا غرقت في النوم في منتصف الكتابة. أمضى أخي تلك الليلة في بيت شيتايا.

واليوم بعد عودتي من الجامعة، أخذني أخي وهو يبتسم ابتسامة عريضة إلى غرفة أمي دون أن يقول لي شيئًا.

يجلس السيد سوزوأوكا وأختي بجوار فراش أمي. جلستُ بجوارهما، وانحنيت لتحيتهما وأنا أبتسم.

قالت أختي وهي تبكي: سوسومو!

هكذا فعلت أختي في صباح يوم ذَهابها لبيت زوجها، نادت على اسمي ثم بكت.

وقف أخي في الرَّدهة وضحك ضحكات رصينة. بكيت قليلًا. ثم قالت أمي وهي نائمة كما هي: حسِّنوا عَلاقتكم معًا لأنكم إخوة.

احْمِ أسرتي يا إلهي! ولسوف أستذكر دروسي باجتهاد.

غدًا ذكرى مرور العام الأول على زواج أختي. سوف أستشير أخي وأرسل لها هدية ما.

الجمعة ٢٨ أبريل

طقس صحو. بعد إمعان التفكير، إنه لمن الخجل أن يشعر الرجل بالفخر وكأنه قد أنجز أعمالًا مبهرة لمجرد أنه سعى بكل قواه في حل بعض المشاكل العائلية البسيطة. السلام الأسري أمر هام، ولكن الرجل الذي يتقدم للأمام تجاه المثالية، يجب أن يواجه العالم الخارجي بقوة أشد. شعرت بذلك من كل قلبي بعد أن ذهبت اليوم إلى الجامعة. دللني في البيت كل من أمي وأخي وأختي ومدحوني بقولهم إنني بارع حتى شعرت أنني إنسان عظيم جدًّا، ولكن بمجرد أن أخطو خارج البيت لا أجد إلا الصعوبات على الفور. إنسان بائس. يبدو أن قدري يحتم عليَّ أنني بعد الوصول إلى القمة، يهاجمني بالضرورة فشل يلقي بي في القاع. يبدو أن الحياة مهما فعلتُ تبخل عليَّ، أمقت مشاعر العداء المستعرة غير الضرورية تلك بيننا.

نزلت في الصباح أمام بوابة الجامعة، وفي ذات اللحظة، قابلت طالب الجامعة عضو فريق كرة القدم إياه. الطالب ذو اللحية الشعثاء الذي جاء للبحث عني في قاعة الدرس. كنتُ أحمل مشاعر طيبة تجاه ذلك الطالب، لذا ابتسمت على الفور، وقلت له بنشاط: صباح الخير.

وعندها، يا للهول! ففي الواقع ألقى ذلك الطالب تجاهي بنظرة سريعة كريهة ومنفرة فقط ثم ذهب ليدخل من بوابة الجامعة. وشعرت أنه شخص آخر غير ذلك الطالب المرتبك البريء براءة طفولية. كانت نظراته طائشة طيشًا لا يمكن وصفه. لا ضرورة مطلقًا لتغيير الموقف بهذا الشكل المفاجئ لمجرد أنني رفضت الانضمام إلى فريق كرة القدم بالجامعة. ألستُ طالبًا في نفس جامعة ريكيو؟ كدتُ أن أصرخ فيه من الخلف قائلًا: أيها الأحمق! أليس في الرابعة أو الخامسة والعشرين في العمر؟ يكرهني كراهية حقيقية مثل الأطفال وقد بلغ من العمر هذا المبلغ! مع احتقاري لذلك الطالب بأقصى درجات الاحتقار شعرت أنني عثرت على طبيعة نفسية سيئة للإنسان مما جعلني أشعر بوحدة شنيعة. شعرتُ أنني في لحظة دُفع بي إلى قاع الجحيم بقوة، بعد مشاعر السعادة التي شعرتُ بها أمس. رُوح معنوية بخيلة، بخيلة جدًّا للمواطنين العاديين. إلى أي مدى تُفقدنا تلك الرُّوح المعنوية البخيلة الدميمة حيويتنا واهتمامنا وتجرح بشراسة حياتنا اليومية التي تمتد وتتسع؟ ناهيك عن إحساسهم بالندم وضرورة مراجعة النفس تجاه الأضرار السامة التي ينشرونها حولهم. بل المرء ليعجب من عدم انتباههم لذلك على الإطلاق. إن هذا هو معنى القول: لا شيء أكثر رعبًا من الأحمق. لهذا أكره الجامعة. فالجامعة ليست مكانًا يتلقى فيه المرء العلم، بل باتت مكانًا ينكسر فيه الإنسان فقط بعَلاقات اجتماعية لا قيمة لها. يدخل طلاب الجامعة اليوم قاعة الدرس متتابعين وهم يضعون في جيوب ملابسهم مَجلات متعددة مثل نادي الفتيات، وصديق الفتيات، والنجوم … إلخ. ما من أحد اليوم أجهل الطلاب. أكرههم من أعماق كياني. كانوا حتى بداية المحاضرة يتبادلون إلقاء طائرات لعب الأطفال مطوية من الورق على بعضهم البعض، أو يبدون دهشة من شيء تافه بقول: عظيم، عظيم، أو يسلكون سلوكًا فاحشًا، ورغم ذلك عندما يدخل الأستاذ يهدءون فجأة، وفي النهاية يسمعون المحاضرة بإجلال مهما كانت مملة. وعندما تنتهي الدراسة بالجامعة يعودون للصخب والضوضاء مجددًا مبتهجين وكأنهم عادوا للحياة بعد الموت، قائلين: حسنًا، لنذهب اليوم إلى غينزا! هذا الصباح أيضًا ظلت قاعة الدرس لبعض الوقت في مثل هذا الصخب. وعندما انتبهتُ لأرى ماذا حدث؟ كان الأمر أن الشخص اللعوب في الفصل الذي يُدعى (ك) كان يسير ليلة أمس في غينزا مع فتاة تبدو حبيبته. ولذلك عندما دخل هذا اللعوب إلى قاعة الدرس صخب الجميع على الفور. لا بديل آخر عن قول: ضحالة مريعة. شعرت أنهم حثالة شهوانية عتيقة. العجب والدهشة من (ك) الذي تورد وجهه خجلًا من صياح الجميع عليه، ومع ذلك فهو يبتسم ابتسامة انتشاء وكأن الموقف لا بأس به، ولكن تُرى ما قصد باقي الطلاب من صياحهم والنداء عليه؟ أمر غير مفهوم مطلقًا. قذارة! دناءة! أثناء مشاهدتي لهذا الصخب من بعيد، نبعت داخلي ثورة غضب عارم. بدأت أشعر بعدم الصفح عنهم. وفكرت أنني يجب أن أقاطع مثل هؤلاء الشرذمة، حتى وإن بتُّ منعزلًا، فهذا أفضل. فلا ضرورة من الدخول في صداقة مع هؤلاء القوم وأغدو تافهًا رغمًا عني. آه! يا طلاب المتوسطة الرومانسيين! إن فترة المراهقة تكون ممتعة حقًّا. أيها الحمقى! ما الذي تعيشون من أجله؟ ما مثاليتكم؟ ربما كانت نيتكم أن تلهوا دون إحداث مشاكل قدر الإمكان، ثم تتخرجوا من الجامعة بلا مشاكل، ثم ترتدوا بذلة، ثم تتوظفوا في شركة، ثم تتزوجوا من عروسة، وتتطلعوا إلى زيادة المرتب الشهري بلهفة، وتقضوا العمر في سلام، ولكن لحظكم السيئ الحياة لا تنجح بهذه السلاسة. فتقع حوادث لا تتوقعونها. هل أنتم مستعدون لها؟ مساكين لا تعلمون شيئًا. جهلاء.

إذ فسد الحال من الصباح فكرت في التدريب بعد الظهر، وعندها انتبهت إلى أنني نسيت السروال فذهبت متعجلًا للفصل المجاور وطلبت من ثلاثة طلاب إعارة سروال لي لمدة ساعة واحدة فقط، ولكن ضحك كل منهم ضحكة صفراء دون إجابة.

فزعت من الأمر. فيبدو أنه لم يكن السبب مشاعر واضحة مثل كراهية إعارة ملابسهم أو أنهم يحتاجونها. بل مجرد عدم وجود تلك العادة لديهم بسبب الأنانية البلهاء. بدا عليهم أنهم لم يجربوا منذ ولادتهم إعارة شيء لشخص يحتاجه. لن أصل إلى نتيجة مهما طلبت من أناس على هذه الشاكلة. وقلت لنفسي إن هذا أمر شنيع. وقررت ألا أطلب شيئًا من أي طالب أبدًا. ثم تغيبت عن التدريب العسكري وعدتُ لبيتي كما أنا.

في الواقع أمر عظيم، سواء عضو فريق الكرة، أو تلك الضجة الصباحية في قاعة الدرس، أو طلاب الفصل المجاور. لقد أُنهكت اليوم تمامًا، ولكنني قلت لنفسي «لا بأس» فأنا لي طريقي الخاص بي. والأفضل أن أسير مباشرة متتبعًا ذلك الطريق.

طلبت من أخي هذه الليلة الطلب التالي: لقد فهمت على الأغلب وضع الدراسة في الجامعة، وفكرت أنه حان الوقت كي أبدأ دراسة المسرح بجدية، ولذا أرجو منك يا أخي العزيز أن تصحبني سريعًا إلى أستاذ جيد.

– لقد رأيتك اليوم تفكر في صمت تفكيرًا عميقًا، الآن فهمت السبب. حسنًا، لنذهب غدًا إلى السيد تسودا لنستشيره. لنذهب على أي حال إلى السيد تسودا ونسأله عن أفضل أستاذ. لنذهب معًا غدًا.

إن مِزاج أخي جيد جدًّا مؤخرًا.

غدًا عطلة عيد ميلاد جلالة الإمبراطور. فشعرت أن في ذلك مباركة لمستقبلي. السيد تسودا هو أستاذ اللغة الألمانية الذي كان يدرس لأخي في المدرسة الثانوية، وحاليًّا ترك مهنة التدريس ويعيش من كتابة الروايات. والأستاذ تسودا هو من يراجع لأخي الروايات التي يكتبها.

رتبت غرفتي حتى وقت متأخر من ليلة أمس. فباتت أدراج مكتبي كلها منظمة ومرتبة. وفصلت الكتب التي انتهيت من قراءتها عن الكتب التي أنوي قراءتها قريبًا ثم أعدت تزيين رفوف المكتبة. وبدلتُ صورة ذاتية لدافنتشي بلوحة بييتا. ورميت قلم الحبر الريشة لأنني كنت أريد شيئًا يقوي لدي العزيمة. أردتُ التخلص من ذوق الفتيات. ثم وضعتُ الغيتار في خزانة الملابس. أحسست بالانتعاش الشديد. وشعرت أن هذا الربيع سيتبقى زاهيًا في ذاكرتي مدى الحياة.

السبت ٢٩ أبريل

طقس ياباني صحو. اليوم عطلة عيد ميلاد جلالة الإمبراطور. صحونا أنا وأخي اليوم مبكرًا. طقس هادئ وجميل. وطبقًا لما قاله أخي فعطلة عيد ميلاد جلالة الإمبراطور يكون الطقس بالضرورة جيدًا دائمًا. وقررتُ أن أصدق ذلك ببساطة.

خرجنا معًا من البيت في الساعة الحادية عشرة تقريبًا، وعرَّجنا على غينزا في طريقنا، واشترينا هدية تهنئة أختي بالعيد الأول لزواجها. اشترى أخي مجموعة كئوس زجاجية. وفي نيته الرغبة أن يشرب فيها النبيذ مع السيد سوزوأوكا عند ذهابه لزيارة بيت شيتايا. أما أنا فاشتريت مجموعة لعب ورق فاخرة. وفي نيتي أن ألعب بها مع أختي ومع توشيو عند ذهابي لزيارة بيت شيتايا. تصرف كلانا بدهاء نفعي عند وضع خطة الشراء، وهو أن يستمتع كلانا بهديته متعة كافية عند زيارة بيت أختي في شيتايا. ورتبنا مع المحل أن تُرسل الكئوس وورق اللعب من المحل إلى شيتايا مباشرة.

تناولنا وجبة الغداء في مطعم أوليمبيك ثم زرنا السيد تسودا في حي هونغو. في ربيع العام الذي دخلتُ فيه المدرسة المتوسطة، صحبني أخي وذهبنا في أحد المرات لزيارة بيت السيد تسودا. وقتها، اندهشت من تكديس الكتب في كل مكان؛ في مدخل البيت والرَّدهات والغرف.

وعندما سألته بدون حياء: هل قرأت كل تلك الكتب؟

أتذكر أنه ضحك وأجاب بوضوح: هذه كميات لا يمكن قراءتها. ولكن وضعها بهذا الشكل يجعل من المحتم أن أقرأها في يومٍ ما.

وجدنا السيد تسودا في البيت. كانت الكتب كما هي مكدسة في كل مكان؛ في مدخل البيت والردهات والغرف. لم يتغير شيء. وكان السيد تسودا كذلك كما هو قبل أربع سنوات. يُفترض أنه اقترب من الخمسين من العمر، ولكن لا يبدو عليه آثار الهَرَم ولو قليلًا. وبدون تغيير كان يتحدث كثيرًا ويضحك كثيرًا بصوته الحاد العالي.

– لقد كبرتَ كثيرًا. وتحسَّن طباعك الرجولي. كيف حال جامعة ريكيو؟ وهل السيد تاكايشي بخير؟

تاكايشي هو محاضر اللغة الإنجليزية في الجامعة.

– أجل، إنه يدرس لنا حاليًّا رواية إيريهون تأليف صموئيل باتلر، ولكنه شخص غامض نوعًا ما.

عندما قلت ما أشعر به كما هو، فتح السيد تسودا عينيه على وسعهما.

– لسانك بذيء. لو ظللت هكذا فسوف تكون نهايتك سيئة. من المؤكد أنك تسبني كل يوم مع أخيك هذا.

– هذا ما يحدث بالضبط.

قال أخي ذلك وهو يضحك، ثم أضاف: أخي الأصغر يكره جامعة ريكيو من البداية. وليس لديه النية في التخرج منها.

– إن هذا تأثيرك السيئ عليه. يا عزيزي لا يجب أن تجذب أخاك الأصغر منك للسير في نفس طريقك.

تحدث السيد تسودا أيضًا وهو يضحك.

– أجل. إنها مسئوليتي بالكامل. يقول إنه يريد أن يصبح ممثلًا …

– ممثل؟ قرار جريء جدًّا. لا تقل إنه يقصد ممثل جوَّال؟

سمعت حوارهما وأنا مطأطأ الرأس. فقال أخي ببساطة: ممثل سينمائي.

– ممثل سينمائي؟

صرخ السيد تسودا بصوت عجيب.

– هذه مشكلة كبيرة.

– حتى أنا فكرت كثيرًا، ولكن أخي كلما عانى في حياته معاناة شديدة، يقرر بالضرورة قرارًا حاسمًا أن يصبح ممثلًا سينمائيًّا. لأنه ما زال طفلًا فما من سبب بُني على العقل والمنطق، ولكنني أرى أن ذلك قدره المصيري. لو كان ينبهر بحياة الممثل السينمائي في وقت الدعة، لم أكن لآخذه على محمل الجِد، ولكنه عندما تكون حياته على المحك، يصل تفكيره فجأة إلى الممثل السينمائي. وأنا أعتقد أن ذلك يشبه إلهامًا من الرب. وأشعر أنني أريد أن أثق في أخي هذا.

– حتى لو قلت ذلك فلسوف يعترض الأقارب والعائلة، وستكون مشكلة.

– سأواجه أنا اعتراضات الأهل والأقارب. فحتى أنا تركت الدراسة في الجامعة، وعلاوة على ذلك أتطلع لأصبح روائيًّا، ولذا فقد تعودتُ على اعتراض الأقارب.

– أنت لا مشكلة معك. المشكلة في أخيك …

تدخلت في الحوار بقولي: حتى أنا لا مشكلة معي في ذلك.

– حقًّا؟

ابتسم السيد تسودا ابتسامة متكلَّفة: يا لكما من أخوين عجيبين!

واصل أخي كلامه بتصميم ودون تباطؤ: ما رأيك؟ ألا تعرف أستاذ فنون مسرحية جيد؟ أعتقد أنه يجب دراسة المسرح دراسة تأسيسية لمد خمس أو ست سنوات.

– هذا حقيقي.

تحمس السيد تسودا فجأة.

– يجب الدراسة. يجب الدراسة.

– لذلك أرجو منك أن تعرِّفنا على أستاذ جيد. ماذا عن السيد إيتشيزو سايتو؟ أخي أيضًا يحترمه، وأنا كذلك أعتقد أن أستاذًا تقليديًّا مثله سيكون أفضل.

عوج السيد تسودا عنقه وقال: السيد سايتو؟

– لا ينفع؟ أنت يا سيد تسودا تعرف السيد سايتو معرفة حميمية، أليس كذلك؟

– ليست معرفة حميمية ولكنه كان أستاذنا عندما كنت طالبًا جامعيًّا. ولكن هل يناسب شباب اليوم؟ لا مانع من أن أعرِّفه عليه، ولكن ماذا سيفعل بعد ذلك؟ هل سيقيم معه كتلميذه؟

– مستحيل. بل مجرد أن يذهب إليه من حين لآخر ليتعلم منه أشياء تُعِده للتمثيل. علاوة على أننا نريد أن نسأله ما أفضل فرقة مسرحية يمكن الانضمام إليها؟

– فرقة مسرحية؟ ألم تقل ممثلًا سينمائيًّا؟

تحدث أخي عن مشاعري كما هي بطلاقة. حتى أنا لا أستطيع التحدث بتلك الدقة الشديدة.

– الممثل السينمائي مجرد مثال. لكنه في الواقع ليس متمسكًا به. في أي حال هو يريد أن يكون أفضل ممثل في اليابان، كلا بل في العالم أجمع. ولذلك فهو على أتم الاستعداد لأن يصقل قدراته التمثيلية لمدة خمس أو عشر سنوات بعد أن يسمع رأي السيد سايتو أولًا، ثم يدخل فرقة مسرحية جيدة. وبعد ذلك لن تكون مشكلة إن ظهر في الأفلام السينمائية أو ظهر على خشبة مسرح الكابوكي.

– خطة بارعة جدًّا. أليست خيال ليلة من ليالي الربيع؟

– لا تمزح. فأنا أريد لأخي النجاح حتى لو فشلتُ أنا.

– كلا، يجب أن ينجح كلاكما. في أي حال لا بديل عن الدراسة.

قال ذلك بصوتٍ عالٍ، ثم أكمل: لا قلق عليكما حاليًّا من الناحية المالية، لذا يجب الاجتهاد في الدراسة على المدى الطويل. لا ينبغي التفريط في البيئة الجيدة التي وُهبت لكما. ولكنني مندهش جدًّا من اختيار مهنة التمثيل! على كلٍّ دعني أكتب لك خطاب تعريف تقدمه للسيد سايتو. ثم خذه معك. إنه شخص عنيد، لذا ربما يطردك من على باب البيت.

فقال أخي بخباثة: وقتها سوف نطلب منك يا سيد تسودا أن تكتب خطاب توصية مرة أخرى.

– بات السيد سريكاوا صفيقًا في غفلة من الزمن. ليت قليلًا من الصفاقة يظهر في أعمالك الروائية.

فجأة ظهرت الكآبة على وجه أخي.

– وضعت أنا أيضًا خطة طويلة المدى لعشر سنوات للبدء من جديد.

– العمر كله. تدريب يستغرق العمر كله. هل تواصل الكتابة حاليًّا؟

– أجل ولكن الأمر في منتهى الصعوبة.

تنهد السيد تسودا قائلًا: يبدو أنك لا تكتب! يجب أن تدع الحرص على كبرياء الحياة اليومية.

حتى مع تبادلهما للمزاح، عندما يتحول الحديث عن الأعمال الروائية يعم شعور بالصرامة في الاتجاهات الأربعة. فقلت لنفسي إنها عَلاقة جيدة حقًّا بين أستاذ وتلميذ. وعندما استأذنَّا في الرحيل بعد أن كتب لنا خطاب التوصية، ودَّعَنا السيد تسودا حتى الباب ثم همس قائلًا وكأنه يحدث نفسه: المعاناة لا تتغير مهما وصل الإنسان إلى الأربعينيات أو حتى الخمسينيات من عمره.

فضربت تلك الكلمة أعماق قلبي.

تختلف معاناة الكاتب عندما يغدو في حجم السيد تسودا.

أثناء سيرنا في حي هونغو ضحك أخي ضحكات حزينة وهو يقول: إن حي هونغو هذا كئيب. يشعر من ترك الجامعة الإمبراطورية قبل التخرج أن مباني الجامعة هذه مصدر للرعب. لا يطيق الإحساس بالذل. يشعر وكأنه مجرم. ما رأيك لو نذهب إلى أوينو؟ يكفي حي هونغو حتى هذا.

ربما زاد شعوره بالكآبة أكثر بعدما صب عليه السيد تسودا محاضرة توبيخ.

ذهبنا إلى حي أوينو وأكلنا وجبة طاجن اللحم البقري. شرب أخي بيرة. وسقاني قليلًا منها.

– هذا حسن.

بدأ أخي يستعيد طاقته بسرعة.

– لقد اجتهدت اليوم بشدة. ولكن في النهاية كتب السيد تسودا خطاب التوصية. وهذا نجاح عظيم. السيد تسودا رغم هذا به بعض الالتواء العاصف، فإذا حدث شيء يجعله يشك قليلًا في الأمر يفشل كل شيء. ولن تحصل منه على ما تريد للأبد. لا يمكن التهاون مطلقًا. من الجيد أن اليوم مر على خير. لقد سار الموضوع بسلاسة عجيبة. تُرى هل كان السبب سلوكك الجيد يا سوسومو؟ فالسيد تسودا يواصل المزاح هكذا، ولكنه في الحقيقة يفحص الإنسان بعيون حادة جدًّا وكأنه يملك عينين خلف رأسه. يبدو يا سوسومو أنك نجحت في الاختبار.

ابتسمت ابتسامة خفيفة.

– ولكن ما زال الوقت مبكرًا لكي تطمئن.

يبدو أن أخي قد سكر قليلًا. فقد علا صوته أكثر من اللازم.

– فما زال أمامك عقبة تسمى السيد سايتو. لأنه على ما سمعت شخص عنيد جدًّا. حتى السيد تسودا أيضًا، ألم يلوي عنقه عندما سمع اسمه؟ على كلٍّ قابله بإخلاص. أنت تحمل خطاب التوصية، أليس كذلك؟ أرني إياه.

– ألا بأس من قراءته؟

– لا مانع. فخطاب التوصية يُترك مفتوحًا خصوصًا من أجل أن يطلع عليه حامله. انظر أليس كذلك؟ من الأفضل لنا أن نلقي عليه نظرة سريعة. لنقرأه. ما هذا؟ إنه شنيع. في منتهى البساطة. هل سيفلح الأمر مع هذه الدرجة من التبسيط؟

قرأته أنا أيضًا. بسيط لدرجة الحماقة. مجرد جمل تقول: أعرِّفك بصديقي سوسومو سريكاوا لأنه يريد أن يحصل على إرشادك أيها الأستاذ … إلخ. ولم يقل شيئًا محددًا ولو تلميحًا.

– تُرى هل ينفع؟

شعرت بالقلق. وأحسستُ أن مستقبلي بات مظلمًا فجأة.

– سينفع بالتأكيد.

لم يبدُ أخي واثقًا فيما يقول.

– ولكن كُتب هنا: صديقي سوسومو سريكاوا، صديقي هذه ربما هي التي سوف تبكيه.

بدأ يهرف بكلام غير مسئول.

قلت مكتئبًا: لنأكل؟

– أجل لنأكل.

بدا على وجه أخي عدم الاكتراث.

ثم لم نتحمس للحديث بعد ذلك.

كانت الشمس قد غابت عندما خرجنا من ذلك المطعم. قال أخي: لنعرِّج على بيت السيد سوزوأوكا القريب جدًّا من هنا، ولكن لأنني كنتُ أنوي الذَّهاب إلى بيت السيد سايتو غدًا مباشرة، ولكيلا أرتبك إذا سألنا السيد سايتو، أردتُ العودة سريعًا إلى البيت وقراءة ما يقع تحت يدي من كتب المسرح، في النهاية تقرر أن يذهب أخي بمفرده إلى بيت شيتايا، وافترقت عنه عند شارع هيروكوجي وعدتُ إلى كوجيماتشي.

الساعة الآن العاشرة ليلًا، ولم يعد أخي بعد. ربما كان يسكر مع السيد سوزوأوكا في شيتايا. لقد بات أخي سكِّيرًا تمامًا مؤخرًا. ولا يكتب روايات إلا قليلًا. ولكنني أثق في أخي حتى النهاية. من المؤكد أنه سيكتب قريبًا تحفة أدبية رائعة. فتحت كتاب السيرة الذاتية للسيد سايتو «شوارع المسرح خمسون عامًا» فوق المكتب، لم أقلب الصفحات ولو مرة واحدة. يهتاج قلبي فقط بخيالات متنوعة. توتر غريب لدرجة الامتعاض. من الآن سأبدأ أخيرًا المبارزة مع الحياة الواقعية. منظر الرجل وهو يقاتل ببسالة! قلبي يمتلئ تمامًا. تُرى هل سينجح لقاء غدٍ؟ هذه المرة سأذهب بمفردي. لا مساعدة من أحد. ولا أستطيع تمني فائدة مرجوة من خطاب التوصية المبسط هذا. في النهاية يجب عليَّ إظهار إخلاصي والتحدث عن آمالي. آه، يا له من قلق. احمني يا إلهي! كيلا يطردني من على الباب. تُرى أيُّ الرجال هو هذا العجوز المدعوُّ السيد سايتو؟ ربما كان عجوزًا طيبًا يبتسم فتضيق عيناه وهو يقول لي: أوه مرحبًا بك. كلا، كلا هذا مستحيل. لا يجب التهوين من صعوبة الموقف، فهو أفضل كاتب مسرحي في اليابان على الإطلاق. من المؤكد أن عينيه تلمعان ببريق حاد، وأنه ذو قوة عضلية متينة. ولكن ما من احتمال أن ينقض عليَّ ضربًا ولكمًا. فرضًا لو لكمني فلن أقبل ذلك، بل سأرد بعنف الطاق طاقين. عندها سوف يقول لقد فعلها الفتي! هذه هي الرُّوح المطلوبة ثم يسمح لي بالتتلمذ على يديه. لقد سبق لي رؤية مثل هذا الفيلم. تُرى هل كان ذلك فيلم موساشي مياموتو؟ آه، لا نهاية للخيال. على أي حال ربما يتقرر بناءً على مقابلة غدٍ أستاذي الذي سأدين له بالجميل طوال حياتي. يوم في منتهى الأهمية. تُرى ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ مهما فكرت في قراءة الكتاب لا يدخل رأسي منه شيء لا صفحة ولا حتى سطر. سأنام. يبدو أن هذا هو الحل الأفضل. لو ذهبت بوجه ينقصه النوم، وكان الانطباع الأول عني سيئًا فتلك خَسارة كبرى. ولكن لا يبدو أنني سأستطيع النوم مهما فعلت. بدأ في الخارج ليل عمَّال وردية الليل. وعندما فكرت وجدت أنهم كل ليلة يعملون من الساعة العاشرة ليلًا حتى الساعة السادسة صباحًا. عمل شاق لمدة ثماني ساعات تقريبًا. يشجعون بعضهم بعضًا بقول هيلا، هيلا. تُرى ماذا يعملون؟ هل يسحبون أنابيب الغاز من البالوعات؟ طبقًا لما قاله أخي فصوت التشجيع هذا هدفه إبعاد النعاس عن العمال أنفسهم. وعندما سمعتهم وأنا أفكر في ذلك، بدا ذلك الصوت في منتهى البؤس. تُرى كم أجرهم؟

بدأت أشعر بالرغبة في قراءة الكتاب المقدس. يبدو أن مثل هذا الوقت العصبي الذي لا يُحتمل ليس له إلا الكتاب المقدس. في الوقت الذي يكون كل الكتب الأخرى جافة وبلا طعم ولا تدخل الدماغ منها كلمة واحدة، فكلمات الكتاب المقدس فقط هي التي تَلْقَى صدًى في القلب. إنه كتاب رائع حقًّا.

الآن عندما أخرجت الكتاب المقدس وفتحته على صفحة عشوائية دخلت عيني الكلمات التالية:

«أَنَا الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ: مَنْ آمَنَ بِي، وَإِنْ مَاتَ، فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ يَحْيَا وَيُؤْمِنُ بِي، لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟»١٠

لقد نسيت. كان إيماني ضعيفًا. لأعتمد عليه وحده في كل شيء وأي شيء، ولأَنَمْ. بل إنني تكاسلت عن الصلاة مؤخرًا.

لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي السَّمَاءِ!١١

الأحد ٣٠ أبريل

طقس صحو. غادرت البيت في الساعة العاشرة صباحًا بعد أن ودعني أخي حتى البوابة. كنت أريد مصافحته ولكنني صبرت لأن ذلك سيبدو مبالغة. لم أكن بهذا التوتر عندما دخلت اختبار المدرسة العليا الأولى ولا اختبار جامعة ريكيو. بل لدرجة أنني وقت اختبار جامعة ريكيو انتبهت أن ذلك يوم الاختبار في الصباح فخرجت من البيت على عجل.

بداية انطلاق جديدة في الحياة. شعرت في هذا الصباح بذلك حقًّا. وبكيت أكثر من مرة داخل القطار في طريق الذَّهاب. وهكذا رجعت البيت في الظهيرة شارد الذهن. لسببٍ ما تعبت تعبًا شديدًا.

يقع بيت السيد سايتو في حي شيبا في منتهى الهدوء والسكينة. بيت من طابق واحد يبدو أنه يمتد طويلًا في العمق. حتى مع دق جرس البيت سيطر الهدوء والسكينة على البيت. كنت مرعوبًا من احتمال ظهور كلب عقور، ولكن ما من أثر لظهور حتى جرو صغير. وحينما تحيَّرت فيما أفعل، ظهرت فتاة من بوابة الحديقة الفرعية ترتدي كيمونو بحزام عريض وقالت بوجه متورد من الخجل: أوه! يا للمفاجأة!

لا يبدو أنها الخادمة، ومن المستحيل كذلك أن تكون ابنته. ينقصها الرقي اللازم.

– هل الأستاذ بالبيت؟

– حسنًا.

رد غامض. ولكنها كانت تبتسم ابتسامة عريضة. مبتذلة قليلًا ولكنها لا تترك انطباعًا سيئًا. ربما كانت ابنة أحد أقاربه.

– لقد أحضرت معي خطاب توصية.

– أحقًّا ذلك؟

أخذت الفتاة مني الخطاب بتلقائية.

– انتظر قليلًا.

ابتسمتُ ابتسامة خفيفة وقلت في سرِّي: الأمر جيد مبدئيًّا.

ولكن فشل الأمر بعد ذلك. بعد فترة عادت الفتاة من الحديقة وقالت: ماذا تريد؟

وقعت في مأزق. فليس من السهل قول ماذا أريد. ومستحيل أن أقول مثلما كُتب في خطاب التوصية: «جئت لأخذ النصيحة». فسيبدو هذا وكأنه مدرب كيندو. وأثناء وقوعي في بلبلة من الأفكار، عصفت بي ثورة غضب.

– هل الأستاذ بالبيت أم لا؟

– بالبيت.

مع ابتسامة عريضة. من المؤكد أنها تعاملني كأحمق. تستخف بي.

– هل قرأ خطاب التوصية؟

– كلا.

لا مبالاة متناهية.

– ما هذا؟

شعرت بالرغبة في احتقار ذلك البيت بكل ما فيه.

– إنه مشغول في العمل.

قالت ذلك بنبرة طفولية مَقيتة. لدرجة أنني فكرت أن لسانها قصير. ثم عوجت رأسها قليلًا وقالت: ألا تأتي في وقت آخر؟

طرد من على الباب بطريقة جيدة. ولكنني لن أستسلم لها.

– متى يكون لديه وقت لمقابلتي؟

– حسنًا، ما رأيك بعد يومين أو ثلاثة أيام؟

كلام غير مفهوم. فقلتُ وأنا واثق من نفسي: إذن، سأعود لزيارتكم مجددًا في مثل هذا الوقت من يوم ٣ مايو. أرجو منكم استقبالي وقتها.

ونظرتُ بعيون حادة إلى الفتاة. فردت ردًّا لا يُعتمد عليه، وهي تبتسم كالعادة: هاه.

فكرتُ فجأة: تُرى هل يمكن أن تكون مجنونة؟

بمعنى أنني لم أحصل على ثمرة واحدة من الزيارة. فعدت إلى البيت بوجه كئيب. كنت شديد التعب لدرجة أن إخبار أخي بما حدث كان أمرًا مزعجًا فلم أستطع مجاراته. كان أخي يسألني بالتفصيل عن كل شيء.

إن هوية تلك الفتاة هي المعضلة. كم كان عمرها بالتقريب؟ وهل كانت جميلة؟

– أنا لا أعلم عنها شيئًا. بل إنني أعتقد أنها مجنونة.

– مستحيل. من المؤكد أنها الخادمة. بمعنى أنها خادمة وسكرتيرة في نفس الوقت. وقد تخرجت من مدرسة البنات. أي إنها في التاسعة عشرة من العمر، كلا بل ربما تخطت العشرين.

– المرة القادمة من الأفضل أن تذهب أنت يا أخي.

– ربما من الأفضل أن أذهب أنا في بعض الحالات، ولكن ليس هناك ضرورة لذلك الآن. تبدو مكتئبًا، ولكن زيارة اليوم لم تفشل البتة. بل هي إنجاز كبير بالنسبة لك. مجرد أنك قلت بوضوح: سوف آتي في الثالث من مايو، فهذا نجاح عظيم. ومن المؤكد أن تلك الفتاة أخذت عنك انطباعًا حسنًا.

انفجرت ضاحكًا.

– هذه هي الحقيقة.

إن أخي جاد.

– فالأمر يختلف في حقيقته عن الطرد من عند الباب. ثمة نبض. بالتأكيد قول إنه يعمل حجة لرفض المقابلة، يبدو أنها حاولت بكل جهدها أن توصلك إليه ولكنها لم تستطع ذلك لأن زوجته مثلًا كانت عقبة في طريقها.

تفسير أخي في منتهى التسامح.

– من المؤكد أن هذا ما حدث. ولذلك في المرة القادمة أنت أيضًا لا تنظر إلى تلك الفتاة بعيون حادة، ولكن يجب أن تعاملها بلطف. وأن تنحني لها انحناءة تحية.

– اللعنة! لقد نسيت اليوم أن أخلع القبعة.

– أليس كذلك؟ لم تخلع قبعتك، بل تزيد الأمر بالنظر بعيون حادة، المعتاد أن تستدعي لك الشرطة. لقد أنقذك أن تلك الفتاة كانت متفهمة. عليك أن تضبط سلوكك في الثالث من الشهر القادم.

ولكن مع ذلك كنت فاقدًا الأمل تمامًا. كنت من قبل مستعدًّا تمامًا لوجود معاناة وعقبات صعبة في طريق الفنون لا تختلف عن معاناة التوظيف العادي، ولن أتخلى عن حلمي بمجرد وجود ذلك فقط، ولكنني في طريق عودتي اليوم من بيت السيد سايتو أدركت كوني مجهولًا، وأدركت مدى ضآلتي فكرهت نفسي. اختلاف هائل جدًّا بيني وبين السيد سايتو. لم أنتبه إلى وجود تلك المسافة كالتي بين السحاب والأعشاب. كنت أظن أنني لو قلت له: أهلًا سيجيبني: أهلًا. يا لها من براءة ساذجة! لقد شعرت أنني وذلك الرجل من نوع مختلف من البشر. ثمة مثل يقول: الاجتهاد يُبلغ المراد! ولكنني أعتقد أن في هذه الحياة ثمة أمور لا يمكن للمرء الوصول إليها مهما اجتهد، فشعرت بخيبة أمل. طار حلمي المثالي أن أكون «أفضل ممثل في اليابان». وبدأت أشعر أنه من الغباء بذل الجهد لكي أصبح إنسانًا عظيمًا. لا يبدو أنني قادر بأي حال على إقامة حصن منيع ومهيب مثل السيد سايتو.

وفي الليل جرجرني أخي وذهبنا لمشاهدة فيلم «مولان روج». كان مملًّا. ليس به أي قدر من الفكاهة.

الأربعاء ٣ مايو

طقس صحو. تغيبت عن الجامعة وخرجت متوجهًا بخطًى هزيلة إلى بيت السيد سايتو في حي شيبا. وليس من المبالغة مطلقًا وصف هزيلة. ففي الواقع كانت مشاعري كئيبة.

ولكن اليوم لم يكن سيئًا بالمرة. كلا، ولكنه لم يكن جيدًا أيضًا. ربما هو أحسن من المرة السابقة.

تقف سيارة واحدة أمام بوابة بيت السيد سايتو. وعندما كنت على وشك الضغط على جرس البيت، حدثت فجأة ضوضاء داخل البيت، وفُتح الباب من الداخل بعنف، وخرج منه بسرعة عجوز نحيف ضئيل الجسد ومشى من جواري في عجلة. إنه السيد سايتو. ثم وكأنها تلحق به خرجتْ مسرعة من البوابة تلك الفتاةُ التي رأيتها ذلك اليوم حاملة الحقيبة والعكاز، قائلة لي: أوه. إنه على وشك الخروج. فرصة مناسبة، حاول أن تتحدث معه.

خلعت القبعة وانحنيت لتحية الفتاة، ثم لاحقت السيد سايتو على الفور.

ناديته: أستاذ!

لم يجب السيد سايتو، ولم يلتفت نحوي، بل مشي بخطوات متعجلة ثم ركب السيارة التي كانت تنتظر أمام البوابة. وعندما جريت مقتربًا من نافذة السيارة، وجهت له الكلام قائلًا: خطاب توصية من السيد تسودا …

نظر تجاهي بنظرات حادة وقال بصوت خفيض: اركب.

شعرت بالسعادة وفتحت باب السيارة وجلست بقوة بجوار السيد سايتو مباشرة. آه، فكرتُ أنه ربما كان من الأدب الجلوس بجوار السائق، ولكنني شعرت بالخجل من النزول وتغيير المقعد خصوصًا للمقعد الآخر، فجلست ثابتًا في مكاني.

قالت لي الفتاة: حظك جيد.

وأعطت السيد سايتو الحقيبة والعكاز من النافذة ثم أضافت ضاحكة بمرح بالغ كما هي عادتها وهي تقارن بين وجهي ووجه السيد سايتو: لقد رجع المرة السابقة وهو في منتهى الغضب.

عبس السيد سايتو صانعًا تجاعيد بين حاجبيه ولم يقل شيئًا. إنه إنسان مخيف كما توقعت. وقلت في سري مرة أخرى كان الأفضل لو ركبت بجوار السائق.

– صحبتكم السلامة.

ثم انطلقت السيارة. فسألته: إلى أين نحن ذاهبون؟

لم يجب السيد سايتو. ثم بعد خمس دقائق قال بنبرة ثقيلة: إلى حي كاندا.

صوت مبحوح بحة شنيعة. وجهه وسيم مثل ممثل مخضرم عجوز. فترة صمت مرة أخرى. شعرت بضجر هائل. ومع كل لحظة تمر يزيد الضغط النفسي وأشعر بعذاب لا يطاق من الجلوس بجواره.

– لا شيء …

صوت خفيض جدًّا لا يمكنني سماعه.

– لا شيء يجعلك تعود غاضبًا.

– هاه!

أخفضتُ رأسي معتذرًا بدون وعي. لذلك كان الأفضل الركوب بجوار السائق.

– ما العَلاقة بينك وبين تسودا؟

– هاه، آه، يذهب أخي الأكبر إليه ليراجع له رواياته.

كان السيد سايتو صامتًا بدون أي رد فعل فلا أدري أسمع ما قلتُ أم لا؟ ثم مرت فترة.

– رسالة السيد تسودا على وجه الخصوص غير واضحة المعالم …

حدث ما توقعته. فلا أحد يفهم المقصود من خلال المكتوب فيها. فقلت له الخلاصة.

– أريد أن أصبح ممثلًا.

– ممثل.

لم يندهش. ثم لم ينطق بحرف بعدها. بدأت أشعر بالتململ.

– أريد أن ألتحق بفرقة مسرحية جيدة وأتدرب فيها تدريبًا كثيفًا. ولذا أرجو منك أن تدلني على فرقة مسرحية جيدة.

همس بصوت خفيض: فرقة مسرحية.

ثم صمت مجددًا لفترة. فالتزمتُ الصمت التام. فهمس مرة أخرى: فرقة مسرحية جيدة.

ثم صرخ فجأة بصوت غاضب: لا وجود لمثل هذا الشيء.

لجمتني الدهشة. وفكرت أن أعتذر له وأطلب النزول من السيارة. فلا يمكنني إجراء حوار صحي معه. هل هذا ما يوصف بالغرور؟ وقلتُ لنفسي سرًّا: لقد أوقعت نفسي في ورطة، ثم سألته: أما من فرقة مسرحية جيدة؟

قال بهدوء شديد: كلا.

حاولت تغيير مجرى الحوار: سمعت أن فرقة النَّورس المسرحية سوف تعرض هذه المرة مسرحيتك «قصة عائلة ساموراي».

لا يجيب بشيء. كان يصلح سحَّاب الحقيبة المتهدل في أحد مواضعه.

– إنهم …

ثم يبدأ الحديث فجأة من حيث لا أتوقع.

– يطلبون ممثلين مبتدئين.

فسألته بحماس: حقًّا؟ هل من الأفضل الالتحاق بتلك الفرقة؟

فكرت أخيرًا أن الحوار دخل في صلب الموضوع.

ولكنه لا يجيب.

– ألا تفضل هذا؟

لا يجيب. يتفحص الحقيبة هنا وهناك.

– تُرى هل يُسمح لأي شخص بالتقديم من نفسه؟

تعمدت أن أهمس هكذا وكأنني أتحدث إلى نفسي.

لا يصدر رد فعل على الإطلاق.

– ثمة اختبار أليس كذلك؟

سألته هذه المرة بقوة وكأنني أضغط عليه بالسؤال.

يبدو أنه انتهى أخيرًا من إصلاح الحقيبة. تأمل المشهد خارج النافذة ثم قال: لا أعلم.

قررت ألا أسأله عن شيء البتة. توقفت السيارة أمام جامعة ميجي بمنطقة سوروغاداي. وعندما نظرت رأيت لوحة كبيرة معلقة أمام الجامعة كُتب عليها: «محاضرة خاصة يلقيها السيد إيتشيزو سايتو.»

وعندما حاولت أن أنزل من السيارة قال السيد سايتو لي: أنت … أين ستنزل؟

لذا ظننتُ أنني يمكنني استعارة السيارة كما أنا، فقلت بخجل: حي كوجيماتشي.

– كوجيماتشي.

فكر السيد سايتو قليلًا ثم قال: بعيد.

وعندما فكرت أنني فشلت في مسعاي نزلت سريعًا من السيارة.

يبدو أنه كان سيعير لي السيارة حتى لو المكان أقرب من ذلك، ولكنه عجوز حريص على أي حال.

قلت بصوتٍ عالٍ: أعتذر لك.

ثم انحنيت بأدب بالغ، ولكن السيد سايتو مشى بخطوات سريعة ودخل من البوابة دون أن يلتفت للخلف. إنه في الواقع إنسان مدهش.

ركبتُ قطار البلدية وعدت للبيت مباشرة. فكان أخي في انتظاري وأخذ يسألني عن كل كبيرة وصغيرة من تفاصيل ما حدث اليوم.

ابتسم أخي ابتسامة مريرة وهو يقول: إنسان عظيم يتغلب على ما تخيلته من السمع عنه.

وعندما قلت: من المؤكد أنه غير طبيعي.

قال أخي بقليل من التساهل المتوقع منه: كلا، ليس الأمر كذلك. إنه إنسان صارم جدًّا. من يُعَد كاتبًا عالميًّا مثله يجب أن يكون هكذا وإلا فلا. ولكنك مع ذلك فلقد نجحتَ في الإلحاح عليه. يبدو أنك عكس المتوقع لحوح وقت اللزوم. إنه سلوك يشبه عدم خوف الأعمى من الأفعى، ولكنه حقق نجاحًا عظيمًا. ربما أخذ انطباعًا جيدًا عنك من خلال نجاحك في مقابلته عن طريق الصدفة.

– لا تقل قولًا غبيًّا. فهو لم يتحدث معي عن شيء تقريبًا. لقد ارتعدت فرائصي منه.

– كلا، من المؤكد أنه أخذ عنك انطباعًا جيدًا. فدعوته لك لكي تركب معه سيارته ليس أمرًا هينًا أبدًا. وأرى أن تلك الفتاة حدثته عنك حديثًا جيدًا. وحتى خطاب السيد تسودا ربما لعب دورًا كبيرًا من حيث لا ندري. لم يكن من اللائق أن ننعته بأوصاف سيئة رغم تجشمه عناء الكتابة من أجلنا. عندما أفكر فيه الآن أشعر أنه كان خطاب توصية رائع جدًّا. حققنا نجاحًا كبيرًا مبدئيًّا. والآن يجب عليك الاتصال بالهاتف بفرقة النَّورس المسرحية والاستفسار عن طريقة التقديم كممثل متدرب.

كان أخي في حالة هياج وحِدَّة.

– ولكنه لم يقل إن فرقة النورس جيدة.

– ولكنه لم يقل أيضًا إنها سيئة، أليس كذلك؟

– قال: لا أدري.

– هذا يكفي. أنا أفهم مشاعره. فالسيد سايتو نجح بعد معاناة شديدة. وأراد أن يقول لك لا بأس من أن تبدأ تدريجيًّا.

– أحقًّا ما تقول؟

تعبنا في البحث عن رقم هاتف مكتب فرقة النورس المسرحية. اتصل أخي بأحد معارفه يعمل في مَجلة دليل المسارح في غينزا وطلب منه البحث عن الرقم، فوصلنا إليه أخيرًا.

– حسنًا، الآن فصاعدًا يجب عليك القيام بكل شيء بمفردك.

قال أخي ذلك وهو يعطيني سماعة الهاتف. فتوترت فجأة.

وعندما اتصلت بمكتب فرقة النورس ردت عليَّ امرأة ربما كانت ممثلة شهيرة. وأخبرتني بأدب جم من خلال كلمات طبيعية واضحة سليمة النطق وليس بها أي نوع من التزلف: سيرة ذاتية بخط اليد، موافقة ولي الأمر، لا يُتطلب في كلاهما صياغة محددة بل كتابة حرة، وغير ذلك صورة حديثة للنصف الأعلى من الجسم، هذا فقط ما يجب تقديمه للمكتب حتى يوم الثامن من مايو.

انتفض صدري وقلت بصوت مبحوح: ٨ مايو؟ إنه قريب جدًّا. إذن، والاختبار؟

سيقام يوم ٩ مايو في مركز تدريب «شين تومي تشو».

صدر عني صوت غريب: هاه! الساعة كم؟

– نرجو التجمع في الساعة الواحدة تمامًا بعد الظهر.

– ما المواد؟ ما المواد؟ وما طبيعة الاختبار.

– لا أستطيع أن أخبرك بهذا.

صدر مني نفس الصوت مرة أخرى.

– هاه! حسنًا، أشكرك.

ثم أنهيت المكالمة.

اندهشت. ۹ مايو. ليس أمامي إلا أسبوع فقط. ولن أستطيع عمل أي استعدادات.

– من المرجح أنه اختبار بسيط.

هكذا قال أخي بتفاؤل، ولكن لا أعتقد ذلك. فأنا رجل يجب عليه أن يكون أفضل ممثل في اليابان. هذا الرجل على وشك أن يخطو الآن أولى خطواته في عالم التمثيل، فلو كتب إجابة سيئة ستظل نقطة عار لا تنمحي طوال حياته. يجب عليَّ أن أكون الأول في الاختبار، بل وبدرجات ممتازة جدًّا. فهو اختبار يختلف عن اختبارات المدرسة والجامعة. لا تؤثر اختبارات المدرسة والجامعة على حياتي في المستقبل تأثيرًا مباشرًا بالضرورة، ولكن الاختبار هذه المرة يتصل اتصالًا مباشرًا بالطريق النهائي الذي سأسير فيه بقية حياتي. فحتى لو رسبت في اختبار الجامعة، أستطيع أن أقنع نفسي وأحافظ على كرامتي بأن أقول لها: «ماذا حدث! إن لي طريقًا أفضل من هذا» ولكن في حالة الاختبار هذه المرة، لا أملك رفاهية القول: «ماذا حدث!» فما من طريق آخر. لا شيء بتاتًا. إنه آخر سهم في جعبتي، وفي اللحظة الأخيرة. لا أستطيع مطلقًا ألا أبالي. لقد بتُّ جادًّا جدية تامة. لا أملك ثقة بنفسي مطلقًا ولكنني نوعًا ما بتُّ تلميذًا للأستاذ إيتشيزو سايتو. ربما إنه لا يرى ذلك، ولكنني قررت قرارًا حاسمًا من الآن فصاعدًا أن أعتقد في ذلك وأن أضعه موضعًا ثقيلًا من نفسي. فلقد ركبت معه في سيارته. لا يمكنني أن أكتب إجابة بليدة مطلقًا. فهذا يسوِّد وجه السيد سايتو. اللعنة! لسوف أجعل السيد سايتو ينبهر قريبًا! يا لها من فرحة كبرى إن وصل الأمر لأن يقول السيد سايتو: إن دور جوبيه في قصة عائلة ساموراي لا ينفع أن يؤديه إلا سريكاوا. كلا، لست في حالة الغرق في تلك الخيالات المعسولة. فيجب عليَّ أن أنجح في الاختبار بنتيجة درجات متفوقة تفوقًا لا مثيل له.

رصصت الليلة فوق المكتب كل الكتب والمراجع التي اشتريتها.

كتاب بودوفكين «التمثيل السينمائي»، وكتاب كوكلين «فن الممثل»، «المسرح المُحَرر» لتايروف، «المسرح الحديث» لكونيو كيشيدا، «شوارع المسرح خمسون عامًا» لإيتشيزو سايتو، «مسرحيات تشيخوف» لبارهاتلي. «مبادئ فن المسرح» لكاورو أوساناي، «جدال حول المسرح» لتويوساكا. ثم بعد ذلك كتب: «تاريخ مسرح تسوكيجي»، و«الإخراج المسرحي»، و«فن التمثيل السينمائي»، و«مفكرة المخرج المسرحي». ثم بعد ذلك الكتب التي أعارها لي أخي: «تاريخ مسرح النو»، و«مختارات الممثل»، و«ذكريات زيامي». نويت في البداية قراءة هذه المراجع التي تقترب من العشرين حتى يوم ٩ مايو. وبعد ذلك أريد أن أحفظ بعض المصطلحات باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

يجب أن أفعل ذلك بصرامة. هذه الليلة من الآن فصاعدًا أنوي الانتهاء من قراءة كتاب كوكلين «فن الممثل»، وكتاب السيد سايتو «شوارع المسرح خمسون عامًا».

ويجب عليَّ الذَّهابُ غدًا إلى محل التصوير.

الاثنين ٨ مايو

طقس ممطر. تغيبتُ اليوم عن الجامعة. لا أدري كيف قضيت هذا الأسبوع الثمين؟ مهما ذهبت إلى الجامعة أشعر بالتململ وأبتسم ابتسامة صفراء بلا داعٍ، وحتى بعد عودتي للبيت، لا أفعل إلا ترتيب وتنظيم غرفتي، فلم أقرأ كتابًا واحدًا من المراجع. فقط أتلوى في غرفتي على جمر النار. ويزداد هلعي مع مرور كل لحظة، وحتى وأنا أكتب يومياتي هكذا يدي ترتعش. بمعنى أنني أشعر بما يشبه التوتر، أو ما يشبه الرعب، أو ربما التهيُّب، أو أحيانًا الخواء، ثم مع ذلك يخفق صدري بلا توقف، وأذهب إلى المرحاض على فترات قصيرة، ثم أقول لنفسي: حسنًا، لأذاكر، وأعود إلى غرفتي مباشرة بعزم الساموراي، فأبدأ مرة أخرى في ترتيب وتنظيف الغرفة. أرجو العفو عني، فلا فائدة. لا أستطيع الهدوء مهما فعلت. أريد أن أقول الكثير وأريد أن أكتب الكثير، ولكن مشاعري هائجة بلا سبب وأشعر بالإثارة ولا أستطيع الثبات في مكاني. فأُفْرِط فقط في ترتيب الغرفة. أنقل الأشياء التي هنا إلى هناك ثم أحمل الأشياء التي هناك إلى هنا، مكررًا نفس الفعل مرات ومرات، وأرقص وحيدًا رقصة عجين الفلاحة. وأخجل من قول ذلك ولكن حتى الكتاب المقدس لم يفدني بشيء. حاولت أن أفتحه سريعًا ثلاث مرات هذا الصباح، فلم يدخل رأسي شيء منه. وفي الواقع شعرت بخجل شديد من ذلك. لا فائدة. لأنَمْ. الساعة السادسة بعد الظهر. لدي رغبة في التسبيح لبوذا. اختلط داخلي المسيح ببوذا!

غفوت قليلًا ثم انتفضت من النوم بشراسة. هدأتُ قليلًا وارتاحت نفسي عندما غربت الشمس. أتأمل الصور التي في حجم كف اليد التي وصلت اليوم من محل التصوير. أرسلت ثلاث نسخ من نفس الصورة، ولكنني اخترت من بينها صورةً لون بشرتي فيها أسمر نسبيًّا وبها بعض الظلال وأرفقتها بالسيرة الذاتية وأرسلتها إلى مركز التدريب. تُرى لماذا يبدو وجهي بسيطًا بلا تعقيد هكذا مثل البصل الصغير مهما فعلت؟ أقرر أن أجعِّد ما بين حاجبيَّ لأصنع وجهًا معقدًا، فتنعقد تجاعيد صارمة ولكنها تختفي في التو والحال. أريد أن أعوج فمي بشكل مائل وأصنع تجاعيد عميقة على جانبي أنفي ولكن لا أنجح في ذلك مطلقًا. ربما كان فمي مفرطًا في صغره. لا يَعوَجُّ بل يكون مزمومًا للأمام. ومهما جعلت فمي مسننًا لا يصنع ذلك ظلالًا لوجهي. مجرد أن أبدو غبيًّا فقط.

– وجهك هذا لا يناسب وجه ممثل.

ماذا أفعل لو أعلنوا لي ذلك بمنتهى الوضوح في اختبار غد؟ في تلك اللحظة سأتحول حقًّا إلى «جثة تمشي على قدمين». سأكون إنسانًا لا معنى من حياته. آه، تُرى هل أملك حقًّا موهبة التمثيل؟ سيتقرر كل شيء غدًا. اجتاحتني مرة أخرى الرغبة في ترتيب الغرفة.

جاء أخي وسألني:

– هل ذهبت إلى الحلاق؟

لم أكن قد ذهبت بعد.

ذهبتُ في عجلة إلى الحلاق وسط هطول الأمطار. في الواقع أمر فظيع. عند الحلاق، أسمع «العالم الجديد» لدفرجاك. تذاع من الراديو. لحن حبيب إليَّ ولكنني لم أستطع الاستمتاع به مهما فعلت. إن كانت موسيقى لضربات عنيفة مستمرة على طبل من فوق برج المهرجانات لربما تنطبق تمامًا مع مشاعري العصبية الحاليَّة. ولكن تلك الموسيقى لن أعثر عليها حتى لو بحثتُ عنها في جميع أنحاء العالم.

عدت من الحلاقة، ثم تدربت قليلًا على الإلقاء بعد أن دعاني أخي إلى ذلك. حوار لوباخين من بستان الكرز.

أعطاني أخي العديد من الملاحظات؛ أن ألقي بطبيعية بصوتي المعتاد كما هو، وأن أنطق الكلمات بوضوح تام من خلال الاعتماد على عضلات البطن، وألا أحرك جسمي كثيرًا، وألا أسحب فكي للخلف مع كل مرة، وأن أجعل العضلات التي حول الفم لينة بلا تشنج. كان ذلك مؤلمًا لي. لقد بذلت جهدًا طائلًا في أن أجعل فمي معوجًّا.

– يبدو أنك لا تستطيع نطق حرف السين بمهارة.

كان هذا أيضًا مؤلمًا. فقد كنت أنا نفسي أشعر بذلك شعورًا خفيفًا. تُرى هل السبب أن لساني مفرط الطول؟

ضحك أخي وقال: لقد أسرفت في النقد السخيف. إنك ماهر جدًّا لدرجة لا يمكنني أن أقارن نفسي بك على الإطلاق. ولكنك غدًا سوف تلقي أمام ممثلين محترفين، ولذلك نقدتُك الليلة نقدًا شديدًا ولاذعًا لأنني أردت أن أحثك على أن تستعد بأقصى ما عندك. ولكن ماذا! لقد أبليتَ بلاءً حسنًا.

ربما أرسب في الاختبار. فمشاعري في منتهى التشتت والاضطراب. ويبدو أن كلمات اليوميات هذه اختلفت عن المعتاد. والمؤكد أن مشاعري اختلفت أيضًا، كلا، اختلاف المشاعر يعني الجنون. إنني الليلة غريب الأطوار، ولكن من غير المعقول أن أُجَنَّ! والكلمات أيضًا متحيرة ومرتبكة ورديئة تمامًا. متشابكة مثل بكرة من الكتان.

ماذا سأفعل بهذه الحال؟ فغدًا … كلا لقد تخطى الوقت الثانية عشرة، بات اليوم، اليوم في الساعة الواحدة بعد الظهر لدي اختبار. مهما حاولت أن أفعل شيئًا، لم أستطع بهذه الحال مد يدي إلى شيء، وبلا حيلة ملأت الأقلام الحبر بالأحبار، وقررت أن أنام. عند التفكير، إذا فشلت في اختبار غدٍ، فيجب عليَّ الموت. يدي ترتعش.

الثلاثاء ٩ مايو

صحو. اليوم أيضًا تغيبت من الجامعة. لا حيلة في الأمر، فاليوم هام. ليلة أمس رأيت العديد من الأحلام. رأيت حلمًا أرتدي فيه معطفًا نصفيًّا فوق زي كيمونو. تناقض فج. منظر غريب. كان حلمًا يثير الشؤم. فكرت أنها بداية سيئة لليوم.

كان الطقس اليوم جيدًا بدرجة لم يكن لها مثيل في الأيام الأخيرة. استيقظت في الساعة التاسعة، واستحممت بتأنٍّ، وخرجت من البيت في الساعة الحادية عشرة والنصف. اليوم لم يودعني أخي حتى بوابة البيت. أنه قرر أنني لم أعد أحتاج لذلك. رغم أن أخي كان متوترًا أكثر مني عند ذهابي إلى بيت السيد سايتو وكان قلقًا عليَّ، إلا إنه بدا اليوم وكأنه في حالة استرخاء. يبدو أنه يرى أن السيد سايتو معضلة أكبر كثيرًا من الاختبار. إن أخي لديه ميل إلى الاستهانة بالاختبارات سواء كانت اختبار دخول الجامعة أو أي اختبار آخر. ربما لأنه لم يذق طعم معاناة الرسوب في اختبار. ولكن في الوقت الذي يظن فيه أخي أنه لا خوف عليَّ، ويفكر بتفاؤل تجاهي، لو رسبت رسوبًا مدوِّيًا، ستكون معاناتي وخجلي عظيمين. وأرى أنه يجب أن يخاف على وضعي أكثر من ذلك. لأنني قد أرسب مرة أخرى.

كان وقت الانطلاق أبكر كثيرًا من اللازم. ووصلت إلى مركز التدريب «شن تومي تشو» على الفور، مبنًى من ثلاثة طوابق. وصلت بعد منتصف الظهيرة بقليل. فكرت أن أتحرى قليلًا عن الأمر فطرقت الباب ولكن لم يأت رد. يبدو أنه لا أحد بالداخل. يئست وخرجت من المبني.

شمس ربيعية. نز العرق من جبهتي. أتت لي رغبة في تناول مشروب بارد، فدخلت مطعمًا صغيرًا في طريق شوا، وشربت ماء صودا، ثم بالمرة أكلتُ أرزًا بالكاري. لم أكن جائعًا بصفة خاصة ولكن كنت قلقًا نوعًا ما ولم أستطع منع نفسي من الأكل. لما امتلأت معدتي بات ذهني شاردًا وخفت عصبيتي قليلًا. خرجت من المطعم ومشيت بلا هدف حتى وصلت إلى مسرح الكابوكي فشاهدت رسومات لوحة الإعلان، ثم أخذت طريق العودة مرة أخرى إلى «شين تومي تشو».

هذه المرة وصلت الساعة الواحدة بالضبط. صعِدت سلالم المبنى. كثيرون. كثيرون. عشرون فردًا تقريبًا. ولكن، يا لهم من أناس عدمت مشاعر الحياة من وجوههم. خمسة طلاب. ثلاث إناث. يا لبشاعة الإناث. دور «ابنة العم بيت» إلى الأبد. والباقي جميعهم رجال في حدود الثلاثين من العمر يرتدون بدلات بوجوه تنضح عليها متاعب الحياة المعيشية. فثمة رجل في الأربعين من العمر تقريبًا يبدو موظفًا حكوميًّا ولا يبدو عليه أي ملامح لعَلاقة بالفن بتاتًا. شعرت بالدهشة. يستند الجميع على حائط الممر وينظرون للأرض بملامح جادة، منهم الواقف ومنهم الجالس جلسة القرفصاء ومنهم من يتبادل الحديث همسًا من حين لآخر. شعرت بالكآبة. وفكرت أن هذا المكان هو مصير فلول المعارك الخاسرة. حتى أنا بدأت أشعر نوعًا ما بمشاعر بائسة. وعندما فكرت أن هؤلاء البشر هم من سأتنافس معهم اليوم، شعرت بخيبة أمل. فقدت الرُّوح القتالية قبل المعركة. لو كنتُ أنا الممتحن، فسوف أقرر رسوب الجميع من مجرد نظرة واحدة. تذكرتُ توتري وهياجي هذا الصباح فشعرت بغضب عارم.

أخيرًا خرجتْ من المكتب امرأة متوسطة العمر وقالت: سوف أوزع عليكم بطاقة التسلسل الرقمي.

كان ذلك الصوت له في ذاكرتي سبق سماع. إنه نفس صوت المرأة التي أخبرتني بنطق واضح: «الساعة الواحدة بعد الظهر بالضبط» عندما اتصلت للاستفسار قبل أسبوع. وقتها فكرت أنها ربما تكون ممثلة لأن الصوت كان جميلًا حقًّا، ولكن المرأة لا يمكن معرفتها من خلال الصوت فقط. كانت ترتدي سترة فضفاضة بنية اللون، إنها ناهيك عن أن تكون ممثلة، كلا لا يجب علي قولها. فإنها خطيئة كبرى أن ينتقد المرء وجه امرأة لم تغتر بنفسها وتقول أنا جميلة. على أيٍّ كانت امرأة في الأربعين من عمرها تقريبًا.

– سوف أنادي على الأسماء فأرجو منكم الرد وقتها.

كنتُ رقم ثلاثة. عدد كبير من المتقدمين لم يأتوا. نودي على أربعين اسمًا تقريبًا ولكن لم يحضر إلا نصف العدد تقريبًا.

– حسنًا، فليتفضل رقم واحد.

سيبدأ الاختبار أخيرًا. رقم واحد كانت أنثى. صحبتها المرأة ودخلتا الغرفة في هدوء. الكثير من الأمور عديمة الرُّوح. يبدو أن مركز التدريب من الداخل ينقسم إلى غرفتين: الأولى مكتب إداري، وفي العمق منها قاعة التدريب. ويبدو أن الاختبار يقام في قاعة التدريب تلك.

أسمع، أسمع. قراءة نص مسرحي. مرحى! إنه بستان الكرز. يا له من حظ حسن! فمن الأصل أنا بارع في قراءة نص بستان الكرز، وأمس أيضًا تدربت عليه قليلًا. حسنًا، لا مشكلة إذن. فليأتوا من أي مكان! تضاعفت شجاعتي مائة مرة. ولكن مع ذلك يا رداءة تلك الأنثى في القراءة. قراءة صماء رتيبة بنمط واحد. ومن حين لآخر تخطئ النطق فتعيد القراءة. بهذا المستوى فهي راسبة لا محالة. ضحك أحد الحاضرين ضحكات هامسة من فكاهة الموقف، ولكن ظل الباقي في حالةٍ من شرود الذهن وكأنهم نيام بلا ظهور أثر، ولو ابتسامة، على محياهم.

– فليتفضل رقم اثنين.

تُرى هل انتهوا من رقم واحد؟ يا لها من سرعة! أليس هناك اختبار تحريري؟ سأكون أنا التالي. لقد بدأت ساقي ترتعش. بدأت أشعر وكأنني في مستشفى، ويجب عليَّ الآن إجراء عملية جراحية كبرى. أنتظر مجيء الممرضة لاستدعائي. شعرت بالرغبة في الذَّهاب إلى المرحاض، أُسرع في الذهاب إلى المرحاض وعند عودتي منه ينادَى عليَّ:

– فليتفضل رقم ثلاثة.

– أنا.

رفعت يدي اليمنى عاليًا بلا وعي.

كان المكتب ضيقًا، بل وفي منتهى الكآبة، فشعرت بشعور عارم عندما فكرت أن خطط وأفكار مسرح النَّورس المتوهجة تخرج من هذا المكان.

ويبدو أن رقم واحد ورقم اثنين انتهى اختبارهما في نفس الوقت تقريبًا فخرجا معًا إلى الممر. وقفت أمام مكتب امرأة الإدارة، لتسألني بعض الأسئلة البسيطة. جلست المرأة على مقعدها جلسة ضحلة وأخذت تقارن بين الصورة التي فوق المكتب وبين وجهي ثم قالت: كم عمرك.

شعرت بأنها تحتقرني قليلًا فلذا أجبت معترضًا: أليس مكتوبًا في السيرة الذاتية؟

فارتبكتْ فجأة وهي تقول: بلى، ولكن …

ثم انحنت فوق سيرتي الذاتية المفتوحة فوق المكتب وأخذت تبحث فيها. يبدو أن نظرها ضعيف.

وعندما قلت لها: سبعة عشرة عاما.

رفعت وجهها بارتياح وقالت: موافقة ولي الأمر حقيقية، أليس كذلك؟

تعكَّر مزاجي بالسؤال. فأجبت بغضب خافت: بالتأكيد.

إنها تكثر من الأسئلة التي لا ضرورة لها رغم أنها ليست من يقوم بالاختبار. على الأرجح إنها رغبت في انتهاز هذه الفرصة لتتكبر قليلًا مقلدة الممتحن خفية.

– تفضل إذن.

سمحت لي بالمرور إلى القاعة المجاورة. كان ثمة ضوضاء صاخبة، ورغم ذلك عندما دخلت توقف الكلام تمامًا ورفع خمسة رجال وجوههم في نفس الوقت ونظروا تجاهي.

يجلس الخمسة رجال على مقاعد مصفوفة جنبًا إلى جنب في صف واحد وتتجه ناحيتي. وثمة ثلاث مناضد. جميع الوجوه مألوفة لدي لأنني رأيتها في صور من قبل. ولا شك أن الرجل البدين الذي يجلس في المنتصف هو السيد تارو يوكوساوا الكاتب والمخرج المسرحي الذي زادت شعبيته كثيرًا في الآونة الأخيرة. والأربعة الباقون ممثلون. وعندما كنت واقفًا عند المدخل متحيرًا فيما أفعل، قال السيد يوكوساوا بصوتٍ عالٍ ونبرة وضيعة: تعال هنا. هذه المرة قليل من الموهبة؟

فابتسم الآخرون ابتسامة صفراء. كان جو القاعة إجمالًا يعطي انطباعًا بالقذارة والوضاعة.

– أين تدرس؟

غطرسة لا داعي لها.

– جامعة ريكيو.

– وعمرك، كم؟

هذا أمر يعكِّر المزاج.

– سبعة عشرة عاما.

– هل حصلت على موافقة والدك؟

بدأ يعتريني الغضب. يعاملني وكأنني مجرم.

– والدي، غير موجود.

– هل توفي؟

سألني بلطف من الجنب من أظن أنه الممثل شينسكيه أويسوغي بوجه يشفع لي.

فأجبت بملامح وجه متجهم: يُفترض أن ذلك مكتوب في خطاب موافقة ولي الأمر.

هل هذا اختبار؟ أنا مذهول من كل شيء.

ابتسم السيد يوكوساوا ابتسامة خفيفة وهو يقول: شخص قوي الشكيمة. يستحق المشاهدة، أليس كذلك؟

طرق السيد أويسوغي بطرف القلم الرصاص على ذقنه طرقات خفيفة وهو يسأل: فريق التمثيل أم فريق الأدب والفنون؟

– ماذا؟

لم أفهم جيدًا.

قال السيد يوكوساوا بصوت جَهْوَري مرة أخرى: أتريد أن تصبح ممثلًا أم تريد أن تصبح مؤلفًا؟ أيهما؟

أجبت فورًا: ممثل.

– إذن، سأسألك.

لم أدر أهو جاد أم يمزح. تُرى لماذا السيد يوكوساوا بتلك الشخصية السيئة؟ حتى قسمات وجهه ليست جيدة، وحتى ملابسه، يرتدي زيًّا يابانيًّا تقليديًّا مهملًا. وعندما أفكر أن هذا هو قائد «فرقة النورس المسرحية» التي تُعَد واحدة من أفضل الفرق المسرحية ثقافيًّا في اليابان، أشعر بخيبة أمل. من المؤكد أنه لا يفعل إلا شرب الخمر ولا يتعلم مطلقًا. يبرز شفته السفلى للأمام ويفكر فترة من الوقت ثم يسأل بتأنٍّ.

وما مهمة الممثل؟

سؤال أحمق. أصابتني دهشة. كاد الضحك ينطلق من لساني رغمًا عني. سؤال لا معنى له البتة. يفضح أن دماغ الممتحن خاوٍ كليًّا. لا يمكن الإجابة على ذلك السؤال بأي حال.

– إنه مثل سؤال: ما المهمة التي وُلِد الإنسان من أجلها، يمكن الإجابة عليه إجابات زائفة كثيرة تبدو صادقة، ولكنني أريد أن أجيب أنني لا أعرف بعدُ ما طبيعة تلك المهمة.

– تجيب إجابة غريبة.

السيد يوكوساوا إنسان عديم الحس. قال ذلك بنبرة مستخفة، ثم أخرج سيجارة من حافظة السجائر، ووضعها بين شفتيه ثم قال: ألا يوجد ثقاب؟

ثم استعار الثقاب من السيد أويسوغي الذي بجواره وقال بعد أن أشعل سيجارته: إن مهمة الممثل، التوجه نحو الخارج لتثقيف الجماهير، وفي الداخل تطبيق الحياة المسرحية المثالية في فرقته. أليس كذلك؟

ذُهلت. وفكرت أن الرسوب على العكس سيكون فخرًا لي.

– إن هذا لا يقتصر على الممثل، بل أمر يجب على أي شخص في أي مؤسسة ثقافية الاجتهاد فيه، ولذلك كما قلتُ منذ قليل يمكن في الحقيقة قول الكثير من مثل تلك الكلمات التجريدية التي تبدو عظيمة. ولكن كلها كذب.

– أحقًّا ما تقول؟

فقد السيد يوكوساوا اهتمامه. كان في منتهى تبلد المشاعر لدرجة أنني ربما أكون أحببته قليلًا.

– مثل هذا التفكير أيضًا شائق.

غير معقول.

قال السيد أويسوغي متظاهرًا بالرقي قليلًا: لنطلب منه القراءة.

كان سلوكه هذا يحتوي على عداوة مبطنة مثل القطط نوعًا ما. إنه أكثر صعوبة في التعامل من السيد يوكوساوا. هكذا كان شعوري.

سأل السيد أويسوغي بأدب مبالغ فيه السيد يوكوساوا: ماذا نطلب منه قراءته؟ لأن مستواه يبدو عاليًا.

تحدث بطريقة كلام كريهة! إنسان وضيع! إنه ينتمي لنوعية الرجال الأصعب في الحصول على الخلاص. هل هذا هو جوهر السيد شينسكيه أويسوغي الذي أدى دور «العم وانيا» ومُدح بأنه أفضل ممثل في اليابان؟ أليس مختلفًا تمامًا؟

صرخ السيد يوكوساوا: فاوست!

خاب أملي. كنت أملك ثقة بنفسي حيال بستان الكرز ولكن فاوست نقطة ضعفي. فأولًا لم يسبق لي حتى تلاوة فاوست بصوتٍ عالٍ من قبل. سأرسب، إنني سأرسب.

– نرجو تلاوة هذا الجزء من فضلك.

سلمني السيد أويسوغي النص في يدي ثم أشار بالقلم الرصاص على الجزء الذي يجب على تلاوته وأضاف: اقرأه بصمت مرة ثم اتلُه بصوتٍ عالٍ عندما تنال ثقة في نفسك. طريقة حديث مشاكسة نوعًا ما.

أيها العجوز هناك!
تشبث بأضلاع الصخر العتيقة
وإلا سقطت في قاع هذه الهاوية.
ها هو ذا الضباب يغلف الليل،
تسمع القصيف في أرجاء الغابة،
واليوم يطير في فزع،
تسمع كيف تتشقق الأعمدة وتكسرها!
والاهتزاز القوي للجذوع!
ودوي الجذور وتشققها،
كلها تتهاوى بعضها على بعض
في حال من الاختلاط المروع،
وخلال الأخاديد المتهدمة
تصفِّر الرياح وتعوي.
ألا تسمع أصواتًا في الأعالي؟
في الأقاصي والأداني؟
نعم، على طول الجبل يتدفق غناءٌ ساحرٌ هائج!

– لا أستطيع القراءة بصوتٍ عالٍ!

قرأتُ قراءة صامتة وسريعة، ولكن همس مفستو هذا كان منفرًا لي بشدة. الكثير من الأصوات المساعدة المنفرة مثل هيوهيو وغيوغيو، كما يليق تمامًا بأغنية شيطان، لها شعور مقزز وغير صحي، ولم يُثر فيَّ الرغبة في القراءة بصوتٍ عالٍ. لا مانع من الرسوب.

– سوف أقرأ مكانًا آخر.

قلَّبت الصفحات بعشوائية وعثرتُ على موضع جيد. بدأت القراءة بصوتٍ عالٍ جدًّا. الجزء الثاني، صباح مُزهر بالورود المتفتحة. يستيقظ فاوست.١٢
تطلع إلى أعلى! إن ترى الجبال الهائلة تعلن عن أفخم ساعة،
وينبغي لها أن تستمتع مبكرًا بالنور الأبدي
الذي سيهبط إلينا نحن فيما بعد.
والآن سيضفي لألاء جديد،
وصفاء على مروج الألب الخضراء،
وخطوة فخطوة يصل الضوء.
ها هي ذي الشمس تتقدم!
لكنها جهرتني، ويا أسفاه،
وعليَّ أن أصرف عنها وجهي،
وقد نفذ الألم في عيني.
وهذا هو ما يحدث حين تؤمل،
وتشتاق إلى شيء وتشق طريقك إلى تحقيقه،
وتظن أنك منه قريب،
فتجد أبواب التحقيق مفتوحة على مصراعيها.
والآن ينطلق من تلك الأصول الأبدية
مزيد من اللهيب يلفحنا.
كنا نريد إيقاد شعلة الحياة،
فأحاط بنا بحر من النار، وأيُّ نار!
أهي حب؟ أهي كراهية؟
يحدقان بنا في اشتعال،
مع ألم وسرور هائلَين على التبادل،
حتى إننا ننظر من جديد إلى الأرض،
ابتغاء أن نحمي أنفسنا بقناع مفرط في الشباب.
فلتبق الشمس إذن في ظهري!
إني أتأمل بمزيد من الافتنان
مسقط المياه وهو يشق الصخور في ضجيج،
وها هو ذا يدور من سقوط إلى سقوط،
متدفقًا في آلاف وآلاف من التيارات،
وفي الهواء تتناثر الرغوة تلو الرغوة.
لكن من هذه العاصفة،
ما أروع أن تنعقد قوس قزح
ذات الألوان العديدة،
وهي حينًا مرسومة بصفاء،
وحينًا آخر منسابة في الهواء،
دائمة التغير ومن حولها يُنشر رشاشٌ رطب عطر.
وهذا يعكس سعي الإنسان،
ففكر فيه جيدًا،
تفهم على الوجه الأدق
أن حياتنا تقوم في البريق ذي الألوان.

– رائع!

مدحني السيد يوكوساوا ببراءة.

– الدرجة النهائية. سوف نرسل إشعار النتيجة خلال يومين أو ثلاثة.

اندهشت فسألت سؤالًا مريبًا: ألا يوجد اختبار تحريري.

فصرخ فجأة ممثل ضئيل الحجم يجلس في آخر الصف يبدو أنه ريوئتشي إيسه قائلًا: لا تتحدث بصفاقة! هل أتيت لكي تحتقرنا؟

أُسقط في يدي فقلت: كلا، ولكن أليس الاختبار التحريري …

زاد ارتباكي وحيرتي.

فأجاب السيد أويسوغي وقد شحب لون وجهه قليلًا: تم الاستغناء عن الاختبار التحريري لضيق الوقت. لأننا نستطيع الحكم تقريبًا من خلال القراءة بصوتٍ عالٍ فقط. سأقول لك من الآن، لا فرصة للنجاح إذا كنت تختار الحوار منذ الآن. فأهم مؤهل للممثل ليس الموهبة، ولكن الشخصية. وإذا أعطاك السيد يوكوساوا الدرجة النهائية فلسوف أعطيك صفرًا.

قال السيد يوكوساوا بابتسامة خبيثة وكأنه لا يشعر بشيء: حسنًا، المتوسط إذن خمسين درجة. يمكنك الرحيل اليوم. استدعوا التالي! رقم أربعة! رقم أربعة!

انحنيت انحناءة خفيفة ورجعت للوراء شاعرًا بمشاعر الرضا عن النفس. وذلك لأن السيد أويسوغي كان يقصد انتقادي ولكنه على العكس أعلن اعترافه بأنني ذو موهبة. فقد قال: «أهم مؤهل ليس الموهبة، ولكن الشخصية» ألا يعني ذلك أن ما ينقصني حاليًّا هو الشخصية، وأن موهبتي كافية جدًّا؟ أنا أبذل جهدي من أجل تحسين طباعي الشخصية، وأظن أنني دائمًا أعيد التفكير فيما فعلتُ، ولذلك فحتى لو مُدحتُ من هذا الاتجاه، لدرجة أنني أشعر على العكس بالدغدغة، ولا أشعر مطلقًا بالفرح والسرور، وأيضًا لديَّ متسع من التفكير إن أساء أحد فهمي وسبَّني، أن أقول له: حسنًا، انتظر قليلًا وسوف تفهم قصدي، وأشعر أن الموهبة هي عطية مطلقة السماء وأنها شيء مخيف لا يمكن الوصول إليها مهما بذل الإنسان من جهود. أفضل ممثل في المسرح الجديد في اليابان كتب بتهور على ورقة مطوية إنني أملك تلك الموهبة. آه، مهما أردتُ ألا أفرح لا أستطيع. مرحى، مرحى. يبدو أنني … أملك موهبة. ليس لدي شخصية ولكنني لدي موهبة، أو كما قال. لا يستطيع السيد أويسوغي الحكم على الشخصية. إنه حكم كاذب. إنه لا يملك مؤهل الحكم على الشخصية. ولكن بالنسبة للحكم على الموهبة، أفليس هو أدق بمراحل كثيرة من السيد يوكوساوا؟ المثل يقول: أعط الخبز لخبازه. والحكم على موهبة التمثيل يجب أن يقوم به ممثل. أمر سارٌّ ومفرح. على ما يبدو أنني أملك موهبة التمثيل. مهما أردتُ ألا أضحك لا أستطيع. الآن لا مانع لدي حتى من الرسوب. عُدتُ للبيت بزهو وفخر وكأنني قد أتيت برأس الشيطان.

وقدمت تقريرًا لأخي:

– فشل، فشل ذريع. رسبت رسوبًا باهرًا.

– ماذا! ألا يبدو الفرح والسعادة البالغة على وجهك؟ مستحيل أن تكون فشلت، أليس كذلك؟

– كلا، بل لقد فشلت. حصلت على صفر في الإلقاء المسرحي.

– صفر؟

بدت الجدية على وجه أخي أيضًا.

– أحقًّا ما تقول؟

– قيل لي إن شخصيتي لا تنفع. ولكن، الموهبة …

– لماذا تبتسم هكذا؟

تعكَّر مزاجه قليلًا.

– لا أحد يحصل على صفر ثم يفرح هكذا، أليس كذلك؟

– ولكن في الواقع يحدث.

أعلمت أخي بتفاصيل ما حدث في الاختبار اليوم.

– بل ناجح.

أصدر أخي حكمه هذا بهدوء بعد أن انتهى من سمع حكايتي.

– من المستحيل أن ترسب. سوف يصل خلال يومين أو ثلاثة إشعار النجاح. ولكن مع ذلك إنها فرقة تعكر المزاج.

– لا أهتم البتة، بل من الفخر لي أن أرسب. حتى لو نجحت فلن ألتحق بتلك الفرقة المسرحية. أرفض تمامًا الدراسة مع إنسان مثل السيد أويسوغي هذا.

ضحك أخي ضحكة موحشة.

– حقًّا. أمر يثير الكآبة بالفعل. ما رأيك، ألَا تجرب أن تذهب مرة أخرى لاستشارة السيد سايتو؟ ما رأيك لو أبلغته بصراحة عن مشاعرك أنك تكره مثل تلك الفرقة المسرحية؟ وتبلغه أنه لو قال لك الأستاذ: كل الفرق على هذه الشاكلة، اصبر والتحق بها، فلا حيلة في اليد غير ذلك. وأنك ستلتحق بها. أو ربما من الأفضل أن يرشح لك فرقة مسرحية أخرى. في كل الأحوال، من الأفضل حتى لمجرد أن تخبره بأنك خضت الاختبار. ما رأيك؟

– أجل.

كانت مشاعري لا تميل لذلك. فالسيد سايتو إنسان مخيف بالنسبة لي. أشعر أنني في هذه المرة بالذات سوف أعاقَب منه. ولكن يجب عليَّ الذَّهاب. ليس أمامي إلا الذهاب وتلقي منه النصح والإرشاد. يجب أن أتشجع. ألستُ رجلًا أملك موهبة كبيرة في التمثيل؟ فأنا أختلف تمامًا عن الشخص الذي كنتُه حتى أمس. يجب أن أتقدم للأمام بخطوات واثقة. معاناة وتعب اليوم تكفي ليوم. هذا هو شعوري اليوم نوعًا ما.

بعد وجبة العشاء، اعتزلت في غرفتي لأكتب في يومياتي تفاصيل ما حدث اليوم. لقد بتُّ خلال يوم واحد هو اليوم إنسانًا راشدًا بالكامل. تطور! تقترب تلك الكلمة من صدري بصخب. إن فردًا واحدًا من البشر في منتهى الأهمية! شعرت بذلك شعورًا عميقًا ومخلصًا.

الأربعاء ١٠ مايو

صحو. فتحت عيني هذا الصباح لأنتبه إلى أن كل شيء قد تغير تمامًا. لقد برد تمامًا حماسي الذي كنت أشعر به حتى أمس. مشاعري هذا الصباح مشاعر صارمة، كلا بل ربما يُفضَّل نعتها بالمشاعر الواضحة وضوح الشمس. فمن المؤكد أنني كنتُ حتى أمس مصابًا بحالة من الجنون. حالة هياج. ولم أعد أدري لماذا اندفعت في تلك الحالة من المرح لأخوض كل هذه المغامرات المريبة. أمر لا يثير إلا الدهشة فقط. استيقظت هذا الصباح من حلم حزين وطويل، فأخذت أطرف بعيني وألوي عنقي من الدهشة. منذ هذا الصباح أصبحت بشرًا عاديًّا. مهما ضربت وقسمت وجمعت وطرحت بمهارة فسيظل وجودي هذا ١٫٠ مثل الوتد الواقف وسط تيار المياه ثابتًا لا يتحرك. أمر شديد الوضوح. كنت هذا الصباح صارمًا كالوتد الثابت، لا يحتوي قلبي على زهرة واحدة. ما الذي حدث؟ جربت أن أخرج وأذهب إلى الجامعة، فبدا لي جميع الطلاب وكأنهم أطفال في سن العاشرة. وكنت أنا لا أفكر إلا في آباء وأمهات الطلاب واحدًا بعد الآخر. ولم أجد في نفسي شعور احتقار الطلاب المعتاد وكذلك كراهيتهم، بل فقط أشعر بشفقة خفيفة عليهم، ولكنها كانت أضعف من مشاعر التعاطف مع سرب من العصافير، ولم تكن مطلقًا مشاعر قوية يهتز لها الوجدان. فسدت البهجة فسادًا شنيعًا. وحدة مطلقة. لم أكن أريد استخدام تلك الكلمة بقدر المستطاع، ولكن يبدو أنه ليس هناك كلمة غيرها. خيبة الأمل. بل خيبة أمل حقيقية. أظن أنني كتبت من قبل في ثورة غضب عنيفة: «لقد خاب أملي في الجامعة»، ولكن عندما أفكر الآن أجد أنها لم تكن خيبة أمل، بل كانت مشاعر حماسية ملتهبة من الكراهية والعداء والطموح. إن خيبة الأمل الحقيقية ليست بهذه الإيجابية. إنها فقط مجرد شرود ذهن. ثم بعد ذلك شرود صارم. لقد خاب أملي في التمثيل. آه، لا أريد أن أقول هذه الكلمة! ولكن يبدو أنها الحقيقة.

الانتحار. هذا الصباح فكرت في الانتحار وأنا هادئ النفس مستريح البال. إن خيبة الأمل الحقيقية شيء شيطاني مخيف؛ إما أن تجعل قدرات المرء العقلية تضعف تمامًا أو أن تجعله يفكر في الانتحار.

من المؤكد إنها خيبة أمل. لا أستطيع نفي ذلك. تُرى ماذا يمكن للرجل الذي فقد آخر هدف له في الحياة أن يفعل؟ لقد كان التمثيل هو هدف حياتي الوحيد.

لأفكر في الأمر بعمق دون أن أخدع نفسي. أنا لا أفكر مطلقًا أن التمثيل شيء تافه. مستحيل أن يكون تافهًا. لو كنت أراه تافهًا لكنت غضبت ولكنت احتقرته تمامًا ورحلت عنه ولكنت أستطيع أن أنطلق بقوة شديدة إلى طريق آخر، ولكن مشاعري هذا الصباح ليست كذلك. بل هي شعور بالخواء. لا مبالاة بكل شيء. التمثيل. إنه حقًّا شيء عظيم. الممثل. آه! هذا أيضًا شيء جيد. ولكنه لا يبهرني. نشأت ثغرة واضحة. وتهب منها رياح باردة. حدث أن ذقت نفس هذه المشاعر عندما ذهبت للمرة الأولى إلى بيت السيد سايتو وطُردتُ من على الباب بطريقة مهذبة. هذه الحياة غبية! كلا بل الأحرى القول إنني أنا نفسي غبي لأنني أبذل جهدًا لكي أعيش في هذه الحياة. أشعر برغبة في الضحك مقهقهًا بصوتٍ عالٍ في الظلام الدامس وحيدًا هاهاها. ليس في هذه الحياة مثالية! بل يعيش الجميع في بخل. بدأت أشعر أن الإنسان لا يعيش في هذه الحياة إلا من أجل أن يأكل فقط. قصة مملة بلا طعم.

ذهبت بعد انتهاء المحاضرات إلى غرفة فريق كرة القدم. فقد فكرت في الالتحاق بالفريق. أصبحت أريد قضاء حياتي كطالب عادي جدًّا شارد الذهن يركل الكرة حيثما اتفق بدون التفكير عميقًا في أي شيء. لم أجد أحدًا في الغرفة. ربما ذهبوا إلى مقر المعسكر. ولكن لم يكن لدي حماس للذَّهاب خصوصًا لزيارتهم في المعسكر، فعدت إلى البيت مباشرة.

عندما عدت إلى البيت وجدت خطابًا بالبريد العاجل من فرقة النورس المسرحية. إشعار النجاح. «نتيجة الفحص هذه المرة نجح خمسة أفراد كمتدربين وأنت أحدهم. احضر إلى مركز التدريب غدًا في الساعة السادسة مساء.»

لم أسعد بأي قدر من السعادة. بل كنت هادئ المشاعر لدرجة تثير الدهشة، وقت تسلم إشعار النجاح في جامعة ريكيو كنت أسعد من هذا. فليس لدي النية للتدرب لأكون ممثلًا. أمس اعترف السيد أويسوغي اعترافًا ضمنيًّا أنني أملك موهبة ربانية فشعرت ببهجة شديدة وكأنني أتيت برأس الشيطان، ولكنني عندما استيقظت هذا الصباح شعرت أن تلك الفرحة رمادية وأن الموهبة لا يُعتمد عليها مطلقًا وأن الشخصية هي الأهم وبدأت أعيد التفكير بجدية مرة أخرى. من أين أتى هذا التغير المفاجئ في المِزاج؟ هل هي عدمية الإنسان الذي حصل على حبه بالكامل؟ أم أن الأمر كما جاء في الحوار الذي فضَّلت إلقاءه في اختبار فرقة النورس الذي يقول:

وعندما نجد أبواب التحقيق مفتوحة على مصراعيها.

فعلى العكس نندهش فتتوقف عن التقدم للأمام.

لذا شعرت بخيبة أمل عندما رأيت أنني سأحصل بسهولة شديدة على فرصة أن أكون ممثلًا التي كنت أشتاق إليها بشدة؟

لقد قال أخي: أنت يا سوسومو لن تفرح حتى لو نجحت؟

فأجبت بجدية: سوف أفكر في الأمر.

هذه الليلة تناقشت مع أخي نقاشًا مملًّا. نقاش حول ما ألذ طعام بين الأطعمة. استعرضنا معًا العديد من خبرات تذوق الأطعمة، وفي النهاية وصلنا إلى أنه لا مذاق يتفوق على منقوع الأناناس المعلب. منقوع الخوخ المعلب أيضًا لذيذ ولكنه لا يعطي شعور المتعة المنعشة التي في الأناناس. وقررنا أن معلبات الأناناس ليس من أجل أكل قطع الأناناس بل من أجل شرب المنقوع. وعندما قلت: أستطيع شرب سطل كبير من منقوع الأناناس بسهولة.

أومأ أخي قائلًا: أجل وإذا شُرب بعد وضع قطع الثلج فيه يزداد الطعم حلاوة.

حتى أخي يفكر في أشياء تافهة.

عندما تحدثنا عن الطعام شعرنا بجوع شديد، فذهب الذوَّاقتان إلى المطبخ وصنعا كرات من الأرز المسلوق وأكلاها. فكانت في منتهى اللذة. يبدو أن العدمية لا عَلاقة لها بالشهية مطلقًا.

الآن يعكف أخي في الغرفة المجاورة لكتابة روايته. يبدو أنها وصلت لخمسين صفحة. ومن المتوقع أن تكون في حدود مائتي صفحة. رواية جميلة تبدأ بجملة: «في الوقت الذي بدأت الثلوج تهطل …» جعلني أخي أقرأ منها عشر صفحات فقط. وعندما ينتهي منها سيتقدم بها للحصول على جائزة مَجلة «الرأي العام الأدبي». بالرغم من أن أخي كان يحتقر التقديم على الجوائز الأدبية من قبل. تُرى ماذا حدث له؟

– أليس التقدم للحصول على جائزة فيه استرخاص للذات؟ خسارة هذه الرواية.

– ولكن لو فازت فالجائزة ألفا يِنٍّ. إن لم تحصل الرواية على المال فهي عمل تافه.

قال أخي هذا القول المبتذل جدًّا، وهو مؤخرًا يسكر كثيرًا، فقلقت من احتمال أن يكون في طور السقوط.

أينما تنظر إلى كلينا، فقدان المثالية.

هذه الليلة أشعر بنعاس رهيب.

الخميس ١١ مايو

غيم. رياح شديدة. كان اليوم يومًا ثريًّا إلى حدٍّ ما. أمس كنت شبحًا، ولكن اليوم كنت إنسانًا نشطًا وإيجابيًّا إلى حدٍّ ما. كانت محاضرة الكتاب المقدس في الجامعة ممتعة. ثمة محاضرة خاصة يلقيها علينا الأب تيراؤتشي مرة كل أسبوع، ودائمًا ما أكون في منتهى الاشتياق لتلك المحاضرة. وكانت محاضرة يوم الخميس من الأسبوع قبل الماضي ممتعة أيضًا. كانت بحثًا حول «العشاء الأخير» شرح لنا بوضوح كبير موقع جلوس الحاضرين الثلاثة عشرة من المائدة من خلال رسم توضيحي. ثم اندهشت من أن الثلاثة عشرة هؤلاء كانوا يتناولون الطعام وهم راقدون. كانت العادة وقتها أن المائدة محاطة بأسرَّة وأنهم كانوا يشربون ويأكلون وهم راقدون على تلك الأسرَّة. أي إن لوحة «العشاء الأخير» لدافنشي تخالف الحقيقة. أما لوحة «العشاء الأخير» التي رسمها رسام روسي يُدعى غاي فالجميع فيها راقدون. كانت المحاضرة في منتهى الإمتاع بالنسبة لي رغم أنها لم تكن لها عَلاقة بالرُّوح المسيحية. ولكن يبدو أنني أهتم بالطعام اهتمامًا زائدًا. واليوم أيضًا فكرت بالطعام، ولكن انتهى تفكيري هذه المرة على غير المتوقع بدون منطق. ولكنني حصلت على بعض الفوائد القليلة. تركزت محاضرة الأب تيراؤتشي حول سفر التثنية من العهد القديم. إنه لا يقف على منصة المحاضر ويحاضر مطلقًا. بل يجلس على مقعد طالب فارغ ثم يتحدث إلينا باسترخاء وكأنه يدرس معنا. وهذا يعطينا انطباعًا في منتهى المتعة. إحساس وكأنه الجميع يتشاورون حول أمر ممتع. لقد تحدث اليوم عن معاناة موسى من خلال التركيز على سفر التثنية، وشعرت بصفة خاصة باهتمام عميق تجاه رعاية موسى البالغة حتى بأطعمة الشعب.

لَا تَأْكُلْ رِجْسًا مَا. هَذِهِ هِيَ الْبَهَائِمُ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا: الْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْإِيَّلُ وَالظَّبْيُ وَالْيَحْمُورُ وَالْوَعِلُ وَالرِّئْمُ وَالثَّيْتَلُ وَالْمَهَاةُ. وَكُلُّ بَهِيمَةٍ مِنَ الْبَهَائِمِ تَشُقُّ ظِلْفًا وَتَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ وَتَجْتَرُّ فَإِيَّاهَا تَأْكُلُونَ. إِلَّا هَذِهِ فَلَا تَأْكُلُوهَا، مِمَّا يَجْتَرُّ وَمِمَّا يَشُقُّ الظِّلْفَ الْمُنْقَسِمَ: الْجَمَلُ وَالْأَرْنَبُ وَالْوَبْرُ، لِأَنَّهَا تَجْتَرُّ لَكِنَّهَا لَا تَشُقُّ ظِلْفًا، فَهِيَ نَجِسَةٌ لَكُمْ. وَالْخِنْزِيرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الظِّلْفَ لَكِنَّهُ لَا يَجْتَرُّ فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. فَمِنْ لَحْمِهَا لَا تَأْكُلُوا وَجُثَثَهَا لَا تَلْمِسُوا. وَهَذَا تَأْكُلُونَهُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْمِيَاهِ: كُلُّ مَا لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ تَأْكُلُونَهُ. لَكِنْ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ لَا تَأْكُلُوهُ. إِنَّهُ نَجِسٌ لَكُمْ. كُلَّ طَيْرٍ طَاهِرٍ تَأْكُلُونَ، وَهَذَا مَا لَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ: النَّسْرُ وَالْأَنُوقُ وَالْعُقَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْبَاشِقُ وَالشَّاهِينُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَكُلُّ غُرَابٍ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالنَّعَامَةُ وَالظَّلِيمُ وَالسَّأَفُ وَالْبَازُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْبُومُ وَالْكُرْكِيُّ وَالْبَجَعُ وَالْقُوقُ وَالرَّخَمُ وَالْغَوَّاصُ وَاللَّقْلَقُ وَالْبَبْغَاءُ عَلَى أَجْنَاسِهِ، وَالْهُدْهُدُ وَالْخُفَّاشُ. وَكُلُّ دَبِيبِ الطَّيْرِ نَجِسٌ لَكُمْ. لَا يُؤْكَلُ. كُلَّ طَيْرٍ طَاهِرٍ تَأْكُلُونَ. لَا تَأْكُلُوا جُثَّةً مَا.١٣

في الواقع يعلمهم حتى التفاصيل الدقيقة. من المؤكد أنه كان أمرًا مزعجًا. فربما جرب موسى بنفسه أن يأكل من كل الأنواع واحدًا بعد آخر حتى الطيور الجارحة والجمال والنعام. وعلى الأرجح أن لحم الجمل كان سيئًا. وعلى الأرجح أن موسى قطب جبينه وقال: هذا اللحم لا يحل أكله. فالرائد لا يعظ بكلمات معسولة بلسانه فقط. بل هو يساعد الشعب في حياتهم اليومية مباشرة. كلا بل ربما من الأفضل القول إنه لا يفعل في الأغلب إلا مساعدة الشعب واقعيًّا في حياته المعيشية. ثم يعظهم في وقت الراحة من تلك المساعدة. فيبدو أن الشعب لا يطيع من يعظ فقط من البداية للنهاية مهما كانت العظات عظيمة ورائعة. وحتى إذا قرأنا العهد الجديد نجد أن المسيح يشفي المرضى، ويُحيي الموتى، ويوزِّع السمك والخبز على الشعب، وكان تقريبًا في منتهى التعب والإرهاق بسبب ملاحقة تلك الأعمال فقط. بل حتى تلاميذه الاثنا عشر عندما ينفد الطعام يصابون بالقلق ويتهامسون معًا في ذلك. لدرجة أن المسيح طيب القلب كان يلوم تلاميذه وهو في غاية الأسى قائلًا لهم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزًا؟ أَحَتَّى الْآنَ لَا تَفْهَمُونَ؟ وَلَا تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ الْخَمْسَةِ الْآلَافِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ؟ وَلَا سَبْعَ خُبْزَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ وَكَمْ سَلًا أَخَذْتُمْ؟ كَيْفَ لَا تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ الْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ؟» تُرى إلى أي درجة كان المسيح يشعر بالعزلة! ولكن ما باليد حيلة. فهذا هو حال الشعب، بخيل. لا يفكر إلا في معيشته يومًا بيوم.

فكرت وأنا أستمع إلى محاضرة الأب تيراؤتشي في العديد من الأمور، فشعرت فجأة ببريق يتلألأ في صدري كأنه شعاع كهربائي. آه، هو ذاك! إن الإنسان منذ البداية لا يملك مثالية. وإن وُجِدَت فهي مثالية ترتبط مباشرة بالحياة المعيشية اليومية. المثالية التي تبتعد عن الحياة المعيشية … آه، إنه الطريق الذي يقود إلى الصليب. أي إنه طريق ابن الرب. وأنا مجرد فرد من الشعب. أهتم فقط بالأطعمة. لقد أصبحت مؤخرًا واحدًا من البشر الذين يعيشون حياة عادية. أصبحت طائرًا يزحف على الأرض. وفي غفلة من الزمن فقدتُ جناحَي الملاك. لن تفيد المقاومة. فهذه هي الحقيقة. لا سبيل إلى الخداع. «معرفة الرب فقط دون معرفة مآسي البشر تصنع التكبر.» هذه الكلمات قالها بسكال على ما أتذكر، وأعتقد أنني الآن لم أكن أعرف مأساتي. كنت أعرف نجوم الرب فقط. وكنتُ أرغب في نيل تلك النجوم. ويومًا ما يؤدي هذا بالضرورة إلى تجرع كأس خيبة الأمل المر. يا لبؤس الإنسان. لا يفكر إلا في الطعام. قال أخي في أحد الأوقات: الرواية التي لا تحقق مالًا مملة، ربما كانت هذه كلمة الإنسان الصريحة، وكنتُ مخطئًا عندما انتقدت أخي، جادًّا غير هازل، على سقوطه.

لا ينفع أن يقول الإنسان كلامًا معسولًا مهما كان. فالحياة المعيشية كالذيل المتدلي من خلفه. «اقبل على مضض السلاسل والقيود المادية. فأنا الآن سوف أحررك من القيود الرُّوحية.» هذا هو، هذا هو. مع جرجرة ذيل الحياة المعيشية البائس لا بد من وجود خلاص. ونستطيع التطلع للأعلى نحو المثالية. حتى التلاميذ الذين كانوا يتبعون المسيح في خطاه وهم دائمو القلق بشأن خبز الغد، أصبحوا قديسين في النهاية. من الآن يجب عليَّ تجديد جهودي تمامًا.

لقد كنتُ أحاول إنكار حتى الحياة المعيشية للإنسان. لقد أصابني الاشمئزاز عندما رأيت في اختبار فرقة النَّورس المسرحية الفنانين الذين جلسوا متراصين هناك يجتهدون بجبن من أجل الحفاظ على مراتبهم الضئيلة. خاصة السيد أويسوغي الذي يُوصَف بأنه أفضل ممثل تقدمي في اليابان، تشتعل لديه حاسة المنافسة لدرجة أن يغدو وجهه شاحبًا ممتقعًا حتى تجاه مجرد طالب مجهول مثلي أنا، لذا كرهت الأمر من ضحالته. حتى الآن لا أفكر أن موقف السيد أويسوغي موقف عظيم، ولكن، كان إنكار الحياة المعيشية للإنسان بالكامل بسبب ذلك مبالغة مفرطة مني. فكرت اليوم أن أذهب إلى مركز تدريب فرقة النورس المسرحية، وأتحدث مع هؤلاء الفنانين مرة أخرى. ربما يجب عليَّ الامتنان لهم حتى لمجرد أنهم اختاروني من بين عشرين ممتحنًا.

ولكن بعد انتهاء المحاضرات، خرجت من بوابة الجامعة فهبت رياح عاتية، غيَّرتْ من تفكيري فجأة. ما زلت كارهًا لها. أكره فرقة النورس المسرحية. إنهم هواة. هذا المكان ليس مجرد أنه يُعدم فيه وجود رائحة لمثالية عالية، بل حتى ظلال الحياة المعيشية باهتة. ليس لديهم جذور عميقة تدل على التمثيل يعيش الحياة المعيشية. أشعر أنهم تجمع من الهواة فقط الذين يستمتعون بالجو العام فقط، أو ما يمكن وصفه بالعبث بالتمثيل. من اليوم لم أعد ذلك المشتاق المدلل. تبدو طريقة قول غريبة ولكنني أريد أن أعيش محترفًا!

قررت الذَّهاب إلى السيد سايتو. وفكرت أنني يجب أن أحكي له اليوم عن درجة تصميمي مهما حدث. عندما قررت ذلك القرار شعرت أن قد غُلف ببركة إلهية دافئة. بدون فقدان الأمل في بؤس الإنسان جسمي أو قبح نفسي.

«كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ.»١٤
يجب الاجتهاد. لم أكن أحاول الهروب من الصلب. بدون التمويه عن ذيلي القبيح بل أجرجره وأرتقي في الطريق الصاعد خطوة خطوة وأنا أترنح. لا أدري هل الجنة في نهاية هذا الطريق الصاعد أم الصلب؟ الذي لا يعرف الرب هو من يقرر أن نهايته الصلب بالضرورة. فقط «لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ.»١٥

ذهبت إلى بيت السيد سايتو في حي شيبا بقرار صارم صرامة شديدة، ولكن يبدو أنني أكره بيته. أشعر بضغط نفسي مريب حتى قبل أن أدخل من البوابة. يجعلني أفكر أنه يشبه حصن داوود.

أدق الجرس. خرجت لي الفتاة إياها. على ما يبدو أنها، كما توقع أخي، خادمة وسكرتيرة في نفس الوقت.

– أوه، مرحبًا.

إفراط في الألفة كما هي بدون تغيير. تستخف بي تمامًا.

– الأستاذ؟

لا حاجة بي لهذه الفتاة. سألتها دون أن أبتسم.

– موجود.

نبرة حديث بلا احتشام.

وعندما بدأت القول: جئت لزيارته في أمر هام …

تسربت منها ضحكة فكتمتْها بالضغط على فمها بيديها، فاختنقَت الضحكة وتورَّد وجهها بحمرة فاقعة. كنت مستاءً بدرجة لا تطاق. فلم أعد طفلًا كما كنت في السابق.

فقلت بنبرة هادئة: ما الذي يُضحك؟ أريد أن أقابل الأستاذ بأي طريقة.

– حاضر، حاضر.

أومأتْ ثم توارت داخل البيت وهي تنفس عن ضحكاتها. تُرى هل وجهي ملطخ بالفحم مثلًا؟ فتاة وقحة!

مرت فترة، ثم جاءت هذه المرة بملامح وجه جادة، وقالت: نعتذر لك بشدة ولكن الأستاذ اليوم يشعر ببوادر نزلة برد ولا يستطيع أن يقابل أحدًا أيًّا كان، لو لديك طلب منه نرجو منك كتابته في هذه الورقة. ثم قدمت لي ورقة كتابة وقلم حبر. أصابتني خيبة أمل. وقلت في سري إن العجوز المخضرم أناني جدًّا. هل يجب القول إن قوة الحياة لديه شديدة؟ في كل حال فهو إنسان عميق الذنوب.

يئست وانحنيت على عتبة المدخل ثم كتبت كلمات قليلة في الورقة.

«خضتُ اختبار فرقة النورس ونجحت. كان الاختبار لا يُعتمد عليه مطلقًا. وهذا الأمر يدل على ما عداه. تسلمت أمس إشعارًا يطلب مني الذهاب إلى مركز تدريب فرقة النورس المسرحية في الساعة السادسة من مساء اليوم، ولكنني لا أريد الذهاب. أرجو منك تعليمي. أريد أن أتدرب تدريبًا متواضعًا. سوسومو سريكاوا.»

ثم سلمت الورقة للفتاة. مهما فعلت لا أستطيع الكتابة بمهارة. أخذت الفتاة الورقة وغابت في عمق الدار، ولم تعد لوقت طويل. شعرت بالقلق إلى حدٍّ ما. شعور وكأنني أجلس وحيدًا تمامًا بمعبد بوذي في عمق الجبال.

ثم ظهرت الفتاة فجأة وهي تضحك بصوتٍ عالٍ.

– تفضل. الرد.

أعطتني ورقة صغيرة تختلف عن ورق الكتابة السابقة، بدت وكأنها ورقة مقتطعة من مخطوط مطوي. مكتوبة بريشة كتابة.

«فرقة شونجو.»

هذا فقط. لم يكتب شيئًا سوى تلك الكلمة.

– ما هذا؟

بدأت أخيرًا أشعر بغضب. فثمة حدود للسخرية من الآخرين.

– هذا هو الرد.

نظرت الفتاة عاليًا إلى وجهي وضحكت ببراءة.

– هل يقول لي: ادخل فرقة شونجو؟

فأجابت ببساطة: نعم، أليس كذلك؟

حتى أنا أعلم بوجود فرقة شونجو. ولكن فرقة شونجو فرقة مسرحية بها أشهر ممثلي الكابوكي. فهي ليست فرقة مسرحية أستطيع أنا الطالب أن أذهب إليها بلا مبالاة وأصبح عضوًا بها.

عندما بدأت أقول: هذا مستحيل. ما لم يكن هناك خطاب توصية من الأستاذ على الأقل.

جاءني صوته زاعقًا من الداخل كعاصفة عاتية في طقس مشمس: اعتمد على نفسك!

لجمتني الدهشة. إنه موجود. الشخص نفسه يختفي خلف الباب ويسمع حوارنا. يا لها من دهشة! يا له من عجوز شنيع! غادرت البيت وكأنني أهرب خجلًا مما لاقيته. يا له من عجوز رهيب! لقد دُهشت حقًّا. وعندما عدت إلى البيت وحكيت لأخي ما حدث اليوم، ضحك أخي بشدة وهو يضع يده على بطنه. وحتى أنا لم أجد بديلًا عن الضحك، لكن كنت أشعر بالغضب قليلًا.

لقد فُعل بي الأفاعيل تمامًا اليوم. ولكنني شعرت أن صرخة الأستاذ سايتو (سأدعوه من الآن الأستاذ سايتو بدلًا من السيد سايتو) ببحة صوته المريبة تلك أزالت غيوم اليومين أو الثلاثة أيام الماضية الرمادية. اعتمد على نفسك. فرقة شونجو. لا أدري مطلقًا ما السبيل إلى ذلك؟ ويبدو أن أخي كذلك كان متحيرًا. وكانت خلاصة تفكيرنا هذه الليلة هي: لنبحث ونتقصَّ بتأنٍّ فرقةَ شونجو.

تحدث أمور عجيبة وغير متوقعة متتابعة واحدة بعد أخرى. لا يمكن التنبؤ بما يحدث في الحياة. أشعر أنني بدأت أفهم مؤخرًا معنى الإيمان الحقيقي. كل يوم كل يوم معجزة إلهية. كلا بل الحياة كلها معجزة.

الأحد ١٤ مايو

غائم. ثم صحو. أخذت راحة من كتابة اليوميات لمدة يومين أو ثلاثة. لأنه لم يوجد جديد خلال تلك الفترة. فأنا أشعر بأن رُوحي ثقيلة ولا أستطيع كتابة اليوميات بحماس كما كان الوضع سابقًا. بدأت أشعر بالخسارة من الوقت الذي يضيع في كتابة اليوميات، وبدأت أعتقد أن كتابة أي شيء يحدث لي بالتفصيل في اليوميات شيء حزين، وكأنه عبارة عن لعبة صبيانية أنانية. وأفكر مرات كثيرة أنني يجب أن أحترس. إنها كلمة بيتهوفن التي تقول: «أنت لم تعد إنسانًا يُسمح له أن يعيش من أجل ذاته فقط» هذا هو شعوري حاليًّا.

لقد حدثت ضجة كبرى في بيتنا منذ الصباح الباكر اليوم. فلقد تقرر أخيرًا أن تنتقل أمي إلى بيتنا الصيفي في كوجوكوريهاما من أجل النقاهة. فاليوم هو يوم «تايَّان» حسب التقويم الصيني مما يعني فألًا حسنًا، وكان الصباح غائمًا قليلًا، ولكن أصرت أمي بقول: أريد الذهاب اليوم بأي حال، فغادرت أخيرًا. يأتي السيد سوزوأوكا مع أختي من الصباح الباكر للمساعدة. تأتي عمتي مفعوصة من ميغورو. لقد وعدت عمتي بالامتناع استخدام وصف مفعوصة ولكن يبدو أن لساني اعتاد عليه، فهو يخرج منه بلا وعي. ثم جارنا، سائق تاكسي أساهي الشاب، بالإضافة إلى السيد كاغاوا الطبيب الخاص. الجميع في حالة من الحركة استعدادًا للانطلاق. فمهما قلنا، فأمي مريضة ملازمة السرير لا تقوى على الحركة، لذا تستهلك جهدًا كبيرًا. وتقرر أن ترافقها الممرضة سوغينو والخادمة أوميه، ولذا سيبقى في البيت أنا وأخي والطالب كيجيما ثم عجوز تخطت الخمسين يقال إنها تقرُب قرابة بعيدة للسيد سوزوأوكا. وكانت تلك العجوز امرأة مرحة تسمى شون. ولأن الممرضة سوغينو والخادمة أوميه سترافقان أمي وسيخلو البيت ممن تقوم بطبخ الطعام فقد تقرر أن تأتي هذه العجوز الطريفة بديلًا مؤقتًا. من المؤكد أن بيتنا سيغدو موحشًا فيما يلي من أيام. ركبت أمي والسيد كاغاوا والممرضة سوغينو في سيارة تاكسي كبيرة. وفي سيارة تاكسي أخرى ركب السيد سوزوأوكا وحرمه والخادمة أوميه. وانطلق التاكسيان مباشرة إلى حدائق رياح الصنَوبر في كوجوكوريهاما. ومن المقرر أن يعود السيد كاغاوا والسيد سوزوأوكا وحرمه إلى طوكيو بالقطار بعد أن يتأكدوا من استقرار وضع أمي هناك. ضجة مهولة. توقف أمام البيت عشرون فردًا من المارة لمشاهدة الأمر وهم يتساءلون ما الذي حدث؟ حمل سائق تاكسي شركة أساهي الشاب أمي على ظهره مخترقًا الحشود المتجمعة وأركبها السيارة، بينما هي رابطة الجأش توبخ الخادمة أوميه بصوتٍ عالٍ. مشهد لا يستهان به يستحق التوقف لرؤيته. كانت تشبه تلك العجوز التي ظهرت في رواية «المقامر» لدوستويفسكي. ما أريد قوله إنها نشيطة. ربما تُشفى أمي شفاءً تامًّا وحقيقيًّا لو قضت عامًا أو عامين للنقاهة والعلاج في كوجوكوريهاما.

بعد أن غادر الجميع، سكن البيت تمامًا وشعرت بمشاعر استكانة. كلا بل لقد حدث أمر عجيب في غمرة الضجة الكبرى هذا الصباح. فعندما كنا أنا وأخي في الطابق الثاني نغتاب الذين جاءوا للمساعدة بعد أن طلبوا منا الإجلاء للطابق الثاني لأننا عقبة لهم، ناهيك عن أن يطلبوا أن نساعدهم، دخلت علينا الغرفة فجأة الممرضة سوغينو بملامح وجه متشنجة ويبدو عليها أنها تريد شيئًا، ثم جلست ساكنة وقالت بملامح وجه ضاحكة وفم معوج بطريقة مريبة: سنفترق لوقت طويل.

ثم بعد لحظة بكت بكاءً حارًّا.

كان أمرًا لم نتوقعه. نظرنا أنا وأخي لبعضنا البعض. ثم زم أخي شفتيه. كان يبدو مرتبكًا. ظلت الممرضة سوغينو منهارة بالبكاء بعد ذلك لعدة دقائق. فالتزمنا الصمت. نهضت سوغينو واقفة أخيرًا، وخرجت إلى الرَّدهة وهي تغطي وجهها بمئزرها.

وعندما قلتُ بصوتٍ هامس: ما هذا؟

قال أخي بوجه عابس: فعل مخزٍ!

ولكنني فهمت تقريبًا. وقتها حرص كل منا على عدم التحدث بشأنها أكثر من ذلك، وبدأنا ندردش في مواضيع أخرى، ولكن بعد أن ركب الجميع وغادروا بدا على أخي أنه يفكر تفكيرًا عميقًا.

رقد أخي في غرفة الطابق الثاني على ظهره وقال ضاحكًا: هل يجب عليَّ الزواج منها!

– هل انتبهت من قبل يا أخي؟

– لا أدري. لقد انهارت بالبكاء منذ قليل ففكرت: أوه؟

– هل أنت أيضًا تحب الممرضة سوغينو يا أخي؟

– لا أحبها. ألا ترى أنها أكبر مني سنًّا؟

– لماذا إذن تتزوجها؟

– لأنها بكت.

ثم انفجرنا بالضحك معًا.

إن الممرضة سوغينو بها رومانسية تختلف عن مظهرها. ولكن هذه الرومانسية لا تتحقق على أرض الواقع. فطريقة سوغينو في طلب الحب كانت مجرد أن تبكي منتحبة فقط. وهي في الواقع طريقة في منتهى الرداءة. فالمواقف التي تثير الضحك ممنوعة تمامًا في الرومانسية. ولا شك أن سوغينو بكت وقتها قليلًا، ثم أدركت خطأها ورحلت إلى كوجوكوريهاما وقد يئست من الأمر تمامًا. مع الأسف يبدو أن حب العانس انتهى كمشهد مضحك.

– ألعاب نارية.

لخص أخي المشهد بما يليق بشاعر.

فعدَّلت له القول بما يليق بإنسان واقعي: بل ألعاب نارية كالبخور.

شعور موحش. البيت بات مهجورًا. بعد الانتهاء من وجبة العشاء، تشاورت مع أخي وقررنا الذهاب لمسرح إينبوجو. وصحبنا الطالب كيجيما. وتركنا العجوز شون وحيدة في البيت.

كان مسرح إينبوجو يعرض حاليًّا أعمالًا لفرقة شونجو. مسرحية «جحيم قتل امرأة في الزيت»، ثم الكاتب الجديد السيد يوكيتشي كاواكامي الذي أعد رواية أوغاي موري «الإوزة البرية» للمسرح، ثم العرض الراقص الجديد «أوراق الكرز». وكلٌّ منها حصلت على تقييم جيد في الصحف. في الوقت الذي ذهبنا فيه، كانت مسرحية «جحيم قتل امرأة في الزيت» قد انتهت بالفعل، وكذلك «أوراق الكرز» وقد بدأت «الإوزة البرية» لتوها. ظهر على خشبة المسرح الجو العام لعصر ميجي ظهورًا جيدًا. ولأنني وُلِدت في عصر تايشو، لم يكن لدي سبب لكي أعرف جو عصر ميجي العام، ولكنني أُومن أن مشاعر الحنين والشوق التي أشعر بها عندما أمشي في حدائق أوينو وحدائق شيبا هي من روائح عصر ميجي بالتأكيد. ولكنني شعرت بالأسف أن حوارات الممثلين كلها تقريبًا كانت بلغة حوار عصر شوا. ربما كان ذلك نقص انتباه من مُعِد الرواية للمسرح. كان الممثلون بارعين. مهما كان الدور هامشيًّا فقد أداه الممثل ببراعة ورصانة. وهنا أيضًا براعة في العمل الجماعي. ورأيت أنها فرقة مسرحية جيدة. وفكرتُ أنني لو استطعت الالتحاق بتلك الفرقة المسرحية فلن يكون لدي شكوى. خرجتُ أثناء الراحة بين الفصول إلى الرَّدهة، فكان ثمة صندوق صغير وُضع عند ركن الممر، ورأيت جملة كُتِبتْ عليه تقول: «نرجو منكم إبلاغنا بانطباعاتكم وآرائكم حول عرض الليلة.» فجاءني الإلهام.

فكتبت في الورق الموضوع بجوار الصندوق، «لدي رغبة في الانضمام إلى الفرقة، أرجو منكم إبلاغي بالخطوات.» ثم كتبت اسمي وعنوان سكني ووضعت الورقة في الصندوق. وقلت لنفسي يا لها فكرة رائعة. وهذه أيضًا معجزة. فلم أكن أتخيل وجود مثل هذه الطريقة قبل لحظات من قراءة الحروف المكتوبة على ذلك الصندوق. نبعت الفكرة في رأسي لحظيًّا. إنها عطية من الرب. ولكنني أخفيت ذلك عن أخي. ليس لأنني كرهت أن يكون ذلك سببًا في أن يضحك مني ساخرًا، ولكن لأنني قررت ألا أعتمد على أخي من الآن فصاعدًا، وأن أتقدم للأمام بمفردي معتمدًا على حدسي المباشر.

الثلاثاء ٤ يونية

صحو. جاءت رسالة من فرقة شونجو المسرحية عندما كنتُ قد نسيت أمرها. الرسائل المبهجة لا تأتي مطلقًا عندما تنتظرها. لا تأتي على الإطلاق. عندما تكون في انتظار صديق وتسمع أصوات أقدام وتقول لنفسك وقلبك يرقص فرحًا: … هذه الأصوات! لا تكون أصوات أقدام ذلك الصديق مطلقًا. ثم يأتي ذلك الصديق فجأة دون انتظار. بلا أصوات أقدام وبلا مقدمات. يأتي فجأة دون سابق إنذار مستهدفًا ذلك الوقت الفارغ الذي لا تتأمل فيه قدومه. وتلك إحدى العجائب. كانت رسالة فرقة شونجو مطبوعة على الآلة الكاتبة. وتلخيص محتواها إجمالًا فهو كما يلي:

ننوي هذا العام تعيين ثلاثة أعضاء جدد بالفرقة. ويقتصر الأمر على ذكور بصحة جيدة من سن السادسة عشرة إلى سن العشرين. ولا نشترط شهادة علمية محددة، وسوف نقيم لهم اختبارًا تحريريًّا. بعد شهرين من الالتحاق بالفرقة يُصرف للمتعيِّن كعضوٍ مشارك مبلغ ثلاثين يِنًّا شهريًّا بدل مكياج، بالإضافة إلى تكاليف المواصلات. أقصى مدة للعضو المشارك هي عامان وبعد ذلك يصبح عضوًا عاملًا ويُعطى الامتيازات نفسها التي يحصل عليها جميع أعضاء الفرقة. ومن يقضي المدة القصوى عضوًا منتسبًا ولا يحصل على مؤهل أن يكون عضوًا عاملًا يتم حذف اسمه من الفرقة. وعلى الراغبين في الالتحاق إرسال سيرة ذاتية بخط اليد، وصورة من سجله المدني وصورة شخصية حديثة التصوير في حجم البطاقة (للنصف الأعلى من الجسم مأخوذة من الأمام) مرفق بذلك موافقة ولي الأمر أو مالك البيت إلى مكتب الفرقة الإداري حتى تاريخ ١٥ يونية. وسوف نرسل لكم لاحقًا معلومات عن الاختبار التحريري وغيره من البنود. ومن لم يصله رد حتى وقت متأخر من يوم ٢٠ يونية ففي هذه الحالة يكون قد رُفض. ثم تنبيه عن صعوبة الرد على الاستفسارات الفردية … إلخ.

بالطبع لم تكن الرسالة الأصلية مكتوبة بتلك الجفاف الرسمي ولكنها كانت تقريبًا تحمل هذا الجو العام. وفي الواقع كُتبت حتى أدق التفاصيل بوضوح تام. ولم يكن بها أي قدر ولو قليلًا من الزخرفة، ولكن في المقابل تعطي شعورًا بالمهابة الشديدة. وأثناء قراءتي جاءتني رغبة بالاعتدال في جلستي. وقت رسالة فرقة النورس كنت فقط مهتاجًا وقلبي صاخبًا بلا داعٍ، ولكن هذه المرة لا مزاح. بل لدرجة شعوري بالكآبة. فعندما فكرت أنني على وشك البدء بالفعل بمهنة الممثل أخيرًا تأثرت عاطفتي.

تعيين ثلاثة أفراد. لم أكن أستطيع التخمين مطلقًا هل سأكون واحدًا من بينهم أم لا، ولكن يجب عليَّ التقديم في كل الأحوال. حتى أخي كان الليلة متوترًا.

فعندما عدت من الجامعة قال لي: لقد جاءت رسالة لك من فرقة شونجو يا سوسومو. ألم تتقدم لهم برجاء حارٍّ مختومًا بخاتم الدم بدون علمي؟

كان يضحك في البداية، ولكنه بعدما فتح الرسالة وقرأ محتواها معي تحول فجأة إلى الجدية وانتهى به الأمر إلى التحدث بكآبة قائلًا: تُرى لو كان أبي حيًّا ماذا كان يقول؟

إن أخي طيب القلب وفي نفس الوقت ضعيف. أين أذهب أنا الآن؟ لقد وصلت إلى هنا أخيرًا في نهاية معاناة وعذاب لوقت طويل.

هكذا لم يعد أمامي الآن شبكة أمان أعتمد عليها إلا الأستاذ سايتو. لقد كتب لي الأستاذ سايتو بوضوح حروف فرقة شونجو. ثم صرخ صرخة غاضبة قائلًا: اعتمد على نفسك! لأجرب الاعتماد على نفسي. لأجرب الاعتماد على نفسي حتى النهاية.

ليلة من ليالي بدايات الصيف. النجوم رائعة الجمال. همستُ بصوت خافت: أمي! ثم شعرت بالخجل.

الأحد ١٨ يونية

صحو. يوم حار. يوم أحد، فأردت أن أتأخر في الاستيقاظ ولكني لم أستطع النوم بسبب حرارة الجو. صحوت في الساعة الثامنة. فجاء البريد. رسالة من شونجو.

نجحت في تخطي العقبة الأولى. شعرت أن ذلك طبيعي ومتوقع جدًّا، ومع ذلك ارتاحت نفسي. كنت أتوقع وصول الإشعار غدًا أو بعد غدٍ، ولكن الحظ السعيد كما هو متوقع عنيد ومشاكس ويأتي من حيث لا نتوقعه.

سوف يقام الاختبار الأول في صالة التدريب على التمثيل التابعة لفرقة شونجو في منطقة كاغورازاكا من الساعة العاشرة صباح الخامس من يوليو. يتكون الاختبار الأول من إلقاءٍ لنص مسرحي، واختبار تحريري، واختبار شفوي، وبعض التمارين الرياضية البسيطة. واختبار الإلقاء مسموح فيه بأي نص، حيث يختار المتقدم للاختبار النص المفضل له ويحضره معه إلى قاعة الاختبارات ويقرأ منه بحرية، على ألا يزيد وقت الإلقاء عن خمس دقائق. وغير ذلك يجب إلقاء نص آخر سيُعطى للممتحن في قاعة الاختبار. أما الاختبار التحريري فيجب استخدام قلم رصاص بقدر الإمكان. ولا يجب على الممتحن ألا ينسى تجهيز ملابس تناسب التمارين الرياضية. ولا داعي لإحضار وجبة غداء فسوف يُقدم لكم وجبة بسيطة في قاعة الاختبار. يجب الحضور إلى القاعة في اليوم المحدد في الساعة العاشرة إلا عشر دقائق.

كما هي عادتهم إشعار موجز وسهل الفهم. مكتوب الاختبار الأول، تُرى هل يعني ذلك أن هناك اختبارًا ثانيًا واختبارًا ثالثًا لمن ينجح في هذا الاختبار؟ يا له من حرص بالغ! ولكن ربما من الضروري حقًّا العناية إلى هذه الدرجة بعملية الحكم على الشخص هل يصلح ليكون ممثلًا أم لا يصلح. فهذا الأمر مختلف عن التوظيف في شركة أو بنك. فمن المؤكد أنهم إن أجْرَوا اختبارًا لا يعوَّل عليه وعينوا شخصًا، فذلك الذي عُين إن لم يكن صالحًا ليكون ممثلًا، فلن يستطيع تغيير مهنته بسهولة بالقول: لأنتقل إذن للعمل في البنك المجاور، ومن المؤكد أن ذلك سيدمر حياته كلها ويجعلها هباء. أريد منهم أن يختبروني اختبارًا صارمًا. فحتى النجاح في اختبار فرقة مثل النورس لا ينفع لأنه مقلق. فأنا قد تركت كل شيء وتفرغت تمامًا. ولن أغفر أن يعاملوني بلا مسئولية.

ثمة أربعة أنواع هي: إلقاء نص، واختبار تحريري، واختبار شفوي، وتمارين رياضية. ولكن المريب بينها هو قراءة الممتحن لنص اختياري حر. وأعتقد أنها طريقة اختبار ذكية. فمن المؤكد أنه من خلال النص المختار يمكن معرفة كل شيء عن الممتحن شخصيته وثقافته والبيئة التي نشأ فيها … إلخ. الاختيار صعب. ثمة أسبوعان حتى موعد الاختبار. لأتأنَّ وأختر بهدوءِ بالٍ النص الأمثل. ولأقرر في النهاية بعد استشارة أخي. لقد ذهب أخي منذ بضعة أيام لزيارة أمي في كوجوكوريهاما ومن المقرر أن يعود إلى طوكيو الليلة أو غدًا. ووصلت منه ليلة أمس بطاقة بريدية. لقد أصيبت أمي بحمى منذ أسبوع تقريبًا ولكن زالت الحمى واستعادت عافيتها الآن. وقال إن الآنسة سوغينو اسمرَّت بشرتها تمامًا وتعمل بجد كأن شيئًا لم يكن. وقال أخي مازحًا إنها ربما تبكي مرة أخرى عند رحيله، ولكن يبدو أن ذلك لم يحدث. يبدو أن أخي متساهل في أحكامه.

وفي الليل صنعنا أنا وكيجيما والعجوز شون أيس كريم غريبًا، وأثناء أكلِنا له دقَّ جرس الباب، وعندما خرجتُ إذا والد كيمورا يقف أمام البوابة بلا حركة. ثم قال لي بحماس: ألم يأت إليكم ابني الغبي؟

وقال إنه حمل الغيتار وترك البيت ليلة أمس الأول ولم يعد من وقتها.

وعندما قلت له: إنني لم أعد أقابله مؤخرًا على الإطلاق.

عوج رقبته وقال: لقد خرج حاملًا الغيتار، لذا ظننتُ تمامًا أنه قادم إلى بيتك، ولذا مررت للسؤال عنه.

كان يحملق فيَّ بعيون كريهة وكأنه يشكك فيما قلت. إنه يعاملني على أنني غبي.

وعندما قلتُ له: لم أعد أعزف على الغيتار الآن.

قال قبل أن يرحل: هذا طبيعي. ففي ذلك العمر اللعب بتلك الآلة الموسيقية بلا نهاية غير مستحسن. عذرًا على الإزعاج. إذا جاء ذلك الغبي إلى هنا أرجو منك أنت أيضًا أن تعظه.

كيمورا الجانح ليس لديه أم. لا أريد التحدث عن فضائح البيوت الأخرى، ولكن هذا البيت يبدو في خلاف دائم. وفكرت أنني بدلًا من أن أعظ كيمورا على العكس أريد أن أعظ أهل بيته في المقام الأول. كان والد كيمورا موظفًا حكوميًّا عاليَ الدرجة، ولكنه يبدو وضيع الشخصية. ونظرات عينيه شائنة. وفكرت أنه مهما كان ابنه، فالذَّهاب إلى بيت غريب وترديد كلمة: ابني الغبي ابني الغبي، أمر غير لائق. وفي الواقع له وقع مؤلم على آذان السامع. وفكرت أن كيمورا عليه عيب، ولكن العيب الأكبر على أبيه. والخلاصة أنني لا أهتم بهذا الأمر. فلقد مر دانتي على أهل الجحيم المذنبين وهم يتعذبون مرور الكرام وهو ينظر إليهم فقط. مؤخرًا أصبحتُ أفكر أن هذا يكفي.

الأربعاء ٥ يوليو

صحو. مطر خفيف في المساء. سوف أحاول كتابة ما حدث اليوم بمزيد من التفصيل والاهتمام. إنني الآن هادئ البال جدًّا. بل لدرجة الشعور بالانتعاش. وما من أي شعور بالقلق داخل صدري. بذلت كل ما في وسعي في نطاق قدراتي. يتبقى فقط أن أعتمد على أبينا الذي في السماء. تبرز على فمي ابتسامة مشرقة. ففي الحقيقة استطعت اليوم إخراج كل ما في جعبتي من قوًى ببراءة وتلقائية. وربما كانت كلمة السعادة هي وصف لمثل هذه المشاعر. لا أهتم مطلقًا بنجاحي أو سقوطي.

خضتُ اليوم الاختبار الأول لفرقة شونجو المسرحية في صالة التدريب على التمثيل التابعة للفرقة. صحوت اليوم في الساعة السابعة والنصف. فتحت عيني في الساعة السادسة تقريبًا، ولكنني ظللتُ وقتًا طويلًا في الفراش أفكر بعمق وبهدوء هل ثمة خللٌ ما غفلت عنه في تجهيزات النفسية؟ ولو تحدثت عن الخلل فالخلل يملأ كل شيء، ولكنني لم أرتبك بسبب ذلك. في كل حالٍ ليت الأمر يمر دون خداع. لو تقدمت للأمام بصدق، كل المشاكل ستُحل ببساطة وتلقائية ولا يُفترض أن تكون معضلة. تحدث مشاكل ومعضلات متنوعة بسبب محاولة الخداع. يجب عدم الخداع. وبعد ذلك الاعتماد على الرب. فكرت أنني لست بحاجة إلا أن يكون قلبي به هذا الاستعداد فقط، ولا حاجة بي لأي أمر آخر بتاتًا. فكرت في تأليف بيت شعر بهذا الخصوص، ولكنني لم أفلح. نهضتُ من الفراش، وغسلتُ وجهي ونظرت إلى المرآة. وجه هادئ وطبيعي. عيناي رائقتان في جمال، ربما بسبب نومي نومًا عميقًا ليلة أمس. ابتسمت وانحنيت للمرآة لتحيتها. ثم بعد ذلك تناولت وجبة إفطار بكمية كبيرة جدًّا. لدرجة أن العجوز شون قد اندهشت، فمدحتني مديحًا عجيبًا قائلة: تنام لوقت متأخر في المعتاد، ولكن عندما يكون لديك اختبار تستيقظ مبكرًا هكذا كما ينبغي وتأكل كثيرًا. هكذا يجب أن يكون الرجال. يبدو أن العجوز شون تفهمت الأمر معتدة من نفسها أن اليوم لدي اختبار في الجامعة. ربما لو علمتْ أنني ذاهب للاختبار لكي أكون ممثلًا لأُسقط في يدها وأصابها الشلل.

جهَّزتُ نفسي ثم انحنيت أمام صورة أبي عند المذبح البوذي، وفي النهاية ذهبت إلى غرفة أخي وقلت له بصوتٍ عالٍ: سوف أذهب.

كان أخي ما زال نائمًا. فأنهض جذعه وقال ضاحكًا: ماذا؟ هل ستذهب الآن؟ بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟١٦
وعندما أجبتُ: مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ.١٧
فقال بنبرة تمتلئ بالحب: كُنْ شَجَرَةً مُثْمِرَةً ذَاتَ أَغْصَانٍ كَبِيرَةٍ.١٨

كلمة جميلة لدرجة أنني أستخسرها ككلمة مباركة للمستقبل. إن أخي كما هو متوقع شاعر بارع أكثر مني بمائة ضعف. يختار في لحظة الكلمة المناسبة بالضبط.

كان الجو في الخارج حَارًّا. مشيت مسافة طويلة في منطقة كاغورازاكا، فوصلت إلى قاعة تدريبات فرقة شونجو وقد تخطت الساعة التاسعة بقليل. أبكر من اللازم قليلًا. فذهبت إلى كافيه بينيا وشربت صودا وجففتُ عرَقي ثم خرجت منه بتأنٍّ فوصلت هذه المرة في الوقت المناسب تمامًا. كان المكان عبارة عن مبنًى كبير وعتيق. وبينما كنتُ أخلع حذائي عند المدخل، خرج شاب يبدو أنه المدير الإداري يرتدي زيًّا يابانيًّا تقليديًّا بحزام مربع وقال لي بصوت خافت: تفضل، ثم عدل لي خُفًّا كي ألبسه. يعطي إحساسًا بالدماثة. كما لو كان يتعامل مع ضيف. كانت غرفة الانتظار غرفة تقليدية على الطراز الياباني مشرقة وواسعة تبلغ مساحتها حوالي عشرين حصيرة من التاتامي، وقد جاء بالفعل سبعة أو ثمانية من الممتحنين. كانوا جميعًا في منتهى الصغر، وكأنهم أطفال. يُفترض أن من شروط التقديم أن يكون عمر المتقدم بين السادسة عشرة والعشرين، ولكن هؤلاء السبعة أو الثمانية عند النظر إليهم قليلًا بَدَوا صغارًا في الثالثة أو الرابعة عشرة من العمر. كانوا جميعًا بلا استثناء يبدون أبناء الغيشا أو ما شابه؛ فمنهم من جعل شعر رأسه منسابًا في جميع الاتجاهات كأنه شعر مستعار، ومنهم من وضع رابطة عنق بوهيمية حمراء، ومنهم من ارتدى زيًّا يابانيًّا تقليديًّا عليه رسومات صارخة. شعرت بينهم بالحياء. حمل الشاب الذي يبدو أنه المدير الإداري سابق الذكر شايًا أخضر مع مقرمشات يابانية مملحة وقدمه لي قائلًا: نرجو منك الانتظار قليلًا.

كل ما يفعله يزيد من شعوري بالإحراج. تجمع الممتحنون تدريجيًّا. جاء ثلاثة أو أربعة أفراد يبدون في سن العشرين، ولكن كانوا جميعًا إما يرتدون بدلات غربية أو زيًّا يابانيًّا تقليديًّا. وفي النهاية كنت الوحيد الذي يرتدي زِيَّ الطلاب الموحد. كان الجميع لا يبدو على وجوههم الذكاء مطلقًا، ولكن لم تكن سحناتهم تُعطي شعورًا بالكآبة مثلما كان الحال مع فرقة النورس المسرحية. لا يعطون شعورًا بأنهم فلول منهزمة في معارك الحياة. إنهم فقط لا يتوقفون عن النظر حولهم في قلق. وعندما بلغ العدد عشرين تقريبًا ظهر المدير الإداري إياه وقال بنبرة هادئة: نعتذر عن جعلكم تنتظرون طويلًا. سوف أنادي على الأسماء، من يسمع اسمه يتفضل من هنا.

ثم نادى أسماء خمسة أفراد وذهب بهم ليرشدهم إلى غرفة أخرى.

ولم ينادِ على اسمي بينهم. سكن الباقون في هدوء تام، فقمتُ وخرجت إلى الممر وتأملت الحديقة. يعطي المكان شعورًا أنه مطعم فاخر أو نُزُل تقليدي عتيق. فكانت الحديقة واسعة ورحبة. سمعت صوت قطار خافت جدًّا. يزداد الجو حرارة بالتدريج. انتظرنا ثلاثين دقيقة، وهذه المرة كان اسمي من بين الأسماء التي نُودي عليها. أرشدنا المدير الإداري إياه، فمشينا نحن الخمسة أفراد في الرَّدهة وانعطفنا مرتين ثم أدخلنا غرفة جيدة التهوية على الطراز الغربي.

استقبلنا بتَرحاب ولطف شابٌّ جميل الوجه جدًّا يرتدي بدلة غربية وقال: مرحبًا بكم. تفضلوا. اسمحوا لنا بأن نجري لكم اختبارًا تحريريًّا.

جلسنا حول منضدة كبيرة في المنتصف، وتناولنا من ذلك الشاب الجميل ثلاث ورقات وتجهَّزنا للكتابة. السؤال هو ماذا نكتب؟ قيل لنا: اكتبوا ما يحلو لكم؛ انطباعات، يوميات، شعرًا، ولكن نرجو منكم كذلك كتابة ما يتعلق بفرقة شونجو المسرحية ولو قليلًا. (ولكن ستكون مشكلة مزعجة قليلًا لو تذكرت فجأة أشعار هاينريش هاينه الرومانسية الآن وكتبتها.) الوقت المحدد ثلاثون دقيقة. نرجو أن تجعلوا المحتوى لا يقل عن ورقة ولا يزيد عن ورقتين.

بدأت الكتابة بالتعريف بنفسي ثم كتبت انطباعي عن مشاهدتي لمسرحية «الإوزة البرية» كما هو بصدق. فاستهلك ذلك ورقتين بالتمام. بدا الباقون في حالة حيرة شديدة يكتبون ويمسحون.

هؤلاء هم القلة الذين اختيروا من بين عدد كبير من المتقدمين بناء على السيرة الذاتية والصور! يا لهم من لاعبين ضعيفي الشخصية! ولكن حتى هؤلاء الذين يبدون متخلفين عقليًّا ربما كانوا يملكون مواهب فنية عبقرية في التمثيل على عكس المتوقع. أمر محتمل الحدوث. وعندما كنتُ أفكر أنني يجب ألا أتهاون. أظهر السيد المدير وجهه من الباب برشاقة وأرشدنا مرة أخرى قائلًا: من انتهى يحمل ورقة الإجابة ويتفضل هنا.

كنت الوحيد الذي انتهى من الكتابة. فوقفت وخرجت إلى الممر. فأرشدني إلى غرفة واسعة في مبنى مختلف. كانت غرفة في منتهى العظمة. وُضع فيها منضدتان للطعام كبيرتان. يجلس على المنضدة التي بقرب ركن الزينة ستة ممتحِنين، وعلى بعد حوالَي مترين وُضعت منضدة الممتحَن. وكنت الممتحَن الوحيد. يبدو أن الممتحَنين الخمسة الذين نودي عليهم قبلنا قد أنهَوا الامتحان وغادروا الغرفة فلم يبق منهم أحد. وقفتُ وانحنيتُ للتحية، ثم توجهت إلى المنضدة وجلست تجاه المنضدة جلسة محكمة. موجودون، موجودون! كيكونوسكيه إيتشيكاوا، كونيجورو سيغاوا، كائمون ساوامورا، ايتشيماتسو باندو، مونوسكيه ساكاتا، بونشيتشي سوميكاوا، أعظم قادة للفرقة يجلسون وينظرون جميعًا تجاهي وهم يبتسمون. فابتسمتُ لهم.

قال كونيجورو سيغاوا وقد لمعت أسنانه الذهبية: ماذا ستقرأ في امتحان الإلقاء؟

– فاوست!

قلت ذلك وفي نيتي الحماس الشديد، ولكن أومأ كونيجورو إيماءة خفيفة وقال: تفضل.

أخرجتُ من جيبي نسخة فاوست ترجمة أوغاي موري وقرأت بصوتٍ عالٍ مشهد «صباح مزهر بالورود المتفتحة» إياه، وأنا أقول حقًّا ليتردد صداه في السماء! في الواقع لقد فكرنا أنا وأخي مليًّا حتى قررنا اختيار فاوست في النهاية. كان رأي أخي أن فرقة شونجو سترحب بقراءة نص تقليدي لمسرح الكابوكي فجربت قراءة نصوص عديدة لكُتَّاب مثل موكوامي وشويو وكيدو ثم للأستاذ سايتو أيضًا، ولكن مهما فعلت كان صوتي لا يصل إلى نفس نوعية أصوات سادانجي أو أوزايمون. لا تظهر مميزاتي الخاصة بي. ومع قول ذلك فأعمال موشانوكوجي أو مونتارو كوبوتا حواراتها متقطعة ولم تصلح بأي حال كنصوص للإلقاء. فقراءة حوار ثلاثة أشخاص مختلفين أمر فيه مخاطر بالنسبة لقدراتي الحاليَّة، فالمشاهد التي تحتوي على حوار طويل لشخص واحد في المسرحيات، على غير المتوقع، قليلة جدًّا، تكون مشهدًا واحدًا أو مشهدين بالكثير. كلا بل ثمة أعمال ينعدم فيها تمامًا مثل هذا المشهد. وعندما نعثر صدفة عليه نجده قد تحول بالفعل إلى علامة مسجلة باسم ممثل شهير، أو تحول إلى مشهد لإظهار المواهب الخفية للهواة في الحفلات والولائم. ففي الواقع يقع المرء في حيرة شديدة إذا قيل له لا مانع من أي شيء ولكن يجب عليك اختيار مشهد واحد. يقترب موعد الاختبار حثيثًا أثناء حيرتي وترددي. تُرى هل ألقي دور لوباخين من «بستان الكرز» إن وصل الأمر إلى هذا الحال، كلا، في هذه الحالة فاوست أفضل. فذلك الحوار عثرت عليه فجأة بحدسي المباشر خلال اختبار فرقة النورس. حوار تذكاري. فلا شك أنه يرتبط ارتباطًا وثيق الصلة بقدري. قررت ذلك قائلًا لنفسي: فليكن اختيارك هو فاوست! ولن أندم إن سقطت وكان السبب هو فاوست. قرأت النص دون أن يقاطعني أحد. شعرت أثناء القراءة بمشاعر منعشة جدًّا. فقد شعرت أن أحدًا ما يقول لي من خلف ظهري: جيد، جيد. لا مشكلة، لا مشكلة.

إن حياتنا تقوم في البريق ذي الألوان.

هكذا قرأت آخر جملة ثم ابتسمت لا إراديًّا. كنت سعيدًا بلا سبب. بدأت أشعر أنني لا أبالي بالاختبار مطلقًا.

أخفض السيد كونيجورو رأسه قائلًا: نشكر لك تعبك. رجاء آخر منا نحن.

– أجل.

– نرجو منك أن تقرأ أمامنا هنا الإجابة التي كتبتها منذ قليل في الغرفة الأخرى.

أصابني الارتباك فقلت: الإجابة؟ هل تقصد هذه؟

ضحك وقال: أجل.

أدهشني هذا الموقف قليلًا. ولكنني قلت لنفسي يا لذكاء أفراد فرقة شونجو الباهر جدًّا. فبهذا اختصروا وقت قراءة الإجابات فيما بعد، ففيه توفير في الوقت، وأيضًا إذا كتبت كلامًا مبتذلًا سأصاب أثناء قراءته بنفسي بالارتباك والتذبذب، فتتضح أخيرًا عيوب الجمل التي كتبتها. وشعرت هنا أنني خدعت، ولكنني استعدت رُوحي المعنوية وقرأتها بتأنٍّ دون خجل أو ندم. قرأت بنبرة طبيعية تلقائية معطيًا لصوتي قليلًا من التنغيم.

– جيد. اترك الإجابة هنا وتفضل بالذهاب إلى غرفة الانتظار وانتظر هناك.

انحنيت انحناءة عميقة ثم خرجت للممر. ووقتها انتبهت لأول مرة أن ظهري مبتل تمامًا بالعرق. عدت إلى غرفة الانتظار وجلست على الأرض متربعًا أستند على الجدار وأثناء انتظار لمدة ثلاثين دقيقة، عاد الأربعة الذين ذهبوا معي واحدًا بعد الآخر. وعندما اكتملنا جميعًا جاء كبير الإداريين مجددًا، هذه المرة التمرينات الرياضية. أرشدنا إلى غرفة واسعة وخالية، أرضيتها مغطاة بالخشب تشبه غرفة تبديل الملابس في الحمامات. يجلس في ركن الغرفة على كراسي من الخيزران اثنان من الممثلين يبدوان من القادة المعتبرين للفرقة في الأربعين من العمر تقريبًا يرتديان زيًّا تقليديًّا يابانيًّا بحزام رجالي مربع لم أكن أعرف اسميهما. وشاب يبدو أنه موظف إداري يرتدي سروالًا أبيض وقميصًا بأزرار كان يعطي لنا الأوامر. من يرتدون الزي الياباني يجب عليهم خلع ملابسهم كلها ولكن من يرتدون الملابس الغربية يكفي فقط خلع الجاكت، وحيث إن مجموعتنا كلها من أصحاب الزي الغربي، فلم يستغرق استعدادنا وقتًا وبدأنا التمرينات سريعًا. فعلنا نحن الخمسة معًا نفس الحركات، اتجه يمينًا، اتجه يسارًا، لليمين در، تقدم للأمام، اجرِ، توقف، ثم بعد ذلك ما يشبه تمرينات الراديو الصباحية، وأخيرًا يقول كل منا اسمه بصوتٍ عالٍ، وبذلك انتهت التمرينات. لقد كُتب في الخطاب تمرينات بسيطة، ولكنها لم تكن بتلك البساطة التي توقعتها. فقد أصابتني بالإرهاق إلى حد ما. عندما عدنا إلى غرفة الانتظار وجدنا موائد قد صُفَّت في صف واحد وبدأ الممتحَنون يأكلون. وجبة مقليات فوق صحن من الأرز. يقوم المدير الإداري إياه بإعطاء الأوامر لعاملَين يشبهان عمال مطاعم السوبا صغار السن، فيجريان سريعًا بين الموائد حاملَين صحون الطعام ويُعدان الشاي … إلخ. الجو حار جدًّا. أكلت وجبة المقليات مع الأرز والعرق يتدفق من جسمي مدرارًا. فلم أستطع أكل الوجبة كاملة مهما حاولت.

كان الختام اختبارًا شفويًّا. ينادي المدير الإداري إياه علينا واحدًا بعد آخر ثم يخرج معه من الغرفة. كانت غرفة الاختبار الشفوي هي نفس غرفة الإلقاء منذ قليل. ولكن اختلف الجو العام للغرفة تمامًا. كانت في فوضى مريعة. ضُمَّت المنضدتان الكبيرتان إلى بعضهما البعض تمامًا، يجلس ثلاثة أفراد هم على الأرجح من القسم الفني أو قسم التخطيط، يطيلون شعورهم وتبدو وجوههم شاحبة، وقد خلعوا جواكتهم في هيئة استرخاء، ووضع كل منهم مرفقيه على المنضدة، وفوق المنضدتين أوراق كثيرة مبعثرة هنا وهناك. وثمة كذلك أكواب بها بواقي قهوة مثلجة.

قدم لي ما يبدو أنه أكبرهم سنًّا وسادة للجلوس وهو يقول: تفضل بالجلوس. متربعًا، متربعًا.

ثم اختار من بين الأوراق التي فوق المنضدة سيرتي الذاتية وصورتي وقال: السيد سريكاوا، أليس كذلك؟ هل تنوي الاستمرار في دراستك الجامعية؟

كان حقًّا سؤالًا في الصميم. فهذه هي معاناتي حاليًّا. وقلت لنفسي: يا لها من صرامة في التعامل.

– ما زلت أفكر في الأمر.

قلت ما أشعر به كما هو.

– من المستحيل الجمع بين الاثنين.

هجوم مفاجئ.

– في حالة …

تنهدت تنهيدة خفيفة.

– بعد قبول تعييني …

انقطعت الكلمات.

– حسنًا، هذا مفهوم.

بدأ الطرف الآخر يضحك بعد أن لاحظ حساسية الموقف.

– بالطبع لم يتقرر تعيينك بعد. هل كان سؤالًا غبيًّا؟ آسف على السؤال ولكن يبدو أن أخاك الأكبر ما زال شابًّا، أليس كذلك؟

سؤال مؤلم، لو بدأت الأسئلة بهذا الاشتباك فلن أقدر عليهم.

– أجل في السادسة والعشرين من عمره.

– ألا توجد مشكلة من موافقة الأخ الأكبر فقط؟

نبرة حديث تدل على قلقه حقيقة. وفكرت وقتها أن الشخص المسئول عن هذا الاختبار الشفوي لا شك أنه عانى في حياته معاناة شديدة.

– لا مشكلة. فأخي سوف يبذل كل جهده.

ابتسم ابتسامة مشرقة وقال: سوف يبذل جهده؟

ونظر الاثنان الآخران لبعضهما البعض وهما يبتسمان.

لقد قرأت فاوست، أليس كذلك؟ هل اخترتها بمفردك؟

– كلا، لقد استشرت أخي.

– حسنًا، أي إن أخاك اختارها لك، أليس كذلك؟

– كلا، رغم استشارة أخي لم نستطع تحديد عملٍ ما، فاخترتها بمفردي.

– آسف على السؤال، ولكن هل فهمت فاوست فهمًا جيدًا؟

– لم أفهم منها شيئًا البتة. ولكن لها ذكرى هامة لدي.

ضحك مرة أخرى قائلًا: حقًّا؟ لها ذكرى؟

ثم نظر مليًّا في وجهي نظرات رحيمة وسألني: ما الرياضة التي تمارسها؟

– في المدرسة المتوسطة مارست كرة القدم قليلًا. ولكني توقفت الآن.

– حقًّا، هل كنت لاعبًا؟

ثم بعد ذلك بدأ يسأل أسئلة دقيقة. إذا قلتُ إن أمي مريضة يسأل حتى عن حالتها المرضية بحماس. وسأل عن أقرب الأقارب وما هي شخصيتهم، وهل ثمة شخص يرعى شئون أخي، فكانت الأسئلة الخاصة بالعائلة هي الأكثر عددًا. ولكنه كان يسأل في تلقائية وانسيابية مما ساعدني على الإجابة براحة بالٍ ولم أشعر بالاستياء. وفي النهاية سألني: ماذا أعجبك في فرقة شونجو المسرحية؟

– لا شيء بصفة خاصة.

– ماذا؟

توتر جميع الممتحِنين معًا في نفس اللحظة. وأظهر الممتحِن الرئيس ملامح استيائه بين حاجبيه وسألني: لماذا إذن فكرت في الالتحاق بالفرقة؟

– أنا لا أعرف شيئًا. أعرف فقط معرفة ضبابية أنها فرقة عظيمة.

– مجرد صدفة فقط؟

– كلا، ليس أمامي هدف آخر إن لم أصبح ممثلًا. ولذا فكرت في الأمر، ولما استشرت أحد الأشخاص، كتب ذلك الشخص في ورقةٍ كلمة: فرقة شونجو.

– في … ورقة؟

– إنه إنسان غريب الأطوار نوعًا ما. عندما ذهبت لاستشارته رفض مقابلتي قائلًا إنه مصاب بنزلة برد، ولذا كتبت في مدخل البيت على ورقة مسطرة على الطريقة الغربية: أرجو منك إخباري بفرقة مسرحية جيدة، وسلمت تلك الرسالة إلى الخادمة أو السكرتيرة، لا أدري، ولكنها فتاة دائمة الابتسام. وعندما عادت تلك الفتاة من الداخل ومعها الرد على الرسالة. وكان الرد عبارة عن ورقة كُتب فيها كلمتان فقط: فرقة شونجو.

فتح الممتحن الرئيس عينيه على وسعهما وسألني: من هو ذلك الرجل؟

– إنه أستاذي. ولكنني أنا فقط الذي أظن ذلك، لذا ربما كان هو لا يأبه بشأني مطلقًا. ولكنني قررت أن أتخذه أستاذًا لي مدى الحياة. لم أتحدث معه إلا مرة واحدة فقط. لاحقته فجعلني أركب معه سيارته.

– تُرى من هو؟ يبدو أنه أحد رجال المسرح الياباني.

– لا أريد أن أذكر اسمه. لقد سمح لي مرة واحدة فقط بالركوب معه في السيارة والتحدث معه، فأنا أكره أن أستغل اسمه بسبب ذلك لأنني أراها دناءة.

أومأ رئيس الممتحنين بجدية وقال: فهمت. حسنًا، لقد جئت إلى هنا مباشرة لأن ذلك الشخص كتب لك فرقة شونجو في ورقة؟

– أجل. ولكنني في ذلك الوقت شكوت إلى الخادمة قائلًا: مجرد القول لي: التحِق بفرقة شونجو فهذا مستحيل. وعندها صرخ من وراء الباب قائلًا: اعتمد على نفسك! لقد وقف الأستاذ مختبئًا خلف الباب يسمع. ولذلك دُهشت.

ضحك اثنان من الممتحنين الشباب بصوتٍ عالٍ. ولكن رئيس الممتحنين لم يضحك معهما بل قال بلا اهتمام: أستاذ مثير. أليس هو الأستاذ سايتو؟

أنا أيضًا قلتُ وأنا أضحك: لن أستطيع إخبارك. سأخبرك عندما أصبح فنانًا عظيمًا.

حقًّا؟ حسنًا، يكفي هذا الحد فقط. نشكر لك تعبك معنا اليوم. هل أكلتَ وجبتك؟

– أجل أكلتها.

– إذن خلال يومين أو ثلاثة أيام ربما يصلك إشعار منا، وإذا لم يصلك إشعار خلال يومين أو ثلاثة أيام، اذهب مرة أخرى إلى ذلك الأستاذ واستشره.

– هذا ما أنوي عمله بالفعل.

بهذا انتهى اختبار اليوم بجميع أجزائه. وعدتُ إلى البيت بمشاعر هادئة وراضية تمامًا. وفي الليل طبخنا أنا وأخي قطع لحم مشوية على طريقة عائلة سريكاوا وأكلناها. وعزمنا بالأكل على العجوز شون أيضًا. ومع أنني كنت هادئًا حقًّا، إلا إن أخي كان في حالة القلق الخفي. كان يريد أن يسألني عما حدث في الاختبار، ولكنني هذه المرة أنا الذي أجبت بالقول: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ الرَّبِّ؟ … إلخ، ولم يكن لديَّ أية نية في التحدث عن اختبار مرَّ وفات بالفعل.

في الليل كتبت يومياتي. ربما تكون هذه هي آخر يوميات أكتبها. هذا هو شعوري حاليًّا. لأنَمْ.

الخميس ٦ يوليو

طقس غائم. هذا الصباح لم أستطع النوم مهما حاولت، لذا تغيبت من الجامعة.

وصل إشعار فرقة شونجو المسرحية في الساعة الثانية بعد الظهر. وكُتب فيه:

«سنجري لك فحصًا طبيًّا، لذا نرجو منك المجيء إلى المستشفى المذكور أدناه في الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم ٨ يوليو حاملًا معك هذا الإشعار.»

وكُتب اسم مستشفى في منطقة تورانومون.

بمعنى أنه إشعار التصفية التالية. كان أخي قد اطمئن تمامًا قائلًا إن هذا يعني النجاح النهائي، ولكنني لم أعتقد ذلك. بل لدرجة إحساسي أنني عندما أذهب إلى المستشفى سأجد الذين خاضوا اختبار أمس جميعًا قد أتَوا للفحص الطبي. لذا كنت أريد تربية الرُّوح المعنوية النشطة استعدادًا لذلك. ومن حسن الحظ أن جسمي يُفترض أنه بحالة صحية جيدة وبلا أمراض.

وفي الليل قضيت الوقت بالسماع إلى الموسيقى وحيدًا. استمعت بسعادة لكونشيرتو الفلوت لموتسارت.

السبت ٨ يوليو

طقس صحو. ذهبت إلى مستشفى تاكيكاوا في منطقة تورانومون وعدتُ لتوي. الطقس حار، حار. لذا اسمحوا لي أن أكتب هذه اليوميات وأنا لا أرتدي إلا سروالي الداخلي. عندما ذهبت إلى المستشفى لم نكن إلا اثنين فقط. فقط أنا وذلك الصبي الذي جعل شعره منسابًا في جميع الاتجاهات كأنه شعر مستعار، ويبدو من النظرة الأولى في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره. يبدو أن أولئك الناس قد رسبوا جميعًا. كان اختيارًا صارمًا جدًّا. شعرت فجأة بقشعريرة باردة.

فحص ثلاثة أطباء كل عضو من أعضاء جسمينا بالتبادل. فكان فحصًا في منتهى الصرامة والجدية أتعبني قليلًا. أُخذتْ لنا أشعة سينية، وأُخذ منا عينات من الدم والبول. وُجد أن الصبي مصاب بالرمد الحبيبي فأخذ يبكي. ولكن قيل له إنه في مرحلة خفيفة يمكن أن يُشفى منه بعد أسبوع واحد من العلاج، فابتسم على الفور. لم يكن وجه ذلك الصبي وسيمًا ولكنه كان ذا شخصية متفردة تثير حفيظة الآخرين. فوجهه طويل طولًا شنيعًا. وربما كان على غير المتوقع يمتلك موهبة عبقرية. استمرت الفحوصات لمدة تقترب من الثلاث ساعات.

وحضر معنا شخص يبدو أنه إداري من فرقة شونجو. وفي العودة عدنا ثلاثتنا معًا.

قال ذلك الإداري: حظكما جيد جدًّا. في البداية جاءت طلبات من جزيرة كارافوتو في الشمال ومن تشانغ تشون في منشوريا، وصل عددهم إلى ستمائة تقريبًا.

وعندما قلت له: ولكن لم يتحدد بعد، أليس كذلك؟

أجاب إجابة غامضة بقوله: حسنًا، من يدري!

وقال إنه في حالة النجاح سيأتينا إشعار رسمي خلال أسبوع. وافترقنا عند محطة ترام البلدية.

وعندما أخبرتُ أخي فرح فرحة عارمة. لم يسبق لي أن رأيت أخي بتلك الحالة من السرور.

– جيد جدًّا. جيد جدًّا. كما توقعت، من الأفضل لك يا سوسومو تصبح ممثلًا. ألا ترى أن اختيار اثنين فقط من بين ستمائة متقدم أمر مهول. أنت رائع، أشكرك، لا تدري إلى أي مدى أنا سعيد.

قال ذلك ثم بكى قليلًا. لقد فلت العيار! رغم أن الوقت مبكر جدًّا لهذه الفرحة.

يجب ألا تتراخى مشاعري قبل مجيء الإشعار الرسمي.

الجمعة ١٤ يوليو

طقس صحو. أتى إشعار النجاح.

السبت ١٥ يوليو

صحو. حار شديد القيظ. أمس وضعت إشعار النجاح مغلقًا كما هو أمام المذبح البوذي، وأعلمنا — أنا وأخي — أبي بتلك النتيجة. وبدأت أشعر حقًّا أنني أستطيع أن أكون أفضل ممثل في اليابان. من المؤكد أن الآتي هو الأكثر مشقة ومعاناة. ولكن: «أتمنى أن أثبت أن الشخص الصالح الذي يتصرف بنبل هو من يتحمل التعاسة والشقاء من خلال تلك الحقيقة فقط.» كانت تلك كلمات بيتهوفن، ولكنها تدل على إشراق باهر. لقد حارب عباقرة الماضي جميعًا بمثل هذه الرُّوح المعنوية. يجب عليَّ التقدم للأمام دون انكسار. ليلة أمس ذهبنا ثلاثتنا، أنا وأخي وكيجيما، إلى مطعم ساروغاكوكِن واحتفلنا احتفالًا بسيطًا.

قرعنا كئوسنا في صحة أمِّنا. سكِر كيجيما فغنى أغنية عاملات قطف الشاي.

لم أعد أذهب مطلقًا إلى الجامعة مؤخرًا. وأفكر في تقديم طلب تعطيل الدراسة بداية من الفصل الدراسي الثاني. وقال أخي إنه لا بديل عن ذلك. فيجب عليَّ الذهاب إلى قاعة تدريب فرقة شونجو كل يوم بداية من يوم الاثنين الأسبوع القادم. قيل لي إنني سوف أساعد على الفور في المسرحيات التي تُعرض الآن. خلال فترة التدريب لمدة شهرين سأحصل على أجر ١٢ يِنًّا في الشهر، وإذا ساعدت في العروض سأحصل إضافة إلى ذلك على بعض البدلات الأخرى مثل بدل المواصلات إلى قاعة التدريب … إلخ. وبعد مرور شهرين سأغدو عضوًا مؤقتًا بالفرقة وأحصل على ٣٠ يِنًّا شهريًّا بدل المكياج. ثم تزداد البدلات تدريجيًّا لمدة عامين، وعندما يمر العامان أصبح عضوًا عاملًا وأتلقى نفس مرتب ومميزات جميع الأعضاء. إذا مرت الأمور بسلاسة سأستطيع أن أصبح عضوًا عاملًا في خريف عامي التاسع عشر. ولكنني الآن لست في حالة التمتع بنشوة هذه التخيلات المعسولة. المهم هو الاجتهاد فيما أمامي من واجبات. من المؤكد أن الأمر شاق. يمر عامان، وأصبح عضوًا عاملًا، ثم بعد ذلك يبدأ التدريب الحقيقي للممثل. أتدرب لمدة عشر سنوات، فأكون في التاسعة والعشرين من عمري. على الأرجح ستقع أحداث متنوعة وكثيرة. ومن المؤكد أن القضية الأكبر ستكون ما هي المسرحية التي أختارها لكي أمثلها أكثر من تمثيلي الشخصي فقط. في كل الأحوال إنه الاجتهاد. يجب عليَّ أن أصبح ممثلًا عظيمًا مهما حدث. الآن ركبت قاربًا وخرجت في عمق البحر وبدأت التجديف بالمجداف. ولكن حصولي منذ هذا الشهر على مرتب وإن كان قليلًا أمر يدغدغ مشاعري. يفرحني فرحة مفعوصة. أفكر أن أشتري قلم حبر لأخي من أول مرتب. لقد قال أخي إنه سوف يذهب من غدٍ إلى مصيف مدينة نومازو حيث بيت عائلة أمي هربًا من الحر. ومن المخطط أن يقيم هناك لمدة عشرة أيام. لو كان الحال المعتاد فمن الطبيعي أن أذهب معه، ولكنني من الأسبوع القادم لدي «عمل» فلم أقدر على الذَّهاب معه. سأبقى صيف هذا العام في طوكيو وأبذل جهدي. يبدو أن أخي لم يستطع في النهاية اللَّحاق بآخر موعد لتسليم رواية مَجلة «الرأي العام الأدبي». عندما كتب نصفها قرأ السيد ما كُتب، وعلى غير المتوقع أعطاها درجة عالية وشجعه بشدة، ولكنه بعد ذلك لم يستطع إكمالها مهما حاول، وفي النهاية تركها دون أن يكملها. في الحقيقة كان ذلك في منتهى الخسارة. إن أخي يتحسر دائمًا على عدم كفاية قدراته مقارنة ببلزاك ودوستويفسكي، ولكن أليس ذلك شراهة مفرطة أن يفكر في التغلب على مثل هؤلاء الأدباء العظماء منذ البداية. لقد قال: «كما هو المتوقع، يجب على الأديب ألا يكتب رواية إلا بعد تخطيه الثلاثين.» ولكن ماذا لو حاول كتابة شعر نثري قصير قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره؟ في كل الأحوال، أخي يملك موهبة هائلة، فلو تحسنت وتيرة العمل قريبًا من المؤكد أنه سيكتب تحفة أدبية عالمية. فجمال أسلوب أخي الأدبي في الكتابة ليس له نظير في اليابان.

دخلت الليلة الحمام ثم تأملت وجهي في المرآة فوجدته قد نحف نحافة شديدة فأصابتني دهشة. هل يتغير الوجه مثل هذا التغيير خلال يومين أو ثلاثة أيام! من المؤكد أنني أُرهقت إرهاقًا نفسيًّا كبيرًا خلال هذين اليومين أو الثلاثة أيام. برزت عظام الوجنتين وأضحى وجهي وجه رجلٍ راشد تمامًا. دميم دمامة شنيعة. يجب عليَّ أن أتصرف. فقد بتُّ ممثلًا بالفعل. ويجب علي الاهتمام بوجهي. هذا الوجه لا يروق لي بأي حال. وكأنه قرد محنط. يتحتم علي العناية بوجهي باستخدام الكريمات وكولونيا اللوف. لا ضرورة من استخدام المكياج بمجرد أنني بتُّ الآن ممثلًا، ومع ذلك فهذا الوجه عديم الرُّوح مشكلة عويصة.

في الليل قرأت داخل الناموسية جان كريستوف المجلد الثالث.

الخميس ٢٤ أغسطس

طقس غائم. ربما أُجَن. أكره ذلك أكرهه. لا أدري كم مرة فكرت في الانتحار. لقد بتُّ قادرًا على العزف بآلة الشاميسن. وأستطيع الرقص أيضًا. كل يوم كل يوم، من العاشرة صباحًا حتى الرابعة عصرًا. قاعة التدريب عبارة عن وادي الجحيم! تركت الجامعة. فلم يعد لي مكان آخر أذهب إليه. إنه عقاب إلهي. كما توقعت، لقد كنت أنظر باستخفاف إلى الممثل.

أيها الرجل الذي حقت عليه اللعنة، إن اسمك هو ممثل شاب. أفكر في دهشة من استمرار جسمي على التحمل. كنت مستعدًّا لذلك جيدًا ولكنني لم أكن أتوقع أن أتجرع كل هذا الهوان.

اليوم أيضًا تدفقت دموعي عندما استلقيت على ظهري فوق العشب الأخضر في حديقة مركز التدريب أثناء راحة الغداء التي تبلغ ثلاثين دقيقة. اقترب مني الصبي إياه وهو يقول: تبدو يا سيد سريكاوا في حالة اكتئاب دائمًا.

فقلت له: اغرب عن وجهي!

كانت نبرة صارمة لدرجة أنني شخصيًّا اندهشت متعجبًا منها. وهل تدركون أنتم أيها المتخلفون عقليًّا معاناتي!

كان اسم الصبي تيريو تاكيدا. ويبدو أنه ابن غير شرعي لستسوكو تاكيدا التي كانت في الماضي ممثلة شهيرة في المسرح الإمبراطوري. ووالده هو السيد «م» أحد كبار عالم المال والأعمال الذي توفي منذ بضعة أعوام. إنه في الثامنة عشرة من عمره، أي يكبرني بعام، ولكنه، كما هو متوقع، صبي. هذا هو غريمي. وربما يكون غريمي طوال حياتي. دائمًا ما أُقارَن بهذا الأبله، ثم أُنتقد. ولكنني أُنكر عبقرية هذا الأبله إنكارًا تامًّا. وكنتُ أفكر قائلًا: انظروا لي قريبًا. ما من شيء أكبر قيمة من قوة عزيمة متفانية لشخصٍ عديم المهارات. وفي فرقة شونجو، الوحيد الذي يتشكك في تاكيدا ويؤيد سريكاوا، كيكونوسكيه إيتشيكاوا رئيس الفرقة فقط. أما البقية جميعًا فهم ممتعضون من بلادة حسي وانعدام ذوقي. وقد أُطلق علي اسم «المبرراتي» لكي يناديني به الجمهور من على المسرح. اليوم عند العودة سار معي كائمون ساوامورا أحد كبار قادة الفرقة حتى محطة قطار البلدية، فقال لي وهو يبتسم ابتسامة خافتة: سمعت أنك تضع في جيبك كتابًا مختلفًا كل يوم، كل يوم.

لم أجب. ولكنني أجبت عليه داخل صدري هكذا: يا سيد كينوكونيا الممثل في العصر القادم لن ينفعه أن يكون مثلك يملك فنًّا عظيمًا فقط.

منذ عشرة أيام صحبني كيكونوسكيه إيتشيكاوا إلى مطعم قوس قزح وعزمني، ووقتها قال لي فجأة وهو يلاحق البطاطس المسلوقة بالشوكة: لقد ظل اسمي حتى الثلاثين من عمري «فجل». وهكذا ما زلتُ حتى الآن أرى أنني فجل.

كنت أريد البكاء. لو لم يقل لي رئيس الفرقة تلك الكلمة ربما شنقت نفسي اليوم أو قبله.

تأسيس طريق جديد للفن أمر في منتهى الصعوبة. لا يصيب السهم الرأس، لا يصيب إلا الأيدي والأقدام فقط. إنها المعاناة الأصعب في تحملها. هل تكون حَبَّةُ الْخَرْدَلِ شَجَرَةً مُثْمِرَةً؟

لأكتب كلمات بيتهوفن مرة أخرى بخط كبير: «أتمنى أن أثبت أن الشخص الصالح الذي يتصرف بنبل هو من يتحمل التعاسة والشقاء من خلال تلك الحقيقة فقط.»

الأحد ١٧ سبتمبر

طقس غائم. ممطر أحيانًا. اليوم عطلة من التدريب. أمس ظللنا نتدرب في قاعة التدريب إلى الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا. أُصبتُ بدُوار وكنت على وشك الوقوع من فوق خشبة المسرح. في الأول من أكتوبر أول ظهور لي على مسرح الكابوكي، والعروض هي: «سكيروكو»، ثم «بوتشان» لسوسيكي، وأخيرًا «إيرومويو تشوتو كاري مامه».

أول ظهور لي على المسرح. وفي الأصل دوري هو حامل القنديل في عرض «سكيروكو»، تلميذ في المدرسة المتوسطة في «بوتشان» هذا فقط. ومع ذلك تكرر التدريب القاسي مرات ومرات. وحتى بعد العودة للبيت والنوم تتواصل أحلام غريبة وكريهة تجعلني أتقلب في الفراش طوال الليل. وعندما يزيد الإرهاق عن حده على العكس لا أستطيع النوم.

في الساعة الثامنة تقريبًا من صباح اليوم، جاء اتصال من أختي التي في شيتايا. قالت وهي تضحك: حدث أمر هائل، لذا يجب أن تأتي أنت وأخي على الفور، وتُكرِّر: أمر هائل، أمر عظيم. ومهما سألتها ماذا حدث؟ لا تجيب. تقول فقط: أرجوكم تعالَوا. ما باليد حيلة. تناولنا وجبة العشاء في عجلة وذهبنا أنا وأخي إلى بيت شيتايا. وعندما قلتُ: تُرى ما الأمر؟

قال أخي، وعلى وجهه ملامح القلق قليلًا: أرجو إعفائي من التوسط في عراك بين الزوجين.

ولما وصلنا إلى شيتايا لم نجد شيئًا، بل قاطنو البيت الثلاثة يضحكون بصوتٍ عالٍ.

قالت لي أختي: هل قرأت جريدة مياكو هذا الصباح يا سوسومو؟

لا أدري عما تتحدث. نحن في بيت كوجيماتشي لا نشتري جريدة مياكو.

– كلا.

– أمر هائل. انظر!

تقرير خاص بيوم الأحد في صفحة المسرح في جريدة مياكو. تظهر صورتي وصورة تيريو تاكيدا في مساحة صغيرة جدًّا. والاسم مختلف. صورتي تحتها اسم كيكوماتسو إيتشيكاوا، وتاكيدا اسمه هانينوسكيه ساوامورا. وثمة شرح يقول الممثلين الجديدين في فرقة شونجو المسرحية، وكُتب بعد ذلك: «تقبلوا تحياتنا!». ذُهلت. وفكرت أنهم يعاملونني كأحمق. كنت أعلم أننا يُفترض أن نصبح عضوين مؤقتين في الفرقة منذ الظهور الأول لنا على المسرح هذه المرة، ولكنني لم أعلم أن هذا الاسم الفني قد تقرر لنا. ولم يُعْلِمنا أحد بذلك. في النهاية هو اسم فني صُنع بإهمال، ولكن مع ذلك أليس من الواجب استشارة الشخص نفسه قبل اعتماد الاسم؟ شعرت بالكآبة. ولكنني شعرتُ خلف هذا الاسم الفني الفظ والمريب كيكوماتسو إيتشيكاوا بحماية صامتة من كيكونوسكيه إيتشيكاوا رئيس الفرقة، ففرحت فرحة دافئة. كيكوماتسو إيتشيكاوا. اسم غير جميل على الإطلاق! وكأنه اسم صبي حرفة.

قال السيد سوزوأوكا ضاحكًا: أخيرًا بدأ العمل الحقيقي. لنذهب إلى مطعم صيني للاحتفال بهذه المناسبة.

عند حدوث أي شيء يقول السيد سوزوأوكا على الفور: نذهب إلى مطعم صيني.

– ولكن حدوث ذلك بتلك المبالغة يسبب القلق.

أختي وزوجها يعلمان برغبتي في أن أصبح ممثلًا من قبل، وكانا يتخذان موقف الموافقة الضمنية مع بعض القلق.

– أليس من الأفضل عدم إبلاغ أمنا بعد؟

كان الأمر منذ البداية في منتهى السرية بالنسبة لأمي.

أجاب أخي بنبرة قوية: بالتأكيد. من المرجح أنها ستعرف ذلك فيما بعد، ولكننا قررنا أن نبلغها بكل شيء بعد أن يصبح ممثلًا ذا شأن. في كل الأحوال هذه مسئوليتي أنا.

فرد السيد سوزوأوكا بجراءة قائلًا: أليس من الأفضل ألا تفكر في الأمر بهذه الصلابة بقولك مسئولية؟ الإنسان إن فعل ما يجب عليه بجدية فهو شخص عظيم، سواء ممثل أو غيره من المهن. فمن الصعب أن يحصل شخص في السابعة عشرة من عمره على مرتب خمسين ينًّا شهريًّا.

عدَّلت له بقولي: ثلاثون ينًّا.

– كلا، إن كان المرتب ثلاثين ينًّا فسوف يصبح ستين ينًّا مع البدلات المتنوعة.

يبدو أنه يعتقد أن الممثل مثله مثل موظف البنك.

خرجنا معًا نحن الخمسة، الزوجان سوزوأوكا والسيد توشيو وأخي وأنا لتناول الطعام في مطعم صيني في حي هيبيا. كان الجميع في حالة من الإثارة والصخب ولكنني كنت الوحيد الذي لم أستمتع مطلقًا، ربما بسبب الأرق الذي أصابني ليلة أمس. لا يغادر جحيم التدريب تفكيري ولو للحظة واحدة، وأشعر فقط بالكآبة والظلام. فأنا لا أعمل في مهنة التمثيل من أجل التسلية. لا أحد يتفهم كآبتي. «تقبلوا تحياتنا»؟ آه، لماذا يجب على الشخص الذي يريد النمو أن ينحني!

الأحد ١ أكتوبر

طقس صحو خريفي. الظهور الأول على المسرح. فوق خشبة المسرح أحمل قنديلًا وركبتاي مثنيتان وخصري منخفض. مقاعد الجمهور عبارة عن مستنقع عميق ومظلم يثير الرعب. لا أرى أيًّا من وجوه المشاهدين. حركة غامضة زرقاء وعميقة. مهما نظرت كان المشهد غامضًا أزرقَ زرقةً عميقة. لا أسمع أي صوت على الإطلاق. هدوء قاتل. لدرجة أنني فكرتُ أنه ما أحد في مقاعد الجمهور على الإطلاق. مستنقع كبير وعميق وذو حرارة فاترة. أشعر بالامتعاض. على وشك أن أُبتلع وأغرَق. بدأت أحس بفقدان الوعي. وبدأت أشعر بالرغبة في التقيؤ.

أنهيتُ دوري وعدتُ إلى غرفة الممثلين شاردًا، فوجدتُ أخي وكيجيما قد جاءا. أسعدني ذلك. كنت أريد الارتماء في حضن أخي والتشبث به.

قال كيجيما بنبرة هائجة تمامًا: لقد عرَفتك على الفور. عرَفت أن هذا هو سوسومو من أول لحظة. يُعرف المرء مهما ارتدى من ملابس. أنا أول واحدٍ اكتشفك على المسرح. عرَفتك على الفور.

ظل يعيد ويكرر نفس الكلام.

ويبدو أن السيد سوزوأوكا وزوجته في مقاعد الدرجة الأولى. وعمتي مفعوصة كذلك جلبت معها خمسًا من تلميذاتها في مقصورات السمان. سمعت ذلك من أخي فتدفقت دموعي. وشعرت بفضل وجود عائلة وأقارب للإنسان. ويبدو أن كيجيما صرخ مناديًا: كيكوماتسو إيتشيكاوا! كيكوماتسو إيتشيكاوا! لا فائدة من مناداة حامل القنديل. قد فعل ما يسبب لي الإحراج الشديد.

قال لي بفخر: هل سمعت ندائي لك؟

لقد كان حامل القنديل على وشك الإغماء على خشبة المسرح في أي لحظة، ناهيك عن أن يسمع شيئًا.

اقترب أخي من أذني وهمس بوجه جادٍّ مقلدًا الرجال أصحاب الخبرة: هل أطلب وجبات سوشي لغرفة الممثلين؟

فانفجرت بالضحك وقلت: كلا، ففرقة شونجو لا تسمح بهذا العمل.

وعندها قال وعلى وجهه عدم الرضا: حقًّا؟

العرض الثاني «بوتشان» كان الوضع أريحَ نسبيًّا. استطعت سماع ضحكات الجمهور سمعًا خافتًا. ولكن كما يُتوقع لم أستطع رؤية وجوههم بتاتًا. وعرَفت أن الممثل عندما يعتاد سيستطيع ليس فقط سماع ضحكات الجمهور بوضوح بل أيضًا همساتهم وبكاء الأطفال، وعلى العكس ينزعج من تلك الضوضاء. وأيضًا يستطيع أن يرى على الفور وجوه الجمهور ومن يجلس أين. ما زال أمامي الكثير والكثير. فأنا في حلم. كلا بل أنا على الحد الفاصل بين الموت والحياة.

أنهيت جميع أدواري، ودخلت للاستحمام في حمام غرفة الممثلين، وعندما فكرتُ أن ذلك سيستمر كل ليلة شعرت بامتعاض لا يُحتمل وكدت أُجَنُّ. أكره أن أكون ممثلًا! شعرت بآلام شديدة للحظات سريعة لدرجة التلوي من الألم. وأثناء ما كنت أفكر أنني أريد أن أُجَنَّ، اختفت تلك الآلام فجأة وبقي الإحساس بالوحدة فقط. «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ …» كلمات المسيح تلك التي كتبتها في مقدمة يومياتي في ربيع عامي السادس عشر، عادت وقتها إلى ذاكرتي واضحة جلية: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ.»١٩ كل إنسان يتألم. آه، صُم وأنت تبتسم! ابذل جهدك على الأقل لمدة عشرة أعوام، ثم بعدها يمكنك أن تغضب غضبًا حقيقيًّا. أنا لم أستطع حتى الآن أن أبدع شيئًا واحدًا، أليس كذلك؟ كلا، بل إن تقنية الإبداع نفسها ما زالت غير مؤكدة.

خرجت من الحمام وأنا أشعر بالوحدة، ومع ذلك شعرت بحلاوة داخل جسدي كأنني شربت شربة من الحليب.

أذهب إلى غرفة كيكونوسكيه إيتشيكاوا رئيس الفرقة لتحيته.

– أهلًا، مبروك.

أسعدتني كلمته تلك. يا لسذاجتي! كلمة بشوشة من رئيس الفرقة أزالت تمامًا كل العذاب العميق الذي شعرت به في الحمام. ربما كان بدء أول خطوة على المسرح في حياة الممثل في منطقة كوبيكيتشو يُعَد انطلاقة مباركة حقًّا. كررتُ على مسامعي القول: أنت إنسان محظوظ.

إلى هنا تنتهي تسجيلات أول ظهور مجيد لي على المسرح.

عدتُ إلى البيت وتحدثت بحماس وانغماس مع أخي عن الأجرام السماوية حتى الساعة الواحدة صباحًا تقريبًا. ولا أدري أنا نفسي لماذا بدأت الحديث عن الأجرام السماوية.

السبت ٤ نوفمبر

طقس صحو. الآن أوساكا. مسرح ناكازا. العروض هي: «كانجينتشو» و«أوتا أندون» و«موميجي كاري».

مكان إقامتنا في منتصف طريق دوتونبوري تمامًا. اسم المكان «خان هوتيه» وهو خان كئيب مخصص للعشاق. خُصص لنا نحن السبعة غرفتان كلٌّ منهما بمساحة حصيرات ست للنوم والإقامة. ولكن معنوياتي لا تهبط مطلقًا!

من المعروف أن كيكوماتسو إيتشيكاوا قديس.

الأحد١٢ نوفمبر

طقس ممطر. أعتذر. لقد سكِرت الليلة. إن أوساكا مكان بغيض. ودوتونبوري مكان موحش جدًّا. لقد شربت خمرًا في تلك الحانة المعتمة التي تُسمى «ياوي». فسكِرت بعد فترة طويلة من عدم السكر. حتى مع سكري كنتُ متصنعًا. «حافظ على مجدك من وأنت صغير!»

إن هانينوسكيه إنسان تافه! حتى مع سكره يحتفظ بوجه في قمة المسخ. وهكذا أثناء العودة همس لي بأمر فاحش. وعندما رفضت ذلك وأنا أضحك قال: إنني وحيد.

ففقدت النطق من شدة ذهولي.

الجمعة ٨ ديسمبر

لا أدري أطلعت الشمس، أم تمطر السماء؟ لا أشعر إلا بالرغبة في البكاء طوال الوقت. نحن في ناغويا.

أريد العودة إلى طوكيو سريعًا. لقد كرهت الاستمرار في رحلة الطواف على المدن. لا أريد قول شيء. ولا أريد الكتابة. إنني فقط أُجرجَر رغمًا عني لكي أعيش.

أشعر بالخجل أنني لا أفهم المعنى الجوهري للشهوة الجنسية، لا أفهم إلا الأمور الملموسة فقط. كأنني كلب.

الأربعاء ٢٧ ديسمبر

طقس صحو. انتهت عروض مدينة ناغويا ووصلنا إلى محطة طوكيو في الساعة السابعة والنصف مساء هذه الليلة. أوساكا. ثم ناغويا. بعد العودة من الغياب شهرين كانت طوكيو في نهاية العام. وتغيرتُ أنا أيضًا. وجاء أخي لاستقبالي في محطة طوكيو. وعندما رأيت وجه أخي لم أتمالك نفسي من الارتباك. فضحك أخي في سلام.

أدركت أنني أعيش الآن في عالم مختلف عن أخي اختلافًا شديد الوضوح. فأنا إنسان الحياة المعيشية الذي لفحت الشمس وجهه. لم أعد أملك رومانسية. بل واقعية مشاكسة ومفتولة العضلات. يا له من تغيير!

فتًى يعتمر قبعة سوداء ناعمة الحوافِّ ويرتدي بدلة رسمية. ويحمل حقيبة تفوح منها روائح مساحيق الوجه ويسير في الساحة التي أمام محطة طوكيو. هل تلك هي اللؤلؤة التي نتجت بعد تبلورها فجأة في نهاية معاناة عصيبة وآلام منذ ربيع العام السادس عشر من العمر؟ المحصلة الإجمالية لذلك العذاب الطويل هي تلك الهيئة الصغيرة التي تشعر بالبرد. من المستحيل أن يدرك أحد من الذين يمرون بجانبي جهودي الشاقة على مدار هذين العامين. وأنا شخصيًّا أتعجب من قدرتي على الصمود حتى الآن دون موت ودون جنون، ولكن من المؤكد أن الآخرين يقولون بوجوه مقطبة الحواجب: «في النهاية بات ذلك الابن المدلل المستهتر ممثلًا.» فهذا هو قدر الفنان دائمًا.

أما من أحد ينقش على شاهد قبري الجملة التالية:

«كان إسعاد الناس أحبَّ إليه من أي شيء!»

هذا هو قدري منذ أن وُلدت. واختياري لمهنة الممثل هو من أجل ذلك فقط. آه، أريد أن أكون أفضل ممثل في اليابان! كلا، بل في العالم أجمع! ثم أُسعِد الجميع، وأُسعِد بصفة خاصة الفقراء سعادة قصوى لدرجة القشعريرة.

الجمعة ٢٩ ديسمبر

صحو. الاجتماع العامُّ لنهاية العامِ في فرقة شونجو. انتُخبت عضوًا في لجنة التخطيط. وهي لجنة ترتبط مباشرة بقيادة الفرقة التي تقرر سياسات الفرقة واختيار النصوص وغيرها من المهام. أشعر بعظمة المسئولية.

وتقرر أن يُعهد إلى كيكوماتسو بقراءة «رب الغلام» الذي سيذاع في الثاني من يناير. ويبدو أن ذلك نتيجة الاعتراف بنضالي على مدى شهرين أثناء رحلة العروض المسرحية. ولكنني حاليًّا لست مغرورًا البتة.

الأحمق الكبير فقط هو الذي يريد أن يكون ذكيًّا وحده. (فرانسوا دو لاروشفوكو)

فقط سوف أجتهد بجدية. بمنتهى البساطة من الآن سوف أتصرف بصدق. ويجب أن أقول عما لا أعرفه: لا أعرف. وأن أقول عما لا أستطيعه: لا أستطيع. يبدو أن الحياة على غير المتوقع تكون سهلة وبسيطة عندما يتخلى المرء عن التظاهر. لأبنِ بيتًا صغيرًا فوق صخرة.

من بداية العام الجديد سأذهب إلى الأستاذ سايتو، مباشرة من أول السنة. أشعر أنه سيقابلني هذه المرة.

في العام القادم سأبلغ الثامنة عشرة من عمري.

تفوح زهور متفتحة
في طريقي
ورجائي إلى الرب
أن يجعله سهلًا مُيسَّرًا.
(كتاب التراتيل: الترتيل رقم ۳۱۳)
١  الآيات من ١٦ حتى ١٨ من الإصحاح ٦ من إنجيل متى. (المترجم)
٢  جزء من الآية ٢٧ الإصحاح ١٤ من إنجيل متى. (المترجم)
٣  فيلم أمريكي اسمه الأصلي (The Charge of the Light Brigade) أي «هجوم الفرقة الخفيفة»، ولكنه عُرض في اليابان باسم «للأمام يا جنود التنين!» كعادة اليابان في تغيير أغلب أسماء الأفلام الأجنبية. (المترجم)
٤  الآية الأولى من المزمور ١٢١ من مزامير النبي داود، الكتاب المقدس، العهد القديم. (المترجم)
٥  جزء من الآية ١٩ من الإصحاح ٢٩ من سفر التثنية. (المترجم)
٦  الآية ٣٤ من الإصحاح ١٣ من إنجيل لوقا. (المترجم)
٧  الآية ٢٤ من الإصحاح ١٩ من إنجيل متى. (المترجم)
٨  جزء من الآية ٢٠ من الإصحاح ٨ من إنجيل متى. (المترجم)
٩  جزء من الآية ١٥ من الإصحاح ٩ من إنجيل متى. (المترجم)
١٠  الآيتان ٢٦ و٢٧ من الإصحاح ١١ من إنجيل يوحنا. (المترجم)
١١  جزء من الآية ١٠ من الإصحاح ٦ من إنجيل متى. (المترجم)
١٢  استعنتُ بترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي لمسرحية فاوست. (المترجم)
١٣  الآيات من ٣ حتى ٢١ من الإصحاح الرابع عشر من سفر التثنية، العهد القديم. (المترجم)
١٤  جزء من الآية العاشرة من الإصحاح التاسع من سفر الجامعة، العهد القديم. (المترجم)
١٥  جزء من الآية العاشرة من الإصحاح السادس من إنجيل متى، العهد الجديد. (المترجم)
١٦  جزء من الآية ٣٠ من الإصحاح الرابع من إنجيل مرقص. (المترجم)
١٧  جزء من الآية ٣١ من الإصحاح الرابع من إنجيل مرقص. (المترجم)
١٨  تنويع على جزء من الآية ٣٢ من الإصحاح الرابع من إنجيل مرقص. (المترجم)
١٩  الآية ١٧ من الإصحاح السادس من إنجيل متى. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤