مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن
مثل هذا الفصل يحتاج إلى أنامل «روبنس» مصوِّر اللوح الشهير الذي سمَّاه «مذبحة الأبرار»؛ فإن أنامل الشاعر المُجيد والكاتب المبدع لا تفي بغرضٍ ولا تأتي بفائدة في وصفه. الكلام على مذابح، والمذابح فيها جثث، والجثث معصفرة بالدماء، والدماء تجري على بطاح، والبطاح بها حجارة صلدة وهشيم يابس ونهر دافق، ومشهد العين غير خيال الفكر، والفكر يُستمد من العين؛ فهي ينبوع العلم، والفكر مجلي المعاني؛ فليكن الكلام على قدر الإمكان لا على قدر الواجب.
البلاد العثمانية تعمرها أممٌ شتى، متباينة الأجناس ومختلفة المذاهب، جمعت بينهم القوة وفرَّقهم العدوان؛ فهم إخوة يسكنون دارًا واحدةً ويستظلُّون بسماءٍ واحدةٍ، وينهلون ويعلون من مياه متجانسة منذ سبعة أعصر. ولكنهم مع ذلك متنافرون، يسقيهم وطنهم بكل صافٍ نمير، ويسقونه بالدم المسفوك. أهُم على مقربة من الموضع الذي يزعم أهل القصص أن قابيل قتل هابيل فيه، فعَدَتهم الحال بمرض أحد الآباء، قتل الأخ لأخيه؟ أم اختاروا سبيل الجناية حبًّا في الجناية؟
السلف أخطأ الحكمة ولم يُحسن السياسة. كذا قال التاريخ، ولا بدَّ من تصديق التاريخ. هم أحبُّوا الأنبياء وشاءوا أن يكونوا كالأنبياء ألسنًا لا قلوبًا، وحالًا لا ذاتًا. فما اختاروا من قصة موسى إلا عبادة العجل، ولا من تاريخ عيسى إلا الصلب، ولا من وقائع العدناني إلا حال أبي لهب. تشاغُلهم بأنفسهم لم يدعْهم يرون غيرهم، وصيحاتهم منعتهم عن سماع أصوات الأمم. حتى إذا تضاءلت شمس الشرق ولم يكفِ شعاعها لإنارة ربوعها، وطلعت بآفاق الغرب شموس كثيرة، وقفوا وقفةَ المجهود ينظرون إلى بعضٍ. فإذا بهم دامية أظفارهم، دامية أنيابهم، دامية لَهَواتهم، بادية أجسامهم، تعلوها أطمارٌ بالية رثَّة، حسبوها بقايا ثياب، فإذا هي قطع أكفان!
قال قائلهم: هلمُّوا نطلب علمًا. صدق القائل، لله در القائل! ما أكبر عقل القائل! وما هي أن أُنشِئت المكاتب وفُتِحت المدارس وأُلِّفت الكتب على النمط الجديد. وقالوا: ما لنا وللأديان، تلك أمور بين الخالق وخلقه. القلوب ألواح محفوظة لا يقرأ ما فيها إلا الله، وما نحن إلا إخوة؛ وحدة حال ووحدة مصير لا يتفقان. فغمَّ ذلك الصفاء أهل الدين أولي التعصب، من يعمِّرون المساجد ليستغنوا بها عن تكاليف المنازل فيتَّخذونها مساكن، ويشيدون الزوايا والتكايا ليصيبوا فيها مآكلهم وأقواتهم، فهَبُّوا يغالبون المخلوق باسم الخالق. وأتت الدولة الحميدية وشِيد صرحها الممرد «يلديز»، فوجدوا منه أكنافًا موطأة للمزاحمين، وآذانًا سميعة للواشين. قالوا: النبي يأمر. قال: وأنا خليفته أفعل. قالوا: الدين يفرض. قال: وأنا حاميه أقوم بما فرض. وماذا فعل لا درَّ درُّه؟ جعل بيوت الحكومة كالمساجد ترنُّ على سلالمها أصوات المؤذنين، وصيَّر المكاتب كالمدارس الدينية تُقام فيها الصلوات وتُقرأ كتب الدين، ويزرع التعصب في قلوب الشباب فتنمو معه نفوسهم وترسخ عليه طبائعهم، فكان المُفطر منهم في رمضان يُزَجُّ في السجن، والقاتل مطلق السراح يمشي في الأرض مختالًا.
– ألا تخشى يا ولي الدين أن تُغضب المتديِّنين بهذا الكلام؟
– كلا.
– ألا تجده سابق أوانه؟
– كلا.
– أتجرؤ بعدها أن تسكن البلاد العثمانية؟
– نعم، لأُكثِر فيها من مثل هذا الكلام، ولست وحيدًا في إنصافي، وأهل الإنصاف عددهم كثير.
– إذن، فأنت جدير بالرثاء.
– ربما رثيتني اليوم وحسدتني غدًا. إذا سكت الكاتب الحر اثني عشر عامًا، ثم لقي الحرية ينطق بمثل ما ترى. فلا تقل سكت دهرًا ثم نطق كفرًا، ولكن قل:
أرى حولي أحرار العثمانيين فأغنِّيهم بغنائنا، ولكل امرئٍ غناء يطربه، ثم الحروف التي توصف بها الدماء تكون حمرًا، فلنرجع إلى ما كنَّا بصدده.
تعصُّب أكثر العلماء وجهل الرعية وظلم الحكومة أتى البلاد بثلاث مذابح مختلفة: أُولاها مذبحة الشام، وقعت في سنة ١٨٦٠، أضرم جاحمها وأجزل وقودها أحد الباشاوات بأمرٍ من الباب العالي؛ فطلبت إنكلترا وفرنسا من الحكومة العثمانية تحقيق الأمر وعقاب من تثبُت عليه جريمة التحريض، فذهبت إلى الشام هيئة محقِّقة اشترت رضاء الباشا وسارت على ما أمرتها به الحكومة. غير أن إنكلترا وفرنسا لم تَقْنعا بذلك وأصرَّتا على طلب التحقيق، فتبيَّن ذنب الباشا، فطلبت هاتان الحكومتان إعدامه ليكون عبرةً لغيره، وكان سفير إنكلترا في الآستانة إذ ذاك «أرل رسل» ومعتمدها في بر الشام «اللورد دوفرين». فزعمت الحكومة العثمانية أن قتل الباشا قد يستثير المسلمين ويدفعهم إلى قتل المسيحيين عامةً انتقامًا وتشفِّيًا، وربما تعدَّى ذلك إلى رعايا الدولتين، فكان جوابهما الإصرار بعقاب الباشا، فأعدمته الحكومة التي أوعزت إليه بالفتنة ولم تحدث هنالك أشياء مما ادَّعت تخوُّفها منها.
ثم وقعت مذبحة البلغاريين في سنة ١٨٧٧. وقد حمى الباب العالي زعماء الفتنة وذهبت مساعي «اللورد بكنسفيلد» غير مجدية نفعًا.
ثم جاءت المذابح الأرمنية، ولا بدَّ من إعادة النظر قليلًا في أسبابها لكي يتسنَّى لنا استخراج نتائجها.
أكثر الناس لا يعلمون ما حمل بعض إخواننا الأكراد على مباغضة إخواننا الأرمن؛ فهم يلتمسون الأسباب ولا يجدونها، وإن من تلك الأسباب التي خفيت عنهم أن قبائل من الأكراد كانت فيما مضى من الزمان أرمنية، ثم آثرت التدين بدين الإسلام إبقاءً على حريتها وتوكيدًا لنَيل رغائبها. فبزَّت قديمها ورفلت في جديدها، إلا إنها ظلت محقَّرة عند أخواتها مُرزَّأة في غلوائها؛ فمن هذه القبائل المتغيرة قبيلة «ماميقون» الكردية، كانت من إمارة «ماميقونيان» الأرمنية، وقبيلة «بكران» الكردية، كانت من إمارة «باقرادونيق» الأرمنية، وقبيلة «ريشقون» الكردية كانت من إمارة «روشتونيق» الأرمنية. والمتأمل في توافق الأسماء لا يرى مناصًا من التسليم بصحة ما رواه التاريخ.
ولم تزل الأضغان تتزايد بين هذه القبائل وأخواتها الأرمنية؛ حتى أدَّت إلى التقاضي إلى السلاح. وإذ لم يكن عند الأكراد ما عندهم اليوم من السلاح الجيد والعدة الوافية، كانوا يهزمون أعداءهم تارة وينهزمون أمامهم تارة أخرى، ولكن عقلاء الأرمن أوجسوا من دوام هذه المعارك شرًّا، فأحبُّوا أن يُحِلُّوا الوفاق محل الشقاق، وأن يستعيضوا بالاتحاد عن الخلاف، وأول من انتبه منهم لهذا الرأي الصواب هو البطريرك الشهير «نرسيس». وبين سنة ١٨٧٨ وسنة ١٨٧٩ قام وفد من بيكوات الأكراد يريد القدوم إلى الآستانة للمذاكرة مع البطريرك في هذا الباب، فلما أحسَّ بذلك عبد الحميد أكمن للبيكوات مَن اغتالهم في طريقهم وأحل بهم الردى، وهكذا خابت آمال «نرسيس» الحكيم.
ثم عنَّ لعبد الحميد أن يتخذ سذاجة الأكراد وعداوتهم للأرمن ذريعةً للإيقاع بالأرمن، وليجعل للرعية ما يصرفها عن الاشتغال بأعماله، ويستزيد لنفسه قوةً يركن إليها عند الفزع الأكبر؛ فاستحدث الآلايات «الحميدية» من أخلاط وزمر؛ فمنها الكردية وهي الأكثر، ومنها العربية، ومنها الجركسية، وجهَّزهم بالسلاح الجديد وأمدَّهم بالميرة وكل ما يحتاجون إليه جمًّا وافرًا، وحين فاز الأكراد بهذه الأهبات وباتوا مدجَّجين سلاحًا والأرمن معازيل، رجحت كفة الأكراد في الضراب وخفَّت كفة الأرمن، وعليهم دارت الدائرة. هذا ما يتعلق بالأرمن مع الأكراد.
ولكن يجب أيضًا النظر إلى المذابح الأرمنية من جهة أخرى.
الأرمن كابدوا من ظلم المسلمين والحكومة المستبدة، لا سيَّما في طريق بر الأناضولي، ما لا تصبر عليه القلوب، وحملوا من الضيم ما تكلُّ عنه المتون. ولكنهم أبناء الشرق، وأبناء الشرق نفوسهم أبيَّة، فنشطوا إلى العمل في جدٍّ متواصلٍ طلبًا لما يستخلصهم من إذلال إخوانهم إيَّاهم، فما وجدوا سبيلًا هو أقرب إلى المراد وأنفذ إلى النجاة من طلب العلم والصناعة، والاستفادة من معجزات العصر الجديد؛ فكان منهم المهاجرون إلى أقاصي البلاد، والمتزاحمون على أبواب المكاتب، والمتنافسون في تشييد مكاتب أرمنية. وما برحوا يتراكضون إلى الاستنارة بأنوار المعرفة حتى توافَوا إلى مشرق نورها ومطلع نيراتها، وهم كلما زادوا توغُّلًا في العلم زادوا معرفةً بأساليب الحياة، فغيَّروا ما رأوه غير صالح من قديم العادة واستبْقوا ما كان صالحًا، فما مضت أعوام قلائل على نهضتهم هذه إلا برزوا على مواطنيهم من المسلمين. أما المسلمون فلم يريدوا النزوع عن ميراث السلف إلا قليلهم، وعدُّوا الاستفادة من علوم الغرب واقتفاءه في ترقِّيه شائنًا لكرامة الدين. وعند التفاضل ظهر فرق الأمَّتين وأحرز الأرمن قصب السبق، فكان هذا داعيًا إلى حسد المسلمين لهم وامتعاضهم منهم. والأرمن عرفوا حد ما عليهم للحكومة وما لهم عليها؛ فرضوا أن يهبوها حقَّها وأن يطالبوها بحقِّهم، وكبُر هذا على الحكومة لأنها كانت لا تحب النصفة، وكبُر على المسلمين لأنهم لم يكونوا يعلمون أن للأرمن حقًّا على الحكومة، وهم يعلمون أن الحق لا يكون إلا للمسلمين دون سواهم. نعم، كان في جماعات المسلمين رجال رُزقوا العلم وأُشرِبوا حب الوطن اعترفوا لإخوانهم المسيحيين بالحق، وأرادوا إنصافهم، وودُّوا مشاركتهم في مطالبهم. غير أن قلة العدد خذلتهم في مناوأة الحكومة والسلطان الظالم، وظلُّوا في أعين الجهلاء بمنزلة الأعداء.
وكانت بمدينة «وان» شركة اسمها «مياتسيال أنكرجون»، ومعناها الشركة المتحدة. أُسِّست لاستحضار ما تحتاجه المدارس الأرمنية من كتب ودفاتر وأقلام وقراطيس وغيرها من الأدوات المكتبية، وجُعلت لهذه الشركة شُعب في سائر الولايات العثمانية، ونُصب لها مديرًا رجلٌ من جلَّة الفضلاء اسمه «مغرديج بورتقاليان أفندي». ولما رأى تخلِّي المسلمين عما يرمي إليه بنو جنسه، واستحكم اليأس من فؤاده وأفئدة من هم على شاكلته من نجباء الأرمن، أسس جمعية خفية في «وان» سمَّاها «جمعية آرمناقان»، وذلك في سنة ١٨٨٠، وجعل أساس مقصدها حماية الحقوق الأرمنية من الضياع. وفي سنة ١٨٨٥ قُبض عليه وعلى أحد رفاقه في سعيه؛ وهو البطريرك السابق المرحوم «خريميان» أفندي وأُخِذا إلى الآستانة، وكان وشى بهما البعض إلى السلطان. ولمَّا لم يجدوا ما يرجِّح التهمة عليهما أخلوا سبيلهما، فسافر «بورتقاليان» أفندي إلى «مرسيليا»، وأصدر فيها جريدة باللغة الأرمنية سمَّاها «أرمينيا». وهي لا تزال تنتشر إلى اليوم، وانتقل مركز الجمعية أيضًا إلى «مرسيليا» وهو كائن هنالك إلى يومنا هذا.
وفي سنة ١٨٨٥ حين كان البطريرك السابق «أورمانيان» مطرانًا بأرضروم، أحسَّت الحكومة المنقلبة أن قد أُسِّست هنالك جمعية أرمنية اسمها «خنجاق»، فأخذت إلى الآستانة أناسًا كثيرين لتستطلع منهم سر الجمعية وما يتعلق بوجودها، فلم تقف منها على عينٍ ولا أثر، وسافر «أورمانيان» إلى الآستانة، وبقيت الحكومة بين الشك واليقين في التصديق بوجودها. وإنما أُسِّست هذه الجمعية بباريس، ووليَ رئاستها رجلٌ من رعايا الدولة الروسية اسمه «نظريك»، ثم جُعِل فرعٌ تابع لها في أرضروم.
وقد أُلِّفت بعد هذه جمعية «طروشا غيان» أو «طاشناقساغان» في «جنيف». وإذ كان أكثر أعضائها من الأرمن التابعين لروسيا، لم تكن محلًّا لثقة إخواننا من الأرمن العثمانيين. وهذه الجمعية تميل أيضًا إلى مذهب الاشتراكية. وهناك جمعيات أخرى لا أعلم من أحوالها ما أوثره بالذكر، فلا أرى مندوحةً للخوض في أعمالها.
الحرج يعلم الحيلة، وتوالي العقاب يستولد البغضاء ولو كان عدلًا، فكيف به إذا كان ظُلمًا، ودوام الإساءة يحول دون استعادة الصفاء. هذه ثلاث قضايا ضرورية فرغ العقلاء من التخالف فيها، لمَّا حقت على إخواننا المظلومين عملت جمعياتهم بفحواها. وفي سنة ١٨٩٠ قامت جمعية «خنجاق» بواقعة «قوم قبو»، وهي براعة الاستهلال في النهضة الأرمنية. وفي سنة ١٨٩٦ قامت جمعية «طاشناقساغان» بواقعة البنك العثماني، كلتا الواقعتين وقعت في عاصمة الملك العثماني لتكون بمشهد من أعين سفراء الدول وبحضرة عبد الحميد. أرادت الجمعيتان الأرمنيتان أن تُعلما حكومة الاستبداد أن الشعب الأرمني نفض عنه تراب الذل، وأنه يأبى الاستمرار في طاعة كلها تكلُّف، فجاءوا لسائر إخوانهم العثمانيين بمثال من النخوة كان يجب أن يحذوا على منواله. غير أنه لم يقرَّ عينًا بذلك سوى فريق من رجال الحرية أضجرهم الظلم. أما الباقون من المتعصبين والجهلاء ومن أسعدهم الاستبداد وعلت أقدارهم في دولته، فقد أغضبهم ذلك وأقبلوا بجموعهم يقتلون الأرمن، فكثرت المذابح وحمي الوطيس بين العنصرين المسلم والأرمني بعد أن كان الأمر بين الأرمن والحكومة، وذهب كثيرٌ منهم غدرًا إذ لم يكونوا من جمعية من الجمعيات الثائرة ولا ممن شاركوهما في أمرٍ من الأمور.
فلما وقع القتال بين هذين العنصرين العثمانيَّين زادا كلاهما بعدًا عن صاحبه، ونبتت بينهما الإحن، فعلم الأرمن أن لن يكون مقام رغد في البلاد العثمانية، وعدُّوا أنفسهم غرباء فيها، فكان منهم المُطالب بإحياء دولة «أرمينيا» ليعيشوا فيها منفردين، وكان منهم من يؤثِر الصبر ليرى ما سيكون من عاقبة البغي، وكان منهم من يحب الهجرة إلى أمريكا وأوروبا تاركًا وراءه وطنه وإخوانه، يأسًا لا هجرانًا، وفرارًا لا تحولًا؛ فأدى ذلك وما تلاه من تعمم القتل والسبي فيمن هم بالأناضولي من الأرمن إلى توسُّط الدول الأوروبية، وطلبها من الحكومة المستبدة كف أذاها عن المسيحيين وإنفاذ ما تعهَّدت به للدول من الإصلاحات، فلم يُجدِ كل ذلك نفعًا. وجملة ما احتال به عبد الحميد على الحكومات المتمدينة حتى خدعها تنصيبه لبعض ولاة الأناضولي معاونين من مسيحيين ومسلمين، وفتحه باب الهجرة لمن يريد «ترك التابعية» من الأرمن؛ وهو أمرٌ يُراد به ظاهره دون حقيقته، فكم رأيت جماعة من الأرمن يطرقون أبواب الحكومة طالبين الإذن بالسفر إلى أمريكا، فيطالبهم رجال الحكومة بما يكون عليهم من جزية ومال. فإذا فعلوا ذلك كلَّفوهم إثبات براءتهم مما عساه يكون صدر عليهم من حكم وأعيق عن الإنفاذ أو لم يكن انتهى من المحاكم. فإذا كان هذا طالبوهم بضمان على ألَّا يعودوا ثانيةً إلى الأقطار العثمانية. فإذا جاءوا بذاك الضمان أمروهم ألَّا يدعوا وراءهم مالًا ولا عقارًا ولا أهل قرابة، وأن يدعوا في دائرة البوليس صورهم الفطوغرافية ليعرفوهم بها إذا عادوا. وبعد هذا العذاب الطويل يسمعون من وقاحة المأمورين وشتمهم وانتهارهم ما تندى له الجباه، ثم لا سبيل إلى إنجاز شيء مما سبق ذكره إلا إذا جاء المهاجرون بالدراهم وبذَّروا في الحباء تبذيرًا.
ولربما خرجوا مسافرين ومعهم نساؤهم وبناتهم، فتتلاحق بهم خيل اللصوص ويحيط بهم جماعة من السفل، فيصيبهم من مكروههم ما يعيقهم عن الخلاص. وويلٌ لهم إن رجعوا يومئذٍ مستصرخين بعدل الحكومة أو طالبين خلاصَ مَن سُبي منهم، إذن تقوم عليهم القيامة ويعظم الخطب. وقد صدق أحد شعراء الحماسة إذ يقول:
من الوقائع ما تروِّع القارئ وتستطير لبَّه، فكيف بكاتبها وهو يتكتم منها ما لا يقوى على تسطيره طورًا رحمةً وطورًا حياءً. والأنباء الآتية من الأقطار البعيدة يحسبها البعض مبالغًا فيها ويحسبها البعض مختزلة، ولكن الذين يظنُّون بها المبالغة أكثر؛ فمن سمع في سائر البلاد ما نزل بالأرمن من المصائب قال هذه من مكر الأرمن ولم يشأ تصديقها، ثم هناك أناس يقولون لنا إن الأرمن أعداء لنا ويزعمون أنهم هم المعتدون دائمًا، وأن المسيحيين لا يُخلِصون للمسلمين ودًّا ولا يصْفون لهم سريرة، وينعتونهم لنا بالكافرين وأهل النار وغير ذلك من كلام الجهل والجنون، وبسطاؤنا يصدِّقون هذه الباطلات حسن ظنٍّ منهم بقائليها، ولبعدهم عن مواضع العلم وفهْم الحقائق. فإذا ذكرت لهم تلك الفظائع لم تهزَّ منهم موضعًا من قلب، ومنتهى إنصافهم أن يقولوا إن الأرمن جنَوا على أنفسهم.
هذا كلام قد يُعذَر عليه الجاهلون من السُّوقة والمحرومون من نعمة العقل، ولكن ما عذر جماعة من المؤلفين وأصحاب الصحف ورجال الرأي إذا قالوا ذلك. أما والله وددت أن أطاوع القلم في جماحه، ولكن أخاف مأثور القول.
المذابح الأرمنية التي كانت بالآستانة وبغيرها من أقطار الأناضولي ذُكِرت في حينها، فمنها ما جاء مفصَّلًا في الجرائد وطيَّرها البرق في روايات مختلفة، ومنها ما كُتِب في رسائل خاصة بها. والتزام الإيجاز في هذا الكتاب يمنع استعادة ذكرها. غير أن هناك أشياء قد لا تكون ذُكِرت، بل ربما كانت خافية عن كثيرين ممن يستقصون مثل هذه الوقائع. أذكرها لتكون أمثلة لما كابده إخواننا المظلومون. وهذه النوادر أرويها عمن شهدها ممن عرفتهم بسيواس.
لما اتصل بأهل سيواس ما جرى للأرمن افترقوا فريقين، فأمَّا فريق المسلمين فأخذ يتأهب لمحاربة الأرمن إذا بدر منهم اعتداء عليهم، وأمَّا فريق الأرمن فذهب خاصتهم إلى جماعة من الأجانب يسألونهم إن كان هناك ما يخيفهم، فذهب هؤلاء الأجانب إلى خليل رشيد باشا وإلى سيواس إذ ذاك، واستطلعوه جليَّة الأمر، فقال لهم إن الأمن معتدل في نصابه، وأن لا خوف من وقوع أمر جلل، وأنه ساهر لتنام الرعية. ثم شاع بين المسلمين أن الأرمن على أهبة دائمة، وزعم جماعة من الرعاع أن أرمنيَّين أبصرا أربع سيدات مسلمات في الطريق فاعترضاهن وقالا لهن غدًا نقتل رجالكن ونتخذ بعضكن ساقيات وبعضكن ولائد، فزاد ذلك من حقد المسلمين، والأرمن لا يعلمون شيئًا مما يُقال عنهم من هذا القبيل. غير أنهم باتوا يتوجسون خيفة حين بدت على المسلمين أمارات الغضب وألفتوا عنهم الوجوه. وما مضى بعد ذا طويل زمنٍ حتى قام المسلمون وأعملوا في الأرمن القتل والفتك، ودخلوا بيوت التجارة، وأكثرها في بناء عظيم اسمه «طاش خان»، أبوابه من الحديد، فما زالوا يضربون تلك الأبواب بالمعاول ويرمونها بالرصاص حتى انفتحت لهم. فما تركوا هنالك شيئًا. وتلاحق الجنود والوالي يصيح بدار الحكومة ليكفُّوا وهم لا يكفُّون، وبعد قتالٍ دامَ يومين كفت المذابح، ومما تقشعر منه الأبدان أن بعض أولئك الوحوش كانوا يذبحون من عثروا عليه من الأرمن بالمناشير. وقد رأى قوماندان الرديف الفريق محمد خلوصي باشا الذي تُوفِّيَ منذ عامين أناسًا من المعتدين أحاطوا بأرمني وكان يصنع له أحذيته وله قِبله دين لم يوفِّه، فاستجار الأرمني بالقوماندان، وقال: يا مولاي، عبدك يقتلونه ولا ذنب له، مُرهم بحق مروءتك أن يهبوا حياتي لأولادي الصغار، قال القوماندان: أنت كافر وأولادك كفرة، وأشار إلى من أحاطوا بذلك المسكين أن يُجهِزوا عليه ففعلوا. وقد انتهز السفل هذه الفرصة فاختطفوا البنات ونهبوا المال نهبًا لمًّا، فترى اليوم أكثر تجار الأرمن وقد أصبحوا لا يملكون قوت يومهم، وأثرى بمالهم المنهوب غيرهم من اللصوص، فأمسوا من التجار.
ولو كان المسلمون أنصفوا إخوانهم المسيحيين، بل أنصفوا أنفسهم واتحدوا في القيام يدًا واحدةً على الحكومة المستبدة؛ لنالوا حريتهم منذ أعوام مديدة، ولاستبْقوا محبة إخوانهم.
نعم، غضب الأرمن من المسلمين عامة، ومنا معشر الترك خاصة، ولا يبعد عن العقل أن يكونوا اتفقوا بينهم أن يتخذونا أعداءً. فإذا صح ذلك فهو أمر حادث ولكنهم لم يكونوا كذلك؛ فيا طالما بكوا لبكائنا وشاركونا في ضرَّائنا، ومنعناهم أن يشاركونا في سرَّائنا، وكانوا يظنُّون أننا شركاؤهم في التشكي من استبداد المستبدِّين، فرأونا صاغرين لا نأتي حراكًا ولا ننطق بلوم، ثم لم نبت أن خضبنا الأكف بدماء نحن أحوج الناس إلى حقنها.
كثيرٌ من الأرمن تركوا جمعياتهم وشاركوا أحرارنا وقالوا: نحن عثمانيون فلتكن رغائبنا عثمانية، وخالفوا بعض القائلين من أبناء جلدتهم بإحياء «أرمينيا الجديدة»، وقالوا هذا محال ولو كان لما أفاد.
فمن فضلائهم الذين فقد منهم العثمانين دعائم مجد رفيع وسيف نجدة ماضي الغرارين الشاعر الأديب الفاضل المرحوم «ناربي لوسينيان». مات في سنة ١٨٩٤ مسمومًا. هذا النابغة هو من رجال الرهبانية، وله آثار تفتخر بها الأوطان، كان صادق النية حر النزعة، عثمانيًّا جسمًا وروحًا، ولكن استكثره عبد الحميد على العثمانيين كما استكثر غيره، فسقاه الردى وأسكت يراعًا نحن أحوج العباد إلى صريره.
كفى كفى، ولنختم هذه الصحيفة السوداء، وليكفنا منها أن ستشهد بها علينا الأيام، فإذا قرأها العثماني الصادق فليتخذها ذكرى وعبرة، وإذا قرأها غير العثماني فليثق أن هناك ناقمين كثيرين مثل كاتبها. وإذا التقى حر بيتيم من أيتام هذه المذابح وقال أنا ابن من ذُبِح بالمنشار، أو رأى فتاة في أسرة لابسة سوادًا كنجم الثريا يبدو في الظلام وقالت أنا بنت من طُعِن في فؤاده، أو قرُب مجلسه من سيدة أيِّم وكان محبًّا لزوجها وقال لها أين صديقي فلان فاغرورقت عيناها وقالت له قتله ابن عمك فلان؛ فليطأطئ الرأس وليقل: لألبسنَّ معكم ثياب الحداد، ولأحمينَّ عرضكم، ولأكونن لكم أخًا ومعينًا ما دمت حيًّا. وإذا وقف على قبرٍ قفر الجوانب في بلقع يغلي هجيره وتسفي الرياح عليه المور، فليقل: عليك السلام أيها الأخ الشهيد الأرمني المظلوم، نعم ما طلَّ حيث كنت ولا وتر لك دم؛ فلإن جار عليك المتعصبون فلينصفنَّ من بعدك الأحرار.