إلى سيواس
ركْبٌ حثحث نُجُبَه البَيْن، يهوي المخارم هويَّ الأجدل، ويترقى الشُّمَّ ترقِّيَ العُقاب، تستوقفه الحوائل وتستطرده المسالك، ما يخلص من وحلٍ إلا يغوص في ثلج، لأخشابه صريف ولعجلاته دبيب. كذا مرَّ يومنا حتى حللنا أول منزل في مكانٍ يُقال له «جقالِّي»، فيممنا أحد خاناته وأوينا إلى غرفة من غرفه، فنزل كاظم بك ليستحضر عشاءنا، وكان الرجلان من الجندرمة صحِبانا، فرأيت على حيطان الغرفة من الكتابة ما يملأ الكتب، فقمت لأقرأها، وإذا هي مكتوبة بالتركية والإفرنسية والرومية وغيرها من اللغات، كل من نزل ذلك الخان كتب على حيطانه شيئًا، فكلامٌ يُستعذب وكلام يمُجُّه الذوق وكلام يُضحك وكلام يُبكي، ثم وقع نظري على بيتين للشاعر الجليل إسماعيل صفا، كُتِبا بيده بقلم الرصاص وتحتهما توقيعه، فخفق فؤادي طربًا ووقفت أنشدهما. وهذا معناهما: مثل هذه الدار كمثل الدار الدنيا، ينزل إليها الناس ليرحلوا عنها، ما تأخذ منهم سوى زفراتهم، ولا يأخذون منها سوى حسراتهم. غير أن الراحل عن هذه قد يعاودها، أمَّا الراحل عن تلك فلن يعاودها أبدًا.
ثم رأيت تحت ذينك البيتين كلامًا منثورًا. وهذا معناه: ما أعدى حوادث الأيام! كُنَّا نرجِّي أن يعيش لنا إسماعيل صفا ليكون خير خلف لنامق كمال، ولكن قضى الدهر أن يُنفى إلى سيواس مظلومًا، وأن يُوسد التراب بين تلك الجبال. ولم أستطع أن أقرأ توقيع الكاتب لأنه بالغ في إبهامه.
هنا أدركني من الحزن ما لا أقدر على وصفه، أأُمنِّي النفس بلقاءِ فاضلٍ تنحطُّ دونه الأشباه والنظائر، وحرٍّ كان في حريته قرة عين الوطن، ثم يُقدَّر لي أن أسمع أنينه من الصخر الأصم، ثم ينعاه إليَّ من لم يعلم من أمري شيئًا. ألا إنني لعاثرُ الجد، كاذب الأمل. ألا إن ريب المنون قد رمى فأصاب كبدًا ما إلى الحرية شيءٌ أعز منها. ليت ذلك المكان أطَّت أركانه وتصدعت جوانبه وتساقطت عليَّ أحجاره ولم أتبين على صفحاته هذا الخبر. جادك الغيث وأنْبَت ثراك أطيب الزهر يا مثوى إسماعيل صفا، وليدُم ذكرُك على أفواه العثمانيين طيبًا تتعطر به الأفواه وتطرب به الأسماع. إن لك على الأدب وأهله لفضلًا، وإن من حقك على أبناء وطنك أن يذكروا أياديك على وطنهم. رحمة الله عليك، رحمة الله عليك.
تجلَّدت، وكيف يتجلد من شجاه مثل شجاي! غربة وفراق أهل وأولاد، وروعة تستطير القلوب من الصدور! وبينا أنا في تلك الحال إذا كاظم بك داخلًا من الباب وخلفه الجنديان، فلما رآني مستعبرًا وقف أمامي باهتًا لا يدري ما يقول، فتداركته بالجواب قبل سؤاله وأعلمته ما أحدث في قلبي موت إسماعيل صفا، فقال: إن موت إسماعيل صفا ليس بالأمر القريب. بلى إنه مات منذ عامين.
– ما علمت ذلك إلَّا الساعة، ولكن ناشدتك الله ما يدعوك إلى كتمان الصواب عن الناس. ألم يجرِ بيننا ذكر الرجل ونحن بالباخرة؟ فما كان ضرَّك لو أخبرتني بموته إذ ذاك.
– ما كان يُجديك علمك بموته. أكنت قادرًا على أن تبعثه حيًّا؟! دع ذكر ما يشجيك واستبقِ عزمك. إن أمامنا لطريقًا صعبًا وسفرًا بعيدًا.
قلت في نفسي: ما أخبرني هذا الرجل خبرًا إلا ظهر لي كذبه، وأخشى أن يكون كذلك ما أخبرني به عن مقامي بسيواس. هو يزعم أن لن أُسجن. فإذا أنا سُجِنت فماذا أقدر أن أُخجله به؟ وكان الجنديان فرغا من إعداد طعامنا، فجلسنا نتعشَّى وأنا صامت، وكأن كاظمًا فطن لما أنا فيه فاختار أن يدعني وشأني، فأعجبتني منه فطنته. وما فرغنا من الطعام والتدخين إلا وقد أثقل النوم هاماتنا فنمنا، فما انتبهنا إلا على أصوات المسافرين قبيل الفجر، فأخذنا أُهْبتنا وجاءنا جنديان غير اللذين صحبانا إلى جقالِّي، أخذا منهما النوبة، وأخذنا كلنا في الطريق. وهذه أسماء المنازل التي نزلناها من لدن أن خرجنا من جقالِّي إلى أن بلغنا سيواس، أذكرها مع طرف من تاريخ بعضها. وكنا نرحل عن المنزل الذي نبيت فيه قبيل الفجر ونبلغ المنزل الذي يليه أصيلًا أو قبيل المغرب.
«حوضة»: بلدة صغيرة أنيق منظرها متشاكلة بناياتها، بها حمام يُستشفى بمائه الحار، بناه ممدوح باشا الذي كان ناظر الداخلية في أواخر أيام الاستبداد، فأجاد بناءه وأحكم نظامه. ولقد دخلته واغتسلت بمائه. غير أني لم أقدر على نزول حياضه لما في مياهها من الحرارة الشديدة؛ فإنها تبلغ الدرجة الخمسين بميزان سنتيغراد.
وفي أماسيا مقابر بعض الأمراء من بيت الملك العثماني، ودُفِن بها من الملوك السلاجقة «قيلج أرسلان الأول»، ومن وزرائهم «معين الدين بروانه»، والشيخ حمزة والد «آق شمس الدين»، وغير هؤلاء.
ولما كانت آماسيا لا تبعد عن حوضة إلا مسيرة ست ساعات بلغناها غير متأخرين، فكان لنا في الوقت متسع لمشاهدتها والإلمام ببعض محاسنها. على أنني لم أجد فيها من المناظر ما يبعث على الطرب أو يهيج ساكنًا في الفؤاد؛ ذلك لأننا جئنا في أواخر كانون الثاني وأشجارها مجردة من ورقها وأرضها مُعرَّاة من نبتها، والوحل متراكم في طرقاتها، وكان متصرفها إذ ذاك العالم الكبير المرحوم كمال بك؛ وهو غير نامق كمال بك الشهير، وكان منفيًّا إليها، فأحببنا زيارته ثم علمنا أنه مريض، فزاره كاظم بك وحده.
ومما أذهل عقلي أني رأيت نساء الأرمن والروم في آماسيا متحجبات، يتهادين ساحبات مآزرهن كما تفعل نساء المسلمين، فأيقنت أن المرأة العثمانية في تلك البلاد محرومة من نعم الدنيا، فتجددت لوعاتي وتضاعفت أحزاني، وقلت ما قاله أبو الطيب المتنبي:
ثم عاودنا الخان الذي نزلناه فإذا جماعة من كبار المدينة جاءوا لزيارة كاظم بك؛ لأنه ابن أخي الحاج حسن باشا والي سيواس، فجعلوا يتنافسون في إكرامه والتقرب إليه. وفيمن جاءنا يومئذٍ أبناء طوبجي زاده، وهم فروع بيت من بيوتات الحسب الزاكي في تلك البلاد. وقد أعدُّوا لنا مأدبة بلغت الغاية في بهجتها، وأهدَونا من تفاح آماسيا المشهور شيئًا كثيرًا وحمَّلونا جانبًا منه هديةً للوالي، فسألني كاظم بك أن أنظم بيتًا من الشعر التركي أكتبه على حائط الغرفة التي بتنا بها، فأجبته إلى ما أراد وقرأه أناس كثيرون ممن قدموا بعدي سيواس وأخبروني به. وكان يُخيَّل إليَّ أن سأُرحَّل إلى بلاد مثل آماسيا، هيهات، أخطأت الظن وخاب المأمل، فما سارت بنا العربة إلا بين صخور وعلى حجارة لا نستجلي عندها خضرة ولا نَرِد ماءً إلَّا كما قال الشاعر:
«جنكل»: هو منزلنا الرابع بعد خروجنا من صامسون، موضعٌ تبصَّرت فيه فلم أرَ بيتًا ولا سكنًا سوى الخان الذي نزلناه؛ وهو على سفح أكمةٍ هناك، بئست دار المسافر تلك، قفر جرداء موحشة، لا يلم بساحتها طير، ولا يبقل في مهادها نبت، ولا يظلها سحاب، ولا تهبُّ عليها صبًا، ولا يسجع بها طير، بلغناها وقد بلغت الشمس مغربها، فلما فرغنا من الاستعداد لحاجات العشاء خرجت إلى مكان بالطبقة العليا من الخان أريد أن أتمشَّى. وقد خِلت ذلك المكان مستشرفًا، فإذا هو لا يشبه المستشرف، فقلت: تظل أنت يا عبد الحميد في قصر يلديز بين بنات الجركس، تقتل الأمة وتضحك من عقول الناس، وترمي بي في هذه الفجاج لأقيس لك جبال الأناضولي ووهادها! ألم تجد أحدًا أعلم مني بالمساحة؟! إنك لقليل الخبرة بالهندسة!
ثم دعاني كاظم بك إلى المائدة ونفسي لا تشتهي الطعام، فجعلت آكل لا رغبةً في الأكل بل إبقاءً على قوة أستعين بها على مواصلة الأسفار. فلما رُفع من بين أيدينا الطعام وملنا إلى تلك المضاجع الخشنة طار نومي واعتادني أرقٌ شديد، وما راعني إلا جنود من البقِّ تدبُّ إليَّ من كل ناحية، بقٌّ غُذِّيَ أنواع الدماء حتى اتَّسع وانبسط وعادت كل واحدة منه كطابع البريد، تتبختر على الوسادة تبختر الفقيه في الجنازة، فقمت إلى خوانٍ في وسط الغرفة عليه مصباحٌ ضئيل النور، وإذا صاحبي كاظم قائم إلى جانب النور، بإحدى يديه قميصه وبيده الأخرى عودٌ يحذف به البق. قلت: ما لك يا رفيق الخير؟ قال: دعني، ألا ترى ما أنا فيه؟ قلت: لا عليك بأس، أفسِح لي مكانًا إلى جانبك. قد صار القميص قميصين. ولئن دام لنا ما نرى خرجنا هائمَين في جُنح هذا الليل، ثم سكت كلانا واشتغل عن صاحبه بالتقاط الحشرات، ولبئس العقود عقودٌ نظمناها تلك الليلة حتى آذنت برحيل، فما خفقت راية الشفق على قمة الجبل إلا تبادرنا إلى السائق نوقظه بالأيدي والأرجل، ثم نبَّهنا الجنديين الحارسين وخرجنا من الخان بعد أن دفعنا لصاحبه حقه، وما أدركتنا العربة إلا وقد قطعنا شوطًا بعيدًا وغصنا في الوحل والثلج إلى الرُّكَب، وحين اعتدلت الشمس في عليائها تهاوت تلاع جنكل برءوسها وحيل بينها وبين الشهود. وطاب بعد ذلك السفر فانطلقت بنا العربة تشتد في سيرها يومنا كله ميمِّمة «توقاد» فوافيناها في عتمة المساء.
«توقاد»: مدينة كائنة على مسيرة تسعين كيلومترًا من شمال مدينة سيواس، وعلى الشاطئ الأيسر من نهر «توزانلي»، يبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة، خمسة آلاف منهم من الأرمن وغيرهم من إخواننا المسيحيين. هذه المدينة جيدة التربة، طيبة الهواء، عذب ماؤها، جميم خصبها، تلتف حولها الحدائق المونقة والكروم الوافية، وهي معروفة بكثرة فاكهتها وبقلها، منظَّفة الأسواق والشوارع. غير أنها ليس بها من آثار السلف سوى حصنٍ خربٍ فيه السجن المشهور في كتب التاريخ واسمه «جارطاق بدوي». ويذهب أكثر المؤرخين إلى أن توقاد من المدن القديمة، وأنها هي المدينة المُسمَّاة عند القدماء «بريسة» أو «قومانة بونتيقة». وقد ذكر المستعصمي توقاد في معجمه. ولأهل هذه المدينة مهارة في صنع الأواني النحاسية ونسج الحرير وتطريزه، وبضاعتهم معروفة بالجودة.
فلما نزلنا الخان وأخذنا بعض الحظ من الراحة خرجت مع كاظم بك نريد زيارة المتصرف، وكان المتصرف رجلًا من خاصة الجراكسة اسمه بكير باشا. فإذا دارٌ آهلة كل أهلها جراكسة، وكلهم مقيمون على بدويتهم، فتلقَّونا على الرحب والسعة، وأدخلونا إلى مجلس الباشا بلا استئذان، وكان بكير باشا يعرف كاظمًا ولا يعرفني، فسمَّاني له وقصَّ عليه قصتي. فرفع الرجل موضعي وأقبل يحادثني أطيب الحديث، ثم أخذ يقصَّ على جماعة كانوا عنده بعض أخبار البيت اليكني الذي أنا منه؛ وهو في كل حديثه يُثني أجمل الثناء. وقد قال للقوم: أيكون مثل هذا خائنًا؟! أم يُعاقب مثله بالنفي؟! فقال كاظم بك: إن والدة فلان جركسية ووالدة أبيه جركسية. فبسم لي وقال: أصادقٌ صاحبك؟ قلت: نعم. قال: فأنت تركي جركسي معًا، كفانا الله شرَّك. وأخذ يلاطفني ويمازحني كأني كنت صديقه منذ القدم. ولما هممنا بالانصراف دعانا إلى مأدبة أعدَّها لنا، كانت كأحسن ما يُستطاع في ذلك المكان، وقال لكاظم بك: لن تبرحونا غدًا، إنكما ضيفاي، وقد أخبرت الوالي بذلك تلغرافيًّا فرضي. فخرجنا شاكرين، وكنت أحب أن أبلغ سيواس غير متأخر لأجد حيلة في مراسلة أهلي. غير أني كرهت أن أخالف بكير باشا فأقابل إحسانه بالكفران.
وفي اليوم التالي طفنا توقاد وولجنا دورها ومشينا في أزقَّتها ورجعنا مساءً إلى بيت المتصرف مع رسول كان أنفذه في طلبنا، فودَّعناه وأثنينا على بِشره وإكرامه، ثم أصبحنا فتوافى الوجهاء إلى الخان يودِّعوننا ويظهرون الأسف على فراقنا، فقلت: يا عبد الحميد، تريد ذُلِّي ويريد الله عزِّي، دام أنفك راغمًا.
فخرجنا من توقاد على عادتنا مبكرين والطير في وُكُناتها، فجعلنا نتسنَّم الهضاب لا يتخلل صعودنا انبساط ولا انحدار، حتى رُفع لنا شامخ ذو هضبات، متصل الذرى بالسحاب، تعالته تلالٌ من الثلج كالقطن المندَّف، أشمُّ، صعب المرتقى يقصر دونه الجهد وتنحلُّ في ترقِّيه العزائم، تتطالع فوقه الجياد والعربات كأنها تسبح في سحاب جامد. قلت لصاحبي: ما هذا الذي نرى؟ قال: هذا «جاملي بل».
– ما زدتني علمًا.
– وما تريد أن تعلم منه؟ شاهق من شاهقات الأناضولي توسَّط بين «يكي خان» وبين توقاد، وستعلم ما هو حين نطلب ذروته.
– وما حاجتنا إلى هذا النَّصَب؟ أعندنا سعة في الوقت فنضيعها بالتوقُّل في هذه الجبال.
– ذاك ما لا بدَّ منه، ففيه طريقنا إلى «يكي خان».
وفيما نحن نتحدث إذ هبَّت علينا ريحٌ صرصرٌ نفذ بردها إلى عظامنا، ثم علت في الأفق غبرة حتى لخُيِّل إلينا أن ذلك الشاهق يحثو على رأسه الثلج بدلًا من التراب، فاستوقف السائق العربة ونزل عنها وراح يتأثر الطريق، فلما رجع سألناه عن الخبر، فقال: التبست المسالك ولا أدري أيةَ أسير. فتقدَّم الجنديان اللذان كانا معنا بجواديهما أمام العربة وأشارا إلى السائق أن يسير خلفهما، وما هي إلا مسافة خمسين مترًا في سفح الجبل، قطعناها في كدٍّ وإعياء، فما راعتنا إلا هزة كادت تستطير كلَّ واحدٍ منَّا من مكانه، فوثب صاحبي إلى الأرض وبقيت في العربة وحدي، فمالت إلى جانبٍ ميلةً فتدحرجت بي إلى حفرة هناك. وقد تعجَّلت بوثبة لم أُحسنها، فوقعت غائصًا برأسي في الثلج وبقيت رجلاي في الهواء، ولولا السائق والجنديان لمتُّ في موضعي مختنقًا، وما أدركوني إلا بعد أن سففت الثلج سفًّا، وحين فرغ رفاقي من إنهاضي ونفض ثيابي أخذوا يعالجون العربة ليقيموها وهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئًا، فتقدم إلينا الجنديان يعرضان علينا جواديهما، فامتطى كاظم جوادًا وامتطيت جوادًا، وسرنا نطلب ذروة الجبل، فلما انتهينا إليها رأينا خانًا واسعًا فيه جماعة من فرسان الجندرمة كانوا ينتظرون قدوم البريد وآخرين من المكاريين، فتلقَّونا وأنزلونا في الخان، وانطلق رجال منهم بالحبال وبالجياد إلى الموضع الذي تركنا فيه رفاقنا، فجاءوا بهم وقد أضناهم ما كابدوا.
أما أنا فقد سكرت بغير راح، حرارة الكانون بعد برد الثلج، هذا ما لا يُطاق، وكان الذين في الخان يعلمون ما في ذلك من الضرر، فأجلسوني ورفيقي بعيدًا عن الكانون، ثم أصبنا طعامنا وأخذنا حظَّنا من الراحة ساعة أو ساعتين واستأنفنا المسير. لم نستشعر ضنًى ولا إعياء. شتَّان ما بين ارتفاعٍ وانخفاضٍ. انبسطت لجيادنا الأرض وسهلت فقطعناها إلى «يكي خان» وكأننا مشينا على الديباج. ولا أنسى موقفي على ذروة «جاملي بل» بين فسيل الأرز وكأنه باقات زهر منتثرة على ملاءة بيضاء منشرة. نظرت إلى ما حولي فخُيِّل إليَّ أني على رَوْق سحابة جامدة، ثم نظرت عند انحدارنا إلى قرارة الوادي فضاع رائد الطرف بين اختلافات الألوان والأشكال. الماء كالزجاج، وجوانب الوادي كالطبق الصيني، وأخضر النبت وأصفره كالنقش على ذلك الطبق. وقد برُد الهواء حتى أصبح كقدح من البلور أكفئ علينا، فلما توارت عنا الشمس تبدَّى لنا «يكي خان»؛ وهو قضاءٌ أنافَ عليه جبل في شرقه منعه مصابحة الشمس، صغير بارد ولكنه غير قبيح المنظر، فقضينا ليلتنا في حديث وسمر وتجددت فينا العزائم إذ كان منزلنا هذا آخر منازلنا إلى سيواس. وقد شرَّد السرور النوم من الأجفان، ولو نمنا لهنأنا نومنا ولاطمأنت جنوبنا، هنالك خانات نظيفة لانت مضاجعها وطابت حجراتها، فلا تُقاس بالتي نزلناها من قبل.
تطاول علينا الليل واشتد قاتمه، فأقمنا تحت سواده نتعلل بالأماني، ثم رقَّ أديمه وخف حندسه فبدت تباشير الصباح، فنهضنا نهضة رجل واحد ورمينا بأبصارنا جادة سيواس وانطلقنا مسرعين، وبينا نحن في بعض الطريق إذا التفت صاحبي نحوي باشًّا مؤانسًا، فقال: الحمد لله على السلامة، أدركنا دار المقام، وسترى من سيواس بلدًا طيِّبًا فلن تطيب لك مبارحتها. غير أنني أبغض منها كثرة أشجارها، حيثما تسِر في شوارعها تلقَ أشجارًا صُفَّت على جانبيها حتى اشتجرت الأغصان بالأغصان واشتبكت الأوراق بالأوراق.
– وتبغض مثل هذا الشكل يا كاظم بك؟ أما إنك لحائر القلب لا تدري ما تحب ولا ما تبغض!
– أنا لا أحب الشجر الكثير. على أن في سيواس أشياء تطربني.
– وما هي؟
– ملاعبها وحاناتها.
– ومن أين لها ذلك؟
– وما تعجبك؟ ألا تعلم أنك قادم على ولاية من الولايات العثمانية الكبرى؟ ولسوف ترى من المحاسن ما يسرُّك، وإني لخائف عليك منها أن تستهوي لُبَّك. فخذ لها أهبتك منذ اليوم ولا تدع قلبك مجزَّءًا بينها.
– لقد أنذرت فأعذرت، وما للشباب فيَّ بقية تنفق، ذهبت الأيام بجدته ونضارته وإن أنا في الحياة إلا ضيف دنا أوان رحيله.
وإلى هنا عاودنا السكوت، فأخذ كلٌّ يفكِّر في شأنه إلى أن دانينا الضيعة الحميدية المسماة «نمونه جفتلكي»، وهي تبعد عن سيواس مسافة ثمانية كيلومترات. فلما رأيت باسقة الأشجار على جانبَي الطريق أيقنت أن صديقي كان صادقًا في قوله، وما حاذينا مدخل الضيعة إلا ألفينا عربة الوالي على انتظارنا ومعها جماعة من رجال بطانته مثل ياوره الخاص ملك أفندي ومثل مأمور التلغراف الخاص، فدنوا منَّا وبلغونا سلام سيِّدهم وقدموا إلينا العربة لنتحول إليها، فنزل صاحبي وآثرت البقاء مكاني إذ لم أكن على هيئة تصلح لركوب تلك العربة، وسرنا ميمِّمين سيواس، فبلغناها بعد سيرٍ استمر ساعةً ونصفًا من الزمان.