أقيال سيواس وسراتها
إذا جلس المرء على ممر الناس وأخذ يتصفح الوجوه ويثبت الأشباه وينفيها؛ تهادت أمامه مواكب الأشباح، هنالك الصور المتحركة تبدو وتستسر، تكاد النظرات تنبو عنها. فإذا وقف القعود على جانبَي الممر ورُفِعت الأيدي إلى الصدور والرءوس فثم سريٌّ يمر، وكل هذا التكلف إجلالًا له. والسري رجل مثلهم. وقد يكونون أجمل منه لباسًا وأحسن تقويمًا، يَلِج الجمع فيوسِّعون له مكان السيد، وفي خطواته تثاقل وَلِقدِّه تأود وكتفاه يقلعهما كأنه يحمل بينهما كرة الأرض! مَن سيدنا؟ هو أحد أعضاء مجلس الولاية، حضر الجلسة وخرج منها غير مشير برأي ولا ناطق بكلمة؛ وهو مع ذلك يمرُّ بالسوق ليتخير لنفسه ما اشتهت من أكل وفاكهة، فما يبلغ منزله إلا ويتبادر إليه الخدم يكرمون وفادته، وعلى الدواوين المرصوصة في داره أناس يشتاقونه ويعدُّون الساعات انتظارًا له، وبعد فتسليمة فاستراحة فطعام فكلام فتوديع فنوم. هذا أحلى من قول شوقي بك:
إذا عرف القارئ هذا السري فقد عرف كل السراة، وإنما أستثني منهم آحادًا لو عاشوا في بلد غير سيواس لكانوا من الظُّرف والفضل بالمكان الأرفع، وهم مع ذلك لا يُملُّ قربهم ولا يُسأمُ حديثهم، منهم أمير باشا. وقد تقدم ذكره في فصل سابق، هذا رجل داره محط رِحال الكرام، سليل بيت له في المجد سابقات؛ وهو جركسي، أبوه المرحوم ماهر بك، كان من أمراء الأباظيين، لحق به ضيم من الحكومة فخرج عليها في جماعة من فرسانه. وقد سيَّرت الدولة عليه الجنود فهزمها وأعجزها طلبه وأخذ عليها الدروب والمسالك. فإذا لاح له البريد أقبل عليه في أعوانه فاستاقه وفرَّق ما غنمه على أهل القرى وعلى رجاله، ولم يُبقِ لنفسه منه شيئًا، فلمَّا عمَّ أذاه واشتدت على الناس وطأته أرسلت عليه الدولة عددًا كبيرًا من المقاتلة، فما زالوا يطاردونه إلى أن دخل في ولاية قسطموني واختفى هنالك ولم يُعلم من خبره شيءٌ إلى يومنا هذا. غير أن كثيرًا من أشياخ الجركس يزعمون أن الجنود ظفروا به في بعض المواضع فقاتلهم حتى قُتِل وقُتِل معه أكثر رجاله وانهزم الباقون.
ولأمير باشا أشياع وأنصار جُلُّهم من الجركس، يُفضون إليه بحاجاتهم ويتقاضون إلى حكمه في خصوماتهم، وله أعداء من قومه ومن غيرهم يترقبون الفرص لإتلاف نفسه وينصبون له حبائل المكايد، فحياته حياة حذر، إذا غفل عنهم طرفة عين حل به كيدهم.
وكانت بين أمير باشا وبيني مودة مؤكدة، ثم هو من أقارب والدتي، وكنت أناديه يا خال، فرأيت من إخلاصه ونصحه ما لا أنساه مدى الدهر. أقمنا على ذلك سبعة أعوام لا نختلف في شيء، سوى أنه كان يزعم أنه أسدُّ مني رماية وكنت أزعم ضد ذلك، فنخرج إلى حديقة له لا تبعد كثيرًا عن البلد، فينصب لنا رجاله هدفًا على قمة تل هنالك، فتارة أنا أكثر إصابة وتارة هو أكثر إصابة، هذا إذا كانت الرماية بالبندقية، وإذا هي كانت بالمسدس فالفوز حليفي لا محالة. وقد عاهدني أن يُهيئ لي أسباب الفرار من سيواس كما أبنته في غير هذا الموضع، ولولا أن تداركنا الله بإعلان الدستور في البلاد العثمانية لنجوت من سيواس على يده.
ومن سراة سيواس رجل اسمه عبد الله بك؛ وهو ابن آغا قانغال، ما شئت من مال ومن نشب، مات رحمه الله في شبابه بمرض السل بعد أن قاسى منه ما لا يصبر عليه غيره، وكان على جانب من صغر الرأي، فصدَّ عن نصح الأطباء إلى أن أحس بدنوِّ أجله؛ فهمَّ بالسفر إلى الآستانة ليتداوى عند كبار أطبائها، ولكن أدركته المنية حين لم تبقَ فائدة للعلاج.
ومنهم نوري بك ابن الحاج علي بك. وهذا الرجل أشبه الناس بعبد الحميد، ومن مزاياه التي أمن فيها النظير أنه ما لبس ثوبًا نظيفًا ولا حمل صدره قميصًا إفرنكيًّا. وهو من أعضاء لجنة المهاجرين. وقد ترقى في مدارج العلى حتى بلغ المتمايز، ثم وقف به جدُّه لا يتقدم قيد أصبع، ولا أعلم من حال الرجل ما يسوء ذكره غير أنه كان كثير النفاق.
ومنهم خالد بك مدير الأوراق، رجل حسن الطلعة كريم الطباع طيب المجلس، ولكنني شممت من خلائقه رائحة الختل، فاتقيته.
ومنهم الحاج نوري أفندي، مميز قلم المحاسبة، لوددت أن أُروَّع بلقاء الذئب أعزل على ألَّا أراه. إني لأربأ بهذا القلم أن يسفل حتى يلتقط معايبه، ولولا لجاجة سبقت في ذكر هؤلاء القوم لأمسكت القلم عن أن يَخُط اسمه، وها أنا فاعل.
ومنهم إبراهيم بك، ناظر النفوس، هو من مهاجري ولاية الطونة، أتى سيواس مع المرحوم خليل رفعت باشا أحد الصدور العظام حين وُجِّه واليًا عليها، فلما فارقها الباشا بقي إبراهيم في سيواس ورضيها لنفسه وطنًا.
ومنهم توفيق أفندي باشكاتب مجلس الإدارة وضياء الدين أفندي مميز المكتوبجي، وكانا في التجسس والوشاية فرسَي رهان، ولا أدري أيهما أشدُّ تعصُّبًا من صاحبه. وضياء أفندي زارني مرة في العيد، فأبصر بين الصور المعلقة على جدار الغرفة صورة شاب من فضلاء إخواننا الأرمن وهو المسيو باليوزيان، فاشمأز وبدا الغيظ على عينيه، ثم التفت إليَّ وهو يقول: انزع هذه الصورة، لا ترفع صور الكافرين على جدار بيتك، ألا تعلم أن هذا الرجل هو أحد أعضاء الجمعية الأرمنية السرية؟ فقلت: ليس ذا من شأنك، فخرج من عندي وهو يكاد يستعر غيظًا. أما توفيق أفندي فلم يُسلِّم عليَّ ولا سلمت عليه، وأبغضني الرجل وأبغضته من أول يوم اختلفت فيه بيننا النظرات.
ومنهم حسين أفندي، سرقوميسير الولاية، واليوم بُدِّل هذا الاسم إلى مدير البوليس. رجل لا أعرف له سيئة. ولقد حمدت سيرته وكنت أزوره مستطيبًا زيارته، والمنفيون كلهم يحبونه ولا يذكرونه إلا بالخير.