شتم وضرب وقتل
كل بلد فيها من الفضائح ما يظنُّه الناس لا يتحصل في غيرها، وكل معشر لهم من المثالب ما يخاله المرء لا ينشأ إلا منهم. ولو تأمَّل حالَ الدنيا لبيبٌ رأى عواصمها مكامن للأسواء ومعاشرها صناديق للعيوب. فلست أريد أن أذمَّ ماضي فروق من هذه الوجهة؛ وما ذنب فروق وهي روضة غنَّاء، زهرها ابتسامها ومُزْنها بكاؤها، جنة أراد قوم أن تكون جهنم فلم تكن. وإنما الذنب ذنب فئة باغية تقدَّمها عبد الحميد، فكانت كالسيل إذا دهم والطامة إذا حلَّت.
دخلت الآستانة وبها شاب اسمه عبد الغني بك، كان ميرالايًا بالحرس السلطاني، نال من ثقة مولاه ما لم ينله أحد غيره، ومن الحظوة شأوًا بعيدًا وقفت دونه الهمم. استبطر عبد الحميد هذا الشاب فتركه يعتدي على الناس، ولم يقبل فيه وشاية ولا سمع فيه شكاية، فلو قيل له إن عبد الغني أضرم النار بالآستانة وأخذ يرمي بالناس في لهيبها مثنى وفرادى لقال: دعوه، أنا أمرته بذلك. ولم أعاشر عبد الغني ولم أخالطه كثيرًا ولا قليلًا فأقول في حقيقته ذمًّا أو مدحًا، وما رأيته منذ نزلت بالآستانة إلى يوم مقتله غير مرة واحدة. والمادحون له مَن أفادهم وده، والقادحون له مَن أضرهم بغضه، ولا يُعتدُّ بشهادة فريق منهما. غير أنه تجاوز الحد في إقدامه، فلم يرحم صغيرًا ولم يوقِّر كبيرًا، وحيث رمى ببصره سعى بقدمه. وكان لهذا الشاب آخر يغايره ويعانده، وكان دون عبد الغني شجاعةً ولم يكن دونه قدرة. وقد فاق عبد الغني طَولًا بما أوتي من المال. وهذا الخصم الألد هو جاويد بك ابن المرحوم خليل رفعت باشا الصدر الأعظم. ولما بلغ الشر مبلغه بين المتحاسدين وسعى أناس بينهما بالغيبة والنميمة دهم عبد الغني جاويدًا بأحد المنازل فسبَّه وشتمه وطرده على أسوأ حال، فأسرَّها له جاويد في نفسه، وكان له صديق حميم اسمه حافظ باشا، وهو أحد أعضاء أمانة البلدة بالآستانة، فأخذ يتودَّد إلى عبد الغني حتى استحكمت بينهما الألفة، ثم رماه برصاصة أصابت جبهته في خبر طويل، وفرَّ حافظ. وأرسل بعد ذلك جماعة من قبيلة عبد الغني بك رجلًا اسمه الحاج مصطفى قتل جاويدًا بجسر غلطة في رابعة النهار.
وكان لعبد الحميد كاتب خاص من قبل عاصم بك اسمه كامل بك، دخل عليه جاويد يومًا وكلَّمه في شئون بينهما لا يعلمها سوى الله، فعظُم الخلاف وكبُر الشر وآل الكلام إلى الملاكمة، ففاز جاويد على خصمه وضربه حتى أوجعه، فلما بلغ الأمر عبد الحميد أنعم على كامل بك برتبة البالا وعلى جاويد بوسام وأمر لهما بجائزة سنية.
واشتد غضب الصيادي على آل بدرخان إلا اثنين منهم، وهما بدري بك وعثمان باشا، فسلَّط على … بك البدرخاني جماعة من الحمالين هاجموه ذات يوم، ولكنه أدخل يده في جيبه فأخرج مسدَّسًا كان معه ورمى به في الهواء ثلاث رميات، فأسرع البوليس إلى المكان الذي دوَّت منه الرصاصات وقبضوا المعتدين واستاقوهم إلى نظارة الضابطة، وخلَّص الله البدرخاني من أعدائه. وأراد علي شامل باشا — وهو أيضًا من كبار أولاد بدرخان الشهير — أن يعاقب أخاه عثمان باشا على صداقته للصيادي، فقابله في يوم من أيام رمضان إحدى السنين وهو خارج من الجامع، فضرب علي شامل أخاه ضربة على وجهه هشمت أنفه ووقع على الأرض صريعًا فنقلوه إلى البيت. ولما كان يوم العيد قابل عثمان أخاه في حجرة التشريفات بسراي «طولمه بغجه» فرماه بنظرة ملؤها وعيد وخرج من بين صفوف المهنئين، وأشار بيده إلى السلطان مسلِّمًا، فأنفذ السلطان وراءه حسن باشا محافظ بشكطاش الفاتك الشهير ينذره بأنه لن يعود إلى التشريفات بعد ذلك أبدًا.
وكان حسن باشا — الذي أتى ذكرُه في هذا الفصل عرضًا — من أكبر أنصار الاستبداد، يضرب ويقتل ولا يعارضه أحد. ويروي البعض أن السبب في هذه المنزلة أن بعض الأحرار كانوا هاجموا قصر «جراغان» التي كان السلطان مراد الخامس مسجونًا بها وحاولوا إخراج السلطان المعتقل وإعادته على كرسي المُلك وجعل عبد الحميد مكانه. وقاد هؤلاء الأحرار السعاوي الشهير، ففتحوا أبواب القصر عنوة حتى وصلوا إلى السلطان مراد، وكان الخبر وصل إلى حسن باشا محافظ بشكطاش فأسرع إلى المهاجمين في جماعة من الجنود، ووقعت عينه على السعاوي فضربه ضربة ألقته على الأرض قتيلًا. والقصة معروفة عند العثمانيين كافة، وهم يسمُّون هذه الواقعة واقعة السعاوي. ومن ذلك اليوم أُعجِب عبد الحميد بحسن باشا وركن إليه في المحافظة على حياته. وهذا الرجل ضربَ يومًا الحُرَّ الشهير المرحوم مانياسي زاده رفيق بك الذي كان ناظر العدلية، فشكاه ولكن لم يسمع شكايته أحد.
ولعلي شامل باشا البدرخاني واقعة أخرى تعجبني كثيرًا؛ فقد التقى يومًا بحسن خالد الصيادي بجهة الفنار، وكان حسن خالد ذهب إلى هناك لينزِّه ناظريه في جمال تلك الغانيات وقد ملأت الروابي والبطاح، فضربه علي شامل أمامهن حتى أسفَّه التراب.
كذا كانت فروق؛ يضرب الناس بها بعضهم بعضًا، فمن كان ذا قوة وبأس شديد استوجب لنفسه الكرامة وبات ذا منعة لا تتطاول إليه الأبصار، ومن كان ضعيفًا ضيم في ضعفه ولم يجد له حميمًا ولا نصيرًا. وهنالك عبد الحميد مشرف من أوجِه ينظر إلى الناس في اختلاف أهوائهم وتزاحمهم على آرابهم، فيسوق فريقًا إلى حرب فريق، فمن رجحت كفته استدْناه من حظيرته واختاره لنفسه، ومن خفَّت كفته أجهز عليه وعجَّل له بنقمته.