كيف نفَوني إلى سيواس؟
لو كنت آمل أن سأعيش إلى يوم أكتب هذه السطور لحرصت على ما كنت كتبت في أيام شقائي. ولكن غلب عليَّ اليأس واشتدت الضجرة، وقلت: ربما وشى بي واشٍ إلى الحاكم الظالم فأوخذ إلى السجن ويؤخذ ما أكون كتبته إلى النار، فلا أنا أستفيد ولا الوطن يستفيد.
لي عند بعض الناس ثارات أنا أهبها اليوم لهم غير مكره. عفا الله عما سلف. ولا آتي في سياق حديثي بذكر أشخاصهم ولا أعرض بشيءٍ مما امتازت به صفاتهم تجاوزًا وصفحًا، فليعذرني قارئ كتابي؛ فليس المقام مقام انتقام بل هو مقام اعتبار واتِّعاظ.
لما كاثرتني جموع المستبدين وهي في إقبال دولتها وقوة سلطانها، واشتعال جذوتها وامتداد حكمها، وتخاذل عني قوم كنت أعددتهم للعظائم؛ رأيت في نفسي ضعفًا عن الاستمرار على الكفاح. أما النكوص على عقبي فلم أرضَ بعيبهِ وعاره، وأمَّا الانقياد فدونه الموت وأعذب منه أشد العذاب. فرأيت الراحة في الهدون حتى أجد عدة كافية ودرعًا واقيةً وسلاحًا ماضيًا وأنصارًا أولي حزم ووفاء. فأقمت الليالي والأيام لا أغشى لصديق مجلسًا ولا أفشي لأحد سلامًا، ولزمت بيتي وانقطعت عن نظارة المعارف، فكان يزورني من الأصدقاء من لا يسوءني محضرهم ومن آمن عواقب الثقة بموداتهم. وظللت على ما ذكرت بعيدًا عن معترك المتناظرين منقطعًا إلى أحزاني مكبًّا على مطالعة الكتب وكتابة الفصول ونظم الأشعار، فطاب لي الانفراد وآنست إلى وحشة هذا السجن الذي اخترتُه لنفسي، ولزم الجواسيس باب داري فجعلوا يتزاحمون جيئةً وذهابًا وهم لا يظفرون بطائل.
فخرجت ذات يوم في حاجة عرضت، فلما كنت في بعض الطريق التقيت بصديقي القديم الدكتور ﻧ… وهو إنكليزي الأصل، كان جاء الآستانة في أيام الحرب التي هاجت بين دولتنا وبين روسيا في سنة ١٨٧٧ وكتب في الجندية العثمانية، ولما وضعت الحرب أوزارها خرج من الجندية وطابت له الإقامة بالآستانة فلم يفارقها إلا مرَّات قلائل. وقد تعلَّم اللغة التركية وعرف قراءتها، وكان له في اللغة الفرنساوية باع طويل وله بها كتابات تدل على أخذه بنواصي البيان. فدنا مني هذا الصديق ومال بي إلى قهوة كانت قريبة منَّا فدعاني إلى الجلوس فجلسنا، ثم جعل يُصعد فيَّ نظره ويصوبه وقد عرته دهشة مما رأى من نحولي، فأنكر ما شاهد في وجهي من التغير وأخذ يسألني عما أدَّى بي إليه، فقلت: لزمت البيت وانقطعت عن النزهة والاستشفاء بمعتلة النسائم، فأحدث فيَّ طول اللبث وفرط الانكباب على التفكير ما ترى.
– وما الذي دعا بك إلى هذا الاعتزال؟
– مللت مغالبة الغاشمين وكَلَّ عن نضالهم ساعدي، فهادنتهم حتى أستعيد قوتي أو أجد نصيرًا على الحرب.
فتأمَّل الرجل النطاسي وجهي مليًّا وتنهَّد تنهُّدًا سمعت له زَجَلًا في صدره ثم قال: ألم أقل لك يا ولي الدين إنك خاطئ في إغضابك أبا الهدى؟ وقد ظننت بي الظنون يومئذٍ وزعمت أني متشيع له؟ وما لي والتشيع لأبي الهدى وليس له عليَّ من سلطان؟! أنا رجل إنكليزي، وقصارى ما ينالني من غضب عبد الحميد أن يأمر بإخراجي من بلاده، فأخرج مكرهًا ثم أعود مدعوًّا فيستقبلونني بالعطايا، ولو كنت أُحاول ذلك لنلته منذ أمد بعيد. وإنما كان لومي خوفًا عليك من كيد رجلٍ لم يثبُت على لقائه مُنازِل، وعلمًا مني بأن كل هؤلاء الذين في قصر الملك يخافون أبا الهدى على أنفسهم، ولا يجاهر أحد من أعدائه بحماية عدو يكون أبو الهدى مطارده. ولم أقل لك في نصحي شارِك الرجل في مفاسده وأعِنْه على الخيانة وتحبَّب إليه بالكذب والنفاق، بل قلت لك دعه وشأنه واحترس من غوايته واكفِ نفسك شر بطشه. والآن ماذا تريد أن تفعل؟
– سبق السيف العَذَل، ما أنت باخلٌ بنصحٍ ولا الجد ذاهب بمأمل ولا أنا نادم على ما فات. إني فعلت حين قدرت وأمسكت حين عجزت. وإذا عاودتني المقدرة عاودت العمل.
– أنت أَمْلَكُ مني لنواصي الكلام، وأنا أبصر منك بمواضع الرأي، فلا تغالب حقائقي بزخارفك واسمع لما أُلقِي عليك: تقوم من ساعتك ماضيًا في حاجتك التي خرجت لها من دارك، وسأكون واسطة لإصلاح ذات بينك مع أبي الهدى. ولكن إياك أن تنقاد لهواه وتستخدم قلمك في أغراضه فتقضي بذلك لباناته، حتى إذا حاق بك سوء وقف يضحك على عقلك ويسخر من رأيك. وسأزورك في دارك بعد يومين.
فمضى صاحبي لشأنه ومضيت لشأني، وتم الصلح بيني وبين أبي الهدى على يده، وزرت أبا الهدى في بيته وزارني بعد ذلك نجله حسن خالد بك الصيادي. وبعد أن مضت على الصلح أيام توجهت إلى منزل الصيادي لأنظر ما سيبدي لي من ود أو عتاب، وقد كنَّا تراضينا على ألَّا نعيد ذكر ما فات وألَّا يكلِّف أحدنا صاحبه عملًا. فلما أُدخِل بي على الرجل تلقاني بصدر رحب وثغر باسم وأدنى منه مجلسي وأقبل عليَّ بوجهه وطيب حديثه، وأنا لا يطمئن له فؤادي ولا تنبسط له نفسي. وكنت أعلم أن أبا الهدى لا يُفلِت فريسة أمكنه الدهر منها، وأنه أشد ما يكون فاتكًا إذا ظفرت يداه بعدوٍّ له. فأضمرت الحذر وأظهرت الاستسلام فإذا هو يميل عليَّ بكله، وجرى يومئذٍ بيننا حديث طويل، وأطلعني على كثير من أسراره وأقرأني من أوراقه ما لو عُرِض على عدوٍّ غيري لنال بها من الثراء ما يبقى لأعقاب أعقابه، وحلف لي بالأيمان المُغلَّظة أنه لا علم لابنه حسن خالد بشيء مما في تلك الأوراق، فأعدتها له وعاهدته ألَّا يعلم مني أحد شيئًا مما أسرَّه إليَّ، وها أنا اليوم أوفي بعهدي وأحفظ له سره، ولو عاش في دولته إلى يومنا هذا لحاربته حرب المستميت ولكن غير مغالب له بأسراره. وقد أيقنت بعدها أن الرجل جرى معي على غير شيمته وأنه لا يضمر لي غدرًا، فأمنت غوائله واسترحت من طول الحذر، ولو كان أبو الهدى غير خائن لدولتي لحرصت على وده ولأقمت على مناصرته ما بقيت لي في الحياة بقية.
على أنني ما صالحت أبا الهدى إذ صالحته إلَّا لأُكفى طول مناضلته وأفرِّج عن وجهي ما كان يمنعني عن الفرار والخلاص مما كنت فيه. وأمَا وقد تهيأ لي ما أردت فلم يبقَ إلَّا تشمُّري وشد رحالي. وبينا أنا في نقضٍ وإبرام إذ دخل علينا شهر رمضان، فحمدت قدوم الصيام ورأيت في شغله الشاغل للناس ما يُعمي أبصارهم عما أتأهب له، وأقمت أستنجز الفرص. وإني لفي داري مشتغل بما ذكرت وإذا رسول أبي الهدى يتعجَّل مُضيي إليه. قلت: ما أتى السيد حتى أنفذك إليَّ؟ قال: لا أدري، ولكنه أخبرني أنه سيكون على انتظارك بعد الإفطار. قلت: بلغه أني قادم عليه. ولما ولَّى الرسول أنجزت ما كان بيدي من أعمالي وما أزِفَ الوقت إلا واكتريت عربة وبادرت إلى موعدي، فتلقَّاني حسن خالد في طرقة الدار وسألته عما دُعيت لأجله، فأبدى تجاهلًا حَسُن عنده سكوتي، ثم أُدخلت عند أبي الهدى، فاستقبلني قائمًا ولم أرَ على وجهه بشاشته التي عوَّدنيها ولا بدت على ثغره بسماته تلك التي خدعت الماكرين، ولكني رأيت في حاله من الوجل ما كاد يستخف بحلمي، فأمسك بيدي وجعل يتأمَّل وجهي وأنا مستمسك بنفسي موطد قدمي ولا أدري ما نهاية ذلك كله، فأخذ يُسكِّن روعه قليلًا قليلًا وثابَتْ إليه أنَاتُه وراجعه وقاره فأشار إليَّ أن اجلس وجلس هو بمكانه، ثم قال: إني لفي قلقٍ عليك منذ البارحة.
– وكيف ذلك؟
– سمعت أن الشرطة دخلت بيتك وأخذت كتبك وأوراقك، وأنك قضيت ليلتك في دار الضابطة، فبتُّ لا أدري ما أصنع ولا كيف أستخبر صحة الخبر، فما أصبحت إلا وأنفذت رسولي إليك، ولما رجع وأخبرني أنه رآك بمنزلك خفَّ عني بعض ما كان حلَّ بي من الجزع، ثم خبرت أن القوم أخذوا ما وجدوا عندك من كتب وأوراق ولم يتعرضوا لك بسوء، فقُص عليَّ الآن كيف كان ذلك؟ ومن هذا الذي وشى بك ولم يعلم أن وراءك أبًا لا يَكِلُك إلى من يجهل عليك؟
– سيدي، لم يحدث شيءٌ مما تذكره، إني لأحسُّ بشرٍّ ولا أتبينه. وقد بثُّوا عليَّ العيون وأذكَوا الأرصاد، وما أدري ما رابهم من أمري.
– إذا لم يصح ما ذُكر لي فذلك فضلٌ من الله، ولكنني أوصيك بنفسك خيرًا، افتح عينيك يا ولي الدين ولا تدع لأعدائك سبيلًا إليك، ومهما يكن عندك من كتاب أو ورقة مما يُحج به الخصوم خصومهم فمزِّقه ولا تخَف بعد ذلك واشيًا ولا تبالِ رقيبًا. وإذا مسَّك الضر من مكيدة عدو فبادر إليَّ لا متريِّثًا ولا متغافلًا. فهممت أن أخبره بما عزمت عليه من الهجرة، ولكنني أمسكت مخافة أن تكون الفتنة فتنته، ثم استأذنته في الانصراف فأذن لي وودعته وخرجت من عنده لا ألوي على شيء، فما أدركت منزلي إلا عمدت إلى كتبي وأوراقي، فأخذت أتفقَّدها وأستخرج منها ما لا يلائم هوى القوم، وكان عندي من كتب أحرارنا وجرائدهم شيءٌ كثير، جاءني بعضه على يد بعض أصحابي من الأجانب وأحضرت بعضه والدتي حين قدمت عليَّ من مصر، فجعلت أُمزِّق هذه المذخورات الغوالي تفاديًا بها من ليل لم أعلم أنه لا محالة مدركي، وملت بعد ذلك على أوراقي تفقَّدتها ورقة ورقة، وأنا كلما أجد شيئًا يُستراب منه أمزقه وأُلحقه بغيره، ولم أزل كذلك في نظر وتنقيب حتى آذن ليلي بالبلج، فأخذت تلك الممزقات وألقيت بها في النار، وما استقل بها اللهب إلا وأنا كالآيب من احتطاب في الجبل أو كالخارج من غمرات الوغى. وكان لي بحجرة والدتي صندوق فيه أوراق وجرائد وصور نسيتها كلها ولم أتعهَّدها منذ قدومي الآستانة، وقد فاتني أن بذلك الصندوق ما يستطير الشرر من عينَي عبد الحميد، ولَكَم حاول أهل بيتي أن يحملوني على فتحه وإحراق ما يكون فيه من أشباهه ونظائره فلم أُلقِ للنصح بالًا.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر ديسمبر الكائن في سنة ١٩٠١ جاء امرأتي المخاض، وما قاربت الشمس الغروب إلَّا وقد وضعت بنتًا سميتها فكتوريا، تلقَّيناها ببسمات وتلقَّتنا بصيحات، وكأن المسكينة أحسَّت بدنو النكبة من أبيها فأجهشت لرؤيته بالبكاء، فقلت إذ رأيتها في مهدها: ما كان أسعدني بك يا بنيتي لو كنت في مأمن من طوارق الحدثان، وما بي أن أغرق في اليم أو أن أظل في ظلمات السجن، ولكن مَن لأمِّك وأخيك وجدتك من بعدي، وقد أظلَّكم عبد الحميد بسلطان نقمته والناس يفرُّون من الحُرِّ وأهله كما يفرُّون من المجذوم.
ومما زادني حزنًا وأوسعني خبلًا قعود الحظ بي عن الفرار، وكيف كان يتهيأ لي ذلك وقد باتت عندي نُفَساء لا تقدر أن تخطو في حجرتها وطفلان كبيرهما لا يحبو وصغيرهما رضيع، ووالدة إن أتركها أتركها للفاقة والامتهان. هذا وحول داري من الجواسيس طائفة لا تهجع الليل ولا تغدو النهار، قائمة على بابي تُحصي أنفاسي وتراقب كل حالاتي.
فلما كان اليوم الثاني من شهر يناير في سنة ١٩٠٢ جلست في حجرتي وجعلت أمامي ورقًا وأقلامًا، وأنشأت أكتب فصلًا كان خطر ببالي. وقد أمسيت وأوقدت حولي المصابيح وأنا مستغرق في شغلي لا أستشعر شيئًا من ذلك، فدخلت عليَّ الخادمة تخبرني أن بأسفل الدار زائرين يريدان أن يرياني، وأن وراءهما جماعة من رجال البوليس وقوفًا على باب الدار، قلت: لا ضير، أدخلي الضيفين إلى مجلس الضيوف. أما البوليس فيكونون أتوا من الثكنة المجاورة للبيت ليدلَّا عليه الطارقين، هنالك خرجت الخادمة، وأنا رفعت ما كان أمامي من ورق وغيره، ثم دخلت على الضيفين. فإذا هما لا يسُر مرآهما ولا يُبشر قدومهما؛ رجلان من أعوان النقمة وجنود العذاب، أعرفهما من وجهيهما اللذين محا الله تعالى منهما آية الأنس، وأجال في أديميهما صبيبًا غسَّاقًا، وأسكن نفسيهما من السوء ما يكون معوانًا لهما على أكل لحوم الناس وشرب دمائهم. أعوذ بالله من مثل تلك الوجوه! الضيفان الطارقان أحدهما محمد علي بك الذي كان رئيس الهيئة التحقيقية بنظارة الضابطة، وثانيهما إسماعيل حقي أفندي الذي كان مفتش البوليس في متصرفية «غلطة سراي». تلقيتهما بما يتلقى به الزائر غير المعروف، وناولتهما السيكارات وأسقيتهما القهوة وهما في محادثتهما لي يقلِّبان أوراقًا وجرائد كانت على خوان قائم في وسط القاعة. وقد أحسَّ قلبي أن وراء هذه الزيارة ما لا أحب، فأبديت التغابي وآثرت الصمت، حتى إذا فرغا مما يُكرم به الضيف التفت نحوي محمد علي بك وقال: شفيق باشا ناظر الضابطة يُقرئك السلام، ويقول لك إن السلطان أمره بتفتيش أوراقك وأخذ ما كان مخالفًا لرضائه منها، والباشا يعلم أنك لا تدَّخر شيئًا يُغضب مولانا الأعظم، ولكن لا بدَّ من الطاعة والجري على مشيئته، وها نحن عندك نرجِّي إذنك في التفتيش.
إسماعيل حقي أفندي: أترى ولي الدين بك يشكُّ في محبة الباشا له وإيثاره إيَّاه على كل عزيزٍ عنده؟! ما أظنُّه مانعنا عن خدمة يعلم أننا مُكرهان عليها، ولو خُيِّرنا فيها لما اختار أحدنا أن يحرمه راحته ويكدر عليه صفاءه. قلت: لا بأس عليكما، لكما ما سألتما ولي إليكما رجاء فأعيناني على أكذوبة تنفعني ولا تضركما.
– ما هي؟
– سأقول لامرأتي إن ناظر الضابطة محبٌّ لي، وإنه اتصل به أن سيفتش البوليس بيتي في هذه الأيام، فأرسلكما إليَّ لتأخذا له ما يكون عندي من الكتب والأوراق؛ فيخفيها عنده ويعيدها إليَّ بعد انقضاء تلك المحنة.
– لك ما سألت.
هنالك دخلتُ على امرأتي وخاطبتها على ما توافقنا عليه، فلم تنفع الحيلة وفطنت لها، ولكنها تجلَّدت تجلُّدًا لا تقوى عليه السيدات، وقعدت في فراشها وقالت: أدخلهما. فدخل الرجلان وأمالا رأسيهما سلامًا، فلم تردَّ سلامهما، ثم أوغلا في التفتيش، فما أشكل عليهما فهم كتاب أو جريدة أو ورقة إلا أخذاها، ولما تدانيا من الصناديق التي بها ملابس سيدة البيت أعرضا عنها ولم يمدَّ أحدهما إليها يدًا. وقد وقع نظرهما على مسدس لي كان على خوان هناك فأخذاه أيضًا، ثم دخلا حجرة والدتي وطلبا أن ينظرا الصندوق الذي كان فيها. قلت: هذا صندوق فيه ثياب والدتي، قالا: كلا، ليس الصندوق صندوق ثياب ولا بدَّ من أن نراه، فتركتهما وشأنهما وقد وجدا به كل شيء؛ تلك أوراق وكتب وصور منها ما كتبه الأحرار ومنها ما كتبته أنا، ووجدا صورة عبد الحميد الفطغرافية في أوائل أيام مُلْكه، وصورة السلطان مراد الخامس الذي قضى شهيد السجن بجراغان، وغير ذلك مما يطول شرحه ويهول الخائنين ذكره.
فلما وقع نظر الرجلين على هذه الأوراق لمعت أعينهما وافترَّت نواجذهما سرورًا. وكان محمد علي أخبث الرجلين، فجعل يقلب الأوراق بين يديه ويهزُّ رأسه كمن هاله أمر عظيم، فقلت في نفسي: ما له يعطو كما يعطو حمار الوحش! وما لهذه الرأس تدور بين كتفيه وكأن تحتها لولبًا يُديرها! فالتفت نحوي وقال: وجدنا عندك أكثر مما أملنا.
فلم أجاوبه بكلمة، ثم استخرج صاحبه من الصندوق كيسًا صغيرًا كانت به أوراق بخطِّ والدي المرحوم وصكوك وعقود وغيرها، فحاولت استرجاع الكيس غير أني لم أفلح. وإذ فرغ كلاهما من جمع الورق جعلا ما أخذاه في كيس كبير وختما عليه بالشمع الأحمر وختمت كذلك معهما، واحتملا حملَهما وودَّعاني ذاهبَين، ثم حين عاودت حجرة امرأتي وجدتها تنتفض انتفاض العصفور في ليلة قرٍّ ممطرة حتى لم أشكَّ أن ستقضي بين يديَّ، فصحت بوالدتي لتعينني على مساعفة تلك المسكينة بشيءٍ من الدواء، وإذا هي لا تقدر أن تنهض من مكانها، فأدركتني الخادمة وأخذت تعالج معي المرأتين حتى هدأ روعهما وسكنت الرعدة في جسديهما، ولكن بعد أن كادت الروح تزهق. ولما اطمأن عليهما فؤادي خرجت إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين، فرأيت هناك مرادًا الداغستاني ولم يكن يعرفني وجهًا، وعلمت أن الجنرال مريض وأنه لم يقابل أحدًا في يومه، فأخبرت وكيله بما كان من دخول الرجلين بيتي وأخذهما أوراقي، وأظهرت له ما بتُّ أتوقعه من الخطر، وكان الداغستاني يُصغي لحديثنا وسمع الوكيل ينطق باسمي، فعرفني وتذكَّر ما كان بيني وبينه من شر، فتركني حتى أتممت حديثي، فالتفت إلى وكيل الجنرال واسمه رشيد بك وهو رجل عاقل كامل التهذيب، فقال له مراد: أهذا ولي الدين بك يكن؟
– نعم، هو من تراه.
فنهض مراد واقفًا وجعل يحدِّق فيَّ ببصره حتى لظننت أن الرجل قد جُنَّ، ومشى خطوات إلى أن صار أمامي، فكلمني قائلًا: ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن تشكو أنت فيه هذه الشكاية.
– وما يريبك من شكايتي؟
– يريبني منها أنها شكاية رجل حر يصيح بها رجل مستبد.
– ما رأيت من استبدادي؟
– منازلتك لي أيام كنت أصدر جريدتي «ميزان» بوادي النيل، ووقوفك في وجهي ودفاعك عمَّن تشكو ظلمه اليوم. هذا الذي كنَّا نشكوه قبلك وكنت أنت تكذِّبنا فيه وتُمطر علينا صواعقك، وجريدة النيل شاهدة عليك. وإني لأعرف لك فضلًا حدَّثتُ به كل من لقيته أيام تلك المصاولات؛ وذلك أنك مظفر الحجة شديد الوطأة غزير مادة الكلام. ولقد قلت لهم إنك لَلخصم يقذع خصمه، ولكن يُعلمه ويُهذبه وكنت أوصي من معي بترك مغاضبتك والتعرض لقارعاتك.
دخل رجال الضابط الليلة بيتي وأخذوا أوراقي وكتبي، وملئوا قلوب من بالبيت فزعًا. وإنما يُصنع مثل هذا باللصوص وأهل الجنايات لا بمن اختارتهم الدولة لخدمتها ورفعت مراتبهم في حكومتها. وها أنا اليوم أتظلَّم لصاحب هذه البلاد وأسأله إنصافي، وأن يصدر أمره بمحاكمتي لأنال براءتي مما وُصِمت به أو يلحقني جزائي.
ولما فرغت من الرسالة ودفعتها للمأمور رجعت إلى البيت، فما اغتمض لي جفن ولا استقرَّ لي جنب، وقاسيت ليلة لا تُكشف أهاويلها ولا تنجاب ظلماؤها إلى أن نَصَلَ صبغُها ورقَّت حواشيها، فتهادت إليَّ سِنَة في طيات نسائم السحَر تخطر على إيقاع الطير في وكناتها، فملت على وسادة إلى جانبي وحِيل بيني وبين الشهود، ثم ما لبثت أن نبهني بكاء بُنيتي في مهدها. قلت: تعلَّمي البكاء أيتها المسكينة، إني لأرى أمامك أيَّامًا تبكين فيها على أبيك إمَّا شهيدًا وإمَّا أسيرًا. وما تكامل الصباح في ضيائه إلا أقبلت أمي وامرأتي تبكيان إلى جانبي، فنهيتهما عن البكاء وقلت: اصبرا، لعل لنا في جوانب هذا المأزق منفرجًا. وأخذت امرأتي تنصح لي بالسفر قبل أن يتعاظم الأمر، وقالت: نحن امرأتان ولا يلحق بنا من الحكومة أذًى ولا نلبث أن نلحق بك إذا بلغت مأمنك. قلت: وكيف السبيل إلى ذلك؟ هذه دارنا أقامت على جوانبها الأرصاد، وإن بالباب لقومًا ألفت السهاد محاجرهم لا يفارقون مصراعيه قيد شبر، وما مشيت في الطريق إلا رأيت ورائي قومًا يطلبونني بأوجههم الكاسفة وأعينهم الخائنة، يلازمونني ملازمة الظل حتى لأتمنَّى أن تُخسفَ بي الأرض فأتوارى عن أبصارهم. ثم هَبِي أني أحكمت الحيلة ودانت لي فجاج الأرض وصرت إلى حيث لا يطول إليَّ باع الظالم المطارِد، فما الحيلة في سفركِ مع أمي وهذين الطفلين؟ تظلُّون وليس عندكم من يعولكم، ولا تدَعكم الحكومة حتى تلحقوا بي، وتمنع عنكم ما أبعث به إليكم من المال، ولا ألبث أن أعود صاغرًا فتكون العودة الثانية شرًّا من الأولى.
– وماذا تريد أن تصنع؟
– سأنظر في أمري، عسى أن أهتدي إلى ما فيه خلاصنا.
هذا وعدٌ وعَدت به مَن عندي وأنا غير واثق بإنجازه. ولما كان المساء مضيت إلى أبي الهدى، فلما رآني صاح بي: ما وراءك؟ قلت: ورائي ما يسوء كل صديق ويسرُّ كل عدو.
– وما ذلك؟
فقصصت عليه القصة لم أدَع منها حرفًا إلَّا ذكرتهُ، فأطرق يفكر وبدت على وجهه كآبة استكبرتها في نفسي، ثم رفع طرفه إليَّ وقال: وهل وجدوا عندك الكتاب؟ يريد كتابًا كنت أخبرته أني وضعته وسميته «العصر الجديد»، أتيت فيه على بعض الوقائع التي جرت بين مصر وفروق، ولكني لم أتعرض فيه لعبد الحميد بسوء. وهذا كتاب كنت أنفذتهُ إلى مصر ليُطبع فيها، ولكنه تلاعبت به الأيدي ولم يُسمع له ذكر.
قلت: يا سيدي، جرت عادتي أن أكتب من غير تسويد؛ وذلك أني أنقل سانحاتي في إبَّاناتها واقتصد من الزمان بقدر ما أستطيع.
– أوه! لقد أخطأت الصواب، وددت لو عثر الرجلان عندك على تسويد هذا الكتاب فتفوز يومئذٍ فوزًا عظيمًا، يا ليتني علمت ذلك من قبل. ثم صاح: يا غلام! فدخل خادمه، فقال: عليَّ بحسن خالد الساعة، فما غاب الخادم إلا عاد ومعه ابن أبي الهدى، فأقبل حتى جلس إلى جانبي، وكان أبوه مطرقًا ويمينه تعبث بلحيتهِ، فانتبه على سعلة سعلها ابنه ليعلمه بمكانه وقال: جئت يا حسن؟
– ممتثلًا أمرك يا مولاي.
فأخذ أبو الهدى يقصُّ على ابنه ما سمع مني، فما أتمَّه إلا ابتدره ابنه مستعلِمًا: والكتاب؟
– أخبرني البك أنهم لم يجدوه واعتذر لي بأنه لم يتعوَّد تسويد ما يكتب.
– قُضي الأمر ولا حيلة في تلافي ما فات.
وإذا لم يكن من الجلد بدٌّ أقبل عليَّ الرجلان يعزياني، وقال أبو الهدى: لا تخَف، لن يبلغ الشر بنا غايته، وإن في الكنانة لسهامًا أعددتها للأيام المحجلة، فكن بمكانك من النجدة لا تذهب بذَمَاء قلبك هذه العظائم. وسأُبيت الليلة تدبيرًا يتحدَّاه الفوز وتسير على إثره الرغائب. فشكرت للرجل دعواه ونهضت راجعًا إلى منزلي، فبلغته وقد كاد يتمزَّق صِدَار الليل عن ترائب الصباح، وإذا الجواسيس يتهادَون في الطريق، فجاوزتهم إلى الباب حتى إذا بلغت أعالي السلم تلقَّتني والدتي لائمة معنِّفة وقالت: أي بني، ما أبطأ بك إلى الساعة؟ ولقد تركتني وامرأتك على مثل جمر الغضا. فأجملت لها الرد وتعهدت امرأتي فرأيت منها ما راعني؛ وجهًا تعالاه الوجل وجوانح تملَّك عليها الرعب وقد تمشَّى السقم في جسدها حتى لا ينقطع لها أنين، فجعلت أهوِّن عليها الأمر وأقول كانت أزمة ثم انفرجت وإنها لغير معاوِدتنا من بعد. وما زلت بها حتى خفَّ وقْرُها وهدأت لوعتها فنامت.
إن في اليأس لسكونًا تجده نفس المكروب إذا بلغت الأمور أقاصيها، وإني لأشهد بصدق ذلك. وهذه تجربة ثانية ذقت فيها موتة العزم بعد ما كان بيني وبين أبا لحية. ومتى استشعر المجاهد ضياع المساعي وأيقن بخيبة الأمل ثابت إليه راحة السكون وهي آخر إعياء يجده المجهود. رأيتني في منزلٍ نام أهله مغلوبين وليس حولي من أفضي إليه بحاجات نفسي، وكنت أريد صديقًا جلدًا مستحكم رباط الجأش رحب الصدر مكين قرار الصبر أحدِّثه بما يحدِّثني به فؤادي، ولكن مَن لي بذاك وقد تخاذل عني إخوان الصفاء وولَّوا كأنهم النعائم المجفلة، وأضحى لا يزاورني إلا الرجل الفاضل والصديق الأوفى مصطفى بك المخزومي والعالم المرحوم محمد صديق خان الحسيني، وكلاهما من أعضاء مجلس المعارف إذ ذاك، ثم كلاهما ينتمي إلى بيت رفيع من بيوتات المجد، أولهما عربي وثانيهما هندي، وحسبك دلالةً على طيب العنصر. وما فرغت من هواجسي إلا وقد غشيني الكرى، فما انتبهت إلا قرب الظهر، وصرت أجدني واهي العزيمة خامد جذوة الشباب، فجعلت أتمثل ببيت كُثير:
وبعد هذا كله اعترضني معضل أشكل عليَّ استخراج غامضه واستنتاج الصواب من ثنيات شكوكه؛ وذلك أمر أبي الهدى. قلت إن كان الرجل أسرَّ عني بغضه وأضمر لي انتقامه فما حمله على إفضائه إليَّ بأسرار يُضارب الرجال دونها بالسيوف؟ وإن كان مخلصًا لي في ودِّه مستصفيًا سريرته فما هذا اللعب الذي أراه؟ من أين جاء أبا الهدى أنْ ستدخل الشرطة داري وأنْ ستأخذ أوراقي حتى أعلمني بذلك قبل وقوعِهِ؟ وما لبثت في استطلاع هذا السر طويل زمن، بل قيَّض لي الله من أطلعني على مكنونه وأسرَّ إليَّ بنجواه، وسيأتي بيانه في موضعه.
ولا غُنيةَ عن ذكر ما كان بيني وبين القصر الحميدي، فعنه يتساءل القراء الكرام؛ وإجماله أن الباشكاتب تحسينًا كان وجَّه إليَّ بعض حاشيته يستدعيني إلى «يلديز»، فقصدت إليه قبل مُضيي إلى أبي الهدى، وكانت هذه أول زَوْرة زرتها لهذا الخائن المائن بعد أن استعرَتْ بيننا نيران العداوة، فما أُخبِر بمكاني إلا أمر بإدخالي عليه، فلما رآني تبسَّم لي تبسامة الخاتل، ولم يمهلني أن أسأله عما ندبني إليه بل تعجَّلني بقوله: كرهت أن أطيل انتظارك، وقصارى ما لك عندي أن مولانا السلطان يأمر بإحضار أوراقك من عند شفيق باشا ليكون فحصها واستطلاع ما فيها هنا بمرأًى منك ومسمع. غير أن الأوراق لم تنفذ إلينا، والرأي أن تحضر غدًا في هذه الساعة. قلت: لك ذلك. وخرجت غير مسلِّم، ثم اقتضيته في الغد فاعتذر، وقال إن الأوراق تأخرت عنه، فخرجت وأنا أقول: جعل الله عاليك سافلك أيها القصر وأوطأ الله أرجل الغالبين حُجَرك ومقاصيرك. وما اعتادني بعد ذا من همٍّ جديد ولا ألمَّ بي ملم يجدر بالذكر إلى اليوم السادس من شهر يناير الكائن في سنة اثنتين وتسعمائة وألف؛ وهو مستهل الكربة ومبدأ تاريخ الشقوة.