قدوم رشيد عاكف واليًا على سيواس
لما التقيت بأهلي واستصحبتهم إلى سيواس أُدللت على منزل للسكن فنزلناه. بئس منزل الساكن ذاك. غرفتان في الطبقة العليا وغرفة في الطبقة السفلى. وفي جوف ذلك البناء ظلام وهواء كله بلل، كالكهف بل أحسن منه الكهف، فما ولجنا الدار إلَّا انقبضت صدورنا. غير أننا وطَّنا النفوس على الصبر وقلنا: ما نحن بخالدين فيها، وعزمنا على أن نُبدل عنها بخير منها حين تستقيم الحال ونعلم مصيرنا، فأمسينا وآن لنا أن نأويَ إلى المضاجع، فوقفت إلى جانب كوة تطل على الطريق وقد خلت من كل عابر، فاستشعرت وجعًا في أسناني بدأ خفيفًا ثم اشتد حتى كدت أُجنُّ به جنونًا. قلت: وهذا همٌّ جديد، كأن ما كابدناه لم يكن كافيًا فزادنا المرض لتتم المصائب، فأخذت قليلًا من الكونياك وجعلت أتمضمض به تسكينًا لوجعي فما زادنا إلا شرًّا، وبقيت ليلتي تلك واقفًا أو ماشيًا أو قاعدًا أو مضطجعًا إلى أن أصبحت، فبادرت إلى أجزاخانة تحت المنزل أسأل صاحبها دواءً يسكِّن وجعي، فأخذ يجرب عقاقيره في غير طائل، فلما تجاوزت الشدة ذرع الصبر طلبت إليه أن يعطيني مقدارًا من المورفين وحقنة أحقنه بها تحت اللثة، فامتنع أوَّلًا ثم أجابني راضيًا، فحقنت الدواء وسكن الجوع واستلقيت سكران لا أحسن الكلام.
هذه سكرة ما تجشمت لها سرًى ولا طرقت من أجلها حانةً ولا أجَلت في طلابها كأسًا، أتت عفوًا حين اشتدت الحاجة إليها، وإنها لسكرةٌ مات بحسرتها شيخ المعرَّة إذ قال:
اضطجعت في ناحية من الغرفة وأقمت أستسمع شكوى من قعدوا حولي. السيدتان في نحيب والطفلان في بكاء، ولدينا زنجية كان تشبثَّت بالسيدتين ألَّا تدعاها، وهي امرأة مثل زجاجة الحبر، أخذت تتعهدني بالقهوة، وإني لساكت ساكن. تقع تلك الأصوات على أذنيَّ وكأنها تأتيني من جوف بئر، أسمعها ولا أفهمها، وكنت أودُّ ألَّا أفهمها، فتأمَّل صحبي في وجهي فرأوا في الخد الأيسر ورمًا يتزايد على توالي الساعات، وما دنا المساء إلا وأنا ذو وجهين. أُشهِدُ الله ما كنت كذلك فيما سلف من عمري. فلما تكامل الليل خفَّ فعل المورفين واعتادني الوجع، فبادرته بحقنة أزالته وأنامتني. وبقيت كذلك أيَّامًا أحمل على أيسر وجهي وجهًا ثانيًا هو أكبر من الأصلي، حتى إذا كنَّا في بعض الأيام سمعنا أصوات الموسيقات وضجات العربات وضوضاء السوقة. فأطللنا من الكوى وإذا جموع تتلوها جموع يؤمُّون دار الحكومة، ودار الحكومة قريبة من كهفنا، نراها كل يوم ونتبين داخلها وخارجها، فأنفذت آغوب الذي يخدمني في الخان وكنت استخدمته عندي، فذهب ثم جاء يخبرنا أن الوالي الجديد قد حضر وأن الفرمان السلطاني قُرئ وأن الوالي خطب الناس خطبة وعد فيها بالمساواة والعدل وأن الناس مستبشرون به. قلت: أهلًا به إن كان عادلًا وأبعِد به إن كان ظالمًا، فكان وصول رشيد عاكف باشا الوالي الجديد إلى سيواس بعد وصولي بشهرين على ما أذكره.
فمكث هذا الأمير أيَّامًا لا نسمع عنه بشيءٍ جديد، وكنا نراه في بعض الأحايين يمرُّ بباب دارنا ومعه أركان الولاية وخواصها، فأعجبنا ظاهر هيئته؛ فقد دلَّت على أدبٍ غضٍّ ونفسٍ أبيةٍ. أما ما انطوت عليه طويَّته فتلك ما لا تكشفه الظنون ولا تصدق فيه النظرات.
وإني لعلى ما وصفت من السقم والسأم وإذا رسول من أرستيدي باشا معاون الوالي يتعجل مصيري إليه، فاعتذرت بما أنا فيه من المرض والوهن، فقال: هو يعلم كل ما ذكرت، ولا بدَّ من ذهابك معي ولو كلَّفك ذلك عناءً ومجهودًا. فلبست ثيابي وانطلقت مع الرجل حتى دخلت على المعاون، فلما رآني بَسَم إليَّ وأحسن لقائي، ثم أخبرني أن الوالي حُدِّث بحديثي، فساءه أن لم يرني وتمنى أن لو عرفني. وقال لي: ادخل الآن عليه، وارجع إليَّ إذا خرجت من عنده. فاستأذن لي الحُجَّاب، فجاء الإذن فدخلت، فتلقَّاني الرجل بصدرٍ رحبٍ وأنسٍ قريبٍ وودٍّ محضٍ لا يشوبه رياء، وأجلسني قريبًا منه، ثم أقبل عليَّ يحادثني فقال: عزَّ عليَّ يا فلان أن أراك في حال تسوءُك. وقد أتاني عليك ثناءٌ طيِّبٌ ممن عرفوك هنا على قُرب عهدك بهم، وبُلِّغت أنك من بيت يكن، فنعْمَ الحَسَب، أنا لا أعرف من بيتك أحدًا ولكنني أُجِلُّه وأحبُّه على الغيب. فهل لك أن تخبرني عما دعا القوم إلى نفيك؟
– هذا يا سيدي سرٌّ غامضٌ لا علم لي به، بلاء دهمني ولم أكن له متوقِّعًا.
– كلامك لا ينقع غُلَّة المُستخبر، لا تسئ بي الظن إن كنت لا تستطيع أن تحسنه، وما سألتك إلا لأنظر في أمرك، عسى أن أجد سبيلًا إلى خلاصك وإرجاعك إلى ما كنت فيه.
– ما كتمت سيدي شيئًا مما علمت، لقد دهاني خطبٌ عرفت ورده ولم أعرف صدره.
– إذن، فالصبر بك أولى. وإذا أنست في جانبي ثقةً واطمأنَّت إليَّ نفسك فاطلبني تجدني عند أملك. وإني لمُوصيك وصاةً أرجو ألَّا تغفل عنها، إياك والخوض في السياسة عند قومٍ لا تعلم حقيقتهم. إن في البلدة جواسيس رِزقهم من هفوات المظلومين. لا أدري من هم أولئك السفلة، ولكنني سأحتال في معرفتهم وسأتدبر في إبعادهم من هذه الأرض. واعلم أنك إذا وشى بك أي واشٍ أثمرت وشايته، وما بعد النفي إلا السجن وإلا الأغلال وإلا الموت، فاحذر أن تفجع بك محبيك وأن تروِّع قلوب أهلك بمصرعك.
فشكرت الأمير على هذا الكلام الذي ما أمَّلت أن أسمعه من أحد في مثل ذلك العهد، واستأذنت في الانصراف، فأذن لي، وحين ودَّعته بَسم في وجهي وقال: بلغني أن السيدة الوالدة معك، فقبِّل عني يدها ولترضني ولدًا لها. فأعدت الشكر وخرجت من عنده متوجِّهًا إلى غرفة معاون الوالي، فأجلسني وسألني عما جرى بين الوالي وبيني من الحديث، فأخبرته، فسُرَّ حتى بدا السرور على وجهه وقال لي: إذا صدقت الفراسة فقد رزقنا خير والٍ. وكيف بك لو رأيت أعماله في الحكومة؟ أما لقد ملأ القلوب والعيون. أمس استدعى بعض المعمَّمين من الموظفين فلما مثلوا بين يديه خاطبهم وكأنه خطبهم فقال: دار الحكومة ليست تكيةً ولا مسجدًا، فما هذه العمائم التي على رءوسكم؟ لا أنتم كالمشايخ ولا أنتم مثلنا، أثياب أوروبية تعلوها عمائم! هذا ما لا يكون. إمَّا أن تستبدلوا العمائم بالطرابيش وإمَّا أن تستقيلوا. إني لا طاقة لي بمصاحبة أناس من الساقطين بين الجديد والقديم. غدًا أستدعيكم، وأرجو ألَّا أرى فيكم من يُكرهني على أن أقسو عليه.
قال أرستيدي باشا: فانصرف القوم وما جاءوا دار الحكومة غدًا إلا وعلى رءوسهم الطرابيش، ثم ضرب الوالي ميعادًا لحضور الموظفين وتوعَّد كلَّ من يتأخر منهم عن ذلك الميعاد بالعزل، فما رأينا بعد ذلك موظَّفًا يأتي متأخِّرًا.
قلت: يا سيدي هذا شيءٌ تنشرح له الصدور، فعسى أن تدوم هذه الحال وألَّا يتغير لنا الرجل؛ فقد رأيت الناس يسرع إليهم التغير، فيصبح العادل ظالمًا وينقلب المحسن مسيئًا.
– ليس في الوجود مُحال. على أن طباع الرجل ثابتة ظاهر ثباتها، وكل أقواله وأعماله تدلُّ على نفس حرة وشمم موروث. وما زلنا في مثل حديثنا حتى آن أوان الانصراف من الحكومة، فودعت المعاون وخرجت معاودًا بيتي، فدخلته وقد هاجت عليَّ أوجاعي وعاودني قلقي، فعمدت إلى عدتي التي أسطو بها وهي حقنة المورفين، فشككت موضع الألم فسكن وسكنت وعاودني ما كنت فيه من الاستغراق. تلك حياة جديدة استفتحت بابها في سيواس، ولكنها لم تطل كثيرًا؛ فقد اتصل خبري بالوالي وأرسل إلى الأجزاخانات ينهاها أن تبيعني المورفين، وكان ما عندي منه قد نفد فامتنعت أن تبيعني شيئًا منه ولم يغنِ عني رجاء ولا إغراء بمال، فلما عاودت المنزل عمدت إلى سلك من الصلب لففته على إحدى ثناياي وما زلت أجذبها حتى اقتلعتها من أصلها واقتلعت معها قطعة من عظم الفك الأعلى. وقضيت ليالي ما أحسبها مرَّت على غيري، ثم عملت عملية جراحية، فلم تنجح بل ضاعفت آلامي وزادتني وجدًا على وَجْد.
كنت دعوت طبيب الأسنان وسألته أن يتولَّى تلك العملية، فأخرج من جيبه سكينة مطواة غطَّاها الصدأ حتى لا يتبين الناظر نصلها، فتناولتها بيدي وشممتها فإذا بها رائحة الخيار، فنظرت في وجه الرجل وقلت: ألم تختر موضعًا تصنع فيه السلطة إلا بين فكَّيَّ؟ فمسحها الرجل على سرواله وقال: هي نظيفة.
– لا والله، لن أدعَك تمسَّ فمي أو تدعَني أطهِّر هذه السكين.
– شأنك وما تريد.
فاستحضرت قليلًا من الكحول أضرمت جانبًا منه أحرقت به النصل ثم غسلته بما بقي، وأمرت الرجل أن يغسل يديه أمامي ففعل، ثم أسلمته فكي وجلست بين يديه، فأسند رأسي على ركبتيه وخطَّ على اللثة العليا بسكينه خطًّا استشعرت به وهي تحفر في عظامي، فوثبت واقفًا دامي الثغر لا تحملني قدماي، وأشرت إلى الطبيب قائلًا: قُم عني، لا عدت لي بعدها. فخرج من عندي الرجل متعثِّرًا. ورأيت بعد ذلك أن أنتقل من الدار التي كانت مأوى أحزاني، فاكتريت بيتًا رحبًا خالص الهواء حسن المنظر وتحولت مع أهلي إليه. وهنالك جاءني ترجمان الولاية من قِبَل الوالي يخبرني بأن قد جعل مرتبي خمسة عشر جنيهًا عثمانيًّا في الشهر. قلت: لا ضير، سنصبر كرهًا إذا لم نصبر طوعًا.
وقد رأى الترجمان أن يجعل هذه الزورة فاتحة للتجسس، فأخذ يقصُّ عليَّ أنه كان جاسوسًا وهو تلميذ بالمدرسة، وأنه تجسَّس مرارًا على عبد الرحمن بك مدير المدرسة السلطانية الكائنة في بيرا، وأن الرجل أحسَّ منه ذلك فطرده، وأنه رفع أمر المدير إلى السلطان مستشفعًا بعزَّت باشا العابد، فصدرت الإرادة بقبوله في المدرسة حتى أُكرِه المدير على ذلك إكراهًا.
فقلت للرجل وقد فهمت ما يريد: وما يعنيني يا أخي من حديثك هذا؟ إني امرؤٌ لا أحب الجواسيس ولا أجد لذة في استماع أخبارهم.
– أنا لست من الجواسيس الذين يتسلَّطون على الناس فيؤذونهم من غير داعية إلى ذلك، ثم إني لا أسترق أحاديث أصحابي ولا أخفي عنهم شيئًا من أمر تجسسي، ولكنني أوذي من يبادئني بالشر. هذا أمضى سلاح يحمله العاقل.
– يا سيدي، ما بينك وبيني سابقة وداد ولا دالة؟ ما لي أنا ومهنتك وعادتك وسلاحك؟ أنا رجل منفي مبغَّض إلى السلطان وإلى كل مخلصٍ له، دعني وما أنا فيه والتمس لك غيري. فرحل عني الخبيث حاقدًا وأضمر لي الانتقام. وبينا أنا في داري ذات يوم وإذا رسول من الوالي يستقدمني إليه، فأجبت مسرعًا وأُدخِلت عليه ساعة وصولي، فتلقَّاني بوجه لم آنس إليه واستدناني منه وأمر ألَّا يدخل علينا ثالث، ثم التفت إليَّ فقال: ألم أقل لك يا فلان إن في البلدة جواسيس وإن رزقهم موصول بقطع أرزاق الناس؟
– بلى، قال سيدي ذلك.
– إذن، فما حملك على أن تجلس إلى برويستاكي تحادثه وتقول له: إن لديك جرائد مصرية تريد أن توزِّعها على الأحرار الذين بسيواس؟
– لم أقل شيئًا من ذلك.
– أنا أعلم أنك لم تقل؛ لأن المراقبة على البريد شديدة، ولا تستطيع أن تستجلب عددًا من جريدة مصرية إلا ويقع في أيدي المراقبين، ثم أعرف أنك معتزل مطالعة الجرائد وأنك رضيت لنفسك العزلة عن الناس دفعًا لشرِّهم واتقاءً لمفترياتهم، فسرَّني ما عرفت من حالك، ولكن ترجمان الولاية كذب عليك هذه الكذبة وقد صادفت أُذُنًا مصدِّقة، فكتب إليَّ بعض المقربين يسألنا عنك ويستخبرني عما زعمه الزاعم. وإني سأدفع عنك كل ريب. غير أني لا أضمن لك النجاة كلما وقعت وقعة، فاحذر بُنيَّ ولا تقبل زيارة أحد من هؤلاء.
فأثنيت على مروءة هذا الأمير بما استطاع لساني وخرجت من عنده وكل روحي معجبة به، وما بلغت المنزل إلَّا وفي يد والدتي خطاب تقرؤه، وإلى جانبه آخر أشارت بيدها أن خذه إنه لك. فالتقطت الكتاب وإذا هو من عند شقيقي يوسف حمدي يكن، فأخذت في قراءته فما راعني إلا خطوط سود مُدَّت على سطوره فأخفت كلماتها، فحاولت حل تلك الرموز التي نسجت عليها دار البريد نسجها الأسود، فما استطعت مضيًّا، فعنَّ لي أن أضع الكتاب على لوح من الزجاج من ألواح الكوى ففعلت. غير أني لم أستخرج إلا كلمات كقوله: بعض الباشاوات، وعصابات مكدونيا، وانهزمت العساكر. فعلمت أن شقيقي أراد إخباري بوقائع جرت في الروملِّي وأن مراقبة البريد استطلعت ذلك فمَحَته، فأسفت على ما فاتني من العلم بتلك الوقائع ولكنني كتمت تأسفي وأرسلت كتابًا ألوم فيه شقيقي على تعرُّضه لأمور لا حاجة لي بها.