بين التابع والمتبوع
هذا العنوان يذكِّرني قول شاعر الأمير في مطلع قصيدة له كان قالها بعد سنة ١٨٩٢ على وجه التقريب؛ وهو قوله:
لقد صدق الشاعر فيما قال، وكم جرى القريض على لسانٍ بغرضٍ ولم يردَّه الضمير، فوافق الواقع المقال؛ ثَمَّ مهجتان خفقتا معًا، وسكنتا معًا؛ فما استخف الشوق واحدتهما إلى ركوب البحر إلا أقلق الثانية حين أكرهها على الصبر، حتى إذا التقى البصر بالبصر أنشد لسان كلٍّ منهما قول ابن معمر العذري:
وكأن فترة ما بين عهد أبي الفداء وعهد فتاه سِنة من النوم، وكأن تلك الخلات تُنوسيت على مرِّ الأيام. فيا له من يومٍ أغرَّ محجَّل جلس فيه السلطان الخامس والثلاثون لاستقبال الأمير السابع من البيت العلوي، وفُتحت أبواب «يلديز» لمن ماشى ركاب الأمير من وفود المصريين، وقيل لهم: هذه جنة الدنيا أُزلفت لكم، وتلك رياضها حصباؤها الدر وترابها المسك، وتلك حياضها مترعة بصافي النمير غير آجن، ومُدت الموائد وطاف عليهم مقرَّبون يتلون عليهم بشائر من عند السلطان، وانقلبوا بعد ذلك إلى أهلهم فكهين.
ورأى بعد ذا جماعة من خلق الله أن يجعلوا بين التابع وبين المتبوع حرمة صهر، ويجددوا لُحمة نسبٍ ألهمها الله إلهامي باشا ابن المرحوم عباس باشا الأول وزوج «منيرة» سلطانة بنت السلطان الجليل عبد المجيد خان. وكاد يستدرجها الله بمدرجة النسيان، ولكن شتَّان ما بين الصهرين؛ فما كان إلهامي صاحب الأمر بمصر ولا من يُرجى ليحكمها. وقد أقام بعاصمة المُلك العثماني وبقي عضوًا بالمجلس الأعلى «مجلس والا» حتى جاور ربه في سنة ١٢٧٧ بالغًا من العمر خمسًا وعشرين سنة. أما غيره فليس كذلك؛ فهو صاحب بلد ووارث مُلك ورب حكومة لا يُودِّع سريرها ليُبدل به سرير نوم، وأميرات البيت العثماني لا يزايلن عاصمة ملكٍ هن كواكب سمائه. وإلى هذا نظر أبو الهدى وبه استمسك عند السلطان، ولو كان بينه وبين خاطب ذلك المجد ود ووحدة قصد لاحتال له في نَيل أربه ولكفاه أن يعود من الغنيمة بعد الكد بالقفل.
فلما باتت آمال المعية غير ذات نتاجٍ وكبر عليها أن ينازعها أحد الدراويش حظوة القرب من عرش الملك بعد استنجادها بمثل جمال الدين وعبد الله النديم والشيخ ظافر وغيرهم؛ وقفت النخوة العلوية بينها وبين «فروق»، ودب الجفاء بين الأب وابنه. وفي سنة ١٨٩٤ قَدِم مراد الداغستاني إلى مصر وأصدر بها «ميزانه»، كما ذكرته في أحد الفصول المتقدمة. فنزل بالمعية على الرحب والسعة، وأكرمت هي مثواه وأنزلته منزل التكريم، وكانت استخدمت رشيد بك صاحب جريدة «بصير الشرق» معاونًا بالخاصة الخديوية، فاتحد مراد ورشيد بك مع رجل بالمعية اسمه «ع» بك، وبلغت الثقة بهؤلاء الثلاثة أن باتوا أصحاب الكلمة في صرح الإمارة ودانت لهم الرقاب وعنَت لهم الوجوه، وبذا تباشر الناس وظنَّ أكثرهم خيرًا وأيقن المجاهدون في سبيل الحرية أن سيرسل الله لهم ملائكة نصره.
وإذ ضاق عبد الحميد ذرعًا باستمرار الأحرار على مطالبته بالدستور ومقاضاته إلى الرأي العام بما يكتبون من كتبهم وجرائدهم، ورأى قوميسرية الدولة بمصر لا تُبرم أمرًا ولا تنقض رأيًا وأنها شغلت عن أمورها بالصيد والقنص واقتناء الخيول ومواصلة الأسفار بين القاهرة والإسكندرية، وأنها لا تتقدم صفوف المجاهدين فيتخذها عدوَّة له ولا تُبدي له من دلائل الإخلاص ما يحمله على الثقة بها والركون إليها، وبينا يصيح الظلم من داخل الفؤاد الحميدي؛ من لهذه المعضلات يكشف غماءها ويجلو عن يقينها؟ إذا بعزت يناديه: أنا لها. والله لأنغمسنَّ لك في نجيعها وأخوضنَّ أهوالها، ولأنفذن إلى أعدائك نفوذ رمياتك إلى قلوب شهدائك، وأرسل ابن هولو إلى الإمارة المصرية أن انفضي ثيابك من غبار العار وأخلصي سِرَّك وجهرَك لسلطان البرَّين والبحرين، ودَعِي قومًا ينشدون ضالةً أفقدها سوء المصير. فما استهلت سنة ١٨٩٧ إلا استشعرت المعية بضرورة الإذعان. رأت نفسها نائية جانبًا عن رضاء عبد الحميد مستهدفةً لغضب الإنكليز، وهي كلما عوَّلت على ودِّ امرئٍ خابت آمالها فيه حتى أصبحت كما قال الطغرائي:
فاستخارت أُولي مشورتها، فبذلت ألف جنيه اشترت بها ما عند الأحرار الذين بمصر من بقايا آثار وأوراق وكتب وجرائد، وملأت بها صندوقًا كبيرًا وأنفذته مع «ع» بك إلى الآستانة. وفي تلك الأوراق نسخ من رواية «كيوم تل» باللغة التركية ابتاعتها بمائة جنيه. وأرادت المعية أن تجري حينئذٍ على مصداق المثل التركي «رمى طائرين بحجر واحد.» فأوصت رسولها بالسعي في حل المعضلة التي كانت استجدت في وقف «قواله وطشيوز» فوقف أمام «يلديز» ولسان حاله يقول:
وما لبث المعتمد أن طيَّر رسالةً برقيةً من «فروق» وقعت في «المنتزه» مبشِّرًا ونذيرًا، وعاد بعد ذلك يلتمع على صدره الوسام المجيدي الثالث، وحقَّ فيه قول القائل:
غير أن الأحرار لم يُجملوا الود ولم يحفظوا الجميل، بل انقلبوا على مدرِّ المال ومفيض النضار، وأصدروا جريدة «القانون الأساسي» بالعربية والتركية، بعد أن كانوا يصدرونها بالتركية وحدها، وأصدروا جريدة «عثمانلي» بالتركية والإنكليزية. وقد أفادتهم الألف ليرة أكبر فائدة فأكملوا أُهبتهم واتخذوا سلاحهم ونادوا الظالمين.
ونظروا إلى «يلديز» ومن يتقربون إليها وأنشدوا ساخرين:
وبُدِّل رضاء القصر الحميدي غضبًا، ونادى مناديه سيفًا ونِطعًا. وخذلت المعية أحلافها وأنصارها، وعاد الجفاء إلى سابق عهده، وكثرت الوشايات والسعايات، وبيْنا هي كذلك إذ حلَّت إحدى النقم بحاميها وموئلها عزت العابد، وكان أرسل أحد أبنائه إلى مدرسة من مدارس باريس؛ فاتهمه أحد أعدائه عند السلطان بأنه أرسل ابنه ليكون واسطة في مراسلته للأحرار. فبلغ ذلك ابن هولو، فبادر من وقته واسترجع ابنه وجعل يؤنبه على مخالطة الأحرار، وقال لن ترجع إلى باريس. ولكن الولد كان على علَق لبِّه بتلك العاصمة الفاتنة، وشجته شواطئ «السين» بجسورها العالية ومسارحها الحافلة؛ فأجاب إليها داعي الصبا وطار على أجنحة الشوق لا يلوِّي على من خلَّف وراءه من أبٍ ولا غيره، فكم من وشايةٍ يومئذٍ وكم من سعاية! لو أُدرِج ابن هولو في تلك الأوراق التي رفعها أعداؤه ليحطُّوه لكانت أكفانًا له ولمن يلوذ به، فكان كالشاعر الذي يقول:
ولقد أفلح الكاشحون وخرَّ عزت على وجهه، فلزم بيته وانقطع عن «يلديز» وانقطع أصحابه عن طروق داره. وقال أبو الهدى وأحلافه إن ابن عزت لحق بأمير مصر ولجأ إلى عابدين ورسل منها إلى القبة، فأُفرد له مكان خاص به وبات ضيفًا كريمًا بجوار مضيف كريم، فأشار على عبد الحميد جماعة من مقرَّبيه أن يُنفِذ إلى مصر جاسوسًا ممن يثق بهم ليتنسَّم له الأخبار ويُطلِع مولاه على ما يدور بعابدين من الأعمال؛ فقدم مصر ذلك الرسول المتنكر مستصحبًا معه آخرين جرَّبهم وعرف حسن بلائهم. فكان هؤلاء الشياطين يرصدون قصر الإمارة، وجاسوسها «ز…» يقتص أثَر جماعةٍ غيرهم، ويواصل أسفاره من الرحمانية إلى الغربية إلى الإسكندرية، ولا يدري ما قُدِّر له في الغيب.
ولما لاحت تباشير النُّجْح على ما دبَّره رجال عبد الحميد طلبوا المزيد، وقالوا: إذا رميت فأجهز. فاستفزُّوا جمهورًا من أهالي جزيرة «طشيوز» واستقدموهم إلى الآستانة مشتكين مما لحق بهم من الضر بقطع أشجارهم، طالبين نقلهم من الجزيرة إلى موضع يكون بمعزل عن هذا الاعتداء، فكتبوا بذا عريضة وقالوا في وقف «قواله» ما لا أحب أن أقوله الآن. فوقعت العريضة موقع القبول عند خاقان البرَّين والبحرين وطيَّب نفوسهم ووعدهم النظر في أمرهم والأخذ بناصرهم، وبقي واحد من الجمهور بالآستانة ليأتيهم بما يتجدد من الأنباء.
وقد حدثت أمور في دائرة الأميرة الجليلة الطيبة الذكر عصمت هانم بنت المرحوم الأمير طوسون باشا. وتلك الأمور هي فيما يتعلق بالأعمال الإدارية. فقضت الحاجة بسفر الجنرال أحمد جلال الدين باشا زوج الأميرة إلى مصر للنظر في مهام تلك الأمور. فظنَّ رجال «يلديز» وخُلَصاء قصر الإمارة أن سيقدم الجنرال مصر ليخاطب أحرار العثمانيين النازلين بها في العودة إلى الآستانة. ومنهم من أذاع بين الناس أن سيكون للجنرال موضع بالقوميسرية العثمانية ليرقب الغازي مختار باشا ويستطلع خفايا أعماله تخرُّصًا وتلفيقًا. فبادر «م. س» باشا وأنفذ إلى صديقه «م. ش» باشا كتابًا يستبطئ فيه أعماله ويذمُّ سكوته وسكوت قصر الإمارة ويُظهر التعجب من تغافل صاحبه عن هذه الفرصة التي سنحت لاستعادة الصفاء بين التابع والمتبوع بعدما بلغ التجافي حده، ويَعِده بالرتب العالية والهبات الجذلة. وما اتصل هذا الكتاب بيد «م. ش» باشا إلا ترك شواغله وانصرف عن همومه، واستدعى إلى داره صاحب «عثمانلي» وجعل يؤنِّبه على إصدار جريدته، ويقول له ينبغي علينا أن نتكتم عيوبنا عن أعدائنا وأن نستر على زلات رجالنا، فما لكم تنشرون من مساوئنا ما انطوى؟! أتريدون أن نفتضح عند خصومنا فنعيش مذممين على ألسنتهم منتقَصين في أعينهم؟! وعند سلطاننا لو شئتم ما يفرِّج المكروب ويحيي ميتة الآمال. فكان مخاطبه يسمعه ويتبسم ويقول: إن مع العسر يسرًا.
أما الجنرال أحمد جلال الدين باشا فلم يأذن له عبد الحميد بالسفر، وقال له: أنا أعرف أن الغازي مختار باشا حاسد لك، وأعرف أنك صَلْب في عنادك، وأخشى أن تذهب إلى مصر فيقع بينكما ما يستحدث أمورًا عظيمة، فأخِّر سفرك في عامنا هذا، وربما تدبرت لك في سبب جديد يؤدي إلى مقصودك. فلم يجد الجنرال بدًّا من الرضاء.
وروي أن ابن هولو لما كثر مغالبوه وبدت لمنازليه مقاتله عمد إلى مصاولتهم بكل حيلة يتنبه لها ذهنه، ولو كان فيها خراب الملك ودثور آثاره؛ حتى عرف ذلك الأجانب قبل العثمانيين، فقال له ذات يوم المسيو «كمبون» سفير فرنسا بالآستانة إذ ذاك: عجزت دول أوروبا عن حل المسألة الشرقية في أعوامها المديدة ويوشك أن تحلها أنت فيما دون العام! ونقل هذا الكلام ناقله إلى عبد الحميد، فحقدها عليه واستبقى الانتقام إلى زمان يهون فيه الانتقام، وكان أعداء عزت والمعية المصرية واقفين لهما بالمراصيد، فلما سافر البرنس عزيز إلى نجد أقاموا «يلديز» وأقعدوها، وبالغوا في وصف ما سيتلو ذلك من الفتن، وقالوا: هو أمر الخلافة آن لأعوانه أن يجاهروا به. ثم أظهروا القلق من ذهاب الإمارة إلى جهة العريش، وما برحوا بعبد الحميد حتى حملوه على أن يأمر بزيادة الجنود في العقبة ليكونوا على أهبة إذا عاد الأمير مجتازًا بالطور. فأيقن الحزب الهدائي أن النصر حالفهم وأن قد عُقدت رايات المجد على سيدهم. وسخَّر الله للصيادي أمرين تذرَّع بهما إلى الإثراء والإيقاع بأعدائه؛ فقصد إليه أولياء وقف «طشيوز» وكالوا له المال كيلًا، ولحقت بهم دائرة البرنس حليم طالبة مظاهرتها في قضية العلماء والسيدة نزاكت هانم قبل أن نُظرت بالمحكمة المختلطة بمصر في ١٤ فبراير سنة ١٨٩٨، ووجد خليل الله هنالك صدرًا رحيبًا ومنزلًا آهلًا، وحملت الهدايا البلورية من «كارلسباد» وكان الأمر مقضيًّا.
وبينا أبو الهدى وشيعته في غرورهم يفرحون بما حلَّ بعزت وأعوانه من خيبة وخسران إذ روَّعهم الله بالسفرة الشكيبية، فنزلت على رءوسهم نزول القضاء المبرم، فبدلوا بأنس القرب وحشة النوى، وبخفض العيش عناءه، وطارت الرسائل البرقية بين السيد الصيادي وحبيبه بمصر؛ فانتعشت أرواح عزت وحزبه وأخذت الحظوة مأخذها الأول. فأصابت الإمارة المصرية حظها وقالت: لست بتاركتك يا «يلديز» هذه المرة، واعتصمت بحبل منها لا يرث بتقادم الزمان وتقلب الحدثان. ولقد صدق المتنبي إذ قال:
ولا يطمعنَّ القارئ الكريم في بيان شيءٍ من السفرة الشكيبية؛ فتلك قصة تكفي فيها الإشارة ولا يحتمل الأدب من أمرها أكثر من الإشارة.
وقد رأى بعضهم همَّ المعية ونَصَبها في استرضاء أناس من الأحرار العثمانيين وإسكاتهم، والسعي في إرجاعهم إلى الظالمين؛ ليجزُّوا نواصيهم ويرتاحوا من صراخهم المستمر لإيقاظ الأمة، فأجمعوا بينهم على أن يدَّعوا وجود جمعية سرية بمصر تُسمى «جمعية شفق»، وأن هذه الجمعية ذات شأن عظيم، وأن لها من الأسرار ما لو كُشف عنه الغطاء لحارت فيه العقول، فطربت المعية لهذا الخبر طرب الثمل وقالت في نفسها: الآن دار فلكي سعدًا وأتاني الدهر مسالمًا. غدًا أستطلع هذه الخفايا وأبعث بها إلى «يلديز» كعبة الآمال. وما كان إلا مثل رجع الطرف وإذا على أبوابها أقوام أكلت السنة الممحلة غواربهم ومناسمهم، أقبلوا يدفع بعضهم بعضًا، فقيل لهم: هاتوا ما عندكم من الأسرار، قالوا: بل هاتوا أنتم ما عندكم من الدنانير وأسمعونا رنينها في أكفنا وأرونا لمعانها بأعيننا، فتلك المفاتيح لهذه الكنوز، فانفتحت لهم ميازيب الجو تهمي نضار خالص، وما ناب المستخبرين من «شفق» إلا احمرار بقي كالورس على وجوههم.
وقد كاد يفوتني ذكر «الماركي» المشهور الذي كان مُعْتمد إحدى الدول العظمى بمصر؛ فلقد كان مستشار الإمارة باطنًا وصديقها ظاهرًا، وثقت بوده وأخذت برأيه حتى أحدث الجفاءَ بينها وبين اللورد كرومر، وكان «الماركي» يبشِّر الإمارة بقرب خروج الإنكليز من مصر، ويعدها من لدن حكومته بالنصر التأييد، فذاع بين الناس أن هذا المستشار أشار على الإمارة بالسعي في انتحال الخلافة، مظهرًا لها مكان الدولة العثمانية من الخطر، مذكِّرًا إياها بأن الخلافة أُخِذت من مصر وأنها ستعود إلى مصر، زاعمًا أن دولة أيَّدت محمد علي الأول حتى تبوَّأ سرير الإمارة المصرية الجديرة بأن تتوج سليل مجده بتاج الخلافة، فوقعت هذه البشائر من القلب الفتيِّ وقْع القبول، ولكن عظم المطلب وقلة الأنصار ثنيا عنان الصبا. وهنالك لعبت أنامل الرقباء فجاءت الأنباء ساكن «يلديز» وفيها من الزيادات ما قدر على إيجاده أربابها، وكان من تلك الزيادات أن المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني والمرحوم عبد الله النديم المصري سبقا الناس إلى إقرار البيعة بالخلافة الجديدة للخليفة الجديد.
وليس في قُرَّاء كتابي هذا من يكون نَسِي كيف كان غضب عبد الحميد وكيف حظر على الإمارة المصرية أن تزور الآستانة، كما أنه ليس بينهم من نسي كيف ساء هذا الغضب المعية المصرية، وكيف بذلت جهد طاقتها في استرجاع الرضاء الحميدي. لو شئت أن أستقصي تلك الأعمال لرأيت هذه الصحائف أضيق من أن تسع قليلها. غير أني لست تاركًا كل ما أعلم. ولا أريد أن أخرج من هذه الدنيا كاتمًا حقًّا أنا من شهوده، وتأبى ذمتي أن يُعلن الدستور العثماني وينقرض أشياع الاستبداد، فيظهر بعد ذلك بعضهم مغالطين قائلين: الآن نلنا المراد، هذا عيدنا ويوم فوزنا، وما هو بعيدهم ولا بيوم فوزهم لو أنصفوا قليلًا.
نعم أن المعية حاربت أحرار العثمانيين وحاربت حرية الأمة العثمانية بأَسْرها. هذا أمر ينبغي أن يُسَطَّر في تاريخها؛ فهي هي التي استعانت على جماعة من شبان العثمانيين بذهبها وحاجتهم وقد قطع عنهم المدد وامتنع عليهم الرزق. فلما غلبتهم على أمرهم وجَّهتهم إلى الآستانة. وقد اتخذت ذلك عادةً لها، فصارت كلما صفا ما بينها وبين «يلديز» زادت في الاقتراح؛ فيومًا تطلب الفوز بوقف ويومًا تطلب الإنعام بقصر. وكلما تكدَّر ذلك الصفاء عمدت إلى استغواء أناس من أسرى الاغتراب ومطرودي الحظ؛ فقدمتهم على مذابح الظلم.
وإلى القراء أسماء إخوان لي عرفتهم بالآستانة وبمصر، ثم التقيت بهم في سيواس، وقد نُفوا إليها بعد أن توسطت المعية في عودتهم إلى الآستانة، وضمنت لهم ألَّا يمسهم بها سوء.
فائق أفندي الملقَّب لقِصَره ﺑ «كوجك فائق»؛ أي فائق الصغير، شوقي أفندي، صلاح الدين أفندي، فائق أفندي، خالد أفندي، توفيق أفندي. وقد أرسل مع هؤلاء مصطفى وجداني أفندي، ولكنه نُفي إلى جزيرة رودس ونُفي أيضًا ستة آخرون إلى جهات مختلفة، وهؤلاء كلهم أحياء يرزقون. أقاموا نحو العشرة أعوام فوق جبال سيواس يلاقون من مشاقِّ الاغتراب وآلام الظلم ما لا يصبر عليه غير المجاهدين. وما قيل في المعية لهم إننا مشترون ذممكم ومساوموكم في وطنكم بالمال، بل قيل لهم أنتم أنصار الحرية وجنودها المتطوعون، ونحن معجبون بما أنتم قائمون به من مناصرة الحق والذود عن الوطن، ولكن تعلمون أن مثل عملكم يحتاج مالًا كافيًا ورزقًا موصولًا، وأكفُّكم اليوم صفرٌ من المال، وإذا طال الأمر ربما كنتم عيالًا على إخوانكم الآخرين. وعندنا الرأي الصواب، أن ترجعوا إلى بلادكم وتكْفوا أنفسكم ذل الحاجة في هذه البلاد التي لا تعرفون لغة أهلها، ولا تجدون لكم فيها من الكسب ما يقوم بأمر معاشكم، ولكم علينا أن نستعطف عليكم السلطان. فإذا جاء عفوه ذهبتم إلى وطنكم وهنالك تتقاضون من الرواتب ما تجعلون بعضها إعانة لسائر إخوانكم المجاهدين. فإذا تأمَّل المُنصف في متكلم هذا الكلام ونظر إلى حال سامعيه، وفيهم أناس لم يذوقوا طعامًا منذ يومين — قد سَخِر منهم أهل مصر وقالوا: هؤلاء الصعاليك يريدون أن يُصلحوا الدولة العثمانية — عرف كيف كان اضطرار أولئك الغرباء المجاهدين إلى الرجوع، وكيف كان فوز المعية عليهم.
وقد أوفدت المعية بعد ذلك بعض أبناء «بدرخان» باشا الشهير إلى الآستانة، وكان لها مع أحدهم واسمه صالح بك حربٌ عوانٌ وشأن لا كالشئون.
وأين هذا من واقعتها مع المرحوم محمود باشا «الداماد» وولديه الأميرين الحرَّين؛ فتلك لَعَمْر الذمة إحدى الكُبَر؛ رأت عبد الحميد يجتهد في استرجاع ذلك المجاهد العظيم إلى الآستانة لينتقم منه، ويصب عليه وعلى ذويه أسواط عذابه، وكان الداماد بباريس، فخفت المعية إليه واستقدمته إلى مصر واعدةً إياه بمؤازرته وتخفيف حاجته ليواصل جهاده مكفيَّ الحاجة مطمئن الفؤاد، فخدعته ظواهر المقال، وأقبل مع ابنيه يؤمُّ منزل الكرم وينزل بساحة المجد، ثم أقام أيامًا لقي فيها من أقلام السفهاء وأحلاف الباطل ما استكَّت له مسامعه. وما راعه إلا قائل من المعية يقول له ارجع إلى الآستانة، ولك عليَّ أن أطلب لك العفو، فما بلغ هذا الكلام سمعَ الأمير صباح الدين أكبر أنجال الداماد إلا تطاير الشرر من عينيه، وقال لأبيه: إذا كنت تنوي الرجوع فأنا لا أنوي الرجوع، وخرج من عنده حنِقًا وسافر من ساعته إلى باريس مستصحبًا معه أخاه، واضطر والده الكريم أن يلحق به إلى عاصمة الحرية، وبقي يواصل فيها جهاده مع شبلَيْه حتى قبضه الله إليه.
كذا كان ما كان بين التابع والمتبوع، يختلفان فيتذرَّعان إلى الوفاق بكل ذريعة ولو ذهبت بأرواح العباد، ويتوافقان فيتبادلان الهدايا والتحف؛ وهي إمَّا قصور شُيِّدت بدماء الأمة، وإمَّا أوراق بالية مما حبَّره فحول كُتَّاب الأحرار، وإمَّا شُبَّان هجروا أوطانهم واستخلفوا للفقر والذل أهلهم وعشيرتهم في سبيل الوطن، فتخرب تلك الدور ليعمر قصران أحدهما صرح الخليفة وثانيهما بيت الإمارة.
ومالي لا أذكر في هذا الفصل ما وقع للمرحوم صالح جمال صاحب المطبعة العثمانية مع المعية من أجل مطبعته؛ فذلك مما يحلو إيثاره مع ما سبق بيانه من المكارم؛ فقد أتت المعية في سياستها تلك بأساليب من الخدع الحربية تصفر لها الأنامل؛ وجَّهت من قبلها رجلًا ليشتري المطبعة العثمانية حين جرى ما جرى بين صاحبها وجماعة من جمعية العثمانيين الأحرار فيما يرجع إلى حساب المطبعة. فما برح هذا الرجل يغالي في الثمن حتى وقف عليه البيع، فأراد أخذ المطبعة بما فيها من كتب وأوراق ودفاتر، ولما أبى ذلك رجال الحزب حجز رجل المعية على المطبعة بما فيها، وكانت المعية تريد أن تستخرج من تلك الدفاتر أسماء المشتركين في جريدة القانون الأساسي، وأن تأخذ رسائل من يراسلون الأحرار من إخوانهم المقيمين في البلاد العثمانية؛ لتبعث بذلك كله إلى عبد الحميد، فينتقم هو منهم كما يريد. وقد كبُر الأمر على أحرار العثمانيين، فأرسلوا بعضهم إلى اللورد كرومر يُعلِمونه بما هم صائرون إليه، فأخذ تلك الأوراق إلى دار الوكالة البريطانية، ولا تزال فيها إلى اليوم؛ وبذا مكَّن الله عدله، وخلُص مئاتٌ بل ألوفٌ من الأحرار كادوا يقعون في مخالب المفترس الكاسر لولا اللورد كرومر. وقد أشرت إلى هذا في أحد الفصول المتقدمة في معرض الكلام عن مُصلح مصر ونصير العثمانيين.
ولقائلٍ أن يقول: كانت السياسة تقضي إذ ذاك بمثل هذه الأمور، ولو أن المعية شاركت الأحرار في جهادهم لأدَّى ذلك إلى مسائل قد لا يصل إلى كنهها القادمون. فأقول هذا يجوز. غير أنه ليس في الناس مَن طالب المعية بشيءٍ هو فوق وسعها. ولقد كان في القدرة أن تتغاضى وتترك هؤلاء المجاهدين في جهادهم غير معترضة لهم بخيرٍ ولا بشرٍّ. فإذا عذلها عاذل من جرَّاء ذلك فالجواب هو تقول: بلادنا حرة وأنا لا قِبل لي بمخالفة النظام ولو أمكن لي منع هؤلاء لفعلت. وإذا لم يكن للمعيد بدٌّ من مطاردة الأحرار واسترضاء المستبد، فيكفيها أن تكلِّف أحد رجالها مخاطبة الأحرار ظاهرًا في الكف عن الحروب القلمية، وأن تدَع ذلك يُذكر لها في صحف الأخبار، فتسقط في مجادلتها حجة الظالمين.
ولكن أمراء الشرق إلا قليلهم، يحبُّون الاستبداد طبعًا، ولهم في ذلك فلسفة لا يُفلح في تخطئتها برهان؛ فقد لُقِّنوا منذ صباهم عقائد من قوم يُفتون بتحريم الشيء في يومهم، ثم يُفتون بتحليله في غدهم، والحال واحدة ومأخذ الحكم واحد. فأيقن هؤلاء المسيطرون المتألِّهون أن الله خلق العامة من أجل الخاصة، وخلق الرعية لتؤنِس الملوك في وجوههم؛ فكيف يطمع بعد ذا صاحب عقل أن يُدخل ذرةً من الإنصاف في تلك القلوب؟!
يسافرون إلى أوروبا أم يُؤتى لهم بأساتذة أوروبيين ليتعلموا منهم ما يتعلم أمراء أوروبا، لا يفلحون؛ سواء عليهم عُلِّموا أم لم يُعلَّموا، أُنصِفوا أم ظُلِموا. هم الملوك يجب أن يُقدَّسوا، وأن يُقرن ذكرهم إلى ذكر الله. وإذا لم يكن ذلك كذلك، فما لهؤلاء المؤرخين يذكرون لنا في كتبهم عواقب ما صار إليه الباغون. أكانت بينهم وحدة مصلحة، فتواطئوا على الكذب وافتروا إثمًا وبهتانًا على ملوك زمانهم، أم هذه زيادات تخرَّصها المتأخرون؟
وكان عبد الحميد رجلًا جاهلًا لم يتذوق لذة العلم، ولم يتحلَّ بشيءٍ من الفضل، وكان يكاد يكون أُمِّيًّا. ولقد بلغني أنه لم يتمكن من قراءة أية ورقة من غير أن يساعده عليها مساعد. ولقد زار بعض العواصم الأوروبية مع عمه عبد العزيز، فشغل بتجسس أخيه المرحوم السلطان مراد عن أن يستفيد شيئًا من آثار العلم والصناعة في تلك الأقطار. وما نشأ إلا في قصرٍ تُضاحكه الولائد في حرمه، ويسجد له المماليك لدى بابه. فإذا جلسَ جلس إليه المتفيهقون الثرثارون وعلى رءوسهم تلك العمائم التي لا أجد ما أشبِّهها به غير رءوس البصل، فيُفيضون له في وصف الحور والغلمان، وكيف تزوج بهرام جور بنات السبعة ملوك كما ذُكِر في كتاب «هفت بيكر» وما كان من قبيله. غير أن صاحبنا ليس كذلك؛ فهو أمير أدَّبه أبوه فأحسن تأديبه، وراضت شبابه مدارس الملوك، وأَخذ ما عَرَف من علومه عن أساتذة من رجال الفضل ونخبة أهل البلاد المترقية في العلم. أما لو كان عبد الحميد موزورًا فما صاحبه بمأجور.
وإني ممن لاحظتهم العناية وخطروا على باب الإمارة؛ فقد سعت للإيقاع بي وأنا بالآستانة، ووشت بي إلى عبد الحميد، فأحلَّني السجن ونفاني بعد ذلك إلى سيواس كما سيأتي ذكره في فصل خاص، فلها عليَّ حق الكرامة ولن أبرح أشدو بتلك المنن حتى يذهب ربيع الحياة.
كل هذه الإحن كادت تنطوي صحائفها ويُسدل عليها ظلام النسيان. ورأيت قومًا يُطْرون الإمارة بما لم يكن في سوابق آلائها، فقلت: يا سبحان الله! أهذا مبلغ إنصاف الناس؟ أبسمةٌ واحدة في آنٍ واحد تُنسي بكاء مئات من عباد الله طوال الليالي؟ ورسول كان جاسوسًا يصبح الآن شفيعًا ويظل قبرك يا صالح جمال مهجورًا لا يزوره زائر ولا يحييه في طريقه سائر؟ وتستقرين أيتها الأجسام الطاهرة في أجداثك المجهولة حزينة أرواحك في آخرتها كما كانت حزينة في دنياها، وتسير تلك المواكب خافقة أعلامها متسابقة بشائرها ويصف العثمانيون إجلالًا لمن حارب إخوانهم تحت رايات عبد الحميد. يا ويل تلك الضمائر، ما أصبرها على الأذى! وما أغراها بهوى النضار!
روحي أيتها الأرواح المستطارة من أقفاص الفناء إلى فضاء الأبد، لا تتحاومي على مزدحم الآمال، ارجعي إلى بارئك مستصحبة غيرك من أرواح الشهداء في خالية العصور، قولي يا رب تبكي الشيعة على شهيد كربلاء، وتبكي كل أمة على شهدائها. وهاك أهلنا باتوا غارقين في الحداد، سُرَّ قومُنا بمجد كنَّا سلالمه، وداسوا بعد ذلك قبورنا ونسوا بلادنا وأكرموا أعداءنا، فخذ بحقنا ما لنا سواك من نصير.
أخْليتما داري أيها القصران، وأخْليتما دور إخواني، وأقصيتماني سبعة أعوام طوال أتت عليَّ في ريق الشباب وزالت عني وقد بَليَ الجسم، وحكمتما على هذا الخاطر بالجمد، وقد عودته على جولات طالما أعجب بها المتأدبون، ورفعتما السدود بيني وبين آمال تخذتها ذرائع إلى مكافحة الحوادث في ذودي عن وطن أنا من أبنائه، وما رجعت إذ رجعت إلا وقد أُبدِل البيان حصرًا والشباب كبرة والبأس وهنًا والأمل يأسًا، ورأيت منكما المقال ورأيت منكما المودود، فإيهِ يا دهر يا أبا العجائب. ما أعرفك بمواضع النقص من بنيك!