محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية
كنت قصدت إلى دار صديق لي، ثم ودعته وقصدت إلى بيتي، فبينا أنا في الطريق إذا بخادمي يهرول نحوي وقد أجهده الجري وتصبَّب جبينه عرقًا، فلما رأيته على تلك الحال هالني منظره، فصحت به: ويلك ما وراءك؟
فقال: جاء أحد الياورية من «يلديز»، وذكر أنه طلبك بنظارة المعارف، وقيل له إنك لم تذهب إليها اليوم، ثم سألَنا عنك، فأخبرناه أنك خرجت، فلم يُصدِّق كلامنا وقال إنه لن يبرح المنزل إلا وأنت معه، ووالدتك وامرأتك في خوفٍ شديد لا تدريان ماذا تصنعان، والرجل لا يزال هناك ولا يريد أن يذهب. وقد أرسلتني السيدة لأبحث عنك وأخبرك بالأمر لتأتي وأنت متهيئ له.
قلت له: ما في الأمر من خطر. وأسرعت في مشيتي، فلما قاربت البيت ألفيت امرأتي على انتظاري في منتصف الزقاق وهي ترتجف ولا تقدر على الكلام، فأخذت أهوِّن عليها الأمر وأقول إن هذه ليست بأول مرة دُعيت فيها إلى القصر وقد أُخِذت قبل ذلك ليلًا. قالت: نعم، ولكن الذي يطلبك هذه المرة هو محمد باشا الجركسي المعروف بأبي لحية. فتبسمت لها وقلت: هذا صديقي، وإذا كان الطلب من عنده فكوني في راحة. لا أرجع إلا شاكرًا حسن لقائه. على أنني لم أعرف أبا لحية إلا اسمًا، وإنما اخترت هذا الكذب لتطمئن امرأتي. ورأيت بعد ذا الجندي الذي جاء ليأخذني معه، فعلم أن أهل البيت لم يكذبوه فجعل يعتذر عما بدر منه، فاستمهلته ريثما أغير ملابسي وألبس «الريدنجوت»، وكنت أريد أن أدع أوراقًا كانت بجيبي وأوصي بها امرأتي، فلم يمانع في شيء. وخرجت معه وإذا عربة تنتظرنا، فركبناها وقصدنا إلى «يلديز»، فدخل الجندي بي إلى حجرة أبي لحية، وجاء حاجبه فقادني إلى أخرى مجاورة لها وقال: إن الباشا في «الحضور» فإذا عاد أخبرتك بعودته. ولم تمر عليَّ بذلك المكان عشر دقائق إلا والخادم يخبرني بقدوم الرجل.
فدخلت على غريمي … أعوذ بالله! الضواري تفتك إمَّا لإشباع بطونها وإمَّا جريًا على طبائعها. وإن أفتكها وأشدها خطرًا ليملُّ حينًا فيجلس إلى جانب فريسته يلعب بها أو يستريح بقربها. وأبو لحية لا يعرف التعب؛ فهو إذا فتك فتكته أسمع روحها ضحكته، ثم وقف متلفتًا ذات اليمين وذات الشمال طالبًا صيدًا جديدًا؛ لا يفتأ داميَ الجوارح؛ فإن لم يجد شيئًا ينهشه نهش جليسه، وإذا لم يكن عنده جليس نهش ثيابه أو عض نفسه، وربما أنساه طربه بعضاضه ما يجده من ألم مبرح، فيستمر عاضًّا، هو يعلم أن كل ذي روح يؤكل. ولقد يُعنى بصحة أبنائه وأهله ويسمِّنهم ليأكلهم إذا عدِم فريسته. يرى أن الله خلق الأنياب لتنهش، فلا يحب أن يُعطلها مما خُلِقت له. فإذا سال الدم الأحمر على لهاته وبراثنه وهدر في حلقه سائغًا مستعذبًا سخنًا؛ عرته هزة من تطرب وارتاح فؤاده.
رأيته أربد الوجه، ينطق الموت الزؤام على ناصيته، له عينان ملؤهما اللؤم، تحيط بذلك الوجه الخشن لحية لم أرَ في حياتي مثلها. لو نصبت شراكًا لما تركت بمزرعة طائرًا ولا بأجمة وحشًا. فسلَّمت عليه ووقفت أمامه، وكان مطرقًا فرفع طرفه إليَّ ومشَّى فيَّ نظره، ثم قال لي بصوت قبيح: أهكذا تدعنا في انتظارك طول يومنا هذا؟! أكنت تريد أن تهرب أم كنت تحدِّث نفسك بالعصيان؟!
– كلا، لا هذا ولا ذاك، ولكن جاءني أمرك الآن فأسرعت ملبِّيًا. فتأمَّلَني مليًّا ثم ضحك ضحكًا عاليًا وقال: أتريد أن تخدعني أنا! إن هذا لشيء عجاب. وصاح بخادمه فلما وقف أمامه قال: عليَّ بالجندي الذي ذهب ليدعو هذا البك. فدخل وقال إنه لم يجدني بالمعارف، وإنه فتش عليَّ كثيرًا حتى تأخر، وإنه حين أخبرني بدعوة الباشا بادرت لا متوانيًا ولا مُحجمًا. فسرَّى عنه وأمرني بالجلوس، وناولني سيجارة أشعلتها وأقمت أنتظر سؤاله.
فتنهَّد تنهُّدًا طويلًا ثم التفت نحوي وقال: كم تُحسن من اللغات؟
– أعرف العربية والتركية والفرنساوية، ولكنني لا أحسن واحدة منها.
– إذن تعرف معنى كلمة الخليفة؟
– لا يحتاج المرء إلى معرفة كثير من اللغات ليفهم معنى كلمة الخليفة.
– وتعلم أيضًا أن قوة الخليفة وبطشه لا حدَّ لهما، وأنه مع ذلك كله أمْيل إلى العفو عمن جنى والإحسان إلى من أساء. وإني سائلك الآن أشياء، فإذا كان جوابك كما أتوسمه فيك من الصدق والأمانة لا يبعُد أن يعفو السلطان عنك، وإذا حاولت الإنكار ولزمت المخادعة فتذكَّر أن اسمي محمد الجركسي، وأنا من يلين بالمجاملة ويخشن بالعناد، ولا أريد أن تجربني في حالة يسوءُك أن تراني بها. وأنت اليوم عظيم الذنب؛ ولكن النخوة تدفع بصاحبها إلى الاعتراف بذنبه وإن عظُم لكيلا يُرمى بالجبن والخوَر.
قلت: يا مولاي، هذه أشياء كان ينبغي أن تقولها إذا أنت سألتني وأخفيت أنا عنك شيئًا مما أعرفه أو أكون جنيته. وإني إذا أجبتك إلى الحق فذلك محبَّة مني للحق. أما الوعيد فلا يُطلِق لي لسانًا أكون عزمت على تقييده. فسل ما بدا لك. وأنا ذنوبي كثيرة لا أعلم إلى أيها تشير، فأفصح لي سؤالك أفصح لك جوابي.
– هل كتبت إلى الجرائد الأجنبية شيئًا في ذمِّ أحد رجال السلطان؟
– الآن علمت ما تريد. تسألني عما كتبت في أعمال الباشكاتب. نعم كتبت فيه عجالة أنفذتها إلى الجرائد وعَدت فيها قرَّاءها بطبع كتاب سأبدأ تأليفه قريبًا، وسأذكر في هذا الكتاب ما أعلمه من سيئات الباشكاتب.
– ولأي شيءٍ تُكلِّف نفسك هذا الشطط؟! وما يفيد الناس ذمك للباشكاتب؟! هلَّا صرفت قوة عارضتك وبيانك في شيءٍ ينفع أهل بلادك؟
– وهل ينفع أهل بلادي شيء أكثر من علمهم بمن يحول بينهم وبين سلطانهم؟ أتُراهم لا يرغبون أن يعلم السلطان بما يقع في بلاده فيتخلص من عدوِّه وعدوِّ أمته؟
– هذا فضول منك. ومن ذا الذي طلب منك أن تخدمه هذه الخدمة؟! أم من أنابك أنت عن أهل بلادك؟! أنا أقول لك السبب في غضبك على الباشكاتب؛ طلبت إليه أن يأتيك برتبة أو وسام، فوعدك بالنظر في ذلك وقال لك إن الخليفة أدرى بمن ينبغي أن يتحلَّوا بالأوسمة. فغاظك ذلك، والآن تريد أن تنتقم منه. فيا ناشدتك الله أتُراني أصبت في حدسي أم أخطأت؟
– إن ما طلبته من السلطان طلبته كتابةً لا شفاهًا؛ فإن كان فيه ما يُستدلُّ به على شيءٍ من هذا القبيل فحُكمك فيما تريد، وإذا ظهر أن كلامك غير صحيح أترضى بأن تكذِّبه في الجرائد؟
– أكلِّمك هنا بقصر السلطان، وما لنا وللجرائد؟! ولا شأن لنا معها؛ فإن كان ما أقوله غير صواب فخبِّرني أنت بالصواب. وإنما أمرني السلطان باستدعائك لأستطلع منك الصواب.
– أنا لا أجيب إلا كتابةً. على أن آخذ سندًا منك بما كتبتُه ودفعتُه إليك.
– إذن فاكتب. ثم أشار إلى مكتبة بجانب الباب عليها ما يحتاجه الكاتب من قلم وقرطاس، فقمت إليها وكتبت ما جرى لي مع الباشكاتب من البداية إلى النهاية، ورفعت ما كتبته إليه، فأخذه وقرأه وقال: سأرفع هذا إلى أعتاب السلطان وأُبلغك بعد ذلك أمره، فأتِني غدًا صباحًا، وإياك أن تمر بمكان أحد من رجال القصر. فخرجت قاصدًا إلى بيتي. ولما كان الغد ذهبت لميعادي، فكان وصولي إلى القصر قبل حضور أبي لحية، فأُدخِلت حجرته وأقمت في انتظاره إلى أن جاء، فحيَّاني تحية عن عرضٍ، ودعا بعد ذلك كاتبًا له فناوله مسدَّسه ومفاتيح مكتبته ليضعه بها، ثم عَمد إلى مصحف كان على يمينه فوق كرسي عالٍ، فتناوله وقبَّله وجعله فوق عينيه ثم أعاده إلى مكانه. وحين فرغ من أعماله هذه التفت نحوي وأخذ يحادثني ويسألني عن أيام معاوية وعلي بن أبي طالب، وقال إنه يبغض معاوية بغضًا شديدًا، وإنه لو وقع في يديه لضرب عنقه بالسيف. وبعد حديث لم أستطب منه شيئًا فارقني قاصدًا الدخول إلى الحضور. وصرت في انتظاره وحدي إلى الظهر، فعاد ولم يرد الجلوس بل قال لي وهو واقف وأنا أيضًا واقف: أبلغك أن مولانا السلطان يأمرك بإحضار أخيك من مصر، وأن تكذِّب ما كتبته في ذم الباشكاتب، وأن تأتينا بالكتاب الذي تزعم أنك ألَّفته أو ستؤلفه لنحرقه هنا ونرتاح نحن وترتاح أنت معنا. وقد أمهلك السلطان إلى صباح السبت، فأتِ إلى هذه الحجرة بعد أن تكون نفَّذت ما أمرك به سيدنا.
– اليوم الخميس، وتريد أن أحضر أخي صباح السبت إلى هنا! إذا قلت إنك لا تعرف كم بيننا وبين مصر، أفلم يخبرك أحد بمقدار بعدها عنَّا؟ ألم تسأل شركات البواخر كم يومًا تستغرقه أسرع باخرة للوصول إلى الإسكندرية؟! فهب أن أخي الآن واقف على رصيف الثغر الإسكندري، وأن حكومة إنكلترا أعارتني أسرع مدمِّرة لديها، أيكفي كل هذا لوصول أخي إلينا في صباح السبت؟! هذا ما لا يكون. وتكذيب ما كتبته مع علمي بصدقه لا أقوى عليه ولو أدَّى ذلك إلى ذهاب حياتي. أما الكتاب فلم أشرع في تأليفه؛ وذلك لأن عادتي ألَّا أكتب شيئًا إلا إذا علمت أنه سيُطبع، وأنا أكتب ما أكتبه وأبعث به إلى المطبعة تباعًا.
– كل هذا لا أسمعه منك. وما أُمِرت بمناظرتك، بل أُمِرت بأن أدعوك إلى الإنصاف. اذهب الآن واجعل جوابك مفتوحًا لكيلا أُتَّهم عند السلطان بخيانة العهد.
ولقد قضيت ليلتي على مثل أعالي الموج، فلما وافانا السبت قصدت إلى «يلديز»، وكنت كتبت ورقة ذكرت بها بُعدي عن أغراض السوء وما كابدته من الباشكاتب، وكيف اتفق الناس على الشكاية من أعماله، وأبنت أن رجوع أخي ليس بيدي، وأني محضته النصح فلم يرضَ به مني، وقلت إني لن أقدِم على تكذيب حق أنا عرفته، وإن لي من حسَبي لرادًّا على تورط الشبهات. فأُدخلت إلى حجرة أبي لحية كما سبق بيانه، وجاء هو بعد ذلك، فدفع مسدسه لكاتبه ولثم المصحف كأول مرة، والتفت نحوي سائلًا عما أكون قضيت فيما بلَّغنيه من أمر مولاه، فدفعت الرقعة إليه فقرأها وتمعَّنها ثم نبذها إلى الأرض ونظر إلى وجهي نظرة مغضب، وقال: الآن ندخل معك في شأن جديد. ألا تريد أن تطيع مولانا السلطان؟!
قلت: بلى، إني أريد، ولكن شتَّان ما بين الإرادة والإمكان.
– أراك تقول: حسَبي! وما هو حسبك الذي تتباهى به؟! من أي بيت فجور منشؤه؟
– نحن لم ننشأ من بيت فجور مثلك، ووا حرباه أن يكون بقصر الملك العثماني رجل مثلك أبت مكارم الأخلاق أن تسكن نفسه! أَمِنْ أجل هذا الكلام المهذَّب دعوتني وأشغلتني بك منذ يومين؟! أم أمرك السلطان أن تخاطبني بذلك؟ وقد نسيت أن أذكر لقرَّاء كتابي أنه دخل علينا رجل قصير القامة بادن الجسم علمت أنه من موظفي السفارة العثمانية التي ببرلين، فلما سمع ما خاطبت به أبا لحية قال لي: الباشا مثل والدك، ولا ضير في أن تتحالم له إكرامًا لسنه.
قلت: أعوذ بالله أن يكون مثله والدي. أنا لم أعرف والدي جيِّدًا لأنه تُوفِّيَ إلى رحمة ربه وأنا صغير، ولكنني سمعت من أناس كثيرين أنه كان رجلًا أحسن الله أدبه وعصمه مما يشين أهل الوقار. أما هذا الرجل الذي يذمُّ حسبي ونسبي في قصر سلطان العثمانيين فلصٌّ دنيءٌ حقيرٌ كذَّابٌ أفَّاكٌ، لا يُقاس بأحد حتى من السُّوقة. فالتفت أبو لحية إلى جليسه وقال: أرأيت كيف يستبطر حلم السلطان هؤلاء القوم؟ أما والله لو كان أمره بيدي لتوالت على أكتافه العصي.
قلت: وما يمنعك من ذلك؟
قال: خوفي من غضب سيدي الذي أعيش بأنعمه، وإني لفخور بخوفي هذا. وأنتم لا تعرفون مقام السلطان، فتبلغ منكم قلة الأدب أقصاها. وقد صدق من قال: أشد الناس جرأة على الأسد أشدهم جهلًا لبأس الأسد.
قلت: ويحك! ألا تدري أن السلطان لو جعل أمرك بيدي لألجمت فاك، ولجعلت فوق ظهرك برذعة، ولأركبت الناس متنك بلا أجرة. أنت لا تعلم ما تقول، ومن العبث أن أضيع معك أوقاتي، وها أنا ذاهب فإن كان عندك ما تبلغني عن السلطان فلا أتقبَّله إلا مكتوبًا. وخرجت من بين يديه فلم يمانعني.
ثم أرسلت رسالة برقية إلى عبد الحميد وصفت فيها ما اتفق لي مع سيَّافه، وقلت: إذا لم ينصفني طلبت إنصافه في جرائد أوروبا. فدعاني المرحوم عاصم بك كاتبه الخاص وأبلغني أن السلطان أسف أشد الأسف لما جرى لي مع أبي لحية، وأخبرني أنه سيحضر إليَّ عند عاصم ليعتذر إليَّ عمَّا فرط منه، ونصح لي ألَّا أجيبه جوابًا يؤلمه. فجاء أبو لحية وسلَّم عليَّ وزعم أنه لم يرد بكلامه لي غير النصيحة، وأنه أحبني فرأى أن يخاطبني بما يخاطب به ولده إذا لم يُطعه.
قلت: إذا كنت تقول لولدك في أية دار فجور نشأت، فهذا كلام أنا لا أصبر عليه. وحين هممت بالانصراف مال عاصم بك بي جانبًا وقال: يقول لك مولانا السلطان: إن من حُسن أدب المرء ألَّا يُكثر من الوعيد في مخاطبة مليكه. ويريد ألَّا يسمع منك كلامًا عن الجرائد الأوروبية.
فخرجت من ذلك القصر الذي استوطنه الظلم وأنا أكاد أعدو هربًا، وقلت: يا لك من صرحٍ شيد على خراب الوطن، فلئن مد الله في أيامي ورأيتك وقد خلَت مقاصيرك وحُجَرك وقفت أمام رسمك المُحيل وحييتك بما قاله الملك الضليل في الغابرين:
فدخلت منزلي واستلقيت على مقعد لي وجعلت أفكر فيما مرَّ بي من المخاوف والمهالك، وقلت: عسى يُعقِب الله هذا التعب راحةً فأخرج لا غانمًا ولا غارمًا، كما قال الشاعر القديم:
فلبثت ثلاثة أيام لا تروعني في خلالها روائع الدهر، حتى ظننت أن الدهر عاد إلى شيمة الوفاء، ولم يبقَ لي شيءٌ أخافه. وفي اليوم الرابع بينا أنا جالس في حديقة البيت إذا زائر يتقدم نحوي، فتأملته فرأيتها شابًّا حسن البزة والوجه، فلما دنا مني سألني: هل أنت ولي الدين يكن؟ قلت: نعم. فأخرج لي بطاقة كُتب عليها اسمه، وهو ممتاز بك من موظفي نظارة الداخلية، فرحَّبت بقدومه ولم أسأله عن سبب زيارته تأدُّبًا، وقربت منه كرسيًّا وسألته الجلوس، فجلس، وبعد دقائق قضيناها في تكرار جمل التحيات على العادة الشرقية قال لي: أرسلني إليك ممدوح باشا ناظر الداخلية لأبلغك أنه يريد مواجهتك في أمرٍ ذي بالٍ، ويقول إذا استطعت أن تزوره قبل العصر فاذهب إلى النظارة، وإذا لم تستطع ذلك فإنك تجده بمنزله الكائن بجهة «أرناءود كوي». وأمرني أن ألازمك في ذهابك لكيلا تتكلف تعب السؤال عن المنزل.
قلت: سمعًا وطاعةً. غير أنني لم أحظَ قبل اليوم بلقاء الوزير، فماذا تُرى يريد أن يخاطبني فيه؟
– لا أدري.
وكانت الشمس مالت إلى الغروب، فنهضت ولبست ملابسي ورافقت الرجل إلى منزل ممدوح، فأخبرونا أنه رجع من النظارة على عادته ثم دعاه السلطان إلى «يلديز»، وقالوا لممتاز بك: أمرنا الباشا أن نستبقيك مع من دعوت إلى أن يعود من القصر. فأقمنا في انتظار الناظر نحو ساعة من الزمان، فلما جاء أُدخِلت إلى عنده، فألفيته واقفًا إلى جانب الباب فاستقبلني بأحسن ما يُستقبل به قادم، وناولني الخادم سيجارة فلم يرضَ الباشا أن أشعلها وناولني أخرى من علبته، وأشعل لي كبريتة بيده فدخَّنت سيجارتي وقلت في نفسي: تُرى ما وراء هذا الإكرام! فبدأني بالحديث، قال: كثيرًا ما كنت أسمع الناس يتحدَّثون بفضلك وأدبك فأشتاق إلى رؤيتك. غير أنني لم يُقسَم لي أن أراك إلا في هذا اليوم، وأودُّ ألَّا تكون هذه آخر زيارة؛ فإن البيت بيتك وكل من به يفرحون لقدومك. فأجبته بما يسع المقام، ثم قال لي: أأنت ابن أخي محمد فائق بك يكن؟
– نعم.
– أنعِمْ به وبك، هو صديقي من القديم وأنا ممن يفتخرون بمودته. والآن زادت جرأتي في بيان ما أريد لك، فاسمع كلامي وتأمله ولا تتعجل الاعتراض. أنا لي ولد هو أسنُّ منك، ولي من التجارب ما لا يُتاح لسنك. وقد كنت صديقًا للمرحوم نامق كمال الشهير، وهو أشعر الشعراء وأكتب الكُتاب غير منازع، فأخلصت له النصيحة في ترك اللجاج والرجوع إلى طاعة أولي الأمر، فلم يحفل بمقالي وسخر من نصحي، فلمَّا خاب في مساعيه وعثرت جدوده ندم حين لا يُجدي الندم. وقد رآني في أيام نكبته مرة فقال لي: صدقت يا ممدوح فيما قلت لي، وليتني كنت تبعت رأيك وعملت بمشورتك فكُفيت ما ألاقيه اليوم. وإنما أبدؤك بهذا الكلام لتجعله عظة لك، إني أتاني أنك تناضل قومًا من المقربين عند السلطان. وهذا ما لا أرضاه لك؛ ما لنا نحن ولهم، هم خاصة رجل نحن من رعيته، ولا يطمع عاقل في أن يُعاقب السلطان أحد خاصته إكرامًا لمن ليس من أندادهم. إذا كنت تريد من السلطان شيئًا فبالرفق والحسنى تناله. ولقد قال الحكماء: يُدرَك بالحكمة ما لا يُدرَك بالقوة. هذا كلام لم يأمرني به السلطان ولا طلبه مني أحدٌ من مقربيه، ولكني أقوله لك متوسمًا فيك الرأي والسداد، وإذا شئت أن تكتب فاكتب ما ينفع بلادك. والذمُّ لا ينفعها. ألِّف روايات وترسَّل فيها ببيانك المعلوم، أو فاكتب كُتبًا في التاريخ والأدب، وإذا كانت لك عند السلطان حاجة فتعالَ إلى بيتي ولك عليَّ أن أكون رسولك إليه، وإذا لم أُرضِك فاشتمني وذمني ما شئت، أنا لا أواخذك، وأحمل منك ذلك على فتنة الشباب. أما غيري فيؤاخذك ويطالبك بحقه، والسلطان لا يذل خاصته، ولا غنى له عنهم. والآن وقد سمعت كلام أب يغار على أهل الفضل والحسب أن يصيبهم مكروه، فهل أنت واعدي بترك نضالك؟!
– ما ثم من نضال، شتموني ثم اعتذروا، وسمعت الشتم أوَّلًا وقبلت المعذرة ثانيًا، فلا أنا مغبون ولا الدهر غابن.
– حسبك. قد رضيت منك بما تعهدت. أما رجوعك إلى مصر فلا أراه صوابًا، ولا يضيع العاقل خيرًا هو بيده جريًا وراء أهوائه. فشكرت كلام الرجل كما يوجبه الأدب وخرجت من عنده، وما أطربني من كلامه إلا لفظه دون معناه؛ فإن ممدوحًا من رجال الأدب الذين عاشروا كمالًا وأصحابه وأوتوا البيان وفصل الخطاب. غير أنه فتنه ذهب عبد الحميد وقلَّت قيمة الوطن عنده، فحسِب الذهب يبقى والوطن يفنى، فكان من الأخسرين أعمالًا.
هذه الزيارة فذة لا ثانية لها، وما سرَّني أن يكون لي بمودة ممدوح ملك الدنيا، وهو رجل لم تطلع الشمس على ألأم منه، وأعلم أنه خاطب كثيرين بمثل ما خاطبني؛ ليستجلب قلوبهم ويشتري نفوسهم ويُلقي بهم في هلكات العار.
وقد أطلت الكلام في هذه الفصول حتى كدت أخرج عن الصدد، بل خرجت عن الصدد. وإنما أردت بذكر هاته المحادثات أن يقف القُرَّاء على عقول أركان الاستبداد وعلى تنوع أهوائهم؛ فهي منقولة إليهم بغير زيادة ولا نقص، وكأن كاتبًا كان يكتب ما يدور بيني وبين هؤلاء الناس. وربما يُخيل لبعض القراء أن ببعض لأخبار مبالغة فلا يصدِّقون وقوعها، فيقولون كيف يكتب ولي الدين كذا وكيف يتجاسر أن يقول كذا وهو في قصر عبد الحميد بين يدي خاصته؟! ولكن هذه الوقائع يعلمها كثيرٌ من الناس، وهم لا يزالون بالآستانة، ومنهم من جاء مصر وأقام بها، فإن كانوا يعلمون فيما ذكرت شيئًا يخالف الصواب فليتفضَّلوا بذكره ولينشروه بالجرائد، وإذا هم لم يستطيعوا نشرها نشرتها أنا لهم بأية جريدة يريدونها.