حزب تركيا الفتاة
ملك من الملوك، شديد البطش، قاسي الفؤاد، دائم الحقد، جريء في غضبه، خائف في حيلته، مطلق اليدين على أمة تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجلٍ من رجاله فيجرِّده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويُخرجه من بين أهله وجيرته ويسجنه صاغرًا. كل ذلك لنصحٍ نصح به، أو قولٍ صدق فيه، أو حقٍّ عرف حبه له، أو ظلمٍ أبى أن يعين عليه. ثم يُفرَّق أهله ويُشرَّد أولاده، ويُقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرًا من الأخبار! هذا هو الاستبداد.
دولة عظيمة، جمٌّ ثراؤها، رغدٌ عيش أبنائها، يتقلبون في النعم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغة، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أن تُنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلة وخيراتهم عميمة، لا يخافون مسيطرًا إلا كتابًا هو القانون، ولا يتقون معاديًا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقة في عمل ما يفيد، مغلولة عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إراداتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفًا، ولا يجهلون من السرور طمعًا ولا شكلًا! هذه هي الحرية.
الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنَيلها أقل بكثيرٍ مما مثَّلته في الكلمات المتقدمة. نعم كانت الأمة تريد شيئًا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلمه. فلمَّا حل ميقات الخلاص انتفضت، فتساقطت من عليها نبال الظلم، ووقفت مستبسلة لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية واستمتعت بجمالها وشبابها علمت أنها كانت تئنُّ من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بُد منه لحياة الأمم.
يحسب أكثر الناس أن أبناء تركيا الفتاة محدثون. كلا ثم كلا. هذا فريقٌ عريق مطلبه مترقٍّ بترقِّي الأجيال. وأول من هاجر من الأراضي العثمانية ناقمًا هو الأمير «جم» الذي يسميه الأجانب «زيزيم»؛ وهو ابن محمد الثاني من ملوك آل عثمان. وُلِد في سنة ١٤٥٩، وهاجر مغلوبًا من أخيه بايزيد الثاني في سنة ١٤٨٢، وراح إلى أوروبا تضيفه السجون وتتقاذفه أيدي الملوك، حتى قضى في أسر البابا «إينوسان» الثامن في سنة ١٤٩٥ مسمومًا. على أن هجرة «جم» لم تكن من أجل إصلاح، ولكنها كانت النموذج الأول.
إلا أن الأمة العثمانية، وإن انتابتها النوائب وتعددت فيها آفات الاضمحلال، أسعدها الله مرارًا بقوم تداركوها وانتشلوها من وهدتها. وإذا كان «الصقولِّي» الشهير مجدِّدًا بناء هذه الدولة؛ فإن «محمدًا الكوبريلي» أنالها في سنة ١٦٦١ من الثراء والجاه ما لم يفز بمثله معاصره «ريشليو». وقد شاء الله أن يسير فيها على إثره، بل أن يفوته حفيده «مصطفى الكوبريلي» الشهير الوطني الذي لمع نجمه بعد سنة ١٦٩١. وما هؤلاء إلا رجال تركيا الفتاة. فعلوا ولم يقولوا؛ أصلحوا لأنهم أرادوا؛ ولم يطلبوا الإصلاح لأنهم قدروا على فعله.
أمَّا مذهب التجديد الحق، وقلب الإدارة العثمانية القديمة إلى إدارة عثمانية جديدة على منوال الإدارات في الممالك المتمدنة؛ فأمرٌ لم يكد يخطر على بال أحد من قدماء العثمانيين قبل سليم الثالث؛ فإنه أول سلطان بل أول عثماني أُلهِم هذا الرأي؛ رأي القلب من القديم إلى الجديد. وليَ الملك في سنة ١٧٨٩ بعد عمه عبد الحميد الأول، فرآه مضعضع الأركان بادي الضعف، ففطن لوجوب الإصلاح، وأوشك يشرع في إنجازه، لولا أن تعجلته الصروف بما لم يكن في الحسبان. فدخل الجيش النمساوي بلغراد والجيش الروسي بندر إسماعيل، ودارت رحى الحرب حتى اضطر أن يرضى بهدنة «ياس» سنة ١٧٩٢، ودخل بونابارت مصر واحتل الفرنساويون بر الشام، فاستعان على طردهم بإنكلترا، واستخلص مصر من غاصبها في سنة ١٨٠٢. وقد ثار الوهَّابيون في أرض الحجاز، وثار علي باشا «التبه دلنلي» في يانية، وثار الصربيون، وقامت القيامة في داخل البلاد، وانهمك هذا السلطان الجليل بإطفاء هذه الفتن حتى أتى عليها، ثم رأى أن لا بُد من إبطال الجنود «اليكيجرية» وجمع جنود مرتبة مدربة على النسق الأوروبي؛ فقد أيقن أن لا خير في أولئك الجبابرة الذين ظهرت سطوتهم في النهب والقتل والاعتداء على إخوانهم من بعد ما افتُضِحوا وخُذِلوا في حرب النمسا وروسيا. فأسَّس ثكنات عديدة وشاد «الخمبرة خانة» والمهندسخانة، ونظم بعض الفِرَق من الجنود الجديدة. وبذا ثار اليكيجرية عليه وخلعوه في سنة ١٨٠٧، ثم خنقوه في سنة ١٨٠٨ بأمرٍ من مصطفى الرابع الذي وليَ المُلك من بعده. فقضى سليم الثالث شهيد الإصلاح، وبقي عمله ناقصًا إلى أن أتمَّه السلطان محمود وطهَّر البلاد حتى لم يترك فيها من اليكيجرية أحدًا، واستراح واستراحت معه الأمة؛ ومن هنا صحَّ لنا أن نعُدَّ سليمان الثالث أول مؤسس لتركيا الجديدة أو تركيا الفتاة فعلًا.
ثم شاءت الأقدار أن تنال البلاد العثمانية نصيبها من التمدين على يد الرجل الحر، الشهير ببيانه ودهائه مصطفى محمد رشيد باشا. ومن عجائب النوادر أنه ولد في سنة ١٨٠٢، وهي السنة التي تهادن فيها سليم الثالث مع الفرنساويين بعد إخراجه إياهم من مصر. ولم يكن لهذا الرجل في صباه من يعينه ويربِّيه سوى أمه، ولا من يحميه في شبابه سوى ختنه علي باشا المعروف ﺑ «الإسبارطة لي» وذلك إلى سنة ١٨٢٦. وقد عرف فضل نفسه، وعرف السلطان محمود فضله بعد سنتي ١٨٢٨ و١٨٣٣، وكان برتو باشا يريد أن يستخدم رشيدًا في إصلاح هذا الملك، فلم يمهله الدهر إلى إنجاز إرادته، ونُكِب بالنفي ثم بالقتل، وبقي رشيد من بعده واهن القوى واهي الأمر. وقد اختص بمودة إنكلترا وولائها؛ ومن أجل ذلك لقي من فرنسا من العدوان ما أحبط كثيرًا من مساعيه. وما لقيه من أعدائه المقربين من السلطان كان أشد وأنكى. ولولا هؤلاء السفل الذين يتزاحمون على أبواب السلاطين ويتخاصمون على المكاسب؛ لاستفادت الأمة من جد أعاظمها، ولم يذهب نَصَبُهم في غير جدوى. كذا بُليَ رشيد بحسَّاد أبطلوا أعماله وحالوا بينه وبين خير البلاد، ولم يزل يتولى زمام الصدارة ثم يبارحها من سنة ١٨٤٦ إلى سنة ١٨٥٧ حتى قبضه ربه إليه؛ فهو ثاني المجددين بعد سليم الثالث، وأول من هذَّب اللغة العثمانية واستخلصها من حوشي الكلام ومستهجنات العجمة، وفتح باب الإصلاح اللغوي لشناسي الشهير.
ولقد جاء بعده رجلان عظيمان، أحدهما عالي باشا؛ وهو نابغة المحررات الرسمية في اللغة العثمانية، نشأ في عز رشيد المتقدم ذكره، وانتسب إليه وتفرَّد بحذقه ودهائه. ولَي الصدارة في نحو سنة ١٢٨١ هجرية، وبقي يغادرها ويعاودها خمس مرات، وكانت ولايته الصدارة خامس مرة في سنة ١٢٨٣ وبقي فيها إلى آخر عمره. ولئن فاز عالي باشا في تذليل المصاعب اليونانية التي ظهرت في سنة ١٢٧٤؛ فلقد خاب في معضلة كريد التي أتت في عهد صدارته وقفل غير فائز منها بعدما قصد إليها بنفسه، وكان عالي باشا من القائلين بالترقي في المألوف والإعراض عن المستجد، وكان يؤثر رضاء السلطان على رضاء الأمة، وكان يطارد أنصار تركيا الفتاة الذين وجدوا في عصره؛ حتى لقد قامت الحرب بين كمال بك مع ضيا باشا وبينه، كلاهما عاداه، وطالت الحروب واشتدت الخصومات، فألفاه أعداؤه خشنًا عند المجس وصعبًا لدى المراس ما دام حيًّا، ومثله فؤاد باشا الشهير الذي وليَ الصدارة في سنة ١٢٧٨، فكان أول ما أتى به من جلائل الأعمال أن سعى في عزل مصطفى فاضل باشا من نظارة المالية، ووشى به إلى السلطان حتى أوقع بينهما العداوة والبغضاء، وحرم بذا الأمة من أبي الحرية ومُوجدها. ولبعض الكتاب في فؤاد هذا مبالغات لا طائل تحتها، ولم يكن الرجل إلا من أنصار الفكر القديم. وقد مات بعدما اختل عقله بالغًا من العمر خمسًا وخمسين سنة.
على أن أبا الحرية وصاحبها الأمير الجليل المرحوم مصطفى فاضل باشا نال الشرف وحده في مجاهدة الاستبداد، فكان هو ورشيد باشا قطبَي المجد في المُلك العثماني، ولكن تكاثرت عليهما الأعداء، وقلَّت الحيلة، وبقي للأخلاف من بعدهما أن يسيروا على إثريهما.
وليَ الأمير فاضل نظارة المعارف ثم نظارة المالية، لا يتقاضى راتبًا ولا يراقب كسبًا، بل جاد بقناطير من الذهب ورثها من أبيه، فأهدى المعرض الأول الذي أقيم بالآستانة العليَّة خمسًا وعشرين ألف ليرة، وأهدى السلطان مرادًا الخامس خمسًا وسبعين ألف ليرة، وهاجر من عاصمة الملك يؤم بلاد الغرب حتى استقر به النوى في باريس سنة ١٧٦٥، وكان استصحب معه الشاعرين الكاتبين الشهيرين كمال بك وضيا باشا، فجاهد بماله ورأيه، وجاهد صاحباه بقلبيهما ويَراعَيْهما، فهزَّا قصور الظلم هزًّا. وسار على طريقه شهيد الحرية والوطن مدحت باشا الشهير، وما زال يجاهد ويعمل حتى تمكَّن من خلع عبد العزيز في قصة معروفة يطول شرحها، وأجلس على سرير الملك مرادًا الخامس.
فبيْنا يجتهد الأمير مصطفى فاضل مع صاحبَيه اجتهاد أبي حنيفة وصاحبَيه، إذ أتى عبد العزيز. وقد تخلَّص من عالي وفؤاد بموتيَهما واستخلص لنفسه محمودًا نديمًا المعروف عند العثمانيين بنديموف، وإنما سُمِّي بذلك لأنه كان صنيعة آغناتيف، وأول من جعل السياسة الروسية رابحة السوق في المابين. فانطلق هذا الخئون في زمان صدارته يرتكب من الموبقات ما لم يسبقه إليه سواه، استغوى السلطان عبد العزيز حتى أغواه، وحارب به الحرية والأحرار، ثم طلع مدحت في سماء الصدارة، فعنت الوجوه وشخصت الأبصار.
ولا بُد لي من ذكر شيءٍ من لائحة أبي الأحرار المرحوم الأمير مصطفى فاضل قبل الكلام على مدحت وأعماله. هذه اللائحة أنفذها الأمير مصطفى فاضل إلى السلطان عبد العزيز حين مهاجرته إلى باريس، وأودعها من الحقائق والكلام الموجع ما نزل على المابين نزول الحديد المذاب. وهذه اللائحة كانت كإعلان حرب من حزب تركيا الفتاة الذي تأسس إذ ذاك على السلطان المستبد.
قال مؤسس الحرية الأمير فاضل بعد الديباجة: أصعب ما يدخل قصور الملوك هو الحق. ومن يحيطون به يخفون الحق حتى عن أنفسهم؛ لأن هؤلاء لما عاشوا في مركز الحكومة وبين لذتها حسبوا أن المشقة التي تكابدها الرعية هي من فتورها، وهم يزعمون أن وقوع الدول في الضعف هو من حوادث الكون التي لا حيلة في درئها.
لا بُد من جرأة في الصدق؛ ليبصر الحق من غير وقوع في الأوهام الباطلة، ولا بُد من جرأة أكثر من ذلك لبيان الحق للملك. وهذا الصدق لم يتخط عبدك أبدًا، وإثباتًا لذلك أرجع إلى ذاكرة جلالتك ومن كانوا سببًا في نفيي إلى ديار الغربة.
نعم، لم تتهيأ لي إلى الآن خدمة ترى الآثار البادية لهذه الصداقة واستعدادي لها؛ أي لم أتمكن من خدمة صالحة تستوجب إصلاح وطننا وإعادة الحياة إليه، ولكن أول من أماط الحُجُب عن وجوه الدول وعرض سيئات حكومتك وجراحاتها لذاتك الهمايونية، وجُلُّ أفكار عبدك متجهة إلى خدمة ذاتك الشاهانية. وإني؛ لإخلاصي لذاتك الهمايونية ومحبتي لوطني، لم يبقَ لي صبر للتفرج عن بعد على الأسواء التي أحاطت بنا ظاهرًا وباطنًا، وإذ كنت على ثقة من المروءة التي اتصف بها قلبك الشاهاني عددت من وظائف التابعية أن أُبيِّن هذه الأسواء مرة أخرى، غير كاتمٍ منها واحدًا؛ لنجد لنا سبيلًا إلى خلاصنا في حينه.
مولاي صاحب الشوكة، إن ما يقوم به في دولتك من أعمال الفوضى رعاياك المسيحيون، هي كلها من أعمال أعدائنا في الخارج. على أن الإدارة الحاضرة أيضًا لها من ذلك نصيبها الأوفر؛ لأن أعمالًا لم يكن بها بأس فيما سلف من الأزمان تلوح اليوم وكأنها ظلمٌ وجورٌ على الرعايا من كل جنس، والأوروبيون يحسبون أن المظلومين والممتهَنين والمحقَّرين كل التحقير في تركستان هم من الأمة المسيحية المحكومة. وليس الأمر كذلك؛ إن المسلمين — ولا تحميهم دولة من الدول الغربية — سُحِقوا ومُحِقوا أكثر من الملل غير المسلمة، المسلمون كابدوا هذه الكُرب إلى الآن بما اتصفوا به من النخوة في الصبر والانتظار. أمَّا الأوروبيون فلا يعلمون ذلك. على أن المسلمين لما كانوا من دم ذاتك الشاهانية التي بيدها زمام حكومتهم، يعدُّون محبتهم وطاعتهم لعرش سلطنتك من الأوامر القرآنية، ولكن ائذن لي يا مولاي صاحب الشوكة أن أقول لك: إنه لم يبقَ للملة الإسلامية جَلَد، لا على الإخلاص ولا على احتمال الكرب. إن أصوات السخط وإن عولجت بالإسكات ما عولجت، أخذت ترنُّ في كل صوب؛ فإنزالهم إذن إلى هذه الدركة من اليأس مضرٌّ بنسلك وبهم.
إن من سيئات أصول الإدارة الحاضرة التي ربما كانت على من يخالف رضاءك الشاهاني خاصة ويخالف رضاء الوكلاء أيضًا، بل من أنواع الظلم التي لو علمت به ذاتك الهمايونية لأزاحته. إن أعراض التناقص بدأت تبدو في سلالة الأتراك يومًا بعد يوم، وإن البعض من عبيدك الصادقين الذين يفتخرون بأنهم من هذه السلالة العليَّة يرون قلة هذه الأمة فيأسفون أسفًا حقًّا، ولئن كان السبب الأصلي لهذا خطأ الأصول العسكرية، إلا أن الأمر الذي يخيف عبدك أكثر من ذلك ليس هذا، بل الذي يخيفني جدًّا من أحوالنا الآتية هو — كما يُرى في المِلل المحكومة — ازدياد سوء الأخلاق الذي عرض لأمتنا العثمانية وتمكُّنه كل آنٍ وانتشاره.
مولاي صاحب الشوكة، محا آباؤنا قبل أربعمائة سنة إمبراطورية الشرق من على وجه الأرض، وجاءوا البلدة المشهورة التي اتخذها قسطنطين مقرًّا لملك العالم في أبَّهتهم وجلالهم وسكنوها، فما كان هذا الشرف التاريخي الذي أحرزوه ناجمًا عن غيرة دينية أو شجاعة عسكرية، بل كانت الغيرة الدينية والشجاعة العسكرية عكسًا لأشعة أخلاقهم المِلِّية، وإنما نالوه لأنهم كانوا مطيعين قوَّادهم، ولكن هذه الطاعة كانت قائمة على أساس حرية اختاروها وقبلوا بها من أنفسهم، وكان قلبُ كل منهم وعقله حرًّا فيما يختار. ولا أدري أية حرية فطرية وأي شمم غريزي اجتمعا فيهم واستحدثا لهم نظامًا، وجعلا أخلاقهم الحية ومشاربهم في حالة من الاطِّراد. هذا هو السبب، سهل لهم الظفر بدولة عظيمة قامت فيها حكومة الظلم وأضحت الذلة والمسكنة وكل المعايب الأخرى دستورًا للعمل.
هذا ما تيسَّر نشره من لائحة الأمير الجليل مصطفى فاضل، وكنت أودُّ تعريبها برمَّتها إيثارًا لدرر حكمها وإقرارًا بفضلها لولا ضيق المقام. ولمدحت باشا وإسماعيل كمال بك ومراد بك لوائح عديدة رُفِعت إلى عبد الحميد الثاني من بعد، سخر بها وبكاتبيها، وزاد إسرافًا في الدماء واستمراءً للظلم.
وقد كان في خلع عبد العزيز والبيعة لمراد موعظة لعبد الحميد، نبَّهته إلى العناية بذاته دون ملكه حين أفضت السلطنة إليه بعد أخيه مراد. رأى الشعب موغلًا في ظلم الجهالة، لا يدري من نعم الحياة شيئًا. وأبصر قومًا من نبهاء العثمانيين يقودهم مدحت أبو الدستور، فقال أستميلهم كلهم باللين، حتى إذا خضعت رقابهم وملكت نواصيهم أعملت فيها الشفار القاطعة واقتطفت رءوسهم اقتطافًا، وكان مدحت أخذ عليه عهدًا بخطِّه ألَّا يحيد عن أسلوب الدستور، وألَّا يستبد برأيه، فرضي بذلك ساكن «يلديز» وأصدر إرادته بإنفاذ القانون الأساسي الذي كان اشترك في تحريره كمال بك وضيا باشا وحرَّفه سعيد باشا، وفتح مجلس الأمة في سنة ١٨٧٧ إلى أن ثبت قدمه، وكان اسم مدحت يكاد يُغطِّي على اسم السلطان، فدبَّت في فؤاده نيران الحسد وأكبرَ أن يعلوَه أحد رعيته مجدًا وسؤددًا ويسلبه محبة الأمة، ولا يدع له من المُلك إلا تاجًا أذهبت تألقه الأيام وأبلت جِدَّته العصور، فأضمر له الشر. ولكن كيف يقوى على ذلك ومعه رقيبان لا يغفلان عنه ولا تُسام ذمتاهما بأغلى المهور؛ وهما كمال بك وضيا باشا، وكانا جعلا مستشاريه ومراقبيه، فدعا مدحت ذات يوم إلى قصره وقال إن وجود رقيبَين عليه يخفض جانبه ويذهب بهيبته ويحقِّره في أعين أمته، ولعبد الحميد في مثل هذه المضايق حيل لا تخذله، ومدحت وإن عُرِف بسعة العقل وخلاص الطوية وكثرة التجارب؛ لم يكن من نظراء عبد الحميد في مكايده؛ فدخلت عليه الحيلة ورضي بما نوى سلطانه واستكان.
وما لبث السلطان العثماني أن استطار كمالًا وضيا كلًّا إلى بلدة يحتكمها ظاهرًا ويبيت عانيها باطنًا. واستشعر مدحت بعاقبة الأمر، وكاد يقضي ندمًا ولات ساعة مندم. ظفر الجبار أول ظفر وهدم سدَّين قويَّين بينه وبين الاستبداد.
فما بقي على طاغية الشرق إلا أن يتخلَّص من مدحت إمَّا بسلمٍ وإما بحربٍ، ولا سبيل إلى أحد الأمرين. فأقام يترقب الفرص، وفي العين قذًى وفي الحلق شجًا. فلما كانت سنة ١٨٧٧ وجعل الجنرال أغناتيف مندوب روسيا في الآستانة يقترح مطالب كلها فضول، وأبى نواب الأمة قبول تلك المطالب، طاب السلطان نفسًا وتحفَّز للوثوب على فريسته، فأعلنت روسيا الحرب المشئومة وخرجت الدولة العثمانية مكسورة القوادم منهوكة القوى، وعقدت معاهدة «سان إستفانو»، وكان مجلس الأمة تفرَّق جمعه، ومدحت أُسقِط من مقام الصدارة وطُرِد من وطنه، إلا أنه بادر إلى برلين وما زال ببسمارك حتى استرضاه بعقد مؤتمر برلين بعدما أقنعه بالحجج الدامغة بأن زوال المُلك العثماني يُفضي إلى فقدان التعادل في أوروبا ويئُول إلى حرب تُهلك الحرث والنسل وتأكل كل غارب ومَنسِم.
هكذا هُزم الجيش العثماني، وتفرَّق نواب الأمة؛ فمنهم من ضافته السجون، ومنهم من أُدلي إلى قاع البحر أو نُفي إلى الولايات البعيدة، أو هرب ومُكِّن من الخلاص؛ فطاب الوقت لعدو الدستور والمتيَّم بالاستبداد، وبقي القانون الأساسي يُنشَر كل سنة في التقويم العثماني الرسمي «السالنامه» وفجر بميثاقه من ينتحل لنفسه اسم الخلافة لرسول الله.
ولما كان هذا السلطان مُرزأً بحب النفس والجاه والمال، شديد الجبن، دائم الوسواس، قليل الثقة بأشد رجاله إخلاصًا، كثير الارتياب، لا يزول من قلبه الحقد ولا يفارقه حب الانتقام، سلَّ للأمة سيف البغي، فجندل سُرَاتها وأذلَّ أعزَّتها وجعل سافل ملكه عاليه، فألقت له الأمة الطيبة بمقاليد الأمور، وأذعنت له أيَّما إذعان.
ولما أصبح الأوائل من رجال تركيا الفتاة. وقد انصدع شملهم، لم يبقَ منهم إلا من غلب عليه الخوف فآثر السكوت على مضضٍ أو فتنه المال فاختار النفاق؛ حتى لقد صار جماعةٌ من عِلْية القوم وفضلائهم من رجال القلم جواسيس ووُشاة وأُغدقت عليهم الهبات وفسدت الطباع، فنمَّ الولد على أبيه، وعادى الأخ أخاه، وخان الأمين الأمين، وراجت أباطيل التعصب؛ فتزلَّف حمَلة العمائم والطيالس إلى سدرة المُلك حيث يدرُّ النوال وترتفع الأقدار.
وإنما نقم رجال تركيا الفتاة على الملوك العثمانيين جهلهم وخمولهم، وما ألِفوه من البذخ والترف، وما جرَوا عليه من ظلم الرعية والتأله عليهم، وإنكارهم على الأمة ما تطلبه من العدالة وهي أصل الحرية والمساواة والإخاء؛ واستكبروا أن يكونوا كالملوك في البلاد المتمدينة. وأبناء الملوك عندنا لا يُربَّون على ما يفتح أذهانهم ويهذِّب أخلاقهم ولا يُتقنون من العلوم إلا مبادئ في أمر الصوم والزكاة والصلاة ولا ينظرون من الكتب المؤلَّفة إلا في كل قديم منها، مشحون بما لا يسعه العقل من «آلتي بارمق» و«أنوار العاشقين» و«علم حال»، ولا يتعلمون إلا ما لا يُذكر من اللغة العثمانية في كُتُب مثل «التحفة الوهبية» و«بند عطار» و«كلستان» و«بوستان»، ولا يلقَّنون إلا بعض كل ما كان غريبًا من جيده ورديئه، ثم هم يرون كيف يعيش آباؤهم ومَن هم فوقهم سنًّا؛ فينغمسون في الملاهي ويقضون أيامهم بين الأبكار العُون من الولائد، في قصف وعزف ومعاقرة ولهو، وهم بمعزل عن أمور المُلك، ولا يأذن لهم بمعاناتها أحدٌ ممن ولي الأمر خشيةً ورِقْبَة.
أما رجال الدين وهم عيال الرجال، فينبشون عن منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها، فلا يروون للملوك إلا ما كان حثًّا على طاعتهم مثل قولهم: «قلب السلطان بين أصبعي الله يُقلبه كيف يشاء.» وقولهم: «الملوك مُلهمون.» وقولهم: «اسمعوا وأطيعوا ولو وُلِّي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.» كل ذلك يُفسدون به أخلاق الملوك تقرُّبًا إلى جفانهم واستجداءً لحبواتهم، فما يخرج هؤلاء إلا يدخل السائلون المادحون، ونسمِّيهم مسامحةً شعراء؛ ليمدحوا الظالم سفَّاك الدماء وناهب العباد، فيقولون له: «إن بين غلائلك لعدلًا من الله وبين جنبَيك لروح القُدُس. يا مُجزل العطاء ومولى النعم، يا من يخصب بأمرك المحل وتجري الرياح، وتنقاد لمشيئتك الأقدار، وتحسد السماء الأرض إذ كانت موطئًا لأقدامك، يا ظل الله وباني الكون، يا من عتبته فوق الأفلاك …» إلى غير ذلك مما يستحي من ذكره ويشمئزُّ من سماعه كلُّ من كان في فؤاده مثقال خردلة من العقل والإنصاف. ولا يكتفي أمثال هؤلاء بما أجملنا قليله، بل يختلقون لأنفسهم ما يُمكِّن في قلوب الملوك مكانتهم ويعليها، ويتحكَّمون به على الأمة وهي غافلة عنهم، فيروون مثل قولهم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.» ويأتون بآيات من القرآن العظيم لا تصدق في أحد منهم، كقوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» وفيهم من بلغت به القِحَة إلى أن قرأ لفظة الجلالة مضمومة والعلماء مخفوضة، ففسَّر الآية الكريمة بغير معناها الأصلي.
أما الحكومة العثمانية، فلم تشبه حكومةً في الوجود، وما انتظم لها أمر في ماضيها ولا في حاضرها. ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية؛ إذا وليهم سيد عاقل واتخذ بطانة خير وحاشية عدل أنعش نفوس محكوميه، وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشم جبَّ منهم الغارب والسنام، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب. تُجبى أموال الرعية بلا حساب، فيضيع بعضها في جيب الجابي وبعضها في جيب من هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يتصدق به عليه السارق والناهب. فضالة ينفق جانب منها على طرب الملوك ولذاتهم وجانب على المقرَّبين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك آمره رحمة فينبذ إليه بما يسدُّ به رمقه.
فإلى مثل هذا نظر رجال تركيا الفتاة وتوقَّعوا منه سوءًا وأحبُّوا أن يفْدوا ملكهم ووطنهم بأرواحهم.
وإذ كان الأوائل من رجال تركيا الفتاة فنيَ أكثرهم، ولم يبقَ من شيعتهم من يعوَّل عليه كما تقدَّم ذكره في هذا الفصل؛ أخذت جماعة من الناشئين الأحداث ممن تأدَّبوا بأدب كمال، وتعلَّموا من كتبه الخالدة على ممر الدهور، واستناروا بآرائه وآراء من كان معه، تنوب عنهم، فكانوا يتشاكون فيما بينهم مما يرون من سوء المصير. وقد أبغضوا السلطان لما اقترف من الآثام ولحنثه بيمينه، وكان كلما أحس السلطان بنهضة سلط أعوان نقمته فشرَّد دُعاتها وبدَّد سُرَاتها وكاد لها كيدًا. ولقد بثَّ الجواسيس وفتح أبواب السعاية والنميمة لكل خامل الذكر عاثر الجد لئيم الأصل، فمن دلَّه من هؤلاء اللؤماء على نبيهٍ ليُذهله، وفاضلٍ لينتقصه، وعائلٍ يؤيِّم أهله، وبيتٍ يخربه على صاحبه، أجزل عطاءه ورفع منزلته. ولقد أقصى عن دار الملك كل أريب صادق وفيٍّ، وقرَّب منه كل خئون ممقوت.
فلما حدثت المذابح الأرمنية التي وقعت في سنة ١٨٩٤ حنق أكثر أنصار الحرية من العثمانيين، واستحوا أن يدَعوها تمر بهم غير متألِّمين، فكان فيمن حنق على الحكومة الحميدية مراد «الطاغستاني». رفع كتابًا طويلًا إلى عبد الحميد أدمج له فيه وصف التهلكات المحيطة بالملك العثماني، وأبان له عن مصير الظلم. إلا أنه أحس بالشر وعرف أن عبد الحميد لا يترك جرأته بلا حساب، فخرج من الآستانة طالبًا نجاته، فنزل بمصر وأصدر فيها جريدته «ميزان» التركية التي كان يُصدرها بدار السلطنة قبل دخوله في خدمة الحكومة، وكان السلطان أمر إذ ذاك بتعطيلها لِما نُشر فيها من الرثاء لكمال بك الأعظم شهيد الأدب والوطن، وكان لمراد منزلة كبرى في قلوب كثيرين من تلامذة المكتب الملكي؛ لأنه كان معلِّمًا لهم في التاريخ، ففازت جريدة «ميزان» من الشهرة والإرهاب بما أفزع عبد الحميد على سريره، ثم قضت الصروف على مراد بالخروج من مصر، فسافر إلى «جنيف» وأعاد إصدار ميزانه هنالك، وألَّف جمعية لمكافحة الدولة الظالمة، وجعل نفسه رئيسًا لها. وإذا ابتلى الله العثمانيين بالحسد وحب الرئاسة في مثل تلك الأوقات نشأ الخلاف بين مراد وبين أحمد رضا. كلٌّ رأى نفسه أولى من صاحبه بأن يستقل بالأثرة ويتفرَّد بالسيادة، وكلٌّ رأى في مناوأة الظلم رأيًا لا يُشاكل رأي صاحبه. فأخذا يتراجحان ويتباريان حتى استُرجِع مراد إلى الآستانة بعدما ترك لاسمه دويًّا في أرجاء أوروبا والممالك العثمانية ملأ الأسماع وكاد يستولي على القلوب، وتفرقت من بعده جمعيته ولم تقم لها قائمة منذ ذلك.
ورأى عبد الحميد في رعيته أمارات الضجر، واستشعر من أذكياء الأمة انتباههم؛ فعمد إلى قوَّته يضرب بها ضعفهم، وغفَّله الله عن اصطناعهم بالجميل وإخضاعهم بالعدل وسياستهم بالحكمة، وزيَّن له البغيَ أعوانُه وقرَّبوا منه أسبابه؛ فضاعف عدد الجواسيس واستبدَّ على الناس فداخلهم حتى في وليماتهم ومناحاتهم، ففني صبر المتحالفين وخاف العقلاء عاقبة هذا الجور، فاجتمع فريقٌ من الفضلاء وألَّفوا «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» في نحو سنة ١٨٨٩، وجعلوا مركزها الأعظم بسلانيك، ومركزها العظيم بمناستر، ونهض أنور ونيازي يتقدمان صفوف المجاهدين في سبيل الحق ويستصرخان بكل صادق الود ثابت العزم من كبار الأمة وأهل نجدتها حتى كان هذا الانقلاب.
نعم وفَّت الجمعية وأبطالها بعهدهم، فوفَّى الله بعهده. وإنما قرَّب لهم الأسباب وسهَّل لهم إدراك الطلبة إفراط عبد الحميد في الظلم ومبالغته في الإساءة. وقد آنس ذلك قبولًا في طبيعة الرعية للخير واستعدادًا للمجد واستحقاقًا للفخر، فقويت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة.
وإذا لم يشأ رجال الجمعية المقدسة وبطل الحرية نيازي الكبير أن يقولوا شيئًا في تاريخ الجمعية وكيفية تألُّفها، واعتذروا بأن هذه الأسرار لا يمكن إفشاؤها، فأَوْلى برجال التدوين إمساك القلم عن الخوض في هذا العُباب تفاديًا من الشطط واجتنابًا للوم الأصدقاء.