السجن الجديد
نادى السجان بأعلى صوته: مَن القادم؟ وجاوبه من يقودني مسرعًا: لا غريب بيننا، فسمع صرير الباب واجتزنا ساحة حتى وقفنا أمام مديره، فتأمَّل الرجل وجهي وقيَّد اسمي في دفتره، وذكر من أوصافي ما يحتاجه، ثم سعى بي رفيقي إلى ناحية، فناداني أنْ طأطِئ رأسك واصعد السلم على مهلٍ. وصعد وأنا على إثره، فدخلنا حجرةً خاليةً ما بها إلا خوان في وسطها وإلى جانبه كرسي فيه خرقٌ واسع لم أنتبه له، فثبَّت الرجل شمعةً كان أخذها على ذلك الخوان وأشار إليَّ بالجلوس على الكرسي، وحين أردت أن أستقرَّ فوقه هويت من خرقه إلى الأرض حتى التصقت ركبتاي بصدري فجعلت أحاول الخلاص فلا أستطيعه، وبُهِت الرجل فجعل ينظر إليَّ دهشًا ولا يتحرك من مكانه، ولم أزل أعالج ذلك الخرق إلى أن انقلب بي الكرسي على الأرض، وخرجت مجهودًا ينقط جبيني عرقًا، فقلت: ساء ما نتبوأ من مقاعدِك أيتها الدار. ووقفت أنفض التراب عن ثيابي، وحين عاودت صاحبي السكينة ذهب وعاد وهو يحمل فرشي وكانوا أتوا به من داري قبل ذلك بأيام، فجعله على أرض الغرفة وودَّعني وانصرف.
فلما اطمأنت نفسي إلى الوحدة؛ هاجت لوعاتي وجاشت همومي وسالت عبرات لا يكفكفها الصبر ولا ينهنهها الوقار. ما أرخص تلك اللآلئ عند من كان على شاكلتي من أهل الضعف. هذا ذنبٌ أقرُّ به طائعًا وأسجِّله على نفسي آسفًا. وإن من العار على المجاهد في حبِّ وطنه أن يغلب عليه طبع السيدات، فيبكي في موطن هو أحق بأن يبدو فيه بنخوته. ولكن كذا كان؛ بكيت ثم بكيت ثم بكيت. لا القوافي أسعدتني، ولا الحكمة صاحبتني، ولا العزيمة أهابت بي. إن هو إلا الدمع دجانًا وتهتانًا، بللت به مواضع ألهبها الحزن، فكنت شاعرًا في نظم العبرات، ولم أكن شاعرًا في نظم الأبيات.
يا لك من ليل أسود الإهاب موحش الجوانب، أظلمت هواديه، وما استنارت تواليه، ويا لك من مثوًى بين تلك الألواح المحدَّدة لتكون أرضًا والمشبكة لتكون سقفًا! هكذا طال الحزن فغشيني نومٌ كأنه الموت، ظللت صريعه إلى الصباح، وما انتبهت إلا وقد بدا النهار مفتوق الأديم أغرَّ الطلعة، فاستويت على حرف الكرسي المخرق وإذا كوَّة مفتوحة في بعض الحيطان تناصفها سلالم لا أرى أوائلها ولا أواخرها، أطلَّ منها رجلان، قال أحدهما لصاحبه: ما هذا الذي أرى؟
– لعله ضيف جديد.
– لا مرحبًا به، والله لكأنه من إوز البر.
– مثل هؤلاء لا ينبغي أن يُصطبح بأوجههم؛ فهي شؤم على من يراها.
– هذا وجه خُلِق ليُزرع فيه الفجل.
– خُلِق ليُبصق عليه.
فصحت بالرجلين: ماذا تريدان مني؟ خلِّيَاني وشأني، لست من حزبكما.
فقال أحدهما: ألا تسمع، هذا يتكلم. ما كنت أحسبه إنسانًا. فلمَّا لم ينصرف الرجلان آثرت الصمت حتى ذهبا عني. ووقفت أنظر حولي عسى أن أجد شيئًا أتلهَّى به عما أنا فيه من العذاب، فجعلت آخذ أعواد الكبريت وأرصفها على المائدة في أشكال مختلفة، ثم أعدُّها ثم أُشعلها واحدة واحدة، فسئمت هذا اللعب فقمت أمشي في الغرفة وأعدُّ خطواتي، فما بلغت نحو الألف إلا وقد أضجرني العد، فرأيت أن أنظم شيئًا من الشعر فاستعصى عليَّ ولم يجرِ على لساني ولا بيت واحد، فجعلت أُنشد ما أحفظ من أشعار القدماء، فما راقني شيءٌ منها؛ وما زلت في هذا العناء المُمِضِّ حتى أمسيت.
فلما مضت من الليل أوائله استدعاني مدير السجن إلى غرفته، فذهبت فأكرم وفادتي وسقاني الشاي وأقبل يحادثني بأطيب ما سمعت. ولما أردت الانصراف من عنده صعد بي إلى حجرته ووقف بي أمام كتبه وقال: تعلم أن الكتب السياسية أو العلمية لا تدخل بيوتنا، فكيف نطمع أن نجعلها عندنا في مواضع مثل هذا؟! ولكن أمامك من الروايات ما شئت، كلها مترجم من الفرنساوية إلى التركية، فاختر لنفسك إحدى الروايات لتكون تسليةً لك في وحدتك، فسرَّني من الرجل هذا الظُّرف وشكرت له جميله، واخترت إحدى الروايات، وكان فرحي بها فرح الفقير أصاب كنزًا، وبتلك الرواية قضيت ما بقي من أيامي بالسجن. وكان المدير يدعوني كل ليلة إليه فيُحادثني ويخفف عني ما أجد من كمد الوحدة.