وداع فروق
هذا كلام ودَّعت به «فروق». قلته حين اختفت عن عيني، وإنما يجيش الشعر في خاطر الشاعر بمثل تلك المواقف.
على ظهر قصر سابح، في لجج البسفور، بين شطَّي أوروبا وآسيا، من الوطن المحبب إلى غاية مجهولة، فراق أهلٍ وولد، من غير توديع ولا تسليم، كل ذلك تحت ليلٍ كأنه ظل الشقاء وسماءٍ كخاطر الواله، في حيث تتراءى تفاريق نور على البيوت كبسمات أرواح المظلومين من وراء حُجُب الوجود، لقد كنت شاعرًا في ظلمك يا عبد الحميد.
ودَّعني الرجل الملكي وبقي معي رفيقه الضابط، ورجل من الجواسيس، فلما استقرَّ بنا المجلس التفت الضابط نحوي، فقال: لا تُهِمَّنَّ نفسك، لن ترى في سفرك هذا إلا خيرًا.
فدخل الجاسوس في الحديث وجعل ينظر إلى وجهي نظر الشامت، ثم رأى ألَّا يكتمني ذلك، فقال: وما يُهم البك من سفره هذا؟ لقد لقي جزاءه، ولو تدبَّر الأمر لكفى نفسه أحزانها اليوم. كلنا عرفنا أن سيكون مصيره إلى مثل ما هو فيه الآن، قضاء الله وقدره، ولا حيلة للمرء في قضاء الله وقدره. ولقد كان البك كثير الإعجاب بنفسه، يحتقر الدنيا وما عليها؛ فكم مررت به في اختياله وكبريائه فازدراني وأعرض عني بوجهه، ما حسبته نسي ذلك. قلت: ومن تكون، ويحك؟ هذا وجه أُنكره ولا أذكر أني بُليت بشؤمه إلا في يومي هذا.
– عجبًا، تُبدي التغابي عني وأنت أعرَفُ بي من ذات نفسك!
فأدركني مثل الجنون من عناد الرجل وكدت أهوي على وجهه بلطمة تهشم أنفه وتهثم ثناياه. غير أنني استحيت من نفسي ألَّا أكون مالكًا لقيادها في مثل تلك الساعة، فزجرتها فازدجرت، ثم قلت للجاسوس: لو كنت عرفتك لنالك مني ما نال إخوانك.
– كأني بك يومئذٍ حاملًا عليَّ بعصاك تريد أن تضربني. أمَا لَتلقَّيتك كما تلقَّيت غيرك، فإنْ أقدرْ عليك أثأرْ لنفسي ولإخواني وإنْ تقدرْ عليَّ فنحن قومٌ لا يضرُّنا الضرب ولا يؤذينا الهوان. فبقيت باهتًا مما أسمع من كلام الرجل، فتركني في حيرتي وأقبل على الضابط يُحادثه، فقال: كان البك منذ عامين يقطن دارًا بجوار سفارة ألمانيا، وكان له ودٌّ مع الأمير محمد باشا نجل الأمير عبد القادر باشا الجزائري، وبيتاهما يومئذٍ متجاوران، فجاءني الأمر بمراقبتهما، فكنت أقضي أكثر أوقاتي بين المقابر الكائنة أمام السفارة، ولكن على غير طائل، فلما أعيتني الحيل وخفت ألَّا أعرف من أمرَيهما شيئًا تلطفت في المكر حتى تمكنت من الاستخدام في بيت الأمير، فاستبشرت خيرًا، وما راعني إلا هذا البك داخلًا من باب الدار في أصيل يومٍ يتبعه رجلٌ من الأجانب، فلما رآني البك أنكرني، عرفت ذلك في نظره الشذر، ولكنني لم أبدِ شيئًا سوى ظاهر الحرمة والتوقير، فسرت بهما حتى أدخلتهما على الأمير وخرجت فوقفت وراء الباب أسترق السمع، فكان هذا البك يُخاطب صاحبه الأجنبي بالفرنساوية ويترجم للأمير بالعربية؛ فقد غاظني والله ذلك وكادت روحي تخرج من شدة الغيظ. وإني لفي غيظي وإذا ثلاثتهم يضحكون ضحكًا عاليًا، فخُيِّل إليَّ أنهم يضحكون مني، فخليت عنهم ونزلت كاسف البال، والله يعلم ما كنت أقول عند نزولي.
وقد أراد الرجل أن يسترسل في حديثه لولا أن قاطعته، فأقبلت على الضابط وأنا أرتعد غضبًا، فقلت: أهكذا دأبكم؟ تبعثون بمثل هذا الرجل إلى الناس ليبالغوا في تعذيبهم وهم يحتضرون، كفى كفى، لقد أحسن القيام بما عُهِد به إليه. أما أنا فكما ترى، أتطلَّب الصبر فلا أجده، لا تحرجوني فما بالقلب جهد فيحتمل.
فأيقن الضابط أن الإناء قد امتلأ وعرف أن لنفوس المُكربين ثورات تعيي على مُخمديها، فعدل بالرجل جانبًا وسمعته يقول له: إذا لم تخرج الساعة من هنا خرجت أنا وتكون أنت مسئولًا عما يقع من الأمر. فذهب عنَّا ذلك الجاسوس وكانت ساعة سفر الباخرة قد دنت، فأسرع نحوي الموكلون بإخراجي من الوطن، وأخذوا يودِّعونني وداع القالي وأوصوا بي الضابط ونزلوا، ثم صفَّرت الباخرة صفيرها وانبعث من جوفها زفيرها، ثم تمايلت ذات اليمين وذات الشمال، ثم دارت إلى ناحية البحر الأسود فدارت دواليبها وقعقعت أضلاعها وتوالت هزَّاتها، فسألني صاحبي الضابط أن أصعد معه إلى سطح الباخرة ووافق ذلك هوًى في النفس فصعدت، وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما؛ شطَّي آسيا وأوروبا، يتناغيان بالمصابيح، عاشقان ضنَّت عليهما الأقدار بالتلاقي، مررنا بهما أم مرَّا بنا؟ لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمَّقهُ، نُشِرت فانطوت، زلَّت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم، فرائيها متخيل وعارفها متوهم، ما شك ناظر إلى السماء وإليها أن تلك المصابيح كواكب سقطت عليها، عهدي بها في حالتيها، بَيْنا هي عرينٌ إذا بها كِناس، يخالط فيها كل زئيرِ ليثٍ عندلة عندليب، تتجاور بها مسارح أرآم ومصارع كرام، تُسقى من ماء معين ومن دم مهراق، تُطالعها وجوه ضاحكة وأخرى مُجهشة، تقسَّمتها مواسم الصبا؛ فهي تارة مشتًى وآونة مصيف وحينًا مربع، جنة يحرسها حارس جهنم، فتنتني يوم لقائها وتُوشك أن تفضحني يوم فراقها. فروق يا ظلوم، خذي روحي فما هبطت عليَّ إلَّا فيك، واسترجعي من أنحاء الفضاء متفرقات أنفاسي، أنت أولى بحسراتي منه، استبقي لي خاطرًا أحيِّيك به وشعرًا أنوح به عند فراقك. يا نعيمي الماضي وشقائي الحاضر، ألا يضطرب ماء هذا الخليج مجاراةً لجوانحي. وددت لو أنِ ارتطم عبابه وترامت أمواجه وأغرقتنا قبل أن نجتاز ربوعك. كان بك مَهدي وأريد أن يكون بك لحدي. هنيئًا يومئذٍ لحوتك ونونك ما أبقت الأيام من لحم على وضم، ولتتصرف رياحك بأخريات أنفاسي ولترنَّ في أرجائك نوحاتي. الوداع الوداع يا فروق، وسلام الله عليك وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد، مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منك ليلًا لأراك في ثوب حدادك. أمن أجلي كل هذا؟ كلا، بل حدادك على أختك الغزالة. أنا أضْيع فيك من دمعةٍ على خدِّ مهجور. أنا أهْون على الدهر من ذرَّة من ذرَّاتك ضلَّت بين ثنيَّات الأثير …
اجتازت بنا الباخرة مرسى «بشكطاش»، فاطلع علينا من ورائها قصر «يلديز» على هضبته. وبينا نحن ننظر إليه ونستعيذ بالله منه، إذا مدفع قد دوَّى ثم تلاه غيره، فعددنا المدافع فكانت سبعة. وهذه عادة فروق إذا حدث فيها حريق، فجعلنا نطلب بأبصارنا مكان النار، ثم لم نلبث أن لاحت قريبةً من «يلديز»، وكنت أعلم أن لن تصل إليها فحوَّلت عنها بصري وجعلت أمتِّعه بما يتجدد أمامه من محاسن فروق. ظللنا على تلك الحال حتى دانينا باب البحر الأسود، فوقفت عنده الباخرة وألقت مراسيها قبيل الحصون. وكنا غلب علينا الإعياء وتواكلت أقدامنا من طول الوقوف، فأشار عليَّ صاحبي بالنزول إلى موضع نومنا فنزلنا جميعًا، وحين أخذنا مجلسنا للراحة أخبرني عن اسمه فإذا هو موسى كاظم بك، وأعلمني بوظيفته فإذا هي وظيفة ياور لناظر الضابطة ورتبته ملازم أول. وقد وجدت كلامه لا يشبه كلام رفاقه الذين تقدَّموا، فاستأنست به، وعرف مني ذلك فقال: سترى في الولايات حياة جديدة غير التي رأيتها في الآستانة، ويا ليتني كنت مكانك الآن. أقول لك ذلك لأني قضيت شطرًا من عمري متنقِّلًا في مدن الأناضولي، وما مرَّت عليَّ ساعة في تلك المواضع وشكوت منها أمرًا.
– كذا ينبغي أن تكون. كل موضع يبعُد عن «يلديز» يقرب من النعيم.
– صدقت. وسترى مني خادمًا مطيعًا وخلًّا وفيًّا. ولا أسألك من الجزاء إلا أن تكون جلدًا وأن تجعل ما أنت فيه اليوم من محنة الدهر مغنمًا من التجاريب لا مغرمًا باليأس.
– سترى مني حَمَّالًا لأثقال النوائب، صبورًا على فادحات الكُرَب. غير أني سائلك عن أشياء أرجو أن تصدُقني في الإجابة عنها.
– سل ما بدا لك.
– إلى أين يكون مصيري؟
– إلى صامسون، وإخال أنك ستوظَّف وظيفة فيها.
– وما تكون وظيفتي؟
– لا أدري.
– ألا أُسجن فيها أيَّامًا؟
– لن تُسجن فيها ولا ساعة واحدة.
– ويحك، ما أدَلَّك على طرق المكر، وما أغباني ساعة أمَّلت فيك الصدق! قم عني إلى لعنة الله، لن أكلِّمك مذ الليلة.
– سيدي، أنت رجل كثير الوسواس، ولولا غلبة الجزع على ذات نفسك ما اتَّهمتني من غير تجربة. شهد الله أني ما كذبتك في شيء مما أخبرتك به. وسواء عليَّ صدَّقت أم لم تُصدِّق. لا أحاول إقناعك. ثم اعلم أنني صحبت قبلك كثيرًا من الرجال إلى الأقطار التي نُفوا إليها، فما ذمَّني منهم أحد. وهذا إسماعيل بك صفا الشاعر التركي الشهير؛ صحبته إلى سيواس. وغيره كثير لو شئت أن آتي لك على أسمائهم لقضيت الليل في عدِّها.
– إذن، أنا لا أُسجن؟
– نعم، وبرئتُ من عثمانيتي إن كنت كاذبًا.
– لقد قامت حجَّتك. ولكن متى نُفي إسماعيل صفا؟
– منذ عامين. أتعرفهُ؟
– نعم أعرفه بآثاره. وكنت مولعًا بمجلَّته التي سمَّاها «معارف»، ثم عرَّفني به أحد الفضلاء في إحدى ليالي السمر، وكان حديثنا غير طويل.
وقد استطال حديثي مع كاظم بك إلى ما بعد نصف الليل، فعلمت منه أنه ابن أخي الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس إذ ذاك، وأنه نُفي وسُجن وذاق أمرَّ طعم النوائب، وأنه لولا استشفاع عمه لقامت عليه نوادبه. فلما أخذنا حظنا من الحديث مال كلٌّ إلى مضجعه، فما انتبهنا إلا على هزج الباخرة وضرب الأمواج، فلم نرَ إلَّا الأسود الخضم في أزباده البِيض وتحت سمائه المحتجبة وسُحبها الداجية. شططنا عن المعاهد والرسوم ويممنا قصدًا لا ندري متى نحن مدركوه، فقلت لكاظم بك: تُرى، أيعلم أهل بيتي شيئًا من خبري؟
– ذلك علمه عند الله، والقوم لا يخبرون الناس خبرًا.
– وما الحيلة في إخبار أهلي بأمري ليهدأ رَوْعهم ويخف حزنهم؟
– أرى أن تصبر حتى ننزل بصامسون. أما الآن ونحن في عرض البحر فلا نستطيع شيئًا.
هذا جواب حَسُن عنده سكوتي، وفي النفس من بُرَحائها ما لا ينهض به عزم، فبقينا في الباخرة خمسة أيام، وما انتهينا إلى صامسون إلا أصيل اليوم السادس. وما مرَّ بنا في سفرنا هذا ما يصلُح للذكر سوى أنْ فرغ الفحم منَّا حين بلغنا «أركلي»، وأن الرُّبَّان عانى الشدائد حتى حصَّل من «مورِّده» ما يحتاجه. ولما بلغنا حصن «سينوب» أقبل علينا من الشط زورق يقلُّ جماعةً من الشرطة يتوسطهم رجل نحيف الجسم قصير القامة أصفر اللون ذو لحية سوداء، تلوح عليه سيماء أهل الفجور، فسألت كاظم بك: ممن الرجل؟ فأخبرني أنه مدير التحريرات في متصرفية «صامسون»، وأن أباه أنيس باشا والي قسطموني عدو الأحرار الفاتك بمن نُفِي منهم إلى ولايته. وأنيس باشا كان أشدَّ ظلمًا من عبد الحميد؛ وهو الذي غذا الأسواط من لحوم المظلومين الذي وقعوا تحت حكمه، حتى لقد استعظم ظلمه عبد الحميد وبعث إليه يأمره بالتخفيف فلم يمتثل أمره. كرهت لقاء ذلك القادم الثقيل فتنكَّبت طريقه، ولكنه سأل عني فقيل له إني منفيٌّ، فدنا مني وحيَّاني، فحيَّيته تحية كلها تكلُّف، وكان صاحبي كاظم بك عرف بعض طباعي فتداركَنا بمحضره، ثم أشار إلى الرجل وخاطبني معرِّفًا: البك نجل صاحب السعادة أنيس باشا والي قسطموني؛ وهو مدير تحريرات صامسون.
– أهلًا به.
– لما سمع باسمك أسِف لما أصابك.
– شكرًا له.
فابتدرني القادم بكلامه، فقال: إنما تُعرف الرجال عند الشدائد، فلا تحزن لما أصابك، إن عفو سلطاننا مؤمَّل.
– ما أنا بحزين.
– رأيت بقسطموني كثيرًا من المنفيين. غير أني لم أحفل بأحد منهم. ما فيهم من فتًى كريم. ولقد أدَّبهم والدي فأحسن تأديبهم، وإنهم اليوم لأذلُّ من العبيد.
فما رددت على الرجل بحرف، بل رميته بنظرة أدرك منها مرادي، فأخذ كاظم بك بذراعه وتنحى به جانبًا. وقد رأيته يؤنِّبه على كلامه ويحذِّره مني. غير أنه لم يلبث أن عاودني وأخذ يكلمني، فأعرضت عنه بوجهي وتركته يهذي وحده، فذهب إلى الربان يُحدِّثه بما قابلته به من الإعراض، فقال له الربان: ما علمنا به إلا حسن الخلق، ولكنه مكروب، والمكروب تضيق نفسه عن أشياء ربما اتسعت لها في أيام دعَتِها؛ فلا تؤاخذه بما رأيت منه، وأنا سائله الليلة عما أنكره منك.
وقد وفَّى الربان بوعده، فسألني عما انصرف بي عن مخاطبة ابن أنيس باشا. قلت: هو رجل اختلفت بيني وبينه الأهواء، ثَقُل على فؤادي أول ما سمعت من كلامه. فرأى الربان ألَّا يزيدني سؤالًا، وكان ذلك آخر غرائب السفرة البحرية.