أنا في حزب الأحرار
هذه هي أبياتي التي استهللت بها كتابي الذي كنت سمَّيته «مائة برهان وبرهان على ظلم عبد الحميد السلطان». أذكرها هنا لا استدلالًا بها على بلاغة معنًى أو فصاحة لفظ، فليس بها شيء من صناعة الكلام سوى الوزن والرَّويِّ، وإنما أريد أن أستعيد ذكر أيامٍ خلَت كان فيها هذا اليراع شاكيًا ولم يكن مثل يومه حاكيًا.
في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٨٩٧ دخلت إدارة المقطم وولجت مكتب الأستاذ الدكتور فارس نمر، فنظر في وجهي مليًّا يريد أن يتعرَّفني جيِّدًا، فقال: هل من حاجة فأقضيها؟ وكان يحسبني أتيت المقطم لعمل من أعمال الإدارة، فدفعت إليه مقالة عنوانها «نرجع إلى الجواسيس»، فلما وقع نظره إلى الإمضاء مد نحوي يمينه مصافحًا وقال: أهنئك بتطوعك لخدمة الوطن، وأهنِّئ الوطن بقلمك. وأسَّس الله المودة في قلبينا منذ ذلك العهد.
هذا قلمٌ أَرِنُ القوس صائب الرمية، عرفه مَن هنالك. فلأُجرينَّه حتى لا تبقى من دار الظلم لبِنةٌ على لبنة وبياضٌ على سواد، ولأسيرنَّ قوارعه شزبًا في كل قاتم الأعماق شاسع الأطراف، إلى أن يقول نصير الحميَّة لبَّيك، ونستريح وإخواننا مما نحن فيه.
على أنني لم أنل شرف الاستمرار على خدمتي، وكان خلاص الوطن على يد قوم رآهم الله أجدر مني بهذا الفخار.
أجل قد طهَّر الله حزب الأحرار من مراد الداغستاني، ولو بقي فيه لما سطرت في مناصرة الأحرار حرفًا واحدًا؛ فقد كان عبد الحميد ظالمًا، وكان مراد محتالًا، وكان عبد الحميد يحب الواشين، وكان مراد يودُّ ألَّا يكون له واشٍ غيره، فلم ترضَ نفسي أن أجتمع معه ولا على خدمة الوطن وخلاصه. هذا عناد يؤاخذني عليه كل ذي إنصاف، ولكنني لا أستطيع له إنكارًا، ولتبقى لي هذه الجناية مسطورة في سجل آثامي بهذا القلم الذي أصبح غازيًا في حرب الاستبداد.
ولقد قضت عثمانيتي أن أقف إلى جانب المجاهدين من أبناء وطني حين خفتت أصوات كثيرة، وخَيَّل لي عُجب الشباب أني أستطيع أن أنفع بلادي، فشاركت يومئذٍ الأستاذ الفاضل محمد أفندي قدري العثماني في كتابة بعض الفصول بجريدة القانون الأساسي، فساء ذلك رجال الاستبداد، ورفعت القوميسرية العثمانية تقاريرها إلى عبد الحميد حتى خُيِّل له أن ولي الدين إذا استمر على الكتابة قامت القيامة، فقصد سكرتير القوميسرية محسن بك منزل العم إبراهيم باشا يكن وطلب إليه أن يكون وسيطًا له في إسكاتي، فكان جوابي له جواب من لا يتزحزح عن موقفه، وواصلت الاجتهاد بعزمٍ أشد التهابًا وأمضى نفوذًا.
ثم جاء مصر أحد وكلاء الدعاوى، وخاطب في أمري كثيرًا من الناس، فمنهم من تخلَّى عن مشاركته ومنهم من أراد مشاركته، ولكن غيرَ واثق بالنجاح. فقابلني ذات يوم رجل من رجال الصحافة وقال لي: أرجوك أن تغدو عليَّ غدًا في داري؛ فإن عندي رجاءً إليك أريد أن أحمِّلك قبوله، ولكن لا بدَّ من التكلم معك كلامًا طويلًا حتى تعرف حقائقه. ولما كان الغد ذهبت في الميعاد المضروب إلى دار ذلك الداعي. فإذا هو يتطلب المقدمات لمحادثتي في الأمر الذي دعاني من أجله، فتعرفت ذلك في وجهه، فقلت له هاتِ ما عندك موجزًا فإن وقتي لأضيق من أن أضيِّقه فيما لا يُجدي، قال: جاءني منذ يومين صديقي فلان؛ وهو من وكلاء الدعاوى بالآستانة. وقد أسلمني مقالة شديدة الطعن يزيف بها أقوالك في ذم السلطان ورجاله، وفيها من الأدلة على بطلان دعاواك ما لا يُدحض، وطلب مني نشر المقالة في جريدتي، وأنا استمهلته إلى أن أراك وأخاطبك في ترك الخصام وأدعوك إلى الهدون. فما رأيك في ذلك؟
قلت: إني ليحزنني أن تؤخِّر نشر مقالة ربما كانت لك من ورائها منافع. هذا وينبغي لرجال الصحف ألَّا يُحابوا فيما يظنُّون أنه الحق. وأنا أقرأ ما تكتبه. فإذا رأيتك مصيبًا فيه اعترفت لك بالحق ورجعت عما يتبين لي أنه باطل. وإذا رأيتك مخطئًا رددت عليك قولك أو تركتك وإيَّاه جانبًا وآثرت السكوت. وليس من الإنصاف أن تهمل نشر مقالة تعرف أنها ناطقة بالصواب وتدع صاحبها ينتظرها بغير طائل.
قال: أنا لم أخدع صاحب المقالة، وكما أنك صديقي هو أيضًا صديقي، ولكني أردت أن أقرِّب بينكما وأن أجعل اتفاقكما بالحجة.
قلت: ما لي وله؟! كلٌّ يعمل على شاكلته. وإذا كان صاحبك يرى عبد الحميد بريئًا مما يوصم به فليبقَ كذلك، لعل له عذرًا ونحن نلوم، ألا ترى أنني أقمت زمنًا أدافع دون عبد الحميد، ولم يرجعني عن الإخلاص له جدال ولا دليل إلا ما رأيته بعيني وجرَّبته بنفسي. وعسى أن تُعلم الأيام صاحبك من مثالب سلطانه ما يقلل أنفته ويكسر من عزمه، ثم هممت أريد الانصراف، فأمسك مخاطبي بذراعي قائلًا تمهَّل ريثما نتفق معك على أمر.
قلت: أراك غير تاركي يومنا، فماذا تريد؟ دعِ الإشارات وهات ما عندك من الأمر الصُّرَاح.
قال: أما وقد أبيت إلا البيان، فهاك ما عندي. يريدون أن يُرجعوك إلى الآستانة كما فعلوا بمراد وغيره. وهذه فرصة لا يضيِّعها عاقل. وقد علمت أن مرادًا مقيم هناك بحالٍ يحسده عليها السعداء. ومن يمنعك إذا أنت أحرزت هنالك جاهًا منيعًا أن تنصر الحق وتنفع إخوانك وبلادك؟ ولا أكتمك أن السلطان ملَّ الاشتغال بأمر الأحرار أو كاد. فإذا هو أهمل يومًا أمرهم وأرسل حبل كلٍّ على غاربه، ومحا الله آية ظهورهم، أخاف عليك أن تُحشر يومئذٍ في زمرتهم وتلاقي من الأهوان ما يلاقون. وما لي ولهذه الأحاديث في غير جدوى، أنا ضمنت للرجل بمالي عليك من الدالة أن ألاقيك به. فهل أنت واعدي بذلك؟ فما دون الزيارة شيء لو أجبت إليها. تعالَ غدًا ولنذهب إليه معًا.
قلت: لا ضير. وفارقته على أن أعود إليه في الغد، فلما آن موعد اللقاء جئت داره فإذا هو في انتظاري، فحملني في عربته وانتهينا إلى منزلٍ رحيب بجوار البنك العثماني في القاهرة، فاستقبلتنا سيدة علمت بعد ذلك أنها حليلة غريمي، فجلسنا إليها وأقبلت علينا تحادثنا فإذا هي شرقية مقيمة على شرقيتها في كل أطوارها، مع أدبٍ غضٍّ وعقلٍ راجح. وبينا نحن كذلك إذ وافانا الغريم، فرأيته قد تبادل مع صاحبي نظرتين فاجأهما مني لحظ شاعر يرمي الأغراض طائرة فيصيبها، وتم بيننا التعارف. ثم أراد أن يبدأني باللوم على ما جرى به قلمي، ولكنه وقف غير متقدم في شوطه، وأيقن أن مثله لا يجادل مثلي، فاختار الصراحة غير تاركٍ مكره وقال: سمعت عن ولي الدين من أصحابه أنه يَجلُّ عن أن يُتَّهم في ذمته، وأنه لا يُقاس بغيره ممن كشفت الأيام عن مكنونات ضمائرهم. وقد رأيت في مقالاته ما يؤيد قولهم، ولكنني مولع بمناظرة الفضلاء، وأرى أنه لو دخل في خدمة الحكومة العثمانية وصدق في خدمتها كما تقضي به عثمانيته أتى بلاده بالخير الجزيل. أجل يا ولي الدين، إن الحكومة العثمانية في حاجة إلى إصلاح ما بها؛ فقد أُشكلت أمورها واشتدت خطوبها وعظُمت بلاياها، وما دواؤها إلا من كان مثلك ممن لا يخشى في الحق لومة لائم.
قلت: إن بلادًا تبيت في حاجةٍ إلى مثلي لجديرة بالرثاء، وما قدْري أنا بين الرجال حتى أُصلح مُلكًا كبيرًا أُريد فساده من يوم خَلقه.
قال: أنت لا تستطيع أن تصنع وحدك شيئًا، والجنرال أحمد جلال الدين باشا لم يسعَ في استرجاع الأحرار إلا لأمرين؛ أولهما: وعد السلطان له بإعلان الدستور بعد رجوعهم. ثانيهما: جعلهم في وظائف يساعدون بها إخوانهم على ذلك. ولست وحدك فتستعظم الخدمة، بل هناك آخرون ولَّوهم أمورًا لا يقدر على تدبيرها غيرهم. ونحن لا نختار للوطن إلا من نثق بمضاء عزيمته وصدق نيته، ولو لم أكن سألت عنك الثقات من أصحابي وأتبعتك نظري على غير علمٍ منك حتى وقفت على جليَّة أمرك لما سعيت في التوصل إلى محادثتك. ولك الرأي في القبول وفي الرد، ثم اعلم أنه جاءني أناس ممن يدَّعون الانتصار للحرية، وطالبوني بالاتفاق معهم على إسكاتهم وساوموني ذممهم، فكان حظهم مني الإغضاء عنهم. ولقد بلغت الجرأة من بعضهم أن توعَّدوني بذمي في جرائدهم إذا أنا لم أُجبهم إلى مطالبهم، فلم ينالوا مني سوى الخذلان.
قلت: أفارقك الآن وأعود إلى بيتي فأتدبَّر الأمر وأتبيَّن دقائقه، ولي من أثق بآرائهم ولا أستغني عن مشورتهم، وأنا من أنصار الشورى، فلا يجوز لي إهمالها في أموري بعدما قضيت بوجوبها في أمور الناس. ولا ألبث أن آتيك بما يقرُّ عليه رأيي، ثم ودَّعته وانصرفت مع صاحبي وفارقته هو أيضًا وعُدت إلى بيتي.
هذه الذكرى تبعث الشجون وتقف بالمرء موقف الشك حتى في ذاته؛ فوالله ما أدري أتعجيل مغنم أم حب وطني استخفني! ظللت ليلتي مفكِّرًا أطالع صحائف الماضي من تاريخ حياتي، فإذا بالأربع وعشرين سنة من أيام عمري إذ ذاك لا تفي باستنتاج عبرة ولا بمعرفة صواب. شبابٌ منشؤه الشرق ومجاله الشرق، وأيامٌ خلت بين الدفاتر والأقلام في تصوير خيالات لا حقيقة وراءها، ومكتسب نزر من العلوم يكاد لا يُعد شيئًا. أريد ولكنني لا أدري ما أريد ولا كيف أريد. قلت أظل أخدم الحرية حتى ينصر الله جيشها وتخفق على بلادي رايتها، ولكن الرجل أخبرني أن خدمتي تؤخر حصولها، وأن السلطان لا يضن بها إذا اختار السكوت طالِبوها. قلت أذهب إلى الآستانة وأقيم فيها على مناصرة إخواني المجاهدين وأعمل على خير وطني، فلم يعدني الشك وقلت من لي بمن يضمن لي صحة ذلك. ثم مَن هذا الرجل الذي سخَّره الله لي ليقف في وجهي ويقيِّد يميني حتى لا تخطَّ في سبيل الحق حرفًا، ويكمَّ فمي فلا ينطق في نصرة الحرية كلمة، وما له عليَّ من سلطان، وأنا في مأمن من كيده إذا شاء أن يكيدني! وهل هو صادق فيما يخاطبني به؟ أم يريد أن يسرق مني فؤادي؟ ولقد نظرت إلى صور من جاهدوا في سبيل الحرية وهي مُعلَّقة أمامي على الحائط، وفيها أبو الأحرار وحاميهم مصطفى فاضل العظيم، وشاعر الوطن وشهيد هواه نامق كمال، فخُيِّل لي أنهما يرميان إليَّ بألحاظ ملؤها عتاب، كأنهما يريدان أن يقولا لي أكذا حبك لبلادك؟ أنت لا أقال الله عزتك جندي خائن؛ اعتقلت سلاحك وبرزت في ميدان الحفاظ، ولما رأيت التماع النضار بأيدي الأعداء مِلت إليهم وتركت من وراءك من أعوان نجدتك وإخوان غزوتك غير متلفت نحوهم، ألهذا رجوناكم يا أعقاب السوء وعُبَّاد المال وحُثالة رجال البأس؟! فأقف صامتًا واجمًا لا أدري ما أجيبهما به. غير أني قلت ليس بيني وبين الجماعة إلى الساعة أمر مبرم فأوخذ به، وأنا لو شئت لأنلتهم من بغيتهم طول الحسرة عليها، وعقدت العزم على أن أخاطب من أثق برأيه وأعرف بُعد نظره.
ولما كان الغد بكرت نحو مستشاري، فأطلعته على قصتي من أوَّلها إلى آخرها وقلت له: الآن لك حكمك.
قال: يا ولي الدين، سافر على حب الله، ومن أحب الوطن أحب الموت في سبيله. فإذا صدق القوم في وعدهم وأقرَّ عبد الحميد الدستور، فحسبكم أن تكونوا يومئذٍ غارسي أعواده ومُجتني ثمراته، وإن نابكم من خطبه ما عساه يكون أضمره فتلك سبيلٌ إنْ منكم إلا واردها، وإنه ليسلِّيكم أنكم ذاهبون في خلاص الوطن. ثم اعلم أن الجنرال جلال الدين لا يُقاس بغيره من المقرَّبين، أولئك يبيعون أولادهم إبقاءً على حظوتهم، والجنرال لا يدخل في مأزق يشك في الخروج منه؛ وهو إذا استشعر تحت الأمر بشرٍّ يؤثر الموت على أن يعيش متَّهمًا في ذمته.
قلت: غدًا يذيع بعض المفسدين بين الناس أني سافرت إلى الآستانة طلبًا للمال، وأني بعت وطني بيعًا.
قال: دع الناس وما يقولون، ما سلِم من ألسنتهم أحدٌ قبلك فتَسْلمَ أنت، أنت في شأنك وانفع وطنك إذا استطعت له نفعًا؛ فإن كان في الناس من يعرفك حق المعرفة فقد كفيت عنده شر الملامة، وإن كان فيهم من لا يعرفك فبينك وبينه الأيام. أنت رجل بغير نصير، ولو كان لك حزب يتحدث بصنائعك ويُبلغك بالمدح عنان السماء لاستقام في عليائه جدُّك وأقبلت دولتك، وبينا نحن نتحادث إذا بخادم مستشاري الجليل يستأذن لغريمي، فأذِن له، فدخل علينا مسلِّمًا، وأطلعه مستشاري على ما خاطبني به، ولم نلبث أن تم بيننا التراضي على سفري.
ولقد رأيت كثيرًا من رجال الحرية وأنصارها الذين لبَّوا دعوة عبد الحميد وتسابقوا إليه يرجون ثوابه، يحاولون اليوم إنكار ما كان من عودتهم ليقول الناس إنهم كانوا معذورين، ومنهم من يقول أنا كنت آخر الراجعين، ومنهم من يقول أنا لم أرجع، وكل هذا تضليل وبهتان، بلى هو أعظم من التضليل والبهتان. ويا خجلة المرء عند نفسه أن يكون منافقًا وأن يكون جبانًا، ووالله ما أدري ماذا يرجون وماذا يتقون؛ فإن كانوا يرجُون أن يُجازوا بالوظائف العالية، وأن يسير خلفهم العامة هاتفين: ليحيَ أبطال العثمانية، ليحيَ حماة الدستور؛ فهذا فخرٌ ابتذل حجابه وبات جديده خَلَقًا. وإن كانوا يتقون ما ينزل بالخونة والجواسيس من العقاب، وعلموا أنهم هم الخونة والجواسيس، فتعسًا لهم إن جمعوا الخوف إلى اللؤم، وفي خَلَّة منهما ما يُغني عن أختها، لعمري لنعم المناط للعدل عقدة حبل تقضي بها للعدل حقه، وأنا امرؤ رجعت إلى الآستانة رجوعًا ليس فيه ما يُخجل الحر؛ ومن أجل هذا أقول غير مستشعرٍ خوفًا ولا آملٍ نفعًا: لوطني مني حياتي وكل ما كان دونها على أن أعيش عثمانيًّا وأموت عثمانيًّا.
ولنرجع إلى ما كنَّا بصدده: كتب غريمي إلى الجنرال أحمد جلال الدين يخبره بما كان من رضائي، فجاءه الجواب بسفري مع والدتي وأخي يوسف حمدي يكن، فسافر غريمي معنا إلى الإسكندرية وفيها نزلنا بنزل «أبات». ولقد رأيت على باب النزل فخري باشا ومحمود شكري باشا. أما الأول فلم يكن يعرفني إلا اسمًا، وأمَّا الثاني فكان يعرفني جيِّدًا، ولكنه لم يكن محبًّا لي بعد ما جرى بيني وبين المعية. فأشار غريمي إلى الأميرين بيده واضطرني إلى السلام عليهما، فحيياني أجمل تحية وانصرفت. وقد قال محمود شكري باشا لغريمي: أما وقد أخذت هذا، فهات المدافع وارمِ بها أي «قصرٍ» شئت.
ولما استقرَّت قدمي على ظهر الباخرة المُسماة «توفيق رباني»، وأقلعت بنا تؤم «فروقًا» بين آذيِّ البحر وزَبده، وأخذت يد الفضاء ويد الماء تنطبقان على البر، جرت على لساني هذه الأبيات التي أذكرها هنا لإشارات فيها لا تخفى على اللبيب. قلت:
كذلك انقضى ذياك العهد، وانطلقت بنا السابحة الهوجاء في وخدها وخببها صافرةً زافرة، حتى إذا كان أصيل اليوم الخامس بعد الرحيل ارتفع لنا دخان علمنا أنه الأرض، ثم تعاقبت البيوت البيض بين الأشجار الخضر فإذا نحن بمدخل الخليج.
سلامٌ عليك أيها الوطن، يا مأملي وجنَّتي، يا أيها البلد الذي لم تُغيِّبك عن روحي مرامي النوى، ولم تتغلب على تذكُّري إياك ملاهي الصبا، تفقَّدك ناظراي في محاسن الأشياء، فإذا بك تتمثل في أشدِّها علاقة بالنفس، وتطلبك خاطري في معاني الكمال، فإذا أنت ديوانها المرتب، سمعت سويجع الأثلاث على مطلولة العذبات، فغلبتني الغيرة عليك ووددت لو مزجك الله بروحي مزجًا، الآن أحسُّ بالعجز عن إيفائك من الوصف حقك. لو كان كتابي كتاب رواية أو أدب لأطلت الكلام بما أقضي به بعض ما يجب عليَّ نحوك، ولكن هل ذلك نافعي في هواك، وبي من الشوق إليك ما لو كان بالبحر لغيض ماؤه، وبالأرض لسالت شِعابها.
مُقامي بالآستانة في جمعية الرسومات (الكمارك)
خرجت في الفصل المتقدم عن أسلوب المؤرخ إلى أسلوب الشاعر. ما حيلتي! هاجت فؤادي ذكرى أيام مضت، وللطرب مقادير كما للأسف مقادير، وحسبي ما تقدم، قد اتَّأدت، وللقارئ الكريم من سجية العفو ما يستطرد قلمي على قرطاسي.
أنا وُلدت بالآستانة، وخرجت منها في نحو الثالثة من عمري، ثم زرتها ما بين سنة ١٨٩٥ وسنة ١٨٩٦، فأقمت بها حولًا كاملًا، وانثنيت إلى مصر كما أشرت إلى ذلك في أحد الفصول التي مرَّت، وبقيت بمصر نحو الثمانية أشهر وأُخذت إلى الآستانة، فكانت هذه هي المرة الثالثة التي قُدِّر لي أن أنشقَ ريَّا تلك الربا وأعلَّ صافي مياهها. وقد صدرت الإرادة الحميدية بجعلي عضوًا بجمعية أمانة الرسومات (مجلس إدارة الجمارك).
فدخل بي في قاعة رحبة تدور بجوانبها مكتبة واحدة مصنوعة من الخشب، سوداء اللون، مكسوٌّ أعلاها بالجوخ الأحمر، وتدور معها من جانب دون جانب كراسي مصفوفة مكسوة أيضًا بالجوخ الأحمر. تلك مقاعد الأعضاء، وفي صدر المكان مما يلي الجهة اليسرى من مدخل القاعة مكان الرئيس الأول وإلى يمينه مكان الرئيس الثاني واسم كليهما رضا بك. وفي المكان مكتبة صغيرة أمامها كرسي؛ ذاك مكان كاتب الجمعية يجلس فيه ويتلو على الأعضاء ما يجب أن ينظروا فيه من المضبطات وغيرها.
فلما قدمت إلى الرئيس الأول أو رضا الأول رحب بي قليلًا، وأكرمني بسيجارة لم يمهلني إلى استكمالها، وأشار بيده إلى المكان الذي خُصص لي (بعد أن علم أني من أصحاب الرتبة الثانية من الصنف الثاني!) فكان مكاني قريبًا من باب القاعة من الجهة الواقعة على يمين الداخل. فما استقرَّ بي الجلوس إلا وارتفعت أيدي الأعضاء مشيرة بالتحية، فأجبتهم بمثلها أو أحسن منها وظللت مكاني لا أدري ما سيكون من أمري. ولم ألبث أن جيء لي بقهوة يمانية في فنجان مُذهب كبير كأنه الدلو، فجعلت أعب فيها عبًّا ولا أمصها مصًّا. وإني لأجيل طرفي يمنة ويسرة لأرى ما يصنع أولئك الأعضاء رجال الدولة الذين شرفني الله بأن حشرني في زمرتهم، فرأيت بعضهم يقرءون أوراقًا متراكمةً أمامهم، ثم يجعلون تحتها تواقيعهم، ورأيت بعضهم يوقِّعون على الأوراق من غير أن يقرءوها، ورأيت بعضهم يتسارُّون ويتغامزون، ورأيت بعضهم يتسللون إلى خارج القاعة إلى حيث لا أدري ما يصنعون، ثم يرجعون. كل هذا وأنا فارغ اليد من العمل، جالس كالصنم غير المعبود، فعراني السأم وكاد يتغشَّاني الكرى. وقد استطال لُبْثِي كأني مجذوم بين صِحاح.
فتقدَّم نحوي الرئيس وأشار إليَّ أن اتبعني، فتبعته إلى حجرة معاون أمين الرسومات. وأمين الرسومات بمنزلة الناظر والرسومات أمانة أي «مصلحة». والأمين رجل ممن أحرزوا رتبة الوزارة اسمه نظيف باشا، كان ناظر المالية. والمعاون رجل اسمه محمد علي بك، ممن نالوا رتبة البالا (تأتي دون الوزارة)، وكانت كلمة المعاون أسرع أثرًا وأمره أمضى نفوذًا؛ لأنه كان متزوِّجًا أخت امرأة الباشكاتب تحسين. فدخل رئيس الجمعية حجرة المعاون ودخلت أنا على إثره، فرأيت مكانًا ضيِّقًا في صدره مكتبة أمامها كرسي عليه رجل عظيم الجثة ذو لحية أوروبية سوداء إلى اصفرار، كبير العينين وسيم الوجه؛ فقدمني إليه الرئيس، وبعد ذلك سأله عما يجب في أمر تحليفي.
فقال المعاون: لا بدَّ من انتظار الأمين، وسيحضر غدًا. فخرجنا من عنده، ولما كان الغد دُعِيت إلى حجرة الأمين، فرأيت فيها الرئيس ومكتوبجي الأمانة (السكرتير) والمعاون وكاتب الجمعية، يتوسطهم الأمين؛ وهو رجل طويل القامة، أسمر اللون، يحسبه من يراه أول مرة أحد كُتَّاب بيت المال، له لحية كالرغوة، ووجه كالصكِّ العتيق، فسألني الكاتب إن كنت توضَّأت، فقلت: لا، قال لا بدَّ من الوضوء. قلت: لا أعرف كيف يتوضأ الناس. فنظر في وجهي باهتًا وسكت، فأقسمت للجماعة يمينًا وهذا مضمونها: «أقسم بالله لأكوننَّ صادقًا للحضرة السلطانية والدولة العليَّة ولا أنحرفنَّ عن الأمانة في جباية أموال الدولة.» نطقت بهذه الكلمات واضعًا يمناي على المصحف، فلما انتهت اليمين هنَّأني الحاضرون وعُدت مع الرئيس إلى قاعة الجمعية.
فما استقرَّ بي الجلوس إلا جاءني الكاتب بأوراق بعضها فوق بعض فتركها أمامي. قلت في نفسي: هنا يزلُّ قدمك يا ولي الدين، أين أنت من أعمال الكمارك، وهل هذه مثل أبياتك وفصولك، تنقش به طروسك وتتلوها على مستمعيك! فمددت يميني وأخذت ورقة من تلك الأوراق، فوالله لَلغة اليابان أو اللغة الهيروغليفية أقرب إليَّ منها فهمًا، لم أجد إلا أرقامًا بإزائها كلمات ومصطلحات لا علم لي بواحدة منها، فتركت هذه الورقة جانبًا وأخذت أخرى غيرها، لعلِّي أجد فيها شيئًا يصل إليه فهمي. فإذا هي أسوأ حالًا وأحكم عقدة، فظللت حائرًا لا أدري ما أصنع. وقد اشتد ما بي، فبقيت أتناول ورقة وأطرح ورقة كأني في حانوت ورَّاق، وأنا كلما أوغلت في الاختيار زدت عجزًا عن الفهم، فرجعت إلى التي أخذتها أوَّلًا، فوقَّعت عليها ثم أتبعتها بغيرها، ولم أزل حتى أتيت على الجميع، وكان الرئيس يلحظني شذرًا ويُعجب بي ظنًّا منه أني أفهم هذه الأشياء. فلما آن أوان الانصراف دنا مني قائلًا أكثر الله من أمثالك، ضقت والله ذرعًا بهؤلاء الذين تراهم على مقاعدهم فليس فيهم من يدري ماذا يعمل، وما للجمعية منهم إلا هذا الغرور الذي تراه. وقد رأيتُك تتأمل الأوراق تأمُّل من لا يدع لفكره شبهة في عمله، وإني لأرجو أن تكون نافعًا لنا.
قلت في نفسي بعدما شكرته: اللهم هذا ثناء باطل وعبدك هذا مخطئ، وأنا أبعد الناس عن معرفة ما دُعيت له، ولكنني سأجهد النفس في معرفة ما أجهله، ولو كلَّفني ذلك أشد النَّصَب.
فخرجت ولم أنتظر خروج الرئيس، فمشى أمامي الحُجَّاب يوسعون لي الطريق وأنا أحيِّي من يقفون لي إجلالًا، وأناجي الله في ضميري أن يهبَ أصحاب المقطم من الضعف ما وهبني ليؤخذوا إلى الآستانة ويكونوا أعضاء بالمجلس العلمي في باب مشيخة الإسلام، وأن يكون سليم سركيس وكيلًا لأمين الفتوى.
ثم مرَّت الأيام وأنا لا أنقطع عن مكان وظيفتي، باذلًا قُصارى الهمة في تعوُّد أمورها والمعرفة بأساليبها، فكنت أسمع بأسماء بعض الأعضاء ولا أراهم. أولئك أبناء المقربين والمحتمون بجاههم. كانوا يتقاضون رواتبهم غير مكلِّفين أنفسهم تعب الحضور إلى مقر وظائفهم لأخذها، بل كانوا يرسلون من قِبلهم أناسًا يأخذونها لهم.
ولقد تعارفت في جمعية الرسومات ببعض أعضائها معارفة لم تزد على المحادثة في حجرة «الاستراحة» وتعاطي السلام، وبقي آخرون لم أرَ وجوههم، وإني لأجهل إلى اليوم أسماءهم؛ فقد كنَّا نحو الثمانية والأربعين عضوًا، ما كان يحضر منهم إلى وظيفته غير العشرين. فممن عرفتهم من أعضاء الجمعية رفعت بك؛ هو حفيد فؤاد باشا الشهير الذي تُوفِّي في فرنسا، كان فرَّ إلى أوروبا ثم استرجعه السلطان حيث استرجع مراد بك. هو رجل حسن المحاضرة طيب الطباع، ولكنه كان مولعًا بشاربيه أكثر من ولعه بأعماله؛ فما جالسته يومًا إلا رأيته يبرمهما ويرفع طرفيهما تشبُّهًا بإمبراطور ألمانيا. ومنهم راسخ بك؛ وهو ابن المرحوم عابدين باشا الشهير الذي كان واليًا على جزائر الأرخبيل، وذهب إلى «يلديز» طالبًا الإذن في البقاء بالآستانة وجعله صدرًا أعظم، فسقَوه قهوة ما استقرت في جوفه ساعة حتى قضى نحبه في القصر وأُخرِج إلى بيته ميِّتًا. وراسخ بك هذا شابٌّ مهذَّبُ الأخلاق طاهر السريرة، عرفته قبل دخولي الجمعية. غير أني لا أجد بدًّا من الاعتراف بأنه كان من المتناهين في الكبر والغرور، ولا أنسى قوله لي يومًا وقد جلس قبلها إلى جانبي ثلاث مرات من غير أن يكلِّمني كلمة واحدة: كيف حالك يا سيدي ألبك؟ وقولي له: كما تراني منذ ثلاثة أيام، لم أتغير فيها أبدًا، فلم يُحِر جوابًا واختار الصمت.
ومن رفاقي بالجمعية حكمت بك، غير الذي تقدم ذكره. وقد نُفي إلى سيواس بعد نفيي إليها، فصار رفيقي في منفاي أيضًا. هذا رجل أحبه كثيرًا، وأنا أواخذه على خَلَّات وددت لو نزَّهه الله عنها، رأيته يحسد بعض أصحابنا، ورأيته يتزلف فنهيته فأنكر عليَّ ذلك، وكان يحبُّ «الدوندرمه» كثيرًا، أبصرته ذات يومًا أكل منها ستة أطباق متتابعة، وكنت حين أمازحه بسيواس أذكِّره بذلك فتقوم بيننا القيامة. ومنهم رفعت بك؛ وهو من أسرة كردية لها مكانة بين الأكراد، نِعْم الرجل هو لولا تنسكه وتورعه، كنت أرتاح إلى محادثته لولا ما يدخل فيها من أحاديث العبادة والتقوى حتى لتكاد روحي تُزهق ضجرة، ومنهم علي ساجد بك، وهو من أحرار العثمانيين، شديد المضاء في حريته، يكاد يكون كاتبًا مجيدًا، بلده إزمير، سافر منها إلى الآستانة طالبًا امتياز جريدة يُصدرها بإزمير، فوشى به بعض الجواسيس إلى السلطان وقالوا يريد أن يُنشئ هذه الجريدة ليبثَّ فيها الأفكار الحرة شيئًا فشيئًا، فرأى عبد الحميد أن يجعله عضوًا بجمعية الرسومات ووعده براتب قدره عشرون جنيهًا في الشهر، ثم لم يخصصوا له سوى نصفها، ووعده الصدر الأعظم إذ ذاك وهو خليل رفعت باشا بأن سيُزاد له باقي راتبه بعد زمان قليل، فأخذ علي ساجد يكتب له الكتاب وراء الكتاب يُذكِّره بوعده، متوعِّدًا إيَّاه بالخروج من الآستانة، ثم هبَّت عليه نفحة من نفحات الشباب، فأرسل إلى الصدر الأعظم رسالة برقية قال له فيها: كنت أرجو أن تعرف قيمة وعد العظيم ولكنك حمار، فأُخذ من الجمعية وأُرسِل إلى قسطموني منفيًّا، وبقي هنالك إلى أن أُعلِن الدستور. ولله ما كابد هذا الشاب من الظلم وما ذاق من مضض العيش على عهد والي قسطموني المستبد خائن الوطن، وعدو أبناء آدم أنيس باشا. تلك مصائب لا أعادها الله ولا أعاد أيَّامها، وكان علي ساجد يألف معاهد اللهو وينقطع إلى لذاته، فلم يعجبني منه سوى إقدامه على المخاوف وجرأته على الظالمين.
أما رفاقي الذين لم أرهم على مقاعد وظائفهم ولا مرة واحدة، فمنهم حسن خالد الصيادي الرفاعي القرشي الهاشمي العدناني الحلبي؛ وهو ابن أبي الهدى، وسبق الكلام عليه، ومنهم أنجا زاده عبد الغني الطرابلسي، كان صفيَّ أبي الهدى ثم تهاجرا، فلجأ عبد الغني إلى عزت العابد وباح له من أسرار الشيخ بما لا تستقيم له هذه السطور، واضطر بعد ذا إلى مصالحة أستاذه وطلب الإذن له بالذهاب إلى الحج، فأذِن له السيد ودسَّ له من رماه برصاصة ذهبت بحياته، ومنهم كيلاني زاده، باشا، أصابه من لؤم الصيادي ما كاد يقضي على حياته، وغير هؤلاء كثيرون نسيت أسماءهم ولا أذكر منها اليوم واحدًا.
هكذا ذهبت أيامي بجمعية الرسومات، تأتي الأوراق مكتبتي فتستقر عليها ما شاء الله ثم تنتقل إلى غيري، وليس لها مني سوى التوقيع.
ويا شدَّ ما كنت أضحك إذ يجس أحد الأعضاء الزر الكهربائي الكائن أمامه، فيسرع إليه الحاجب في ثيابه المخملة ويقف أمامه مكتِّفًا يديه منتظرًا إشارته، فيرفع العضو عند ذلك رأسه قائلًا: هات قدحًا من الشاي أو هات طبقًا من «الدوندرمه»، فأقول: قاتلكم الله وأنا معكم، يا عيال الحكومة وطُفَيليِّتها، وملوك المقاعد وعبيد الرواتب. لو أنصف الدهر لنال هؤلاء الحُجَّاب مكانكم ولأصبحتم أنتم مكانهم؛ فهم أصدق منكم خدمةً وأنفع سعيًا. آه يا عبد الحميد، ما أبصرك بقلوب رعيتك! أخذت أنت ما لا تملك ووهبت من لا يستحق، وجعلت خزائن مُلكك نهبًا مقسَّمًا بينك وبين أولي المطامع.
لم أشكُ تأخر راتب ولا طولَ كدٍّ. غير أن الذمة وقفت بيني وبين ذاك الخفض الذي كنت فيه، رأيتني أُنقَد المال وليس لي فيه حق، يُحبس القروي ويُضرب لكل قرش من قروشه وأنا قاعد على الكرسي الفخيم يسير الحُجَّاب بين يديَّ ليوسِّعوا لي الطريق. تلك لعمر الله سرقة سيعاقبني فؤادي عليها ولو عفا الله عنها.
فقلت: أبعِدْ بذلك المال وأبعِدْ بتلك المقاعد! وكتبت إلى السلطان رسالة برقية أسأله فيها نقلي إلى وظيفة أُحسن القيام بمهامها، فرأى أن ينقلني عضوًا إلى المجلس الأعلى بنظارة المعارف مع زيادة راتبي زيادة تبلغ حد الكفاية، فصدرت الإرادة السلطانية بذلك، فأسرعت إلى جمعية الرسومات وودَّعت من استطعت أن أراه من رفاقي وداع من لا يرجو التلاقي أبد الدهور، وخرجت أُيمِّم نظارة المعارف، وأنا لا أدري أفيها أحد يعرفني أم ليس لي فيها أحد، فدخلتها خائفًا متردِّدًا كمن يلج غاباتٍ لا يدري ما وراءها.
أنا بنظارة المعارف
قلت أرى أن أذهب إلى «المحاسبه جي»؛ وهو بمنزلة مدير الحسابات في الحكومة المصرية، فأرسلت إليه بطاقتي مع الحاجب، فبادر إلى استدعائي لعنده، فلما توسطت حجرته نهض واقفًا وتقدم نحوي خطوات، ومدَّ إليَّ يمينه محيِّيًا. وهذا المحاسبه جي رجل اسمه شكري بك الحسيني، ينْمَى إلى بيت من بيوتات الحسب في المقدس، قدِم الآستانة فصاهر أحد الباشاوات المعروفين، وبذا نال من الترقي ما جعله بالمكان الذي رأيته فيه، فلما جلست إليه أقبل عليَّ يُحادثني، فأخبرني أن زهدي باشا ناظر المعارف لم يحضر، وسألني الانتظار إلى وقت حضوره ليدخل بي إليه ويُعرِّفني به. قلت: ما في الانتظار من بأس. ثم ما لبثنا أن أخبرَنا الحاجب بحضور الباشا، فتركني شكري بك مكاني وبعد دقائق قضاها عنده جاء فأخذني معه وأدخلني إلى حضرته، فإذ هو رجل كهل بادن منتفخ الوجه، ذو لحية بيضاء تبدو في خلالها شعرات سود هي من بقايا ما ترك الشباب، فتقدَّمت مشيرًا بالسلام، فرفع يمينه قليلًا جوابًا لسلامي وأومأ إليَّ أن اجلس فجلست، ثم التفت نحوي ليكلمني فقال: هل سبقت لك خدمة في الحكومة؟
قلت: نعم، كنت من أعضاء جمعية الرسومات، بقيت فيها نحو العامين، والآن نُقِلت إلى المعارف.
– هل حلفت اليمين القانونية؟
– هل يبقى مستخدم في خدمته عامين ينظر في أعمال الحكومة من غير أن يحلِّفوه اليمين؟!
– حسن، وماذا تعرف؟
– لا أعرف شيئًا.
– وكيف يجعلونك عضوًا بمجلس المعارف الأعلى إذا كنت لا تدري شيئًا؟! أمدرسة هذه جيء بك لتتعلم فيها؟
فرأيت كلام الرجل غليظًا كطبعه، فقلت في نفسي: الرأي أن أكلِّمك بما تفهم، فاللهم عفوًا عما سيجري على لساني، لا أنطق به مختارًا بل مضطرًّا، وقلت: إنما قلت لا أعرف شيئًا تأدبًا، وإلا فإني من أكبر الراسخين في اللغة العربية واللغة التركية، يشهد الملايين ممن قرءوا ما أكتب أني من شعراء الطبقة الأولى ومن الكُتَّاب الآخذين بنواصي الكلام؛ نظرت في العلوم قديمها وحديثها، قريبها وبعيدها، فأصبت منها الحظ الأوفر. هذا وأنا أُحسن الكتابة والكلام باللغة الفرنساوية، وأخذت من فنون علمائها ما لم يفز بمثله غيري، ولي مؤلفات بالعربية والتركية هي حُجة العلم لنقض الجهل. فجعل الرجل يستمع حديثي ويتأمل وجهي كمن يريد أن يبلو محدِّثه، فعلمت أني كبرت في عيْنَي هذا الناظر الغبي، وأيقنت بعدها أن خير ما يحفظ للمرء كرامته في عاصمة الملك العثماني هو أن يكون مدَّعيًا لما ليس فيه من المزايا. وكان شكري بك جالسًا أمام زهدي باشا غارقًا في صمته يصغي إلى حديثنا ولا يشاركنا فيه، فقال له الناظر مشيرًا نحوي بيسراه: خذ هذا وادخل به إلى المجلس. فسلَّمت وخرجت وأنا لا أدري كيف أكتم ضحكًا يكاد يغلب عليَّ هنالك، فأمسك شكري بك بيدي ونزل بي إلى قاعة المجلس الأعلى.
فلما ولجنا الباب رأيت مكانًا رحبًا في وسطه مكتبة مستطيلة كالخوان، على طرفها الكائن بصدر المكان رجل كالقُبَّرة، يكاد لا يجده متفقده لولا عمامة كقرص من الجبن الكريتي تُشرف على مكانه، وعلى الجانب الأيمن للداخل أعضاء كلهم معمَّمون، وعلى الجانب الأيسر آخرون على رءوسهم الطرابيش. فتقدم بي شكري بك إلى الجالس بصدر المكان وغمز ذراعي قائلًا: هذا هو الرئيس حيدر أفندي. ولما صرنا أمامه قدمني إليه وتركنا وانصرف، فدار الرئيس بعينيه في الجلوس، ثم التفت نحوي قائلًا: ما ثَمَّ مكانٌ خالٍ، الأعضاء أكثر من الكراسي عددًا، فاجلس إلى جانبي حتى يخرج أحد الجالسين فتجلس مكانه، وخاطب الحاضرين يُعرِّفهم بي، فسمَّاني لهم وبالغ في مدحي كما أسرَّ إليه شكري بك قبل انصرافه، هنالك ارتفعت الأيدي بالسلام وابتسمت الثغور ترحيبًا. ثم خرج بعض المعمَّمين فجلست مكانه، وإني لأجيل ناظري يمنة ويسرة لأنظر ما يصنع هذا الجمع، فرأيت في الموضع القريب من باب القاعة رجلًا رَبْعة القامة، كث اللحية أسودها، ممتلئ الجسم، على ناظرتيه «نظارة» بيضاء يقرأ بها أوراقًا أمامه ويوقِّع تحتها، فدلَّتني هيئته وأطواره على أنه ربُّ فضل، وعلمت بعدها أنه أمر الله بك الشهير، وكان في مواجهتي رجل نحيف الجسم ذو لحية سوداء أيضًا اسمه راسخ أفندي، حادثته قليلًا فظهر لي من حديثه أنه أصاب حظًّا من العلوم الآلية، وأنه يقول الشعر ويجيده بالتركية والفارسية على الأسلوب القديم، فقلت في نفسي هذا مجلس المعارف الأعلى، ولا بدَّ أن يكون هؤلاء الرجال من جلة أهل الفضل والمتقدمين على كثيرٍ من علماء زمانهم، فخيرٌ لمثلي أن يختار السكوت لكيلا ينكشف جهله وتصاب مقاتله. فإذا تعودت الأعمال ووقفت على حقائق الأشياء أتيت لهم بما يتجدد لي من رأي تكون وراءه فائدة تُستفاد.
وبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل قيل لي إنه أحد كُتَّاب قلم المجلس، قد زرَّر «سترته» أدبًا، وأمسك أوراقه بيديه وتقدَّم حتى قارب مكتبة صغيرة هي على يسار الرئيس، فوضع عليها الأوراق ووقف ينتظر الأمر، فقال لي راسخ أفندي: الآن يقرأ الكاتب علينا ما ينبغي أن ننظر فيه من الأوراق. فإذا انتهى من تلاوتها أبان كلٌّ منَّا عما يرى. فإذا رآها على ما يجب وافق عليها، وإذا رأى موضعًا للإعراض اعترض. فتناول الكاتب ورقة تلاها بصوت عالٍ وأنا أسمعه وأتأمل حال الأعضاء، فرأيت واحدًا يُسِرُّ لمن هو جالس إلى جانبه حديثًا، وآخر يكتب كتابًا، وثالثًا يأكل الحمص، ورابعًا أثقل النعاس هامته، وخامسًا يقرأ جريدة في يده، وإذا كلهم كما قال الحسن بن هانئ:
فهالني ما رأيت حتى خُيِّل لي أني بين جماعة من أبناء السبيل نزلوا بدار مطعم وأقاموا ينتظرون غداءهم. واستمعت ما يتلو الكاتب، فإذا هو استئذان من النظارة بصرف مائة وعشرين قرشًا لإصلاح أنابيب المياه في مدرسة من مدارس البنات لا يحضُرني الآن اسمها. فلما انتهى الكاتب من التلاوة وشرح الرئيس للأعضاء مجمل ما تلاه، قال أحدهم: فليكن.
فوالله ما رأيت مشهدًا هو أنفى لصبر وأجلب لضحك مما رأته عيناي، فيا لك من مَبْرَك إبل أنا أحد أذواده، فعاودني هنالك شيطاني ونفخ في أذني نفخته، فقلت لمعمم كان باركًا إلى جانبي: ما قدر ميزانية المعارف؟
– لا أدري.
– كيف لا تدري ثم توافق على احتساب مبلغ منها؟
– وما يعنينا نحن من ذلك؟! لينظر في الأمر من هم فوقنا، وما جيء بنا هنا لنحاسب الناس على كل ما يقولون، أنا أحب ألَّا أتعدى ما رُسِم لي. وأنت جئت اليوم، فلا تدري من أعمال المعارف شيئًا، فأولى لك ألَّا تعجل في الرأي وألَّا تكشف مَقاتِلك لمحاسديك. قلت: وهذه فائدة استفدتها. وقد ذهبت هيبة المجلس من عيني، وأيقنت أن هذا البناء الذي يُظِلُّ رجال العلم في الإمبراطورية العثمانية لا يئوي إلا أناسًا هم نخبة جهلائها، فأشفقت على وطني وتمنَّيت ألَّا أعيش حتى أشهد مصرعه.
فلما كان المساء، وآن للمستخدمين أن يخرجوا من بيوت العمل إلى مضاجع الراحة أو معاهد اللذات، تلفَّع كل ذي عمامة عباءة، ولبس كل ذي طربوش معطفه (بالطوه)، فدنا مني راسخ أفندي وقال لي: كم جعلوا راتبك؟
– لا أدري.
– أنصحك لوجه الله الكريم، لا تتأنَّ في أمرٍ لك نفعه وعليك ضرره، اذهب من ساعتك إلى الناظر، فقل له كم جعلتم زيادة راتبي؟ أنت لا تعرف زهدي باشا، سَل عنه مستخدمي المعارف يُخبروك خبره؛ هذا رجل سوء، ما قدر على ضرر يضرُّ به أحدًا وتأخر عن تعمده، وربما أدى به حلمك إلى الاقتصاد من راتبك وجعل ما اقتصده من نصيب غيرك. ادخل عليه الآن قبل أن يخرج، ثم إيَّاك والإفراط في التأدب والتحشم، هذا رجل جاهل يحسب الأدب خضوعًا وتذلُّلًا، فلا تملِّكه ناصيتك فهي في قبضته.
فما أتم راسخ كلامه إلا هرولت نحو السلَّم، وجعلت أصعد فوقه درجتين درجتين حتى بلغت أعلاه، وأنا لا أجد نفسًا أتنفسه، فدخلت حجرة الناظر بعدما استأذنت، مخالفًا لما أشار به عليَّ ناصحي من ترك الاستئذان، فرأيت شكري بك الحسيني عنده، فسلَّمت ولم أمهله أن يسألني عما أريد، بل وضعت يديَّ على جانب مكتبته معتمدًا عليهما، وقلت له: جئت لأعلم مقدار راتبي.
هنالك زوى عني وجهه وقال: هذا يُنظر فيه حين يجيء وقته. فتركته وخرجت. فإذا راسخ في انتظاري أمام باب النظارة، فلما رآني أومأ بعينيه يسألني عما كان، فقصصت عليه الخبر، فقال: إذا رجعت إلى بيتك ففكِّر في أمرك علَّك تهتدي إلى ما يُريح خاطرك. ثم إنه سلَّم عليَّ وفارقني.
ولا يفوتنَّ القارئ الأريب أني لم أنتقل طول أيام مُقامي بالآستانة من نظارة المعارف إلى نظارة غيرها، فحسبه قليل ما جاء في هذا الفصل، وسأعود إلى الكلام على المعارف كلما أدى إليها سياق الحديث، ولنرجع إلى ذكر أشياء تقدمت ذلك، وقعت قبل أن أفارق جمعية الرسومات؛ فإن لها شئونًا لا يخلو ذكرها من فائدة.