نظرة في حال فروق
يمَّمت فروق مدعوًّا ونزحت عنها مجفوًّا، فلا الدعوة أبطرتني ولا الجفوة كفرتني. وما زلت من لدن وطئت مهادها وعللت أنهارها وشممت طيبها ورعيت كواكبها صادق الود، مخلِصًا في السر والجهر. وما فروق إلا وطن ميلادي، استهلت فيها حياتي، ونما في أرضها عودي، بذلت لها رُوحي ولا أمنُّ بها، ومنحتها آمالي ولا أدلُّ بها. وكانت شِقوةٌ فغُلبت على أمري وفارقتها فراق الجبان روحه، ونزعت عنها نزوع الصبِّ عن موطن صبابته.
رأيتها اختلفت فيها الأهواء وكثرت المطامع. خليفة الله فيها يقتل عباد الله ويستحلُّ ما حرَّم الله من أموالهم وأعراضهم، ورجال الدولة وحُماة مجدها عصبة من أهل الحرص يسلبونها قليلَ ما أبقت لها الأيام من طارف لا يجمل عدُّه وتليد لا يُستطاع حفظه. ويحمل العرش يومئذٍ رجال كادوا يشاركون الله في ملكه وينكرون عليه قدرته، فهالني ما رأيت، وددت أن لو قامت نوادبي ولم أرَ تلك الفادحات، فعاهدت الله ألَّا أُسالم خائنًا ولا أسكت على عداء. وما زلت أُجالدهم حتى كاثروني، وما سلاحي إلا يراعٌ تشذَّر فلا يفصُح صوته، وخاطر نضبت ينابيعه فلا يجري معينه. وإن أمامي لرجالًا أولي قوة وسلطان، لا تأخُذهم صيحةٌ ولا يُرهبهم بطش. وقد خذلني مَن خذل من الأنصار، فبقيت في صغر قدري وضعف ركني أسيرَ من لا يرحم وعانِيَ من لا يفدي.
ثم المجاهدون الأحرار يسترجعون بالرغبة أو الرهبة، والجرائد تحيِّي الظالم في صبحه ومسائه تحياتٍ طيبات، ومَن رزقهم الله الكفاية من أهل الثراء وحماة الذهب يتسابقون إلى عاليات المراتب، يتفنَّنون في سياسة الفوز، فقومٌ يحملون دنانيرهم وآخرون يتقرَّبون بوشاياتهم، وفريقٌ يُحكِم الحيلة حتى ليخدع عبد الحميد ويسرق منه حظوته ويختلس رضاه؛ فأوجست خيفةً ومُلِئت يأسًا.
يموت خليل رفعت الصدر الأعظم، فيولَّى مكانه سعيد، ويُسرع فريد إلى فروق مطالبًا عبد الحميد بالصدارة، يقول: جعلتموني واليًا على قونية وهي دون قدري فأطعت واخترت الصبر، ثم دعوتموني لأولَّى الصدارة فقلَّدتم أمرها غيري قبل أن أصل إليكم. فقد أصبحت منذ اليوم حديث الناس في أنديتهم وسمرهم، يسخرون مني ويستهينون بي، فأقيلوني من ذلٍّ لم أستوجبه بعصيان. فيأتيه البشير من عند السلطان يحمل وسام الافتخار المرصع، فيرجع فريد داعيًا شاكرًا.
ثم تحاصر عيون الظالمين وأرصادهم بيوت المخلصين مثل المشير فؤاد والفريق أحمد جلال الدين، ويتَّسع مجال الشر لفهيم ومحمد أبي لحية وأبي الهدى ومحافظ غلطة سراي وناظر الضبطية، فيا من رأى عاصمةَ ملكٍ تقاسم هدمَها الملك والرعية!
لهفي على فروق في تلك الأيام السود! عروسٌ في نعشٍ أو جنةٌ يملكها الحريق. لو وفَّت الأيام بأمانيِّ الجبَّارِ لنال من فروق ما نال نيرونُ من روما. ولقد فعل. والغرائز أكثر تشابهًا من الوجوه، وحوادث هذه الحياة تُستعاد مختلفات، والتأملات قاصرة، والعقول حيارى، وصحف التاريخ أهملت الكثير وحدَّثت بالقليل.