رجال الدين في سيواس
رجال الدين في كل أقطار الأرض حربٌ على الناس؛ فهم يُبدون غير ما يخفون ويأمرون بما لا يعملون، ومنهم من صدق إيمانه وكانت سريرته كعلانيته وهم أقل من القليل، والذين أريد ذكرهم أو الإشارة إليهم في هذا الفصل قومٌ فيهم فضلٌ ومعرفةٌ وأوتوا فطنة ودهاء، ولكن حظهم مما أوتوه أقل مما تعرضوا له من تهذيب الناس وتعليمهم، ثم غلب عليهم النفاق فاتَّخذوا إيمانهم ذريعة إلى المال ورضاء للسلطان، وإلا فليست التقوى سبيلًا إلى شقاوة المرء، وجميل الظن بالخالق سبحانه وتعالى وعبادته لا يحملان على إيذاء خلقه، والبررة كالفجرة، لهم أنفس تشتهي وأفئدة تتطرب وأهواء تستأثر، وحسب التقي أن يكون تقيًّا وأن يدعو الناس بلسانه إلى انتهاج نهجه، لا مورِّطًا ولا ظالمًا. والمتجاوزون حدود النصح مزاحمون للأنبياء، والمغالون في النسك مشاركون للمنافقين، والدين لا يُنصر بالشطط ولا يُخذل بالتهاون.
عرفت من علماء سيواس رجلًا اسمه أمين أفندي، هو عضو بمحكمة الجزاء الابتدائية، وكنت أغشى منزله مع صديقي وخالي أمير باشا أحد أمراء الجراكسة بسيواس، فنأخذ في حديث الصوفية ويستعر بيننا الجدال، فكنت أجده رحب الصدر في مناظرته، صبورًا على شدائد البراهين، إذا انتهى به الجدل إلى العي أمسك عن الاستمرار واستطرد إلى ذكر مُلَح ونوادر يستطيبها السامعون، وكان يقول لي: إن ما بيني وبينك لمختلف جدًّا، أنا أحاول أن أقرَّك على التصوف وأنت تحتال في إخراجي إلى التفرنج، وليس أحدنا بالغًا أربه. وكنا في بعض زياراتنا له نستصحب علي أفندي؛ وهو من علماء قونية، يأتي كل سنة مرة فينزل بدار أمير باشا أيَّامًا ثم يرجع إلى بلده، وكان علي أفندي وعظ الناس في الجامع، فنهاهم عن اتخاذ التماثيل والصور، وجعل يقول إن الملائكة لا تدخل دارًا فيه صور، فلما حضر بعض مجالسنا عند أمين أفندي أصغى إلى كلامي إصغاء المتأمل، فكان كلما أنكر شيئًا سألني عليه برهانًا، حتى إذا فرغنا وخرجنا نطلب منازلنا قال لي: لا عيب فيك سوى أنك شديد الانحراف عن السلف الصالح، فأقول: أما السلف فنعم وأمَّا الصالح فلا.
وقد زارني أمين أفندي ومعه علي أفندي، فرأياني آخذًا آلة التصوير أصوِّر بها أمير باشا، فقالا لي: أهذا دأبك الدهر؟ قلت: لا، ولكنني أتلهى بذلك حين لا أجد لهوًا غيره، وسألتهما أن يجلسا معًا لأصوِّرهما، فأحجما ثم انصاعا وصوَّرتهما، ولا تزال صورتهما عندي. ولما قال أمير باشا لعلي أفندي: أتدعه يصوِّرك وأنت تنهى عن اتخاذ الصور في البيوت؟ قال: دعني: رأيت هذا الرجل أعرف مني بالحق، فلا يقولنَّ مذ اليوم شيئًا وأخالفه فيه.
ولأهل سيواس في أمين أفندي أقاويل يكذبونها، غيظةً منه وبغضًا له. وقد زعموا أنه قال: إن الله تنكَّر ذات ليلة فدخل إحدى الكنائس، وأراد جبريل أن يدخل عليه في أمر عرض، فلما لم يجده على عرشه أكبر ذلك وانطلق يفتش عليه، فرأى الله مختبئًا وراء صنم من أصنام الكنيسة. وهذا قول لا يقوله أجهل الناس، فكيف يقوله أمين أفندي.
وقد حضرت مفتي سيواس يومًا في غرفة أرستيدي باشا معاون الوالي، وكان ذلك في رمضان، فأخذ المفتي يقصُّ علينا أخبار مَنْ تقدَّم من الصحابة والتابعين والأئمة الصالحين، ومعاون الوالي في شغل بما بين يديه من أوراق الحكومة، والمفتي يريد إليه أن يدع الأوراق ويستمع أخباره، فقال أرستيدي باشا مازحًا: أتريد أن تضطرني إلى الدخول في الإسلام اضطرارًا؟ قال المفتي: كلا، وإنما أحب أن تسمع هذا المُلح، عسى أن تشرح صدرك للإسلام. قال أرستيدي باشا: لقد كان الإسلام والمسلمون بخير. أما اليوم فالإسلام وحده بخير. فضحك المفتي وقال: صدقت، صدقت.
ومن علماء سيواس وأصحاب الغلو من متعصبيها ضياء الدين أفندي، ذاك الذي كان ينهى الناس أن يُزاوروني، زعمًا منه أن دخول بيت فيه تصاوير حرام، وله كتاب وضعه في تحريم الصور وتحريم اتخاذها، وعدني أخوه أن يطلعني عليه ولم يفِ بوعده.
ورأيت من علمائهم رجلًا اسمه راسخ أفندي، هو أحد معلِّمي مدارسهم، وكان ذلك يوم تُليَ فرمان الوزارة التي قلَّدها رشيد باشا والي سيواس، فوقف راسخ أفندي بين الجموع في بهرة الحلقة التي تُليَ فيها الفرمان وخطب الناس، وما زيَّن له شيطانه إلا أن يخطب بكلام العرب، فما افتتح فاه بالبسملة إلا رُفِعت الأيدي وانطلقت الأفواه صارخةً: آمين آمين، فكان المشهد هكذا:
وكان في المستمعين رجلٌ قريبًا من موضعي، استغرقته تأملاته وتعالاه إعجاب حتى سال لُعابه على لحيته، فجعل يهزُّ عنقه هزًّا عنيفًا حتى خشيت أن يقصفه؛ فقد كان عنقه رفيعًا جدًّا. واستمر الخطيب في خطبته فاحش اللحن قبيح اللفظ سمج التأليف مشوَّش الإفادة، إذا أومأ خلته يتوعد، وإذا أشار خلته يخطف، فلما انتهى قلت: الحمد لله.
وعلماء سيواس أهل دعوى ولجاج، رأيت منهم رجالًا يزعمون أنهم قرءوا «السعد» مكرَّرًا وهم لا يعرفون من موضوعه شيئًا، وذهب رجل منهم إلى أنه يحرم على المسلم أن يدعو غير المسلم أخاه، واحتجَّ بآية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فقلت له: أنا لا أجادل بالقرآن، ولكنني أخالف الساعة عادتي وأثبت لك فساد دعواك وخطأك في تأويلك، قال: هاتِ ما عندك.
قلت: إن في علم المعاني بابًا اسمه باب القصر.
– أعرفه.
– وفي الآية قصر موصوف على صفتِهِ؛ فهذا لا ينفي الإخاء من غير المسلمين، ولو كان فيها قصر صفة على موصوف كأن تكون إنما الإخوة المؤمنون لنفى من غيرهم الإخاء.
فغضب الرجل من كلامي وقال: أعوذ بالله أن يكون في علم المعاني شيءٌ مثل هذا الكفر، وما هو إلا اختلاق منك. وهبْ جدلًا أن دعواك صحيحة، أيحملني ذلك على أن أصدِّق علم المعاني وأكذِّب القرآن، فأيقنت يومئذٍ أن الرجل ممن أُفرِغ في رأسه عشرون قنطارًا قطرًا، وآثرت إهماله وأنشدت قول أبي الطيب:
هؤلاء الرجال يحللون من الأمور ما يوافق أهواءهم، ويحرِّمون منها ما يخالف أهواءهم. يسطون على الناس بالسيوف من الإيمان الكاذب فلا يثبت على لقائهم إلا من:
فما تحكم عبد الحميد في الأمة إلا بنصر هؤلاء. أما جنوده فأولئك منخدعون. ولقد فطنوا لذلك، فجعلوا صلواتهم وابتهالاتهم كلها وقفًا لظالم الأمة، استجلبوا له القلوب الخالية والنفوس الطامعة، فوقفوا كلهم لقاء الأحرار، يكيدون لهم كيدًا، وكانوا يدعون المنفيين في بلادهم أعداء الدين والدولة، وكانوا يذمون الشورى ويذمون من يدعو إليها، ولو أمكنتهم غرة من الأحرار لاجتثُّوا أصولهم وأبادوا أعقابهم. فإذا طهرت البلاد من شر هذه الفئة راجعتها السعادة.