ما كابده أهل بيتي في فروق
جاءت والدتي وامرأتي لتزوراني في السجن على جاري عادتهما، وكانت المرأتان لا تأمُلان أن يؤْذن لهما في الوصول إليَّ. ولكنهما قالتا: نحتال في الأمر عسى أن نهتدي إلى حيلة ننال بها طلبتنا. وإذا نفدت الحيل وسُدَّت المسالك كلها فإن فيما نستخبر عن حال الرجل وصحته لمقنعًا لنا. وإنما وصلت السيدتان ساعة أرادت المتصرفية حملي إلى الباخرة، فخشيَ رجال الشرطة أن يحدث من ذلك أمرٌ يستلفت أنظار الناس، فرأوا إخراجي في غفوة من أهل بيتي، فتقدَّم رئيس القوميسيرية إلى السيدتين قائلًا: انتظرا المتصرف، ويوشك أن يحضر الساعة. إني لأرجو أن يأذن لكما اليوم في زيارة رجلكما. ثم رأى الخادمة حاملة ولدي البكر، فقال لها: لا تقفي في هذا المكان، إني أخاف أن يبكي الصبي فيسمع أبوه بكاءه ويعتريه حزن شديد. فذهبت الخادمة مع السيدتين إلى مكان ينتظرنَ فيه قدوم المتصرف، وبقين هنالك إلى أن أخرجوني من سجني وأركبوني العربة، وجاءت امرأة من قيِّمات السجن تُخبر والدتي وامرأتي أني لست هناك، وأن الشرطة نقلتني إلى باب الضبطية. فلا يسألنَّ قارئ كتابي عن حال النسوة الثلاثة حين فاجأهم هذا الخبر. وقفن واجماتٍ حائراتٍ لا يدرينَ ماذا يصنعن.
وبينا هنَّ على تلك الحال من الخبال إذا أحد الشرطة يتقدم نحوهنُّ متخوِّفًا حذِرًا، فلما قارب مكانهنَّ قال: أيتها السيدات، لا تُضيِّعن وقتكنَّ هدرًا، بادرن إلى نظارة الضبطية عسى أن تستطلعن خبرًا أو تهتدين إلى طريق. ثم أبصر الشرطي رفاقًا له قادمين نحوه فاختلط بهم وانصرف عن السيدات. فلما يئسن من رحمةٍ تتداركهنَّ خرجن متوجهات إلى الضبطية، وبقين هنالك إلى المغرب، ثم تكرَّم أحد ملوك الأرض فسألهنَّ عما يلتمسن، فلما أخبرنه ذهب عنهنَّ وغاب ساعة ثم جاء يحمل دفترًا، فقرأ لهنَّ أسماء كثيرة وليس بينهنَّ اسمي، وقال: هو لا يأتي إلينا. وأبى أن يُخبرهنَّ بأكثر من ذلك، فلم يبقَ تدبيرٌ يُحكَم ولا أملٌ يُرتقَب، ورجعت السيدات رجوع اليأس والحسرة.
ولقد يخلق الله نفوسًا تحب الخير وتستطيب مكارم الأخلاق، وتعصف بها في هذه الحياة عواصف حتى ترمي بها في مهاوي الشقاء، حيث تزدحم نفوسٌ تعودت الشر، فتُبلى بتلك الصحبة الدنسة ثم تفسد جواهرها وينطفئ نورها. وهذه القرارات النارية هي بيوت الظلم التي ندعوها منازل الشرطة ودور الحكومات المستبدة. ومن كُتِب عليه النحس في الأزل بمخالطة هاته المواضع عرف كيف يكون الشقاء.
أقامت والدتي وامرأتي خمسة عشر يومًا وهما لا تعرفان أين أنا. كلما ولجتا بابَ كبيرٍ من الكبراء زعر منهما أهله وحاشيته. لم تجد المرأتان في عاصمة الملك ذا جاه من الرجال يحبوهما نصحًا أو يُعِينهما على صبرٍ سوى وفاء من بعض أنصار الحرية أعلنوه بزياراتهم ومشاركتهم لهما في أحزانهم. وكم من ذي رأي يومئذٍ بان الخطل في رأيه! قالوا: استعطفا السلطان. وهل يُستعطف الذئب على فريسته؟ قالوا: قبِّلا الأيادي والأقدام. وهل مثل أهلي يشترون دمي بشرفي؟ لقد أغناهما الله بالصبر ووهبهما الحكمة، فامتثلتا أمره واستنجدتا العبرات. وما أنا بعاتب على مقصِّر في نصرة ولا متحول عن ودٍّ. إن مواطن الهلكات لا تَثبت فيها كل القلوب. ولولا اقتضاء الوصف لما كان للقارئ نظرٌ في هذه السطور السود. أصف حال الجواسيس. بئست الخليقة تشاركنا في الحياة ولا تشاركنا في الاستشعار. أخذوا بطرفي الطريق وترصَّدوا باب الدار، وتراءوا للزائرين في وجوهٍ كأنها الحجارة، بردت فيها حرارة الحياة، فلا تحمر ولا تصفر، بل تبقى غُبرًا كالحةً لو ضربتها بصوانة لارتدت عنها الصوانة.
وددت أن أصف بعض ما كابده أهل بيتي من الشدائد، ولكني لا أجرؤ على ذلك؛ هذا أسفٌ أخاف أن أستعيد ذكره. أُقرُّ بالجبن عنده وما جبنت عند خطرٍ قبله. لقد باتت امرأتي وهي لا تجسر أن تُرضع بنتنا؛ تغيَّر لبنها ومجَّته الرضيعة. فكانت لنا جارة من سيدات الأرمن تأتي ليلًا فتُرضع الشقية بنت الشقي خلسةً ثم تعود. وكانت الباعة تُجانب البيت حذرًا. ولم يبقَ محبٌّ على عهوده سوى من ذكرت في الفصول المتقدمة وسوى الصديق الشهم حسن فؤاد باشا، الجندي الحر الباسل، ناظر الدروس في المدرسة الحربية العثمانية، وكذلك أهل بيته. غير أنه لم يلبث أن أصابه بعد ذلك ما أصابني، فنُفيَ إلى رودس وظلَّ بها إلى أن أُعلِن الدستور.
ولما أنفذت رسالتي البرقية إلى أهل بيتي اطمأنت قلوبهم وعاودتهم عقولهم، فأخذوا أُهبتهم وبادروا نحوي مسرعين. وكان بكير باشا لم يبرح سيواس، فأذن لي في استقبالهم وأصحبني بجندي ليكون في خدمتي. فلما رأيت والدتي وامرأتي أنكرتهما لما بدا عليهما من التغير والشحوب. ثم رجعت معهما وبين يديَّ ابني وبنتي أخفِّف بهما آلام الغربة. وكان هذا اللقاء معوانًا لي على احتمال النفي سبعة أعوام، ولولا ذلك لم أستطع تجلُّدًا.