أهل سيواس
تقدمت في فصولي الماضية إشارات إلى أهل سيواس، فتلك متفرقات لا طائل تحتها. وهذا الذي أذكره أكثر فائدة وأخص بيانًا.
إن للأمصار من بنيها أعوانًا على اتِّساعها وتعاظم شأنها وزيادة رونقها وتوفر ثرائها، وما يصيبها من عناية الحكومات مجلوب برغبة الأهلين وطلبهم، وسيواس كغيرها من سائر المدن العثمانية، بقيت على قدمها، وما بقيت عليه في تمام محاسنه بل قامت على أنقاض لم تمسَّها يد مجدد من أبنائها؛ فهي عنوان فطرتهم ودليل عجزهم.
وبنو سيواس قومٌ تعوَّدوا عيشهم فاستطابوه، ولئن قام منهم أناس يشكون حالهم فتلك شكاية لا استمرار لها، تبسامة من والٍ تنسيها وزجرة من مدير البوليس تذهب بريحها. وإن من آفات الجهل أن يعُد المرء شقاوته نعيمًا، وألَّا يُصدِّق أن في الحياة الدنيا عيشًا هو أطيب من عيشه.
ما اشتاق أهل سيواس شيئًا مما بأيدي غيرهم، ولا تاقت نفوسهم إلى إحراز مثله، فإذا حدَّثهم مُحدِّثهم بما في مدن الغرب من مظاهر العمران وقصَّ عليهم أخبار الناس ووَصَف لهم الكهرباء في نورها الوهاج وقوتها التي تستخف الرواسي؛ ضحكوا ضحك غير المُصدق، وظنُّوا أن الرجل يحدِّثهم بأشياء لا مكان لها في الوجود. يتساوى في ذلك أشرافهم وسوقتهم، هم يقولون: أعلى هذه الأرض بلد هو أعظم من سيواس؟ أم فيها أقطار أنهارها كأنهارنا ورياضها كرياضنا وخصبها كخصبنا؟ وإذا جاراك محدث إلى ما تعيب من سيواس، فإنما يصنع ذلك تحبُّبًا إليك وفؤاده يُنكر عليك ما تقول.
وما القوم بمحرومين من العقل ولا ذكاؤهم دون ذكاء الناس، ولكن يغلب على قلوبهم بُعدهم عن بلاد الله، وحياتهم التي يتقضى أكثرها على شاهقات آسيا الصغرى، وجهلهم الذي لا يقف عند حد، فيبقى ذلك العقل غير مستخدم ويظل ذاك الذكاء معطَّلًا وغير مستثمَر؛ وبذا تتعود النفوس عيش البطالة وتنشأ على العجز والذلة، ولئن كان الطمع مذمومًا فإن من القناعة لشرًّا منه. وقد رأيت من فاقة السيواسيين ما لا أقدر أن أصفه ولا أن أقارنه إلى غيره، تلك فاقة منسوجة على غير منوال، وأشد ما فيها ألَّا رجاء في زوالها. وإذا اقتضى الكلام على المتمولين الذين هناك، فقل إن فيهم الموسرين ولكنهم ليس فيهم الأغنياء، ومن كان مجموع ماله ألفي جنيه عُدَّ من كبار أغنيائهم، وأكبر غني هناك هو أفيونيان وكل ماله لا يتجاوز العشرين ألف جنيه.
وإن من عجائب ما استقراه العقلاء أن أكثر الأمم غلوًّا في الدين أكثرها تهاونًا في غيره، وما ذهب بمجد اليونانيين وأخَّر سبق الرومانيين وأضعف سلطان الإسبانيين لجدير بأن يبلغ بالسيواسيين منتهى الشقوة. وما غلو هؤلاء القوم في دينهم ظاهرًا في نسكهم وعبادتهم، بل هو بيِّن في صدِّهم عن كل شيءٍ يأتيهم من أوروبا. لقد كنت أخرج إلى بعض الخلوات مع رفقة لي، محمولين على الدراجات، فيرجمنا الشبان والصغار بالحجارة، وكم اضطررنا إلى تهديدهم بالمسدسات ردًّا لأذاهم، فرددناهم وما كدنا، وهم يسمُّون الدراجة «شيطان عربة سي»؛ أي عربة الشيطان. ولما استمر اعتداؤهم وأعيتنا الحيل في اكتفاء شرِّهم؛ عمد كل منَّا إلى دراجته فباعها.
وكانت السيدات الأوروبيات إذا خرجن للنزهة يصحبن معهنَّ رجالهنَّ وخدمهنَّ لكي يردُّوا عنهنَّ الأولاد إذا رموهنَّ بالحجارة. وهذه الجرأة تجدها عند المسلمين كما تجدها عند الأرمن، وصبيان الأرمن إذا رأوا سيدة أوروبية صاحوا بها: يا مادام، جيوبك ملؤها الشياطين. وقد يغتفر المرء أمثال ذلك من صبية نُقِصوا تربية وحُرِموا علمًا، ولكن ما يقول المرء إذ يرى أمهاتهم يمشين محجبات ساحبات فضول مآزرهنَّ كجماعات الإوز أو كأقطاع الغنم. ولقد يبصرنَ بسيدة أوروبية أو سائرة بزي الأوروبيات فيسببنها في وجهها ويضحكن من شكلها. هذا جهل لو انقلب علمًا لأصبحت غربان سيواس فلاسفة. ذاك والمدارس الأجنبية لا تضيع في سوى التعليم وقتًا من أوقاتها، فما ظنُّك بها من قبل أن تدخل جنود العلم أرض سيواس.
ولا يحسبنَّ القارئ أني أرمي بما تقدم من كلامي إلى ذمِّ أخلاق السيواسيين، فذاك بمعزل عن غرضي، بل إن أهل سيواس من أقرب العثمانيين إلى التقويم والتهذيب، وما أظنُّ أن في الولايات العثمانية ولاية تفاضل سيواس في دعة أهلها. ومن المستحسن من محاسنهم أن الجنايات بينهم أقل من الأقل؛ فلقد يمضي الشهر والشهران ولا تقع في مدينة سيواس جناية واحدة. ولقد كثرت في خارج المدن وفي بعض قراها سطوات الصعاليك وقُطَّاع الطرق وأكثرهم من الجركس، ثم أبادهم رشيد باشا عاكف في أيام ولايته فحلَّ الأمنُ محلَّ الخوف.
وإذا نظرنا إلى أولئك الأقوام وحالهم حالهم من البؤس والشقاء وبقاء أكثر شبَّانهم بغير شاغل لهم من حرفة يحترفونها أو طريق كسب يسلكونه، وقارنَّا ذلك إلى اعتصامهم بالصبر وغَيْرتهم على الأخلاق أن ينتهي بها الفساد إلى ما لا علاج له؛ عرفنا لهم حق الأدب القومي وأنصفناهم؛ فإن الصناعات التي ذكرتها في فصولي المتقدمة قد انقطع إليها ناس عُرِفوا بها ولم يترسم خُطاهم غيرهم، وسائر الشبان يحيون حياة بطالة ولهوٍ لا طائل تحتها.