وفاة الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس
انتبهت مبكِّرًا غداة دعوة أسعد بك المكتوبجي، فما راعني إلا أغوب خادم الأوتيل داخلًا غرفتي على غير عادته. قلت: ما وراءك؟ قال: مات الوالي. فبقيت واجمًا باهتًا؛ لأن الرجل أمسى وليس به ما يشكيه. فزدت الخادم استيضاحًا، فأخبرني أنه مات بالسكتة القلبية. قلت: هذا رجل حمدت لقاءه ولم أعلم له سيرةً تكسبه الحمد أو الذم سوى ما كان يُثني به عليه مقرَّبوه، وليس ذلك دليلًا؛ فإن كان رجلًا أفاد الأمة خيرًا فوا أسفاه على فقده، وإن كان امتحن جانبها بشرِّه فالحمد لله على خلاصها منه، وليعوِّضها الله رجلًا ينهض بجناحها الكسير ويهبها من الإنصاف والرأفة حاجتها.
ثم أسرعت إلى ثيابي فلبستها وخرجت أريد دار الوالي، فرأيت على بابها جماعات من المساكين والمشايخ وغيرهم، كل فئة قائمة في انتظار ما يعنيها، فدخلت الدار وإذا الناس كلهم متوافون متكاملون، وما دنا الظهر إلَّا وخرجت الجنازة باحتفال لا يستحق الذكر. فشيَّعنا الفقيد حتى واريناه رمسه، ورجعنا ونحن لا نتحدث إلا بحديث وفاته، فقصَّ علينا الخبر مَن حضرها، قال: إنه فرغ من عشائه وجلس إلى حرمه الصغرى يحادثها، ولما حان وقت نومه استلقى على مقعدٍ هناك وسألها أن تُبادر إلى الخدم بطلب الطبيب. غير أن المنية سبقت ومات الرجل قبل أن يحضر.
ولما كان المساء توجَّهت إلى المأتم فجلست فيه ما استطعت، ثم خرجت مع المكتوبجي وجماعة من الموظفين، فجعل بعض الحاضرين يذكرون من مساوئ الرجل ما لا يصبر حليم على سماعه. قلت: قد آن للكتاب المطوي أن يُنشر.
ثم أقبل على سيواس بكير باشا متصرف توقاد، فجُعِل وكيلًا للولاية، وكثرت يومئذٍ الأقوال والظنون، فذهب أُناس إلى أنه سيخلف الوالي المتوفى، وزعم آخرون أن سيخلفه غيره، وتوالت الولائم والمأدبات احتفالًا ببكير باشا، فلم يبقَ في سيواس وجيه إلَّا استقبله بدعوة إلى بيته، وكنت أنا معه كالظل لا يتركني أُفارقه إلا بعد نصف الليل عند انصراف سائر رفقته، وما يسفر الصباح إلَّا تتسابق إليَّ رُسُله.
ولقد لمحني يومًا مفكِّرًا فالتفت إليَّ مزدجِرًا، وقال لي والناس يسمعون: أي بني، لا تحمِّل نفسك همًّا، انتظر حتى يقضي الله في أمري بما يريد. فإذا أنا وُلِّيت سيواس احتلْتُ لك في السعادة؛ فإما أُخلِّصك من هذا النفي، وإمَّا أفتح في وجهك طريق الهرب إلى مصر، فثقُل كلامه على سمعي وأوجست منه خيفة. ثم قدر الله أن وُلِّيَ سيواس الرجل الشهم والعثماني الحر رشيد باشا عاكف ابن المرحوم عاكف باشا الشهير، فانتقضت آمال بكير وأقام يرتقب أن ينصب واليًا على ولاية أخرى.
وقد كثر المطالبون لحسن باشا بعد موته وتعدَّد المشتكون، فأبى بكير باشا أن يأذن لأهل الرجل بالسفر قبل أن يُقضى دينه، وجاءت تركته بما لا يُذكر من المال، وظهرت في خزينة الحكومة وغيرها فضائح تداركها من عُني بها يومئذٍ، فعلمت أن هذا الوالي لم يرحم في استجلاب الكسب صغيرًا ولم يُوقِّر كبيرًا. وقد بلغ من الجشع مبلغًا لم تقدر عليه وحوش الفلاة ولا نسورها.
زعموا أنه اشترى من بعض الفقراء قنطارين من البصل، فلما ذهب البائع إلى الوكيل مقتضيًا أخذ يماطله أيَّامًا حتى عِيل صبره. فلزم الغريم البائس باب الباشا إلى ساعة خروجه، فتقدَّم نحوه ولثم طرف ثوبه ووقف خاشعًا خاضعًا يستعديه على وكيله ويطلب عطفه ورحمته، فتغيَّر وجه الباشا وأشار إلى الرجل بعصاه قائلًا: ألا تستحي أيها الرجل أن تُطالب واليك بثمن قنطارين من البصل؟ امضِ لشأنك وتعلَّم التربية. ثم التفت إلى من حضر من صحبه وقال: لي الله، ماذا أُعاني من تقويم هذه الطباع وهي تأبى أن تُقوَّم؟ وخرج بائع البصل مخزيًّا ومنكسرًا. فإذا صحَّت هذه المزاعم — وما إخالها إلا صحيحة — فالرجل ساقط المروءة بعيدٌ عن مواضع الشرف، لا يمنعني عن الشهادة له بذلك ما سبق إليَّ من تودده وإكرامه. إن الخائنين يستدرجون بالمظلومين حتى يبلغوا بهم غايات التلف، ولا ثقة بودٍّ مفاجئ من غير وفيٍّ. أكثر العوادي يستنيم للفريسة وفي لَهَواتها دماء فريسات مضت وبين أنيابها الحتف الكامن.
ومما علمت من ماضي هذا الرجل أنه كان واليًا على الحجاز، وأن أهل البدو سطوا على قناصل بعض الدول في جدة وقتلوهم، وكان ذلك في أيام ولايته في نحو سنة ١٨٩٤ على ما أظن. وكانت تلك الدول وفي طليعتها الدولة البريطانية أرسلت يومئذٍ سفنها الحربية وطلبت محاكمة الباشا، ولكنه وجد سبيلًا إلى الفرار ففرَّ إلى الآستانة. غير أن الحكومة العثمانية لم تجد بُدًّا من محاكمته في مجلسٍ خاصٍّ. فقامت عليه البيِّنة وحُكِم عليه بأن لا يُستخدم في الحكومة ما دام حيًّا. ثم فرغ إلى الرشوة فاستعملها فعُيِّن واليًا على سيواس، وكان يأمل أن يصير ناظرًا للداخلية إذا سقطت الوزارة واستغنى عبد الحميد عن ناظر الداخلية ممدوح وشيعته.