حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة
ما وطئت قدم الطاغستاني أرض مصر إلا ابتسمت ثغور الأحرار، وانتعشت أرواحهم، وتجددت آمالهم؛ فالتفُّوا حوله وحشدوا تحت رايته ورضوه لهم زعيمًا ولمذهبهم إمامًا ولكتائبهم قائدًا، وقالوا هو الصَّمصامة العضب لا تفل مضاربه ولا تقي دونه السابغات. ولما رام الكلام سكت لديه المتكلمون، وأوسعوا له من مكان الأستاذ، فظهر ولسان حاله يقول:
فصدر العدد الأول من «ميزان» باللغة التركية يُقِل معاني كالوحي في ألفاظ كالرُّسل، تُتلى على الظالم فيخشع لها قلبه وتزورُّ جوانبه، ونقلت بعض الصحف الكبيرة في مصر وغيرها فصولًا كثيرة من فصوله، وكاد يتعزى الأحرار بمراد عن كمال، وبدا الخذلان في جانب من يعارضون الأحرار ويكذِّبونهم (وكنت أنا من الفريق المخذول). وجاءت الرسائل برقية وغير برقية تطالب فيها الحكومة العثمانية الحكومة المصرية بإعادة مراد إلى الآستانة أو طرده من مصر، أو عدم الإذن له بإصدار جريدة فيها؛ فلم ينل عبد الحميد من لجاجه سوى الفشل وسوء المصير، والفضل في ذلك للورد كرومر حبيب الأحرار ومصلح مصر ورجلها العظيم.
وقد كان في إدارة جريدة «القانون الأساسي» خاتمٌ منقوش عليه باللغة التركية هذا الكلام: «عثمانلي اتحاد وترقي جمعيتي»، ومعناه «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية». كان الأحرار يكتبون أوراقًا فيها وعيد وإنذار، يُنفِذونها إلى قصر عبد الحميد ليغيظوه وينغِّصوا عليه أيامه، وكم ورقةٍ أُرسلت مختومة بهذا الخاتم وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، انخلع لها فؤاده، وقضى بليلة سليم لا تُبرئ أوجاعه رُقى أبي الهدى ولا تمائمه. وإنما حُفِر هذا الخاتم ليكون للجمعية التي كان يُراد إنشاؤها بمصر تابعة لجمعية «الاتحاد والترقي العثمانية» المؤسسة إذ ذاك بباريس. فسافر مراد إلى أوروبا وبقي الخاتم مُهملًا بمصر. وهذا يدل على أن هذا الاسم كان استُنبط في زمان الطاغستاني، وأنه لم يكن لجمعية الاتحاد هيئة تابعة بمصر إلا قبل إعلان الدستور ببعض السنين.
أُسِّست جمعية تركيا الفتاة برئاسة مراد، فلم تعمل عملًا يُذكر؛ لأن مرادًا كان قئولًا ولم يكن فعولًا، وأنه ليبدو له الصواب في رأي رآه غيره فلا يُقرُّه، بل يجهد نفسه في جرحه وردِّه أنفةً منه أن يكون لآخرَ عليه حقُّ التقدم في فضل. سجية تلك فيه لا يستطيع النزوع عنها. فلما انتظمت جمعيته أحبَّ الاستبداد بالأمر، ولم يرضَ أن يكون لغيره كلمة مسموعة. وكان إذا همَّ بعض الأعضاء ببيان رأي يراه في عمل من الأعمال قاطعه وأومأ إليه بكفِّه يأمره بالسكوت. وبذا جانَبَ كثير من الأحرار مرادًا وشيعته، ورابهم أمره وحذروا تقلُّبه. على أن الأحرار كبروا في أعين الناس، وبدت على أعمالهم بشائر الفوز، واتخذهم عبد الحميد شغله الشاغل وهمَّه المبرح؛ فسهر الليالي لكيدهم، وتدبَّر الحيل للإيقاع بهم، وأحسَّ من نفسه العجز عن الاستمرار على عداوتهم. ولو دام لهم ذلك الصبر والجهاد لنالت الأمة العثمانية حريتها من منذ ذلك العهد.
هذا والأجانب عن أعمال الأحرار كانوا يسمُّون حزبهم حزب «تركيا الفتاة»، وكان العثمانيون يدعونهم بحزب «الزون ترك»؛ أي الترك الفتيان. ولم يكن لاسم «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» شهرة ذائعة تسترعي الأسماع وتملأ القلوب إلا في أواخر أيام الاستبداد، حين أخذت تخاطب الحكومات وتجهر بعداوتها للحكومة الحميدية.
على أن مرادًا لم يُحسن العمل إلا في انتقاد الحكومة المنقلبة؛ فقد أجاد فيما كتبه كل الإجادة وأخرس مُناظريه، فكان الفضل في كل عمل وإن جلَّ ودقَّ راجعًا إلى مراد دون رجاله وأنصاره، وكان عالم العثمانية مطويًّا في شخصه، فلما فاز هو فاز حزبه، ولما هُزِم هُزِموا معه. وليس من الصواب أن أقول هُزِم؛ فقد كان في مأمن من الهزيمة، ولكن غلبه اليأس بتمادي الاجتهاد، وأضجره طول الاغتراب، وتجدد حنينه إلى الأهل والسكن، ثم ربأ بكبره أن ينازعه فيه منازع، فقيل له في العودة إلى عاصمة الملك العثماني وهو في تلك الحال، فأجاب بالرضى وأسلم نفسه وأنصاره وانقضى أمره.