شر جديد
لما أتم شقيقي يوسف حمدي يكن بعض أعماله التي جشمته السفر إلى مصر، وفرغ من طبع رسالتي المُسمَّاة «الخافي والبادي» عاد إلى الآستانة، فأقام معي نحو العام أو أكثر، ثم أراد السفر إلى مصر زاعمًا أن طول مقامه بالآستانة أكسب فكره الخمول، وأنه يريد أن يتنسم نسائم الحرية التي درج من عشها وعاش في ديارها، وإنما أراد أن يصدر بمصر جريدة ينشر فيها ما رآه بالآستانة من آثار الظلم وطلائع الدمار. تبيَّنت ذلك في حديثه وإن كان بالغ في كتمانه ظنًّا منه أني ربما منعته عن إتمام بغيته، فسررت وأظهرت التغابي وتمثَّلت بقول القائل:
وقلت في نفسي ليس من العدل أن أقضي على هذا الشاب بما قضيت به على نفسي، فليغنِ الوطن غَناءه، وليجاهد ما استطاع إلى الجهاد سبيلًا. ثم زودته عناقًا وقلت: سِرْ يكلؤك الله، فإن أتاني منك ما يُعلي ذكرك وإلا فهذا فراق بيني وبينك. فوصل أخي إلى مصر وأصدر بها جريدته التي سمَّاها «الإنذار» وأرسل إليَّ نسخة منها في مظروف على يد رجل أجنبي يعلم مودته لي، فلما نظرت في الجريدة وتأملت ما يخاطب فيها عبد الحميد من الكلام أوجست في نفسي خيفة وقلت: هذا باب من أبواب الشر أنا فتحته على نفسي. ولقد سبق السيف العذل وما بقي إلَّا النظر في جواب سديد أُلجم به أفواه من يسألونني غدًا. ثم زارني في ظهر الغد مصطفى ظافر وأخذني معه إلى تكيتهم، فقال لي ونحن في الطريق: دعاني باشكاتب السلطان أمس إلى القصر، فلما دخلت عليه وجدت بين يديه نسختين من جريدة اسمها «الإنذار»، فمدَّ إليَّ نسخة منهما وهو يقول: انظر هذه الوريقة التي أصدرها أخو صاحبك، واعجب لجرأة ولي الدين كيف يعيش بأنعم السلطان ثم يرسل أخاه إلى مصر ليعتدي على مصدر نعمته. قال مصطفى ظافر: فلما أخذت الجريدة ورأيت عليها اسم شقيقك دهشت حتى لم أدرِ ما أقول، ولكنني تغلبت على ما عراني من الدهش وقلت: يا مولاي، إن ولي الدين من أسرة كريمة؛ وهو رجل عاقل لا يُقدِم على مثل هذه الأمور، وأخوه شاب صغير السن، ومصر الآن مزدحمة بالهاربين من عدل مولانا السلطان، فلا شك أن بعضهم أغواه واستهواه فتجاسر على عمله هذا وهو لا يعلم مبلغ جُرمه. وما يضر قدر الخليفة في عليائه أن يجهل عليه بعض الغلمان ويجعلوا أنفسهم بمنزلة من يعرفون حقائق الأشياء؟! حسبه أن كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يشدو بثنائه، وأن المنابر في جوامع المسلمين تميل طربًا عند ذكر اسمه، وإذا شئتم كلمت ولي الدين في هذا الأمر ومحضت له النصح، وما إخاله إلا غاضبًا إذا اتصل به هذا الخبر. أما أنت يا ولي الدين، فينبغي عليك أن تكتب لأخيك كتابًا يكون رادعًا له عن غَيِّه. فلا يغُرك حلم السلطان؛ فإنه والله إذا غضب لم يُبالِ شيئًا. وأخوك في شبابه لا يُدرك هذه الأمور، فانظر ما أنت فاعل. أما أنا فقد وعدت الباشكاتب أن أعود إليه بجواب منك فيه مقنع، وسأقول له كلامًا يخفف غضبته ويبرئك لديه.
قلت: جزاك الله عني خيرًا. أما جريدة أخي فلا أعلم بها إلا الساعة، ولا أَكذِبك أني أسفت لما فرط منه أشد الأسف، ولكن حيلتي في الأمر قليلة. وفي غد ذلك اليوم جاءني رسول من عند فائق بك ابن المرحوم لطفي آغا، وكلاهما من قرناء السلطان (جمع قرين، يُراد به النديم الخاص)، فلما أدخل بي إليه قال لي: بلَغ ولي النعم أن لك أخًا اسمه يوسف حمدي يكن، وأنه ذهب إلى مصر وأصدر بها جريدة اسمها «الإنذار» ينتصر بها لأعداء الدولة وخائني الوطن الذي يُقيمون بمصر ويسمُّون أنفسهم «الزون ترك»، ومولانا يأمرك أن تكتب إلى أخيك تسأله عما يريد من وظيفة أو مال على أن يكون ما يريده غير متعدٍّ حد الممكنات، وأن يرجع عن معاداة السلطان. وهذه فرصة لا تسنح لكل الناس، فاكتب إلى أخيك بذلك وقل له يرسل جوابه إليَّ باللغة التركية، فوعدته بإنجاز ما أراد، ورجعت إلى منزلي، فقلت في نفسي: الشباب له سكرة تطول سنين عديدة، وربما أكتب ما يريدون فيصادف من شقيقي ضعفًا في نفسه فيرضى فيحل به وبي ما نخاف، وإذا كتبت له كتابًا آخر أحذِّره من كتابي الأول فلا آمن أن يقع في يد من لا يرقُب ذمة ولا يخشى لها عتابًا ويحلُّ بنا يومئذٍ البلاء العميم. ومَن لي بطريق في غفلة من أعين الواشين والرقباء! فلم أجد بعد كل تأمُّل وتدبُّر مخلِّصًا سوى الإذعان، فكتبت إلى شقيقي كتابًا باللغة التركية أدعوه إلى ترك الجدال والعودة إلى الآستانة وأبشِّره بنيل ما يريد، وجعلت كتابي في مظروف أخذته معي مفتوحًا وأسلمته إلى فائق، فأرسله من القصر السلطاني إلى دار البريد.
وفي ذات يوم جاءني صديقي الكاتب التركي الفاضل «س. ت» بك. وقد كان يحرر القسم التركي في بعض جرائد الآستانة، ثم عُيِّن بالخزينة الخاصة السلطانية، فأخذ يلتمس العبارات ليؤدي بنا الحديث إلى سفرة أخي لمصر، فلما أعياه الطلب ورأى كثرة المقدمات تضل عن الصدد اقتضب الكلام اقتضابًا فقال: أنا أعرف أنك لا تحب من أخيك أن يكتب شيئًا فيه ذم للسلطان، ولا يمكن أن يسافر أخوك من نفسه طلبًا لإصدار جريدة في هذا السبيل، ولا بدَّ أن يكون أرسله قومٌ ممن لهم بمصر مقاصد يطاردونها. وهذا ما لا يفعله إلا آل ظافر؛ فإن قلت إن الشيخ الكبير لا يعنيه من أمر الجرائد شيء وإنه بخيل لا يجود بالدرهم ولو كان فيه طول عمره. قلت لك: نعم، ولكن ابنه مصطفى ليس كذلك؛ فهو أبو المشاكل، وكل ما يلاقيه أبوه هو مُنشِئُه. ولو سلك مصطفى طريق أبيه وترك عداوات الرجال وأغضى عما يبادئه به أعداؤه لانقلبوا له أصدقاء. والآن وقع ما وقع وقُضي الأمر؛ فإن كتموك ما دبَّروه بالأمس فما أحسبهم يكتمونك اليوم، وهم يعرفون منك فرط الحياء والتمسك بالود، ولئن فعلوا فأنت قادر على استيضاح ما تريد بأن تتوعدهم. فإذا فعلت ذلك لم يجدوا بدًّا من بيان ما أغمض عليك.
قلت: يا فلان، هذا كلام حسن الانتساق، ولكن الفائدة منه منعدمة. فماذا تريد أن تقول؟ قل وأوجز ودع هذه الخطبة إلى وقتٍ آخر.
قال: ما أراني خاطبًا. ومجمل الأمر أني موجَّه إليك من أحد المقربين، ولا أستطع أن أذكر لك اسمه جريا على ما اتفقنا عليه؛ وهو يريد أن يعلم ألآل ظافر شأن في سفر أخيك أم لغيرهم؟
قلت: يا فلان أراك رضيت لنفسك صناعةً كنَّا نذمها معًا؛ فإن كنت بدلت برأيك السابق غيره فإني لا أزال على قديمي، ولا أسديك نصحًا في الرجوع إلى سابقك، فذلك له أول وليس له آخر. ومن أوقعه سوء الحظ في مجاهله ضاقت عليه المسالك ولم يجد إلى الهداية مهيعًا. اذهب إلى من زودك رأيه وأعارك لسانه فقل له إني أخو يوسف حمدي يكن. ولكنني لا أعرف من فؤاده إلا ما يُبديه لي. أما آل ظافر فقد كان مصطفى معي؛ وهو أول من جاءني معاتبًا؛ وهو أول من طلب إليَّ استرجاع أخي، فخرج صاحبي يجرُّ فضول أذيال الخزي. وكان ذلك آخر عهدي به.
وإلى هنا نفد الصبر. فرأيت ألَّا أصبر على الضيم الطويل، فأقمت أتدبر فيما يفتح لي أبواب النجاة لأخرج من هذا الوطن؛ لعلي أجد في البلاد الحرة من يسمع رثائي حين أرثيه. وما كابدته من آلام الاستبداد يكفِّر عن سيئاتي في العودة إلى حيث دُفِن الحق وقامت مناحات الشهداء. فجرت هذه الأبيات على لساني ونمَّقها قلمي، فجعلت أرددها طول ليلتي. وإني لذاكرها في هذا الفصل عسى يكون في القُرَّاء من يحب كلام الشعراء حين تخترق قلوبهم وتُمازج دخانها حسراتهم. قلت:
•••
•••
•••
•••
•••
وعرفت حينئذٍ أن مقامي في أرضٍ مَسْبَعة، فما راعني إلا شيطان من أبي الهدى يحرق عليَّ البلاد ويأبى أن يراني ضاربًا بين أضواحها وأجزاعها. وافاني مصطفى ظافر ليلًا، فرأيت الفزع باديًا على وجهه، فقلت: ما وراءك؟
قال: قامت القيامة علينا وعليك. أبو الهدى أوعز إلى أحد الجواسيس واسمه «ضيا» فوشى إلى السلطان بأن بالآستانة جمعية خفية تعمل على الفتك به والانتصار لأعدائه، وأن رئيس هذه الجمعية هو المشير فؤاد باشا، وأني ورضا بك (هو الآن رضا باشا نزيل مصر) والشيخ أسعد شقير إمام آغا دار السعادة (هو الآن نائب أنطاكية بمجلس المبعوثان) ومحمود أفندي نديم (آخر وظيفة له هي متصرفية قره حصار التابعة لولاية سيواس) أعضاء هذه الجمعية، وأنك أنت قلم الجمعية؛ تنشر بجرائد مصر ما نحن نتفق عليه، ثم تأتي هذه الجرائد باسمك إلى إدارة البريد الفرنساوي فتوزعها علينا وعلى من يقول برأينا. وقد أخبر الجاسوس أن بإدارة البريد طردًا من الجرائد جاء باسمك من مصر، فأنفذ السلطان أحد رجاله ليأخذ له ذلك الطرد فأبى البريد أن يسلِّمه إيَّاه، هنالك كلَّموا سفير فرنسا المسيو قونستان، فأمر البريد أن يُسلَّم الطرد وأن يُسلَّم أيضًا كل طرد ترتاب فيه حكومة السلطان، وقال: نحن لا نريد أن يكون بريدنا واسطة في دخول الدسائس إلى البلاد العثمانية، ولما نظروا الطرد وجدوه مكتوبًا باسمك، فظهر صدق الجاسوس، واليوم أخذوا الشيخ أسعد شقير إلى نظارة الضبطية، وتولَّى الناظر وقدري بك رئيس الجواسيس استنطاقه. وقد بادر محمود نديم إلى «يلديز»، وأخبر عبد الغني (آغا دار السعادة) وعبد الغني بادر إلى السلطان شاكيًا وباكيًا، وقال إن أعدائي يريدون احتقاري، وقد أخذوا إمامي، وربما لحقه السوء ظلمًا وعدوانًا. فصدرت إرادة السلطان باستدعاء الجميع إلى «يلديز» والاستمرار على التحقيق هنالك.
وقد كان أبو النصر يحيى السلاوي عندنا في يومنا هذا، فأخبرنا أن شفيق باشا ناظر الضبطية وقدري بك رئيس الجواسيس دعواه إلى النظارة وسألاه عما يعلم عنك، فقال لهم إنه يعرفك كما يعرفك سائر رفاقك الذين معك بنظارة المعارف، فقال له قدري بك: وهل يكتب ولي الدين فصولًا في ذمِّ السلطان ويبعث بها إلى جرائد الأحرار بمصر؟
فقال السلاوي: لا علم لي بذلك، وإذا كان ولي الدين يكتب فصولًا كما ذكرت أفلا يخاف على نفسه العقاب حتى يُطلع الناس عليها؟ وهل علمتم عليه شيئًا من هذا القبيل؟
قال قدري بك: كلَّا، وإنما نسألك لنتعرَّف ذلك منك، فأما وقد ذكرت أنك لا تعرف شيئًا من أسراره فلا حاجة إلى زيادة الأسئلة، ونحن نوصيك ألَّا تخبر ولي الدين بشيءٍ مما جرى لك معنا. فأجابهم السلاوي إلى طلبتهم وانصرف.
قلت لمصطفى ظافر: ومن ضيا هذا الذي تذكره؟ وأين هو الآن؟
قال: هو رجل أظنه من إزمير؛ وهو الآن في «يلديز» لا يريدون أن يطلقوا سراحه حتى يتم التحقيق ويظهر صدقه من كذبه. وقد بادرت إليك مخبرًا بما وقع فكُن على حذر.
قلت: وما ينفع حذري الآن؟ وهل تحسب القوم يغفلون عنَّا بعد أن بلغهم عنَّا ما بلغهم؟ وما لي من حيلة سوى انتظار ما ستجري به الأقدار.
ثم مضى على هذه الواقعة نحو الأسبوع، فاتصل بي بعد ذلك أن الذين تولَّوا تحقيق القضية قالوا للجاسوس: من أين عرفت أن ولي الدين اتفق مع من سمَّيتهم على أن يكتب إلى الجرائد في ذمِّ السلطان؟ ومن أين لك أن هذه الجرائد ستأتيه أو هي أتته وأنها محفوظة بإدارة البريد الفرنساوي؟
قال: كنت ذهبت إلى الباب العالي، فرأيت الشيخ أسعد شقير ومحمود نديم وولي الدين خارجين من شورى الدولة، وكانوا عند مصطفى ظافر، فجعلت أمشي خلفهم وأستمع ما يقولون، فوعيت كلامهم كله ولم أُضع منه حرفًا واحدًا.
قالوا له: صف لنا ولي الدين.
قال: هو رجل عظيم الجثة، له لحية شقراء وعينان زرقاوان. فلم يُمهلوه إلى أن يُتم كلامه، وهنالك هدده أحد رجال القصر بالويل والثبور إذا لم يعترف بالحقيقة. وتركوه وحده في حجرة ليتمعَّن فيما هو صائر إليه، فهاله الأمر وأحس بالشر وأيقن أن لا خلاص له مما وقع فيه، فطلب أن يُعيدوه إلى المحققين. فلما مثل بين يديهم قال: إن أبا الهدى عرض عليَّ كتابة تقرير أتهم به من عرفتم أسماءهم، وأعطاني ثلاث ورقات من أوراق البنك العثماني قيمة كل واحدة منها خمسة جنيهات، وكل الذي سمعتم مني لقَّننيه أبو الهدى. وأنا رجل فقير ولي حاجة شديدة إلى أقل من هذا المال، فغلبتني الحاجة فأنجزت ما أراد. فلما سمع المحققون كلام الرجل ورأوا أوراق البنك بأعينهم أبلغوا السلطان ما وقع، فأمر بكتمان الأمر. كل هذا جرى ولم أعلم به إلا بعد أن جرى.
ولما علم فؤاد باشا بالواقعة قصد إلى «يلديز»، وبينما هو يريد الصعود إلى عند الباشكاتب التقى بأبي الهدى في طريقه. فتقدَّم نحوه وبادره بالشتم، وكاد يرمي به تحت أقدامه لولا تضرعه وبكاؤه، فأمسك عنه فؤاد باشا وقال له: أنا بمعزل عن هذا القصر وعن مطامعه، وليس لي وإياك شأن. فإذا أنت لم ترعوِ وحدَّثتْك نفسُك بالعودة إلى مثل فعلتك هذه رميتك على الأرض ووطئت رأسك بأقدامي، ففارقه أبو الهدى وهو لا يُصدِّق بالنجاة.
فدلني مرة رجل من معارفنا على ما يستوقف دوننا دهمات أبي الضلال، وكان من رأيه أن ننشئ جريدة بجنيف تُنشر بالتركية والعربية والفرنساوية، نذكر بها مثالب هذا العدو الغاشم ونبين مخازيه ليحذره السلطان بعد ذلك أو ليضطر إلى حذره تنصلًا منه أمام رعيته، فكلمنا في ذلك رضا باشا وأسعد أفندي شقير. غير أن رأي أسعد أفندي كان موافقًا لرأيي في جعل الجريدة جريدة حرة محضة. وقد صدق إذ كنَّا أقدر الناس على معرفة ما يقع بيلديز، ولو شئنا لنشرنا نص كل إرادة سلطانية من قبل أن تُبلَّغ إلى الباب العالي، ولكن مصطفى ظافر خاف على نفسه وأبيه غضب السلطان، وقال: إذا ظهر أمرنا يومًا فماذا يصيبنا؟ أما أنتم فتُسجنون أو تُنفَون، ولكنني أُنفى وأُسجن وأزيد عليكم بما يحلُّ بأبي في كبره وبإخوتي من بعده ما يبدد شملنا ويُفني حتى أعقابنا، فلما رأينا هذا الخلاف عدلنا عن الأمر. وكان «ح. ح» يريد السفر إلى مصر، فقال لمصطفى ظافر: إنه سيتفق مع صاحب المؤيد على إصدار جريدة أسبوعية تكون لسان حالنا. ولما وصل مصر أتت كتبه وليس فيها شيء سوى الثناء على بدائع مصر وعلى صاحب المؤيد حامي مصر والمصريين!