الأحرار في بطون الأرض
قد يحمل بعض الناس أكثر ما أنا ذاكر في كتابي هذا على المبالغة، فيقولون شاعر يجري مع الخيال، كما حمل بعض أصدقائي ما سبق من فصولي على هذا المحمل، ولكن الذي بُلوا بمثل ما بُليت به يجدونني مقصِّرًا، ولولا جرأةٌ تعوَّدتها منذ خُلقت لأمسكت عن ذكر أشياء كثيرة لكي لا تعتورها هذه الشبهات. غير أنني لا أُبالي الثناء ولا أبالي الهجاء وإنما أبالي أن يصدق فيَّ أحدهما، فليسمع القارئ وليسأل.
أخبرني مدير السجن أن بالسجن الذي كنت به سردابًا مظلمًا تحت الأرض، أرضه الوحل وسقفه الحجارة، لا ينفذ إليه ضياء النهار ولا يتهادى فيه نسيم الشمال. وهنالك برميل فيه ماء غير مصفًّى وإلى جانبه صخرة نُحِتت لتكون كرسيًّا يجلس عليه المسجون موثَقًا بالأغلال والأصفاد، ولا يجدَّد الماء الذي في البرميل إلَّا إذا نفد. قال: وكانوا يدعون المسجون هنالك إلى أن يموت.
قلت: أراك تخبرني أخبارك قائلًا: كان … وهل تبدَّل ذلك الآن؟
– نعم، تبدَّل كثيرًا في الآستانة، وهي كما علمت أمام عيون الدول. أما الولايات البعيدة عن الثغور فلم يتبدل فيها شيء. وقد علمنا أن السلطان أمر بزيادة التعذيب في سجون الولايات البعيدة، وفيها اليوم ما يُذهل أهل الرأي ويستبكي كل حرٍّ في الرجال.
– وما يمنع السلطان من رِقْبة الدول عن إنزال العذاب بأعدائه وهو كل يوم يقتل ويسجن وينفي؟ لا تسأم ذلك نفسه ولا يمجُّه ذوقه.
– أجل. غير أنه يقتل سرًّا لا جهرًا. وأحوال السجون بالآستانة لا يعلمها أحد مثلي. ولقد يؤتى بالرجل المظلوم فيبقى في السجن شهورًا وأعوامًا لا يسأل عنه سائل ولا يعرف هو الجرم الذي سُجِن من أجله. وأكثر أهل التهم السياسية يظلُّون بمعزلٍ عن سواهم من المسجونين، فلا يُؤذَن لهم بمخالطة أحد ولا يَهْنئون بزيارة قريبٍ من أقاربهم. أما المكان الذي أحدِّثك الآن بحديثه فلم نُنزل إليه أحدًا من الناس، ولا يعيش فيه أحد. على أننا أنزلنا إليه بعض الأرمن الذين وقعوا في أيدينا أيام الحوادث الأرمنية، وهؤلاء لم يمكثوا بذلك المكان إلا يومًا واحدًا، ثم نُقِلوا إلى سجن الضبطية ونفوا منه إلى سجون القلاع والولايات. وقد كان بالغرفة التي أنت بها الآن رجل يزعمون أنه من حزب تركيا الفتاة، بلغ منه الجزع مبلغه؛ فهمَّ ذات يوم بالانتحار، ولو لم نتداركه للقي حتفه. ولما رأيت حاله من اليأس وما حلَّ به من الوجل أشفقت عليه وأحببت أن أسلِّيه بعض أحزانه، فاجتنبني وأساء بي الظن. ولقد قال لي مرة: أنا لا أحب الجواسيس ولا أتقرَّب إليهم ولا أدعهم يتقربون إليَّ. فقلت له: لو كنت جاسوسًا لما عشت براتبٍ قدره أربع ليرات طول هذه السنين. قال: أنت تزعم ذلك وأنا لا أصدِّقك. وكان هذا آخر ما كلَّمني به إلى أن منَّ الله عليه بالخروج.
– كيف يأخذون الناس ليُلقوهم في البحر؟
– ذلك ما لا علم لنا به؛ لأنهم لم يأخذوا منَّا أحدًا وألقوه في البحر، وإنما يأخذون من يريدون إغراقهم من نظارة الضابطة. هنالك خزينتهم. ولا يعلم ذلك كل مستخدم في تلك النظارة، بل يعلمه أناس من كبارهم، فهم الأمناء على هذه الأسرار.
– وهل سُجِن عندكم كثيرٌ من الأحرار غير من ذكرت؟
– بلى. ثم اعلم أن بجانب الحجرة التي أنت بها حجرة ثانية عرضها متران وطولها متران، هذه يُجعل بها من عظُمت ذنوبهم من أهل السياسة، ولا يُوضع فيها إلا رجل واحد، لا يقدر أن يضطجع ولا أن يجلس، بل يظل واقفًا حتى تتخاذل قدماه؛ فإن باح بسرِّه أُخرِج من الحجرة وأُمضِي فيه حكم القوم، وإن أبى إلا إنكارًا بقيَ مكانه حتى يبوح، وما باح لنا أحد بسرِّه، والذي أراه أنهم لا سرَّ لهم.