الشيخ محمد ظافر المدني
لعل قُرَّاء كتابي لا يجهلون الشيخ محمد ظافر ولا سيرته. غير أن أكثر ما يُقال عن الأخيار كما يُقال عن الأشرار، كله غلو وجُلُّه بهتان. وقد سمعت الناس يتكلمون كثيرًا عن هذا الرجل من قادح ومادح، فأمَّا القادحون فأنصار أبي الهدى ولا يجوز الاعتماد على كلامهم، وأمَّا المادحون فأنصاره هو ولا يصح أيضًا الوثوق بكلامهم، فكان الصواب أن أبلوه وأختبره بنفسي. أردت ذلك كثيرًا ولم أتمكن منه إذ لم تأتِ الفرص بما يجمعني وإياه، وأنا رجل قليل الجرأة على الناس، لا أُقدِم على غشيان منازلهم إن لم يسبق بيننا تعارف، وما زلت أسكِّن ما بقلبي من هذا الشوق حتى حان الحِين، فجاءني ذاتَ يوم رجلٌ من معارفي يخبرني أن آل ظافر يودُّون التعارف بي، وأنهم معجبون بما هجوت به أبا الهدى، فسرَّني ما بلغني ولكن إعجابهم بهجائي أبا الهدى أحدث في قلبي الريب، فقلت لصاحبي: سأنظر في ذلك، على أني أخبرك مذ الآن أني لا أحب أن أكون البادئ بالزيارة. إن أولي الجاه والحظوة يزدرون بالمتطفلين عليهم. فإذا بدءوني ألْفَوني أهلًا لمودتهم. قال: لك علينا ذلك، ولولا ثقتي منهم بشدة الرغبة إليك لما فاوضتك في ملاقاتهم ولا حبَّبت إليك مخاطبتهم. ثم فارقني الرجل غير ضارب ميعادًا لتلك الزيارة ولا لعودته إليَّ، ومضت على ذلك أيام قلائل، وفي أصيل ذات يوم وقفت أمام باب داري عربة خرج منها ثلاثة رجال، فعرفت أحدهم وهو ذلك الرجل الذي كان عرض عليَّ زيارة الظوافر. أما رفيقاه فلم أعرفهما بادئ بدء ولكني فطنت أنهما أو أن أحدهما لا بدَّ أن يكون من أبناء الشيخ محمد ظافر.
فلما أُدخلوا عليَّ قال دليلهم مشيرًا إلى النحيف منهما: هذا عطوفة مصطفى بك ظافر. ثم أشار إلى البادن وقال: هذا محمد أفندي الأسير نجل العلَّامة الشهير الشيخ الأسير صاحب الأسفار الجمة التي عرفها العلماء. فكان مجلسنا مجلس صفاء، منزَّهًا عن الغيبة والمفاخرة والكبرياء. ولم يشأ مصطفى ظافر أن يبادرني بذكر شيءٍ عن أبي الهدى، وتعمَّدت أنا أيضًا الصمت عن ذكره، وجعلت أُنشِد لهم بعض قصائدي وأقصُّ عليهم ما حضرني من الأخبار؛ فلم يطِق محمد أفندي الأسير صبرًا ورأى أن يجسَّني بشيءٍ من دهائه، فقال: يزعم بعض الناس أن أبا الهدى ناقم عليك كثيرًا، وأنه لا يهنأ له عيش دون الإيقاع بك؛ فلقد آلمه ما كتبت عنه في الجرائد، وأظنه الآن يتدبر لك مكيدة يُكفى بها شرك.
قلت: له أن يصنع ما يشاء، ولي أن أصنع ما أشاء، وأشقانا من إذا ظهر خافيه استعصى عليه الجدال. أنا لا أزاحم أبا الهدى على مقام، ولا يجوز أن يكون بيننا تنافس؛ فهو ولي السلطان وأمينه وأنا أحد أفراد الرعية. وهو درويش من الدراويش وأنا رجل من رجال القلم وموظف من موظفي الحكومة. على أني أحاربه لا مختفيًا ولا خائفًا؛ فإن كان عنده ما يُبطل به كلامي فليأتِ به، وإذا لم تكن لديه حجة تدحض ما أقول فليربأ على ظلعه: ما تقول إلا الحق، ولكن من لهذا الذي تنازله أن يدين للحق، ولو أنصف لاستراح وأراح، غير أني سائلك عن شيء أودُّ ألَّا تبخل عليَّ بجوابه، ولئن كان العهد بمعرفتك قريبًا فليس العهد بمعرفة فضلك قريبًا.
– هاتِ ما يعن لك. فإذا كان مما أعرفه أرضيتك بالجواب.
– يقولون إن عندك صكًّا بخاتم محمد قدري العثماني، كتبه على استلام مبلغ من الدراهم أنفذها إليه أبو الهدى، وبتلك الدراهم أعيدت جريدة «القانون الأساسي العربية» بعد أن عطَّلها صاحبها لضيق ذات يده. فإذا كانت هذه الرواية صحيحة أرى أن تدفع هذا الصك إلى سيدنا (يريد الشيخ محمد ظافر)؛ وهو يرفعه بنفسه إلى السلطان وتكون لك من وراء ذلك فائدة تجني ثمراتها ما دامت لك الحياة، ويلقى أبو الهدى من العقاب ما هو أهلُه.
– نِعمَ الرأي، ولكن الصك الذي تسألني عنه كان عندي، ثم مزَّقته وأنا قادم إلى الآستانة. قلت ربما فتَّشوني في الكمارك فوجدوا عليَّ هذه الورقة فيحلُّ بي من غضب السلطان ما لا أحب. ولو كان هذا الصك بيدي الآن لما رضيت الانتفاع به، نحن قومٌ لا نعرف التجسس ولا نحسن السعاية، ولأن يفوز علينا أعداؤنا خيرٌ لنا من أن نفوز عليهم بمثل هذه السعايات. وفيما أكتبه ويقرؤه الناس ما يُغني عن تعسُّف الحيل ومغالبة الرجال بالدنايا. فقرأ مصطفى ظافر في وجهي الضجر، فأومأ إلى صاحبه ليكفَّ، ولما همَّ الثلاثة بالانصراف تقدم نحوي مصطفى ظافر مصافحًا مصافحة ود، وقال: والدي مشتاق إليك؛ وهو شيخٌ كبيرٌ لا يفارق البيت كثيرًا، فلو زرتنا يومًا لزرت دارًا تسعد بقدومك. ولنا مجالس طيبة لا نغتاب فيها أحدًا ولا ننطق فيها بشرٍّ. فوعدته بذلك وجعلت الميعاد يوم الجمعة. وذهب القوم وبقيت وحدي، فقلت: يا سبحان الله! إذا كان الظوافر على ما رأيت من محمد أفندي الأسير فقد ساء فيهم ظني. نعم إن أبا الهدى رجل سوء وينبغي أن يُحارب بكل سلاح ينفع في حربه. أما اللؤم فلا قِبَل لي به، وإذا كنت أريد أن أحاربه بمثل سلاحه فخيرٌ لي أن أسالمه وأن أنتفع بجاهه وكلمته. على أنني لا آمنُ على نفسي الخطأ في الحكم إذا زعمت أن ما يقوله الأسير يقوله محمد ظافر نفسه. هذا الأسير صَنِيعتهم ويجب أن يتقرب إليهم بإظهار الود والإخلاص، وربما استوجب عليه كلامه هذا لومًا وتأنيبًا حين يرجع ما ابن الشيخ.
فلما كان يوم الجمعة استصحبت الدليل الذي سبق ذكره وقصدت إلى تكية الظوافر الكائنة على يسار شارع «يلديز» بالآستانة. فإذا بناءٌ شامخ الأركان رَحْب المكان، تحيط به قضبان الحديد، فخم ظاهره عارٍ عن الزخرف باطنه، فسعى بنا خدام التكية إلى حجرة واسعة، ولم يطل بنا الانتظار، وإذا شيخ أبيض اللحية متوسط القامة أكحل الناظرتين وسيم المحيا، يسنده في مشيه خادمان له، فأشار إليَّ صاحبي بأن الداخل هو الشيخ ظافر، فدنونا منه فحيَّانا وحييناه، وجلس وجلسنا إليه، فأقبل علينا بحديثه، وقال إنه سعيد برؤيتنا، وكان صاحبي عالمًا بما ينبغي أن يخاطب به حملة العرش والمقربون، فقال: كدنا والله ننهب الأرض نهبًا شوقًا إلى مولانا، وما خاطبت ولي الدين في زيارته لمولاي إلا ورأيت به من الشوق ما لا يبالي به المرء الشدائد. فتبسم لنا الشيخ وقال: حفظكم الله.
وكان بعض الشياطين أخبرني أن أحد الدراويش قال ذات يوم للشيخ محمد ظافر: إني رأيت مولاي في منامي جالسًا على يمين الله والملائكة بين يديهما خُشَّع الأبصار. فاعترض على كلامه أحد الحاضرين، فقال له الشيخ: دعه، إنما يُنطقه إخلاصه ويريه إخلاصه. ومن صَفَت سريرته قرب عند الله مكانه. فقلت في نفسي: أمتحنه. فإذا كان كلام الراوي صحيحًا علمت ذلك من حديثه وإذا كان كذبًا تبيَّنته، ولكن الشيخ سبقني إلى السؤال فقال لي: هل تأتيكم من مصر جرائد؟
– لا؛ فإني لم أطلب لأرباب الصحف أن يرسلوا إليَّ صحفهم؛ فإني أخاف أن يتذرَّع بذلك بعض أعدائي إلى ما يُطيل همي.
– نحن أيضًا لا نقرأ الجرائد، ولكن بعضها يأتينا على سبيل البركة، وابني مصطفى ظافر يحب المؤيد كثيرًا؛ وهو يقول إنه أكبر جريدة عربية بل أكبر جريدة شرقية، وكل من قرأ المؤيد شهد لصاحبه بالفضل. وقد بلغني أنه من أكبر الشعراء وأن كلامه كله سجع لا تكلف فيه.
وقد كان المرحوم عبد الله النديم يمدح لنا المؤيد، وأخبرني عزت بك (عزت باشا العابد) أن جرائد مصر كلها تعترف للمؤيد بحق السبق، وقال لنا: لولا الشيخ علي يوسف لأعلن الإنكليز امتلاكهم مصر.
فجعلت أستمع هذا الكلام من الشيخ الجالس أمامي، ولاحت مني التفاتة إلى صاحبي الذي جاء بي إلى التكية، فرأيته مطرقًا خجلًا، وقد ساد بيننا السكوت دقائق معدودة، وإنَّا لكذلك وإذا بمصطفى بك ظافر قد دخل علينا، فحيَّانا واستأذن والده في الذهاب بنا إلى حجرته، فأذن له، فدخلنا حجرة رأيت بها شيخًا آخر ينطق الشيب على مفرقه ولحيته، فتبادلنا السلام والمصافحة، ولما استقر بنا الجلوس أومأ مصطفى إلى ذلك الشيخ وقال: الأستاذ العلامة الشيخ إبراهيم السنوسي من سادات المغرب، هو ضيفنا الكريم ومن المغرمين بشِعرك. فأجبت مصطفى ظافر بما يوافق المقام، ثم دخل الحجرة رجل أسود اللحية معمم، فدنا مني وأمسك بيدي ووقف أمامي قائلًا: أهلًا وسهلًا بعطوفة البك، حلَّت البركة، تشرَّفت التكية، أنا والله محبكم المخلص، الله يُطيل حياتكم ويحفظكم، الله ينصركم على أعدائكم، الله لا يخيب لك رجاء، الله لا يسوءنا فيك، الله يُعطيك البركة، الله يُعلي قدرك، الله يكفيك شر ما تخاف.
فكاد والله ينفد صبري من كلام الرجل ودعائه؛ فقد كان يرتجله ارتجالًا غير ساعل ولا متوقف، فبادرني صاحبي قائلًا: هذا إبراهيم بك ظافر نجل الأستاذ الكبير وأخو عطوفة مصطفى بك. فقلت: أنعِم وأكرِم. وأخذنا نتحادث مع الشيخ السنوسي، فرأيت منه رجلًا عالمًا متفقِّهًا كثير التعصب، مصدِّقًا لأضاليل الأوَّلين، تمكُّنه من العلوم الشرعية أعلا قدره في نظري، واستأنست به واستطبت حديثه. ثم خرجنا من التكية بعدما لقينا فيها من الإكرام والترحيب ما لا أستطيع ذكره في هذا الموجز، ومحمد أفندي الأسير كان يومئذٍ متغيِّبًا عن التكية، وكثُرت الزيارات منذ ذلك بين الظوافر وبيني، فأنس إليَّ مصطفى ظافر وأخذ يُفضي إليَّ بأسراره ويشكو ما لاقاه من عداوة أبي الهدى له، وكان يقول لي: إن أبي رجل درويش فقير، لا يريد من هذه الدنيا إلا وقتًا يعبد الله فيه ويُصلي على نبيه. وقد بلغ من الحظوة عند السلطان ما لم يبلغه سواه، فلا نال رتبة ولا رضي وسامًا ولا طمع في وظيفة يُزاحم عليها أهل المطامع، بل عفَّ عن كل لذة وانصرف إلى الله عن كل جاهٍ، وآثر الآخرة على الأولى؛ فهو يحب الفقراء ويجلس إليهم ويستطيب مجالسهم، ولا تمت به نفسه إلى مخالطة الكُبراء أولي المطامع. فوالله ما أدري ماذا يريد منه أبو الهدى، وهو مع أبي على طرفي نقيض، تسمو نفسه إلى المعالي ويحب الألقاب ويتعشق الوسامات ويفتتن بحب المال، وهل ينال أبي شيئًا يُحرم هو منه؟ حسبنا ما نحن فيه، هذه نعمة من الله لا نستطيع أن نوفيه عليها شكرًا، فلا نريد أكثر منها ولا أحسن منها.
قلت: يُخيل لي أن أبا الهدى شديد الوطأة عليكم، وأنه لا يألو في نكايتكم جهدًا، ولكن هل تعلم لذلك سببًا؟ فليس من العقل في شيء أن يناوئكم طلبًا للمناوأة.
– السبب حسد أبي الهدى لأبي؛ يرى السلطان مقبلًا علينا برضائه واضعًا آلنا تحت حمايته، غير مانع عنَّا خيرًا، فيسوءه ذلك؛ وهو يريد ألَّا يحب السلطان غيره وألَّا يقبل بدولته على سواه، وكثيرًا ما وشى بأبي ودسَّ له الشر، ولكن نجانا الله من كيده. وكم قال له السلطان أنا واثق بود الشيخ محمد ظافر، معتمد على صدق ولائه، فلا تخاطبني في أمره بما لا أحب. غير أن عادة الشر تغلب عليه، فيسبق لسانه خاطره وينال منَّا ومن أعراضنا ويرمينا بكل نقيصة، وله رجال يدخلون بيتنا يطئون بساطنا ويصيبون من طعامنا، ثم يذهبون إليه بأحاديث ملفقة يستزيدها هو من عنده ما شاء.
– وأنتم ألا تنازلونه كما ينازلكم؟ أبوك له من الدالَّة على السلطان ما يمنع بها حِماه ويكيل لعدوه مكيالًا بصاع.
– لما كان المرحوم السيد جمال الدين والمرحوم عبد الله النديم على قيد الحياة كانا يغيظانه حتى تتبادر شئونه من عينيه. ولقد أطالا سُهاده وضاعفا همه، فما كنت تسمع له إلا صخبًا وعويلًا متواصلًا وشكايات إثر شكايات يطرق بها باب السلطان. ولما ألَّف فيه المرحوم النديم كتابه الذي سمَّاه «المسامير» قامت له قيامته وجعل يهدر كما يهدر الفحل إذا هاج، ولو مدَّ الله في أيامهما لعاجلاه بما يلقى به حتفه، ولكن لكل أَجَل كتاب. وكان السيد جمال الدين إذا ذكره في مجلس السلطان لم يسمِّه إلَّا أبا الضلال. ولقد استشاط عبد الله نديم غضبًا ذات يوم وكان دُعيَ إلى قصر السلطان، وسُئل هنالك أن يكُفَّ عن هجاء أبي الهدى والسلطان مطلٌّ عليه من كوَّة يسمعه ويراه، فصاح النديم بأعلى صوته قائلًا: لقد قلَّد مولانا السلطان أبا الضلال وسام الافتخار، فلأُلبسنَّه أنا وسام العار يلازمه في حياته ويصحبه إلى قبره بعد مماته، فخاف من بالقصر من وعيد النديم وأخذوا يتلطفون في إسكاته ولم يستطيعوا ذلك إلا بعد جهد أضناهم.