حفلات تكريمه
جزى الله الشدائِدَ كلَّ خيرٍ إذا جمعت بين القلوب، وحيَّت إليها إجلال غاية أدبية سامية، كما حدث في الشهر الماضي؛ إذ زار الأديب العبقري أمين الريحاني هذا القُطر، فإنَّه قُوبل فيه بسلسلةٍ من الحفلات الشَّائقة، وتبارى عُلماؤها وشعراؤها في مدحه بخُطَبٍ أنيقةٍ نظمًا ونثرًا، أكرم بها المصريون إخوانهم السوريين، والسوريون إخوانهم المصريين.
ولقد كان الأدباء يُقابَلون دائمًا بالحفاوة والإكرام في بلدان المشرق، ولكننا لا نعلم إنَّ أحدًا منهم لقي ما لقي الريحاني في زيارته لمِصر هذه النوبة، كأنَّ علماءها وأدباءها من مصريين ومتمصِّرين وجدوا في تكريم فنون الأدب فيه مَهربًا لنفوسهم من نزعات السياسة وأخاديعها، وسبيلًا لشدِّ أواصر الجامعة الشرقية، ومُتَّسَعًا لإظهار ما تُكِنُّه ضمائرهم من الحبِّ والإجلالِ لكلِّ من رفع راية الشرقيين في البلاد الغربية.
بدأت الحفلات في منزل الدكتور يعقوب صروف، أحد أصحاب جريدة «المقطم» الغراء، ثم توالت في دار سليم أفندي سركيس، فمنزل السيدة بلسم عبد الملك، صاحبة مجلة «المرأة المصرية»، فمنزل إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، فدار الجامعة الأميركية، فسراي الأمراء ميشيل وحبيب وجورج لطف الله، فالكنتنتال بدعوة من طعان بك العماد، فساحة الأهرام بدعوة من الأستاذ أحمد زكي باشا.
ونحن واصفون كل حفلةٍ على حِدَتها، وذاكرون ما قيل فيها من خُطَبٍ وقصائد تبارَى فيها الخُطباء والشعراء، مُعتمدين في ذلك على أخبار الجرائد السيَّارة وما وصل إلينا عِلمه من بعض خُطباء هذه الحفلات وشعرائها.
واجب الترحيب بكاتب
قرأت بمزيد السُّرور خبر قدوم الشَّاعر الناثر والمفكر الفيلسوف، أمين ريحاني، إلى هذا القُطر منذ أيام.
وأذكر أنه زار مصر في سنة ١٩٠٥ — أي منذ سبع عشرة سنة — إذ كانت النهضة القومية في مهدها، فلم يَرَ من حياة الشَّعب الذي يتطلَّعُ لاستعادةِ حريته ما يكفي لتكوين عقيدته في مُستقبل هذه البلاد. وكان الأستاذ ريحاني إذ ذاك في ريعان شبابه، ولم ينجز من مُؤلفاته الجليلة إلا رباعيات المعري وفصولًا من كتابٍ خالدٍ.
وقد مضى على تلك الزيارة نحو عقدين من السنين، قطع فيهما الشاعر الشرقي والمفكر الغربي مراحل بعيدة المدى في ساحة العلم والأدب، فألَّف الريحانيات التي دلَّت على عُلوِّ كعبه في لُغَتِهِ الأصلية عُلوًّا لا يُدانيه إلا اقتداره على اللغة الإنجليزية.
وقد خَلَّدَ في تلك الصحف وادي الفريكة الذي نشأ فيه وترعرع؛ إذ وصفه في كتابه أجمل وصف، وحبَّبه إلى مَن لم يزوروه ولم يعرفوا جماله. وكفى هذا الوادي فخرًا أنَّه أنجب نابغة مثل ريحاني.
وقد زارنا للمرَّةِ الثَّانية ومصر كالقِدْر الغالية تحمُّسًا وتطلعًا نحو العُلى، ونحو مُستقبلٍ تتمتَّعُ فيه بحقوقها المهضومة.
زار مصر للمرَّة الثانية، وقد بلغت نهضتنا أَشُدَّها، وصار فتى أمس رجل اليوم، والأمنية التي كانت تتردَّدُ في نفوسنا أوشكت أن تكون حقيقةً واقعةً، وسيُتاح له أن يرى بعينيه ويسمع بأُذنيه ما لم يَرَ ولم يسمع في الزيارة السابقة؛ فأمامه شعبٌ ناهضٌ مثله كالنَّسرِ العظيم الذي أخذ الكرى بمعاقد أجفانه حينًا، ثم بدأ نور الفجر يسطَعُ، فبدأ النَّسر يفتح عينيه، ويحرك جناحيه، ويهزُّ ريشه؛ ليسقط عنه آخر أثرٍ من آثار الفتور والنوم العميق. ها هو النَّسرُ، أيُّها الكاتب الشرقي القادم من الغرب، ينظرُ إلى الشمس؛ لأنه يريدُ أن يتبوَّأَ مكانه منها.
إنَّ هذا النسر، أيَّها الشاعر، يبدو لك قويًّا وفتيًّا، ولكن إذا أنعمت النظر في رأسه وعينيه رأيت أنها تحمل آثار الحياة منذ آلاف السنين، ولكن ريشه لم يتغيَّر لونه ولم يلحقه شيب؛ لأن الشيب علامة الشيخوخة والضعف. وهذا النسر مع عمره الطويل الغارق في بحار السنين الغابرة لا يزال صبيًّا وقادرًا على النهوض لينشر جناحيه العظيمين، ثم يطيرُ إلى حيثُ تطيرُ النسور، ويُحلِّقُ في سماءِ الحُريَّة الصافية الأديم.
إنَّ هذا النسر، أيها الشاعر الجليل، يُحيِّيك ويطلبُ منك أن تَنظِم له أنشودة جميلة تُطربه وتُساعده على النهوض. إن مِصر العظيمة الجديدة القديمة، الجديدة الخالدة، تطلب من كلِّ شاعرٍ أن يُغنِّيها صوتًا يقوِّي من عزمها، أو يُنشد حكمة تَفُتُّ في عَضُد خُصومها.
مصرُ تُرحِّب بالشاعر اللبناني الذي غزا الغرب بقلمه، وجدَّد مجد العرب بشعره، وأحيا موات الأرض بخُطبه وكُتبه في وطنه، وتطلُب إليه ألا يبقى في ضيافتها صامتًا، وألَّا يتكلم بصوتٍ خافت؛ لأن اليوم يوم المُناصَرة عن عقيدةٍ وإيمانٍ.
فهل يُجيب شاعر الشرق هذا النداء؟
وإنَّنِي بهذه المناسبة أقترحُ على الكُتَّاب والشعراء والأدباء في مصر أن يُرحِّبوا بحضرة الشاعر الناثر الترحيب الذي يليق بمقامه العظيم في الشرق والغرب.
فصادف هذا الاقتراح هوًى في نفوس الأدباء والشعراء، وارتياحًا لدى ذوي الفضل والعرفان؛ ومن ثمَّ ابتدأت تُقامُ حفلات التكريم للأستاذ الريحاني، فكان أول الحفلات حفلة الدكتور يعقوب صروف.
(١) الحفلة الأولى في منزل الدكتور يعقوب صروف
دعا عصر يوم الخميس، الموافق ٢ فبراير سنة ١٩٢٢، حضرة الدكتور العَلَّامة يعقوب صروف — من أصحاب «المقتطف» و«المقطم» — جمهورًا من فُضلاء مِصر ورافعي لواء الأدب العربي فيها إلى حفلة شايٍ أعدَّها في منزله، بشارع عماد الدين؛ للترحيب بحضرة صديقهم الكاتب الشهير أمين أفندي ريحاني، فلبَّى المدعوون دعوته، وفي مقدمتهم حضرات أصحاب السعادة والعِزَّة: إسماعيل صبري باشا، وأحمد تيمور باشا، وأحمد شوقي بك، وأحمد زكي باشا، وسعيد شقير باشا، والدكتور صيبعة، والآنسة مي، وخليل مطران بك، وعبد الحليم أفندي المصري، ونعوم شقير بك، والأستاذ محمد لطفي جمعة، وأسعد أفندي خليل داغر، والدكتور وديع بك برباري، وأنطون أفندي جميل، والدكتور شخاشيري.
فاستقبلهم ربُّ الدَّار وعائلتُه الكريمة بالتكريم، وبعدما شربوا الشاي وتناولوا الحلوى، وقف حضرة الدكتور صروف وألقى كلمة شُكر للمدعوين، وترحيب بالمُحتفَلِ به، نوَّهَ فيها بخدمته للأدب الشرقي في الشرق والغرب، وأطنب في براعته باللغة الإنكليزية التي نافس فيها أبناءها المجيدين، وتلاه حضرة الشاعر المجيد أسعد أفندي خليل داغر، فألقى أبياتًا بليغة صفَّقَ لها السَّامعون واستعادوها.
وعقَبه حضرة الشاعر البليغ عبد الحليم أفندي المصري، فتلا أبياتًا جزلةً وقعت أجمل وقْعٍ في النفوس، وأطربت سامعيها، فصفَّقوا لها مرارًا، ثم نهض حضرة الأستاذ الفاضل محمد لطفي جمعة، فخطب خُطبةً نفيسةً دلَّت على عُلو كعبه في الإنشاء والخطابة، وبلاغة التعبير، فقوطعت بالتصفيق والاستحسان، ووقف حضرة أمين أفندي ريحاني، فشكر الجميع بعباراتٍ رقيقةٍ دلَّت على شدَّة حبِّه للشرق، واعتباره كل بلدٍ من بلدانه وطنًا له، وكل شرقيٍّ مواطنًا، فصفَّق السَّامعون كثيرًا.
وظلَّ الحاضرون بعد ذلك يتبادلون أطايب الحديث، ثم ودَّعوا حضرة صاحب الدَّعوة، وحضرة قرينته الفاضلة، وسائر أهل بيتهما، شاكرين ما لقوا من كرم الضيافة، وما دخل قلوبهم من السرور في هذه الحفلة الأدبية الشرقية.
(١-١) قصيدة الشاعر المجيد «أسعد أفندي خليل داغر»
(١-٢) خُطبة الأستاذ لطفي جمعة المحامي
منذُ عشرين سنةٍ، تقريبًا، لقيتُ أمين الريحاني لأوَّلِ مرَّةٍ، وكان إذ ذاك في مُقتَبَلِ العُمر، في الفترة الفنيَّةِ من حياته «بريوت استيك»، مُتخلِّقًا بأخلاق الكاتب الإنكليزي الشهير «أسكارويلد»، من حيثُ تنسيق الشعر وتصفيفه وانسداله على كتفيه، وحلق الشاربين واللحية، وكان يدخِّنُ الشبك على الطريقة الأمريكية، فلمَّا رأيته كان يبدو في وجهه التَّشكُّك في كلِّ شيءٍ، في حياة الفكر والعقل والدِّين، وكان مثله كمثل السَّائح الذي لم يَهتدِ بعدُ إلى الطريق.
وكان قد كتب الفصول الأولى من «كتاب خالد»، فقرأ لي بعضها، فأُعجبت بما جاء على لسانه من وصف أحوال صديقه شكيب، ثمَّ شرح لي مشروعه في تأليف رواية تمثيلية باللغة الإنكليزية يكون بطلَها الإمام عليٌّ، وكلَّمني عن تأثير صوت المؤذن في ذهنه، فعجبت من ذلك الذي هجر الشرق وسافر إلى أقصى بلاد الغرب، وأكثرها ازدحامًا واهتمامًا بالشئون الغربية، ومع ذلك فهو لم ينسَ أدقَّ الإحساسات الشرقية.
إنَّ الذين قرءوا كُتب الأستاذ الريحاني في مصر قليلون، ولكن هذا لا يُقلِّلُ من قدْرِها؛ فقد كتب في النقش والتصوير مقالات تُعَدُّ من أجملِ وأبلغِ ما كتبه النَّاقدون. ولا غرابة؛ فإنَّ الأستاذ الريحاني اختار لمشاركته في الحياة نفسًا امتازت بإدراك أسرار الجمال وتكوينها، ونقلها إلى عالم المادة بفضل الألوان.
عرفتُ أمينًا وهو لا يُحسِنُ اللغة العربية تكلُّمًا، فضلًا عن كتابتها؛ لطول الشُّقَّةِ بينه وبين وطنه الأصلي، وقدَّمتُ له نُسخة من أوَّل كتابٍ ألَّفته، فنظر فيه ثم قال لي: سأضع أنا أيضًا كُتبًا باللغة العربية. ولم يكن أمين ممَّن يَعِدون ويُخلفون، أو يَعزِمون فيتردَّدُون؛ فإنَّه بعد بضع سنين قضاها زاهدًا مُنقطعًا عن النَّاسِ في صومعته بوادي الفريكة أخرَج للعالم العربي كتابًا من أجلِّ الكُتب، ألا وهو الريحانيات — الذي طُبِعَ منه جُزءان وباقٍ تحت الطبع مثلهما — فأثبت بكتابه هذا أنه قد بَرَّ بوعده، وأتقن لغة القرآن إتقانًا يسمح له بالتحرير، فيُجاري أكبر الكُتَّابِ أُسلوبًا وسلاسةً وسلامَةَ منطِقٍ.
أمَّا عن الأفعال فحدِّث ما شئت؛ فهو مُبتكِرٌ ومُخترِعٌ. إنَّ في مصرَ الآن مئاتٍ من أغنياء الأمريكان السَّائحين نراهم في الطريق، ونمرُّ بهم غير مُكترثين — وقد يكون بينهم مَلِك الحديد أو الفولاذ أو الذهب — ولكنَّا نكترث ونهتمُّ لرجلٍ قد لا يملك فولاذًا ولا حديدًا ولا ذهبًا؛ لأنه وإن كان لم يُمنح قوة المال، فقد منحته الطبيعة قوة امتلاك العقول.
رأيتُ الريحاني في تلك السنة مع شوقي بك، وكلاهما قصيرٌ صغيرُ البَدَنِ، ولا غرابة؛ فقد امتاز النوابغُ بصِغَر الأجسام، وكِبَر العقول.
نعوم بك شقير مُقاطعًا: نريدُ أن نعلم هل هذه الصِّفَةُ قَاصِرَةٌ على الرِّجال أم تشمل النساء أيضًا؟
الخطيب مستمرًا: لقد وضعني نعوم بك شقير في موقفٍ حرِجٍ، وها أنا أرى السيدات ينظرون إليَّ مُترقِّبات ذلك الجواب الذي فيه فصلُ الخطاب.
حقًّا، له الحق أن يُقاطعني؛ لأنه رجلٌ عظيمٌ وطويلُ القامة أيضًا، فهو يُطالب بحقوق طوال النِّجاد.
فجوابي له: إنَّ هذا الوصف وإن كان قاصرًا على الرجال، فإنَّه لا يشمل النساء؛ لأن النساء عظيماتٌ، طويلاتٌ كُنَّ أو قصيراتٌ، فليس لنبوغهن شرطٌ ولا قيدٌ.
أعود إلى صديقي المُحتفَلِ به وأقولُ: إنَّما يُكرَمُ لأجل فكره وعقله، لا لأجل سببٍ آخر. وهذا دليلٌ على أنَّ الشرق — ولا سيما مِصر — دائمًا تتعطَّشُ لتقدير النُّبوغِ والاحتفال به؛ فرجلٌ واحدٌ عظيمٌ قديرٌ على إصلاح أُمَّتِه.
(٢) الحفلة الثانية في منزل سليم أفندي سركيس
كان بعد ظهر السبت «٤ فبراير سنة ١٩٢٢» موعد حفلة الشَّاي التي أقامها حضرة الكاتب المعروف سليم سركيس أفندي، في منزله بمصر الجديدة؛ إكرامًا للكاتب الكبير أمين الريحاني أفندي، نزيل أميركا وضيف مصر الآن. وقد كانت الحفلة — كسائر حفلات سركيس — مجلى الأُنسِ والظرف، ومظهر الذوق السليم، والأدب الصحيح، كما كان صاحبها على مألوف عادته خير صلةٍ للتعارُفِ بين أُدَبَاءِ مصرَ والشَّام وأميركا؛ فجمع في منزله حول المُحتفَلِ به طائفة كبيرة من أُدَبَاءِ القُطرين ووجهائهما، نذكرُ منهما: الأميرين ميشيل وحبيب لطف الله، وأحمد زكي باشا، ومحمد المويلحي بك، وأمين واصف بك، ونعوم شقير بك، وأحمد حافظ عوض بك، وداود بركات أفندي، والأستاذ لطفي جمعة، وخليل مطران أفندي، وأيوب كميد أفندي، وأنطون الجميل أفندي، وسقراط بك سبيرو، وأميل زيدان أفندي، وطعان بك العماد، وإسكندر مكاريوس أفندي، وسليم حَدَّاد أفندي، وسليم المشعلاني أفندي، وإلياس عيسادي أفندي، وبعض السيدات.
وخطب كذلك الشاعر الكبير خليل مطران، فأظهر ما للريحاني من الفضل بنقله إلى الغرب آداب الشرق، وتعريفه الأنجلوسكسون بفضائل الإسلام — وإن لم يكن مُسلِمًا — فحُقَّ للشرق أجمع أن يشكره على خدمته الجُلَّى.
ودُعي حضرة داود بركات أفندي إلى الكلام، فقال للريحاني: إنَّ التاج الذي عقدته على جبهتك بأعمالك لم يتم؛ فالذي عملت لا يُذكر بالنسبة إلى ما بقي عليك عمله، فإنَّ مصر ولبنان والشام وسائِرِ أقطار الشَّرق عُرضةٌ اليوم للمطامع المُختلِفة، فكُن أنت في الغرب مُحاميًا مُدافعًا عن الشرق حتى تَفِي بدَيْنك للشرق الذي أنبَتك.
وكان لسعادة العالِم أحمد زكي باشا كلمة ضافية في الثناء على ضيف مصر الذي أذاع فضل الآداب الشرقية في الغرب، واستطرد إلى ذكر العرب ومفاخر الإسلام مُستشهدًا بالأدلَّة التاريخية والحُجج العمرانية.
فقام أمين الريحاني أفندي وشكر أصدقاءه وإخوانه على احتفائهم به.
وانصرف الحاضرون وهم يشكرون لسركيس أفندي، ولحضرة قرينته الفاضلة، وكريماته الأديبات ما لقوه في دارهم من الإكرام والحفاوة وحُسن الضيافة.
(٢-١) خُطبة سليم أفندي سركيس
الأصدقاء في «بورصة» الحياة هم النَّقدُ الحقيقي، وإنَّما الفقيرُ من لا أصدقاء له، ثم إنَّ الله جعل الأقارب كالجلد من جسد الإنسان لا سبيل إلى نزعه، أحسنَ أو أساءَ. وأمَّا الأصدقاءُ، فإنهم كالثياب نحرصُ على الحسن منها، ونخلع الرَّثَّ البالي. ولحُسن حظِّي، كان أمين الريحاني صديقًا لي منذ أكثر من ٢٠ سنة، فتحوَّل الآن إلى قريب؛ لأنني لم أجد في صداقته الطويلة ما يستوجب نزع ذلك الثوب القشيب، بل كان من سلامة تلك الصداقة، وارتقاء هذا الصديق في مراتب النبوغ، أنَّنِي صرت أفتخرُ بأنَّنِي — في مصر وسورية وأميركا نفسها — كنتُ ولا أزالُ أوَّل صديق للريحاني الشاب، وأول صديق للريحاني الرجل، وأول صديق للفيلسوف الذي نحتفل به الآن، كما احتفلت به أميركا. فعلى الرَّحْبِ والسَّعةِ أيها الصديق.
(٢-٢) خُطبة داود أفندي بركات «رئيس تحرير الأهرام»
يطلبُ منِّي حضرة الدَّاعي الكريم سليم أفندي سركيس أن أقولَ كلمةً في هذا الاجتماع الأدبي الشائق، الذي نحتفي فيه بأديبٍ من أُدبائنا الذين يُحكِمون الآن روابط الشرق بالغرب، ويُخرجون من كنوز المدنية العربية جواهر يُحلُّون بها جِيد الآداب والعلوم.
ولو لم يكن عليَّ لسركيس أفندي دَيْنٌ كبيرٌ لا مندوحة من وفائه بما يُرضيه — وهذا الدَّين تشريفي بالاجتماع بكم، وبالاستفادة من حِكَمِكم ودُرَر أقوالكم — لمكَثتُ صامتًا أسمع وأتعلَّمُ، ولمكثت في مخبئي أتغطَّى عن العيون والأنظار بِظِلِّ السكوت؛ فإن لم أستطع أن أُؤدِّيَ لسركيس أفندي ما يُعادِلُ دَينه، فتلك جنايته على نفسه وعليَّ أيضًا، ومن الحُبِّ ما يُؤذي المحبين.
يقول لكم سركيس أفندي: إنَّكم تحبون بلا شك أن تسمعوا ذلك الذي يخاطبكم كل يوم من على قمة «الأهرام»، ولكن هذا الذي يُخاطبكم كلَّ يومٍ ما جَرُؤ أن يستخدم كلمة «أنا» لاعتقاده بضآلتها؛ فهو يُغرِقها ويُواريها في ذلك الخضم الواسع الذي نُعبِّر عنه نحن — الصحافيين — بكلمة «نحن»، فترون فيها الباحثين والمحدثين والمرشدين جمَّة؛ فإن كان القولُ حقًّا، فهو راجعٌ إلى ما اقتُبِسَ من المجموع، وإلا فإنَّا نتقي بها مغبَّة الزَّلل.
والآن، أوجِّهُ الكلام إلى أخينا أمين الريحاني لأقول له: إنَّك قد سمعت مِنَ الخُطباء والأدباء كلمات المديح والإطناب بعلمك وعملك، فاسمَحْ لأخٍ يُجِلُّ عملك كثيرًا أن يقول لك: إنَّك إذا كُنتَ قد ضفَّرت لنفسك تاجًا من الأدب، فإنَّ في هذا التاج دُرَرًا يُقدِّرُها العلماءُ والأدباءُ حقَّ قدرها، ولكنَّك لا تزالُ في سنِّ الشباب، ولا يزال في ذلك التاج مكانٌ لدُرَرٍ أُخرى قد تكون أغلى وأثمن مما رأينا فأعجبنا.
فاعمَل وجِدَّ لتُتمَّ تاجَك وإكليلك، وتَذكَّر أن عليك دَينًا آخر لا مندوحة لك عن وفائه، ذلك الدَّين هو وفاؤك لوطنك، وخدمة هذا الوطن الذي أنبتك؛ فقد تذكر الوادي والجبل والسنديانة والنبع والعين، فتذكر — كما نحن نذكر — أنَّ من هناك استمدينا مطلع الحياة، وأنَّ الأرض بما رحُبت وبما تجلَّى فيها من عظمة لا تحول عيوننا ولا قلوبنا عمَّا انفتحت عليه العيون للنظر، والقلوب للشعور والإحساس.
أفلا تسمع أيها الأخ صوت لبنان بكلِّ كلمةٍ نقولها؟
ألا تلمح من ذكراه هدير النَّهر، وخرير الماء، وحفيف الشَّجر، ولمع البرق، وقصف الرَّعد، وجلالة الطبيعة، وجمال الإخاء والحنو والعطف من كل شيء، ومن كل إنسان؟
إن وادي الفريكة أنبتتك، فهي وما ناوحها من الآكام والجبال، وجاورها من الأودية، أُمٌّ رءُومٌ لا يُرضيها إلا أن تكون الابن البار.
ذلك وطنك الصغير، ولك ولنا الوطن الكبير، وهو الشرق، وفي غُرَّة هذا الشرق وجبينه مصرُ التي تقفُ منه كالمنارة؛ فإن أضاءت أرسلت نورها إلى الشرق كله شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا. وهذه المطامع تتجاذبها وتتجاذبُ الشَّرق كلَّه؛ فارفع صوتك، ولنقُل جميعًا عند رفع الصوت بالحقِّ كلمة الطحان الألماني — الذي طمع الملك فردريك بطاحونه ليُوسع بها حديقة قصره: لا أُعطيك وفي برلين قضاة.
ففي العالم أحرار ومُنصفون يسمعون صوتنا إذا كان هذا الصوت هو صوت الحق إلخ إلخ.
•••
وقد تخلَّف عن حضور هذه الحفلة الشائقة من المدعوين: الأستاذ الشيخ عبد المحسن الكاظمي، الشاعر المطبوع؛ فأرسل مُعتذرًا بالأبيات الآتية:
(٢-٣) خُطبة أمين أفندي الريحاني
لا أذكر يومًا في حياتي الفكرية، يا سادتي، قَدَّمتُ فيه الانتساب الدِّيني على الانتساب الوطني. لا أقولُ ذلك فخرًا ولا اعتذارًا، إنَّما هي الحقيقةُ في مبدئي وسُلوكي. وقد أكونُ مُخطئًا في تقديمي الوطن على الدِّين، ولكنَّني متيقِّنٌ أنَّ حجَّة بعد الموت لأكبر حجَّةٍ، أمَّا حُجَّةُ الحياةِ — وهي حُجَّتِي — فهي عقلية أدبية تاريخية فلسفية، فإذا كان العقلُ والأدبُ، والتاريخُ والفلسفةُ تُضلِّلُ النَّاس، فإنَّا إذن من الضَّالين في هذه الدنيا، ومن المغضوب عليهم في الآخرة.
ولكنِّي وإيَّاكُم في دائرةٍ واحدةٍ، وإن تعدَّدَت طبقاتها، وعليَّ كما عليكم مسئولية واحدة، وإن تعددت أسبابها، فالأدب الحقُّ إنَّما هو دين هذا الزمان، والأدباء الحقيقيون هم كهنته وأئمته.
وبما أنَّ الأدباء المصريين والسوريين هُمُ الحلقة التي تَصِلُ الشَّرق بالغرب؛ فالمسئولية عليهم أشدُّ منها على سواهم، ولا بد من هذا الاتصال، يا سادتي؛ لأن عوامل التضامن اليوم، اقتصادية كانت أو علمية، أشدُّ منها في كلِّ زمانٍ، ولا تستطيعُ أمَّة أن تستغني تمامًا عن بقيَّةِ الأُمم.
أمَّا الصِّلة القوية الدَّائمة، الصلة الذهبية الصافية، فلا ينبغي أن تكون سياسية ولا دينية، بل أدبية علمية فلسفية، واقتصادية أيضًا؛ فمن مدنية الغرب تجيئنا مثلًا العلوم الكونية الحديثة، وإلى مدنية الغرب نتقدَّمُ نحن الشرقيين بالحيِّ السَّليم الدَّائم من علومنا الرُّوحية. وإنَّ في مثل هذا التبادل الرُّقيَّ الحقيقي، بل فيه تصلُ الأمم إلى أعلى درجات التمدين.
ومن جهةٍ خصوصيَّةٍ، أرى أنَّ على الأدباء السوريين مسئولية كبيرة تجاه الكمالات العقلية والاجتماعية. والحقُّ يُقالُ: إنَّ أدبنا يظلُّ ناقصًا إذا كان لا يُمزج بشيءٍ من الأدبِ الإسلامي، والعكس بالعكس؛ فإنَّ الآداب الإسلامية العربية لا تستمرُّ حيَّةً ناميةً، عزيزةً راقيةً، إلا إذا امتزجت بشيءٍ من الآداب الإفرنجية. وفي هذا الامتزاج، يا سادتي، كُنه الحياة الجديدة التي ستكفل للأمم الشرقية استقلالها التَّام، وترفع شأنها بين الأمم المتمدنة.
(٣) الحفلة الثالثة في منزل برسوم أفندي روفائيل وحضرة السيدة قرينته صاحبة مجلة المرأة المصرية
أقام بعد ظهر الاثنين «٦ فبراير سنة ١٩٢٢» حضرة الأديب برسوم أفندي روفائيل، وحضرة السيدة قرينته، بلسم عبد الملك، الكاتبة الشهيرة وصاحبة مجلة «المرأة المصرية»، حفلة شاي، في منزلهما بشارع العزيز بشبرا؛ تكريمًا لحضرة الكاتب الفاضل أمين أفندي الريحاني، فلبَّى دعوتهما فريقٌ من رجال الفضل والأدب، وحمَلة الأقلام وأرباب الصحف العربية.
ولما كَمُلَ عِقدُ المدعوين دُعُوا إلى تناول الشَّاي، فجلسوا إلى مائدة مزينة بالأزهار والرياحين، وعليها ما لذَّ وطاب، فأكلوا هنيئًا، وشربوا مريئًا. ونهض حضرة الدكتور منصور فهمي، وخاطب حضرة المُحتفَل به بكلماتٍ طيبةٍ، ثم وقف ربُّ الدَّار وألقى كلمةً بليغةً خاطب المُحتفَل به، وأبان ما له من الأيادي البيضاء في خدمة العلم والأدب؛ فقوبلت بالتصفيق.
وعقَبه حضرة الأستاذ الريحاني أفندي، وبعد أن شكر الدَّاعين والمدعوين تكلَّم عن المرأة وما لها من التأثير الحَسَن في تربية أولادها، مما لا يُلقَّن في المدارس ولا يُجمَعُ في كتابٍ، وشرح كيف أنَّ الطفل في الحقيقة هو مربِّي الأم؛ فقُوبلت أقواله بالإعجاب. ثمَّ انتقل المدعوون إلى قاعة الاستقبال وجلسوا يتجاذبون أطراف الأحاديث — والحديث شجون — وانصرفوا وهم يثنون على حضرة برسوم أفندي والسيدة قرينته؛ لِمَا لقوه من الترحيب والتكريم.
(٣-١) خُطبة برسوم أفندي روفائيل
أستاذي الريحاني
إلى روحك الطيبة التي سطعت شمسها فيما وراء البحار في الدنيا الجديدة، وأرسلت أشعتها المُحيية إلى وطنها الأول في الشرق، فبعثت روح الرجاء، وحركت العواطف النائمة من مراقد الغفلة، نرفع تحيَّةً عاطرةً خالصةً، ونُرحِّب بك ترحيب الشرقي بأخيه الشرقي، وأنت في وطنك الثاني «مصر» بين إخوان تجمعهم وإيَّاك صلات الأدب وصلات الوطن أيضًا.
فقد كانت مِصرُ وسوريا أختين في حياتهما الطويلة، وطالما اجتمعتا وتفرَّقتا واحتملتا آلام الشقاء، ومازالت تُوجد بينهما اللغة والعواطف والتذكارات التاريخية التي لا تُمحى.
إنَّك أرسلت «الريحانيات» — وهو حسنات الآداب في هذا الزمان — كتابًا أوحى به إليك روح الفلسفة القديمة، الذي لبث يرفرف فوق وديان لبنان من القرون الغابرة، يبحث عمن يُودِعُ في روحه نور الحكمة القديمة، ويُفيضُ على نفسه روح الخلود، حتى رأى ذات يومٍ فتًى ممتلئًا حياةً وقوةً، ورأى فيه مخايل المجد العلمي والفلسفي للشرق، فهبط إليه، وأَسَرَّ لقلبه سِرَّ الحكمة.
لقد كان الفتى يُداعبُ العصافير المزقزقة «في وادي الفريكة»، «ويهتف لها»: أي طيوري الصغيرة، لو تعلمين ما في قلبي من العاطفة لما فرَّت أسرابك خيفةً منِّي. إنني لا أحبُّ الأذى، إنني أريد أن ينتشر السلام والإخاء والحب بين الناس، وأريد أن تعيش الطيور أيضًا بسلام.
فما أسمى روحك وعواطفك يا أمين!
أتعرفون، أيها السادة، من هو ذلك الفتى؟ إنه فيلسوف وادي الفريكة، هو موضع احتفائنا وتكريمنا اليوم، هو الفيلسوف الكاتب الشرقي المتواضع صاحب التآليف القيِّمة باللغتين العربية والإنجليزية، وهو خيرُ مُمثِّلٍ للنبوغ الشرقي في العالمين الأميركي والأوروبي: «أمين الريحاني».
سادتي:
ضاق وطن الريحاني بروحه الكبيرة، ولم يجد في وطنه مُنفسحًا لمداها الواسع، فوثب بها وثبة إلى ما وراء البحار، وهناك بين أبناء سوريا الأمجاد أهل النجدة، أخذ يملأُ الصحف والمجتمعات والأندية بما أودعه فيه الروح من الحكمة والفلسفة، وحمل لواء لغة الضاد، وأخذ يسير في طليعة مواكبها في تلك البلاد الأعجمية، حتى عشَّق فيها القلوب، وحبَّب فيها النفوس.
أيها السادة:
إنَّ أمين الرَّيحاني عَلَمٌ من أعلام الشرق الذين وضعوا بجهادهم الشريف الصامت أساس مدنيتنا وتضامننا الحديث، فَحَيُّوا في نفسه الكبيرة الطاهرة هيكل الفلسفة المقدس، حَيُّوا السلام والفضيلة.
وإنِّي لأنتهزُ هذه الفرصة لأُقدِّم إليه، وإلى مقامكم الكريم، تحيَّات السيدة عقيلتي، وتحياتي على تنازلكم بقبول دعوتنا، وتشريف دارنا، كما أنَّنَا نتمنَّى لفيلسوفنا العظيم طِيب الإقامة تحت سماء النيل الصافية، وعلى شاطئه السندسي. والسلام.
(٣-٢) خُطبة أمين أفندي الريحاني
في تطور المرأة الغربية محاسن لا تُنكر، أريدُ أن أُشيرَ الآن إلى واحدةٍ منها، بل إلى ما أظنه أهمها؛ وهو علم التربية.
فالتربية الحقة عندهن مبنية على الآية: إن أبناءنا أصدقاءنا؛ أي إن السيادة الأبوية لا تتجاوز حد العقل والحكمة، وتنحصر كلها في مصلحة البنين.
وهذا النوع من التربية لا يُلقَّنُ في المدارس، ولا في الكنائس، ولا في الاجتماعات العلمية، وليست أصوله محصورة في بطون الكُتب، ولا في صدور الحكماء؛ إنما هو قائمٌ بمراقبة الأولاد، ودرس أخلاقهم وأذواقهم وأمزجتهم وأطوارهم وميولهم، وتكييف التربية عليها، فالأولاد أنفسهم يُعلِّمون الأمهات التربية.
أجل، إنَّ الأمهات العاقلات الحكيمات يتعلَّمن كثيرًا من بَنِيهن، فينفعنهم فيما يتعلَّمن عملًا، مثال ذلك: إذا سأل الولد سُؤالًا، وكانت الأم تجهل الجواب، فلا ترد ابنها خائبًا، ولا تضحكُ عليه بجوابٍ كاذبٍ، بل تبحث عن الموضوع، فتستفيدُ هي أولًا وتُفيد، وإذا كسر الولد لعبة تُعلِّمُهُ أُمُّهُ إصلاحها، وإذا أضاع شيئًا تَحرِمه من مثله إلى أن يقتصد من مصروفه اليومي ثمنه.
كذلك تُعلِّمه البناء لا التخريب، تُعلِّمه المسئولية ونتائج الإهمال، تُعلِّمه الشجاعة والصبر وشظف العيش، تُعلِّمه الاعتماد على النفس، تُعلِّمه الإرادة والثبات والإقدام، تُعلِّمه حب الوطن قبل كلِّ شيءٍ، وتُعلِّمه فوق ذلك حرية القول وحرية العمل.
أجل سادتي، إنَّ هنالك حرية أكبر من حرية المرأة وأعز، وهي الحرية التي تُوجِدُها المرأة في بَنِيها، وإنَّ حب العلم نغرسه في قلوب البنات خيرٌ من العلوم والفنون نكرِّسُها كَرهًا في عقولهن، فإذا رغبت الفتاة بالعلم علَّمت نفسها المفيد لها كزوجةٍ وكأُمٍّ، وانتفعت عملًا بعلمها، وإذا كانت لا تحبُّ العلم، فعشرون سنة في المدارس لا تُعلِّمها شيئًا.
كانت ولم تزل التربية من واجبات المرأة، ولكن التربية الحديثة من حسنات تطورها، وغرس حب العلم في قلوب البنات — خاصةً — من أهم قواعد التربية.
لا أريدُ بالعلم العلوم العالية أو الفنون السَّامية، بل المعرفة العقلية بأمورِ الحياةِ، بل التعوُّد على البحث والاستقراء والتفكير والمراقبة، وكل هذه تُؤدِّي بنا إلى العلم بالأمور والأشياءِ علمًا نستفيدُ به ولا ننساهُ، وشيءٌ تَخْبُرُه بنفسِكَ ويرسَخُ في ذهنك خيرٌ من أشياء تتعلَّمها في الكُتب، فإذا اقتدت المرأة الشرقية بالمرأة الغربية في ذلك فقط، نستغني عن العلوم الفلسفية والرياضية والسياسية كلها.
(٤) الحفلة الرابعة في منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة المحروسة
دعا في مساء اليوم «الجمعة ١٠ فبراير سنة ١٩٢٢» إلياس أفندي زيادة، صاحب جريدة «المحروسة»، جمهورًا من الفُضلاءِ والكُتَّاب والشُّعراءِ إلى حفلة شايٍ أقامها في منزله، بشارع المغربي؛ للاجتماع بحضرة الكاتب الشهير أمين أفندي الريحاني، والاشتراك في تكريمه، فأقبل المدعوون في الموعد المعيَّنِ، وكانوا يُقابَلون بالترحيب، فكانت حفلة شرقية توافرت فيها أسباب السرور والصفاء. وبعدما استقرَّ بهم المقام، وتبادلوا التحيَّات، وتجاذبوا أطراف الحديث، أُديرت عليهم الحلوى والشاي من «بوفيه» فاخر.
ثم وقفت حضرة الكاتبة الشهيرة، الآنسة «مي»، كريمة صاحب الدعوة، فخطبت خُطبةً بليغةً أجادت فيها ما شاءت الإجادة، فوصفت المُحتفَل به في شعره ونثره، وخِدْمته للشرق والأدب الشرقي، وصفًا شمل «وادي الفريكة» الذي خلَّده بشعره ونثره، فأُعجِبَ السَّامعون بحُسن بيانها، وثبات جنانها، ومقدرتها على إبراز المعاني السَّامية في قوالب البلاغة العربية التي تأخذُ بمجامع القلوب، فكانوا يُصفِّقُون لها استحسانًا، ويُكرِّرُون عليها الثناء.
وألقى حضرة الشاعر البليغ أسعد أفندي خليل داغر أبياتًا رقيقةً في مدح الريحاني والآنسة مي، جمعت بين رقة العاطفة ومتانة التركيب. وتوالى الخُطباء؛ وهم حضرات الأفاضل: أحمد حافظ عوض بك، والدكتور منصور فهمي، وداود أفندي بركات، والدكتور فارس نمر، فتكلموا بموضوع الحفلة، وأفاضوا في نهضة الشرق، وتضامُنِ شُعوبه، مُنوِّهين بخدمة الريحاني للشرق؛ بنشر لواء آدابهم في عالم الغرب، وتمنَّوا أن يُكثر الله من أمثاله لخير الجميع، فقوبلت أقوالهم بالاستحسان والتصفيق.
وكان مِسكُ الختامِ كلمةً رقيقةً للمُحتفَلِ به، أشاد فيها بفضل الكاتبة الشهيرة مي على الأدب الشرقي، وشكر الجميع على ما يلقى من الحفاوةِ والترحيب، وبسط الكلام في نهضة الشرق وما يَجدُرُ بأبنائه في دور النهضة الحاضرة، فوقعت أقواله موقع الاستحسان والاعتبار.
وعاد المجتمعون إلى التَّحدُّث فيما كان موضوع خُطب الخُطباء، وأصحاب الدعوة يُبالغون في تكريمهم، ثم خرجوا مُودِّعين ربَّ البيتِ، وحضرة قرينته الفاضلة، وكريمته النابغة، شاكرين ما لقوا من الكرم والإكرام، مُتمنِّين أن تَكثُر مثل هذه الاجتماعات لتوثيق عُرى الأُلفة بين أدباء الشرق، وتنشيط النهضة الشرقية.
(٤-١) خُطبة الآنسة مي
أيها السادة:
من رقيق العادات أنَّ القوم إذا نزل عليهم عزيزٌ جاءوا بأصغرهم سنًّا وشأنًا يُهدي إلى الضَّيفِ الأزهار، ويُلقي بين يديه كلمات الترحيب، كأنهم بذلك يقولون للزائر: إنَّنَا نُقدِّرُ قدومك تقديرًا يعجزُ دُون وصفه الكبيرُ فينا، وإنَّما نُقدِّمُ لك الطفل اعترافًا بهذا العجز، ودلالةً على أنَّ الكبير عندنا والصغير سواءٌ في الشُّعورِ بالاغتباط والامتنان.
وعلى هذه العادة جرى أبواي فقدماني — أنا أصغر أعضاء البيت — لأشكر لكم تشريفنا بحضوركم، ولأُرحِّبَ بكم بالكلمة العربية البسيطة التي لا يزيدها الاستعمال إلا عذوبةً وجمالًا: أهلًا وسهلًا. لقد جئتم أهلًا، وأرجوكم أن تتناسوا طول السُّلَّم؛ ليتسنَّى لي أن أُضيفَ: ووطئتم سهلًا.
ولكن لا بأس بالصعوبة أحيانًا، وأكادُ أقولُ: إنَّ قيمة الأعمال تُقدَّرُ بالتغلُّبِ على المصاعب، ولا بأسِ بشيءٍ من التَّعبِ للاحتفاء بمن هو بالاحتفاء حقيقٌ. ليس غرضي هنا التنويه بأمين أفندي، والإشادة بذكره — وهو أمر ما فتئ يقوم به رجالنا الأفاضل من مصريين وسوريين منذ أن حلَّ مُترجِمُ المعرِّي بوادي النيل — غير أني ما ذكرت الريحاني إلا ذكرت أنَّه كان جليسي يوم كنتُ أتلقَّن اللغة العربية على نفسي، أتلقنها على حبي لهذه اللغة التي أُباهي بأني لم أدرسها على أستاذ. كان جليسي في «الريحانيات»، وقد كانت «الريحانيات» من الكُتب الخمسة أو الستة التي عرَّفتني باتجاه الفكر العربي الحديث في صيغتي الشعر والنثر.
استهلَّ الجزء الأوَّل من «الرَّيحانيات» بمقالٍ وَصَفَ فيه مسقط رأسه «وادي الفريكة»، ذلك الوادي الذي أُحبه، وتغنَّى بمحاسنه، راسمًا منه الصخور والأشجار والمرتفعات والمنحدرات والألوان والأصوات، مُصوِرًا ما أحاط به من الجبال المُتعانقة عِناقًا أبديًّا تحت رعاية الأُفُقِ المُخيم عليها، مُستحضِرًا منه المياه المتدفقة، والرياح العاصفة، والشمس المُشرقة، والكوكب المتلألئ.
يا لجمال روح الريحاني في مقال «وادي الفريكة»! قال «رسكن»: «إنَّ جمال المشاهد الطبيعية كثيرًا ما يقوم بما مرَّ عليها أو وقع فيها من حوادث تاريخية أو فردية.» كذلك تشبَّعَت عندي جميع صفحات الكتاب بحياةٍ من «وادي الفريكة»، وصِرتُ كلَّما قرأتُ فصلًا خِلْتُه مكتوبًا في ذلك الكهف، أو تحت تلك الشجرة، أو عند ذلك الغدير.
وأرى الريحاني سائرًا في معاطف الوادي تحت سيول الأمطار، هائمًا بالطبيعة في انفعالها وغضبها، طَرِبًا لتساقُطِ الأوراقِ، مُتسائلًا عمَّن فتح تلك الطريق الصغيرة بين الأشواك والأدغال، ومُطلقًا عليه اسم «بطل الوادي»، ثم يقفُ مُتفهِّمًا معنى السَّكينة بعد العاصفة، مُتنشقًا بنَسْمةٍ واحدةٍ خليط أنفاس الوادي.
صِرتُ أحسب «وادي الفريكة» هيكلًا يأوي إليه الريحاني ليتأمَّل ويبحث ويفكِّر — والفكر صلاة الفيلسوف، على رأيه — حتى إذا ما كشَّر المجتمعُ عن أنيابه ليُؤلمه ويُنسيه لحظة الجمال والحقيقة والصلاح، حتَّى إذا ما أوجعته الصغائر وأمضَّته الجراح، سأل الوادي تعزيةً، ودَوْزَنَ قيثارته مُناديًا ربَّة ذلك الهيكل الطبيعي قائلًا: داويني ربَّة الوادي داويني، اغسلي جرحي وضمدي كلومي، أعيدي إليَّ ما سلبتني الآلامُ من مجد الحياة الشعرية، وأزيلي عن أجفاني كآبة الأجيال. داويني ربَّة الوادي داويني، ربة الإنشاد أصلحيني.
كان ذلك في أواخر صيف سنة ١٩١١، وكنَّا مصطافين في لبنان، فأفضيتُ إلى أديبٍ هناك بأثر «الريحانيات» في نفسي، وكيف أنَّ ذلك الوادي غدا لي شيئًا حيًّا يتحرَّكُ ويندبُ، ويُهلِّلُ ويُزمجِرُ، ويُهينم ويُحيي ويُودِّع، فقال الأديب: إذن لماذا لا تزورين الوادي وهو على مقربةٍ من هذا المكان، وأمين ريحاني وصل حديثًا من أمريكا، ويقطن منزله المشرف على الوادي وقد دعاه «بالصومعة»؟ وكان ذلك الأديب من أصدقاء شاعرنا، فكتَب إليه.
وكان الجواب أنَّ بعدَ ظُهر الغدِ زارنا أمين الصومعة مع شقيقتيه الفاضلتين وبعض أنسبائه وأصحابه، فرأيتُ بالجسم للمرَّة الأولى ريحاني الوادي هذا الذي تبصرون.
ومضيت إلى «الفريكة» بعد يومين أو ثلاثة مع والدي وبعض الأدباء، فرأينا هناك المكتب الذي يُكتبُ عليه، والنَّافذة المُطِلَّة على البحر البعيد، وقد خيمت فوقه روعة الغروب، ورأينا والدته الجليلة. تعلمون أيَّها السادة أن أمين أفندي واسعٌ حُرٌّ في مسألة الدِّين؛ أي إنه يُوحِّد جميع الأديان في أُخوَّةٍ رفيعةٍ ساميةٍ.
أمَّا والدته فصائمةٌ مُصلِّيةٌ زاهدةٌ مُتعبِّدةٌ، تُكثِرُ من قرع الصدر، وتُكثِرُ التردُّد على الكنائس، ولعلَّها تبتهل إلى الله دوامًا أن يردَّ ولدها الضال إلى حظيرة التوبة.
وزُرتُ جانبًا من الوادي مُتلمِّسةً خطوط الصُّخورِ والأشجار، مُتلمِّسة هينمة النسائم وهدير النهر المهرول إلى حضن البحر. زُرت جانبًا من الوادي وعندئذٍ فهمت عظمة التفوُّق الفردي الذي يُنيل الجماد حياة، ويجعل المكان المجهول محجَّة للزائرين، عندئذٍ فهمتُ عظمة التفوُّق الفردي الذي قد يُثيرُ من الكُره والتطاوُل والعداءِ بقدر ما يُثيرُ من الإعجاب والصداقة والإخلاص، ولكنه يهزُّ الأفراد والجماعات هزًّا، ويُحدِثُ فيهم يقظةً محتومةً، عندئذٍ فهمتُ عظمة التفوق الفردي المتجلِّي وحده فريدًا بأسباب سعادته وشقائه، فوق فروق المراتب وروابط الحسب، فتنحني أمامه جِبَاهُ المكابرين والمسالمين.
ومرَّت عشرةُ أعوام والريحاني يشتغل في الغرب بعيدًا عن بلاده، وكلما نشر كتابًا أو مقالًا ذكر أصدقاءَه في الشرق، فبعث إليهم بنفثاته، وكنت كلَّما قرأتُ منها شيئًا عاودتني تلك الذكرى الأولى التي بسطتها الآن أمامكم.
فيا ريحاني الوادي، إن نحنُ احتفينا بقدومك مُرحِّبين، كُلٌّ مِنَّا بأُسلوبِهِ الخاص، فإنما نحتفي بنفسنا الشرقية، وبما يتحرَّك فيها من وراثةٍ سحيقةٍ، ويُهيِّجُها من ذكريات العِزِّ الماضي، وآمال القَدَم المنشود.
بالأمس قطعتْ فينيقيا البراري، وخاضت البحار مُشيدة على الشواطئ القصيَّة المدائن والعواصم.
بالأمس كانت مِصر مُعلِّمة العالم تُلقي عليه دروس الشريعة والإدارة والهندسة والفلسفة الروحانية الخالدة.
بالأمس فتح سيف الإسلام القارات الثلاث ناشرًا فيها حضارة أوجدها القرآن.
وكان الشرق إلى ذهب يرفع الجبهة ويناجي الشعوب قائلًا: ها أنا ذا، جئتكم بمواهبي أستخدمها بنُبلٍ لمصلحةِ بني جنسي ومصلحة بني الإنسان.
وممَّا نُفاخر به اليوم ويبعثُ الأمل فينا: أن منَّا أفرادًا يقفون في بلاد المشرق والمغرب عالي الجبهة، لا يكذبون وراثتهم الشرقية، ويتغلَّبُون على أنانية الجماهير الحيوية، قائلين ما قالته بالأمس فينيقيا ومصر والعرب: ها أنا ذا، جئتكم بمواهبي أستخدمها بنُبلٍ لمصلحة بني قومي ومصلحة بني الإنسان.
(٤-٢) قصيدة أسعد أفندي خليل داغر
(٤-٣) خُطبة الدكتور منصور أفندي فهمي
أيها السادة:
كنتُ أودُّ أن يُقدَّر لي قراءة ما كتبه الريحاني من ضروب الكتابة الممتعة؛ ليكون لي من ذلك مادَّة صالحة للقول الطيب، على أنني أعترف بتقصيري لأني لم أقرأ ولم أُمَحِّصَ كتابات ذلك الفاضل الذي به نحتفل.
ولكن منذ بضعة أيَّام دعتني السيدة صاحبة مجلة «المرأة المصرية» لحفلةٍ أقامتها للريحاني. لبَّيتُ الدعوة، وكان معي الصديق داود بركات وصديقٌ آخر، ركبنا مَركبة وقصدنا الدار التي إليها دُعينا، وفي أثناء الطريق أخذ يتلو علينا الصديق الأخير قطعة نثرية للأديب المُحتفَل به من كتاب فيه مختار من أقوال عيون الأدباء.
كثيرًا ما عوَّدَتني مهنتي في التدريس أن أجد شخصية القيِّمين من الكُتاب والمفكرين كامنة في آخر كتاباتهم القصيرة. ولقد تبيَّنتُ في القطعة التي سمعتُها أسلوب العظمة الكتابية، وصفاء النفس، والروح الثائرة على النُّظُم العتيقة.
شعرتُ بذلك وقُلت في نفسي: لا غرابة إذا تعدَّدَت حفلات التكريم لرجلٍ ذلك شأنُهُ؛ لأننا في أُمَّةٍ راغبة في الحياة الراقية، مُتطلعةٍ إلى الكمال، فطبيعي إذن أن يحتفلُ صفوتها بفردٍ من أهل ذلك العالم الكمالي، يتَّصِلُ بوحي الأدب، ويَمُتُّ إلى السماء بسبب.
وطبيعي أننا — ونحن من الشرقيين — نُكرِّمُ كاتبًا ظلَّ محتفظًا بشرقيته رغم طويل الزَّمنِ الذي عاش فيه نائيًا عن الشرق، ولكن جعل من آلام الشرق وآمال الشرق إلى قلمه وقلبه رسولًا.
يقولون: إنَّ السيدات أقرب البشر إلى تذوُّقِ ما يُوحى إلى النفوس الراقية من فكرٍ كبيرٍ، وأدبٍ سامٍ. ولقد احتفلت سيدة من نحو خمسة أيَّام بالأديب الريحاني، واليوم أرى واسطة العِقد من الاحتفال تلك الأديبة الكبيرة «مي».
الجنس اللطيف الذي هو أدنى إلى تذوق نتاج العواطف الرفيعة يجد عند الريحاني وفي أدبه تلك العواطف الرفيعة، ليُمتِّع اللهُ — إذن — ذلك الأديب الفاضل بالعافية حتى يُفيضُ علينا من فضلِ ما أفاضَ الله به عليه من أدبٍ راقٍ؛ ليجعل له بيننا مُدَّة مقامه مقامًا محمودًا.
(٤-٤) خُطبة أمين أفندي الريحاني
ما أنا إلا رمزٌ لفكرةٍ جميلةٍ في النهوض هي فكرتكم، وآمالي في الارتقاء الشرقي هي آمالكم، وتشوقي إلى الكمالات الأدبية والاجتماعية هو شوقكم، والرَّمزُ — سادتي — ينبغي أن يُناسِبَ المرموز إليه شكلًا وجمالًا؛ فانظروا إلى هذا الشكل وهذه السِّحنة، ثم حوِّلوا نظركم في هذا البيت العامر إلى كوكبٍ في سماء الآداب نوره يسطع في كلِّ مكانٍ، إلى قوَّةٍ أدبيَّةٍ جمعت بين الحقيقة والجمال، بين المعرفة والخيال، إلى من لا يعرفها في مصر وسوريا وفي المهجر — إلَّا مَن لا يُحسن القراءة — إلى الآنسة مي.
إنَّ لهذه الأديبة مولدين مثلي: فقد وُلدتُ أولًا في النَّاصرة، وقد قال فيها رينان: «بلاد الجليل أجملُ ما في فلسطين.»
ثم وُلِدت روحيًّا في أجمل بلاد الله سماءً وهواءً وأُنسًا، في مصر، على ضفاف النيل، فجاء أدبها جامعًا بين مزايا البلدين المستحبة بين الشموخ والانبساط، بين القوَّةِ والجمال، بين الرَّصانَةِ واللطف، بين المَتانة والرِّقَّةِ، بين الفكر والشعر.
أجل، إنَّ للآنسة مي فيما تكتب عقل الرجال وعاطفة النساء. وهذا لعمري أسمى ما نرغبُ به من الأدب النسائي.
ولا ينبغي أن نذهب مذهب الغربيين في كلِّ شيءٍ، فنُجرِّد حقائق الوجود — مثلًا — مما يكتنفها من أثير الشعر والخيال، ومن أسرار الحياة والجمال. إنَّ بلادنا لتُوحي إلينا مثل هذا الأدب الممتاز — إذا أحسنَّاهُ — المُستمد من الشَّمس نورها وحرارتها، ومن السماء صفاءها وألوانها، ومن الجبال شموخها وتحدرها، ومن الأزهار شكلها وأريجها.
وإنَّ الشعر في الحياة وفي الآداب هو هذا النور الذي يشعُّ من الشَّمس، وتلك الألوان التي تتماوجُ في الشَّفق والغروب، وذاك الأريجُ الذي يفوحُ من الورد، وكذلك في حقائق الوجود والحياة، فإذا جُرِّدت من الشِّعر تُصبح كالأزهار التي لا شذا لها، وكالثمار التي لا نكهة فيها، وكالعصافير التي لا تُحسِنُ التغريد.
(٥) الحفلة الخامسة في دار الجامعة الأمريكية
كانت حفلة الثلاثاء «١٤ فبراير سنة ١٩٢٢» في دار الجامعة الأمريكية من أكبر الحفلات الأدبية التي شهدتها عاصمة الديار المصرية، تبارَى فيها فرسان البلاغة في تكريم الشَّاعر الناثر أمين أفندي ريحاني، بل كانت من أعظم الأدلَّة على أنَّ جامعة اللغة أشد الجوامع ربطًا للنفوس؛ لأنَّ اللغة مُستودع تاريخ النَّاطقين بها — الأخلاقي والأدبي والعلمي والسياسي — وبألفاظها تهتزُّ دقائِقُ الدِّماغ وأوتار القلوب.
وقد تجلَّى ذلك بأجلى بيان في هذه الحفلة، فخِلْنا أنفسنا في سوق عكاظ، وقد أُضيفت إليه نار الحماسة التي أوقدها تضارُب المصالح بين الشَّرق والغرب، ومطالب المدنية الحديثة التي نشأت أُصولها في هذا القُطر، ثم انتقلت إلى الغرب انتقال الشَّمس. وكان ذلك البهو الواسع يدوِّي بتصفيقِ الحضور المتوالي كلَّما ذكر الشعراء والخُطباء معنًى مُبتكرًا، أو أشاروا إلى النهضة الوطنية الحديثة ولو إشارة طفيفة.
وقد لبَّى الدعوة — التي وُزِّعت بإمضاء حضرة الأستاذ لطفي جمعة — إلى هذه الحفلة جمهورٌ كبيرٌ من العلماء والفُضلاء، وكبار الموظفين والأعيان، والمحامين والأطباء والمهندسين والأدباء وغيرهم، وبعض السيدات المصريات والسوريات، حتى ازدحم بهم ذلك البهو على سَعَتِه. وجلس في صدر المكان على منصَّة الخطابة حضرة المُحتفَل به، وإلى يمينه ويساره حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة والعِزَّة: السيد عبد الحميد البكري، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، وحمد باشا الباسل، وواصف بك غالي، والأمير ميشيل بك لطف الله، والدكتور صروف.
وافتتح الحفلة حضرة الأستاذ لطفي أفندي جمعة بخُطبةٍ بليغةٍ استرعى بها سماع المحتفلين، وخلب ألبابهم بما نثر عليهم من المعاني الحِسَان، ودلائل الغيرة الوطنية الجامعة لقلوبِ النَّاطقين بالضَّاد، مُرحِّبًا بالضيف الكريم ترحيب مَن طالع كُتبه واستشعر روحه، وقال: إننا نحتفل به لفضله وعلمه وجهاده المجيد في إعلان فضل الشرق في الغرب.
ثمَّ ذكر أسماء الذين كُرِّموا في مصر من أفاضلها وشعرائها، وقال: ليست هذه بالمرَّة الأولى التي يُكرِّم المصريون فيها النابغين. ووصف المُحتفَل به بما هو أهله، وقال: إنني قصدته وتَعرَّفتُ به عند زيارته لهذا القُطرِ منذُ عشرين عامًا، وكان أجرد أمرد لم يَنبت الشعر في عارضيه بعدُ، بعينين حادتين، وأنفٍ أقنى، وكيانٍ صغيرٍ، وهو يتَّقدُ ذكاءً وفِطنةً، فخُيِّل لي وقتئذٍ أنه فرخ النسر، وأنه يتحفَّزُ للطيران. وقد كان من أمره بعد ذلك ما كان، فطارَ وحلَّق وحلَّق وحلَّق.
ثم أفاض في ذكر مُؤلَّفاته وخدماته الجليلة في الشرق بقلمه، ووَصَفَ نثرَه ونظمَه وصفًا استرعى الأسماع، وتكلَّم عن مُؤلَّفه الذي نشر فيه فضل المعرِّي في الغرب، ونقل إلى لغة أهله بأفصح بيانٍ حِكْمته وفلسفته، وكيف وَثَبَ وثبةَ الأسدِ للدِّفاعِ عنه، وتسفيه آراء حُسَّادِهِ ومُنتقديه، إلى ذلك من دُرر الألفاظ والمعاني؛ فوقعت أقواله وقْعًا عظيمًا في النفوس، وصفَّقَ له الحاضرون مرارًا وتكرارًا.
ثم تلا على الحاضرين تلغرافًا من صاحب السعادة شوقي بك، يعتذرُ فيه عن الحضور باعتلال صحَّته، ويَعِدُ بإرسال تحيَّة إلى المُحتفَل به.
وتلغرافًا آخر بالاعتذار من حضرة صاحب العِزَّةِ عرفان باشا.
ثم قامت حضرة الفاضلة السيدة لبيبة أحمد، رئيسة جمعية «نهضة السيدات»، فرحَّبت بالمُحتفَل به، وقدَّمت إليه مجموعة من مجلة السيدات، فتقبَّلها شاكرًا، وتلاها الشَّاعر الكبير عبد الحليم أفندي المصري، فأنشد قصيدة عصماء عامرة الأبيات، فاستعاده الحاضرون أكثر أبياتها بين تصفيقِ المُصفِّقينَ وهتاف المستحسنين.
ثم وقف حضرة الفاضل محمد أفندي عبد الرَّازق وتلا قصيدة لحضرة الشاعر فريد أفندي حَدَّاد بالإسكندرية.
وتلا حضرة الفاضل محمود أفندي عماد قصيدة عامرة صفَّقُوا لها.
وتلا حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عبد المطلب حكمة لحضرة صاحب العِزَّة واصف بك غالي، العضو بالوفد المصري، فقُوبلت بأشدِّ الهتاف والتصفيق المتوالي.
وتلا حضرة الشاعر الفاضل محمد أفندي عبد الرازق قصيدة استُعيدت أبياتها مرارًا.
وتلا حضرة الفاضل أبادير أفندي بقطر كلمة نفيسة كان لها أحسنُ وقْعٍ في نفوس الحاضرين.
ثم نُودي على حضرة الدكتور منصور أفندي فهمي لإلقاء كلمة، فحضر وتلا حكمة عن معاوية واعتذر.
ثم وقف حضرة الأستاذ الكبير الشيخ علي الزَّنكلوني وتكلَّم كلمة بليغة صفَّق لها الحاضرون مرارًا.
ثم تلاه حضرة صاحب العِزَّةِ نعوم بك شقير، فتلا قصيدة بليغة نالت الاستحسان واستُعيدت أبياتها مرارًا.
ثم وقف حضرة المُحتفَل به وشكر الحاضرين على احتفائهم به، ثم تكلَّم عن زيارته الأولى لمِصر ومُقابلته فيها للمرحوم قاسم بك أمين لمَّا كان مُنفردًا بالدعوة إلى تحرير المرأة، وفقيد الوطن المرحوم مصطفى كامل باشا، الذي كان وحيدًا في الدعوة إلى استقلال بلاده.
قال: أمَّا الآن عند زيارتي مصر للمرَّة الثانية، فقد ألفيتُ الأُمَّة المصرية بأسرها من رجال ونساء تُطالب باستقلالها، وعلى رأسها أبو الشعب الذي له في كلِّ قلبٍ منبر؛ ألا وهو صاحب المعالي زغلول باشا.
وهنا اهتزَّ المكانُ بالتصفيق والهتاف المتواصلين، ولمَّا ساد السكون شرع في تلاوة قصيدة منثورة على الحاضرين عن «الشرق»، فقابلها السامعون بالإصغاء التَّام، ولمَّا فرغ من تلاوتها دوى المكان بالتصفيق والهتاف للمُحتفَلِ به ولمعالي سعد باشا.
ثم أُعلِن انتهاء هذه الحفلة الشائقة — وكانت الساعة السادسة والربع — فخرج الحاضرون — وكانوا مئات — وهم يتحدَّثون بمحاسن حفلتهم وما سمعوا فيها من غُرَرِ اللفظ، ودُرَرِ المعنى، متمنِّين أن تَكثُر هذه الحفلات المفيدة.
ولا مِراء أنَّ هذه الحفلات المُتوالية جاءت مُؤيِّدة لما هو مشهورٌ في الشَّرق والغرب عن الكرم المصري، ولِما بات معلومًا؛ وهو أنَّ جامعة اللغة أقوى الجامعات كلها.
(٥-١) قصيدة عبد الحليم أفندي المصري
•••
•••
(٥-٢) قصيدة فريد أفندي حَدَّاد
(٥-٣) قصيدة أحمد أفندي محرم
•••
•••
•••
(٥-٤) قصيدة محمد أفندي عبد الرازق
•••
•••
(٥-٥) قصيدة محمود أفندي عماد
•••
(٥-٦) قصيدة فيليب أفندي مخلوف اللبناني
(٥-٧) قصيدة محمد توفيق أفندي خاكي
(٥-٨) خُطبة الدكتور منصور أفندي فهمي
ولما نُودي على الدكتور منصور أفندي فهمي، أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، ودُعِي إلى الخطابة، وقف وقال: «إنِّي على غير استعدادٍ، وقد سُئِلَ مُعاويةُ — رضي الله عنه — ذاتَ يومٍ: أيُّ شيءٍ تُحبه وتهواه؟
فقال: مُحادثة الرِّجال.
وقد عثرت على رَجُلٍ يُحدِّثُكُم.» وأشار إلى الأستاذ الريحاني وجلس.
(٥-٩) خُطبة الأستاذ الجليل الشيخ علي الزَّنكلوني من علماء الأزهر الشريف
أيُّها السَّادة:
إنِّي ما حضرتُ في هذه الحفلة المباركة لأكون خطيبًا، ولا نُبِّهتُ في بطاقةِ الدَّعوة لهذا الغرض، وإنَّما حضرتُ لأشتركَ في حفلة تكريم الأستاذ الريحاني مع المُكرِّمين.
إنَّ الأستاذ الريحاني لم تكُن لي به صِلَةٌ قبل هذه الحفلة، ولا سابقة عهد، ولم أقف على تاريخه المجيد إلا من خُطبَةِ الأُستاذ المُحتفِل لطفي جمعة. وهذا وإن عُدَّ تقصيرًا بالنسبة إليَّ، فلا يُعدُّ نقصًا في جانب المُحتفَلِ به؛ لأنَّ له آثارًا جليلة، وأيادٍ فاضلةٍ على الشَّرقِ، ولا ضير عليه إذا عاق ضعف الهمم بعض أبناء الشَّرق عن التطلُّعِ لهذه الآثار. على أنِّي رجلٌ دينيٌّ يجب عليَّ أن أستكمل دائرتي الدينية، فإذا قصَّرتُ فيها، فإنما أُقصِّرُ في واجبٍ ضروريٍّ، وفي حياةٍ جوهريَّةٍ، فإذا ضعفت بي الهمَّةُ عن استطلاع آثار الأستاذ الريحاني في خدمته للشرق والشرقيين؛ فإنَّ القصور لا يتخطَّى دائرة الكمال.
إنَّ مُجمَل ما يقولُهُ الخُطباءُ عن الأستاذ الريحاني أنَّه بيَّن للغرب محاسن الشرق، وهذا المُجمَل وإن كان صغيرًا في نظر كثيرٍ من النَّاس، إلا أنَّهُ — في نظري — كبيرٌ جدًّا، وأنَّه من الأعمال الجليلة التي يستحقُّ عليها صاحبها أعظم مظاهر الاحترام والتبجيل.
إنَّ الغرب قد استهان بالشرق كثيرًا، وبينه وبين الشرق عداء ولَّدَهُ الطَّمعُ والتَّوسُّع في الاستعمار. وإن العدو القوي إذا لم يُدرك من عدوه الضعيف فضيلةً من الفضائل لا يستحي أمامه، ويتشجَّعُ في إِذلَاله وضعفه. أمَّا إذا تبيَّن منه مواضع الفضيلة — وإن لم تظهر آثارها — وأدرك أنَّ فيه قوة كامنة قد يُظهرها الاحتكاك استحى عند مواجهته، وبرزت منه الحركة العدائية ضعيفة بالنسبة إليها إذا كان مُعتقدًا فِقدانه لكلِّ فضيلةٍ. وهُنَا يُعامله مرَّة بحركة القمع المشلولة، ومرَّة بالمُخاتلة والدَّهاء. وتلك حالةٌ كثيرًا ما تُولِّدُ القُوَّةَ في نفس الضعيف؛ فتبعثه على بلوغ أغراضه، وتحقيق آماله.
على هذا النحو كان يسير الأستاذ الريحاني، فيجب علينا ألَّا نستهين بهذا العمل الجليل الَّذي يُعرِّفُ شعوب الغرب فضائل الشرقيين. إنَّا لا نتخاطَبُ مع الحُكُومات؛ فالحكومات لا تُبصرُ ولا تَسمعُ ولا تَعقِلُ، وإنَّها لمن عالمٍ وراء العالم الإنساني، وإنَّما نتخاطبُ مع الشُّعوبِ. وإنَّ مثل عمل الأستاذ الريحاني ممَّا يَصرِفُ الشُّعوب عن تقليدِ الحُكُومات إلى النَّظرِ في الواقع، والتفكير في الحقائق.
إنَّ الشرقيين كثيرون، وقَلَّ من الشرقيين في هذا الزَّمن من طهَّره الله من أمراض الاجتماع، فبرز مُجاهدًا في سبيل الله، وفي سبيل الوطن، لَم تُلوِّثْه الطبيعة بأقذار الوظائف والمنافع الشخصية، والمظاهر الكاذبة. وإنَّ أحسن شيءٍ أُكرِمَ به الريحاني أنه عضو حيٌّ في الشرق بريءٌ من الأمراض؛ فإنَّه يُدافع بنوعٍ من الدِّفاعِ عن الشَّرقِ والشَّرقيين، وفي ذلك سعادة لمِصر؛ لأنَّ سوريا شقيقة مصر، ولها عليها حقُّ الجوار وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ.
إنَّ كلَّ إنسانٍ يعملُ في إبادة سبيل المذهب الاستعماري من الوجود، وإماتة حكم الفرد، والنهوض بالضُّعفاءِ إلى المُستوى اللائق بهم، فإنَّما يعمل على طريق النبيين والمرسلين؛ لأن أنبياء الله جميعًا ما بُعثوا إلا لتحقيق السعادة العامة، وطمأنينة العالم، إلا أنَّ السَّعادة التي جاءوا بها هي السَّعادة الصحيحة التي لا تُعلم إلا من قِبل الله تعالى؛ لأنه وحده هو الذي يعلم القدر المشترك الذي يتحقَّقُ به رضا الجميع، فهو وحده الخالق للنفوس والأرواح، والعالِم بما يُسعدها ويُشقيها، ومُحالٌ أن يضع العقل البشري للعالم سعادة صحيحة.
وإنَّ الفتح والاستعمار هُمَا منار شقوة العالم في الأرض، وما دام المستعمرون فيها أقوياء فالإنسانية شقيَّة مُعذَّبة، وإنَّ الله ما بعث رُسُله للعالَمِ ولا أَنزَلَ كُتبه إلا لمُحاربة الاستبداد والمستعمرين، فكلُّ مَن يسير في طريق الأنبياء فهو عظيمٌ، ويكفي أنَّ الأستاذ الريحاني بعمله هذا صار من عظماء الرجال، والسلام.
(٥-١٠) خُطبة أمين أفندي الريحاني
١
أنا الشَّرقُ!
أنا حجرُ الزَّاويةِ لأوَّلِ هيكلٍ من هياكل الله، ولأوَّل عرشٍ من عروش الإنسان؛ لذلك تراني محنيَّ الظهر، ولكنِّي قويمُ الرَّأي، ثابت الجنان.
أنا جسر الشمس!
من أعماقِ ظُلُماتِ الأكوانِ إلى الأفلاكِ الدَّائمة الأنوار تصعدُ كلَّ يومٍ على كتفي، وتُكافئني مكافأةً جميلةً.
أجل، إنَّ في جيوبي، وفي يدي، وفي نفسي من ذهب الفجر ما لا نظير له في معادن الأرض كلها.
تزودني الشَّمسُ للترحال، وتزود منِّي البصر أيضًا والجنان، وأنا على ثباتي في رحلةٍ دائمةٍ كالكواكب لا تُبصر حركاتها.
إنَّ أوَّل القافلة، قافلة نفسي، ليتَّصِل بالجوزاء.
وإنَّ آخرها، لستُ أدري اليوم أين آخرها!
قد يكون واقفًا مُستكشفًا في أبواب ليفربول، أو نائمًا تحت عرائش الياسمين في سمرقند، أو جادًا على ضفاف النيل، أو ضائعًا في الجادة البيضاء في نيويورك.
ولكنني قنوعٌ رضيٌّ، مطمئِنٌّ؛ لأنِّي وإن كنتُ لا أرى ساقة القافلة فإنِّي مبصر قادتها.
وإنِّي لأسمعُ طنطنة الأجراس عند المساء، وصوتُ الرَّسولِ يجيئُنِي كلَّ صباحٍ مُسلِّمًا وفي يده ثوبٌ جديدٌ ألبسه ليومي.
نسجُ مَن لا ينسج إلا لصاحبِ الجلال رب الليل والنهار.
٢
أنا الشرق!
وقد جئتك يا فتى الغرب رفيقًا.
فكُن صبورًا إذا كنت لا تُحسن السكون.
إنِّي مُثقَل أحمالًا لا تراها العين التي ترى الأقطان، وتشتهي الثروة والجاه، ولو رأت عيناك بعض ما أنا حاملٌ لخَررتَ ساجدًا، ولرُحتَ شاهدًا.
وفي جيوبي أيضًا وفي يدي أشياء من حقول النفس ومن جبالها، وأشياء من أغوار الحياة.
أشياء تُرضي الله، وتُرضي الإنسان، وأشياء لا تُرضي لا الإنسان ولا الله، منها ما أودُّ نبذه لو استطعتُ ذلك دون أن أضرَّ بجاري صاحب الجنود والمدرَّعاتِ، ومنها ما أودُّ إخفاءه لو أنِّي لا أستحي من نفسي الباصرة.
ومنها ما أودُّ إصلاحه، لو كان لصنَّاع هذا الزمان ضميرٌ يشفع باليد الرجفة، والبصر الكليل.
وهناك أشياء — يا فتى الغرب — لك فيها الحبور والسعادة، عندي ما يُسكِنُ نفسك المُضطربة ويُنعشها، عندي ما يُشفي ما في قلبك من أمراض التمدين، عندي ما يبعث فيك عدلًا يتجاوز استياءك، وحُرمةً لما يقدِّسُه سواك.
عندي ما يُقيِّدُكَ، رِجلًا ويدًا؛ لتهدأ وتستريح، فترى الكون إذ ذاك والعقل منك مُطلق، والقلب مطمئنٌ، وتتأمَّل كذلك أسرار الوجود.
٣
أنا الشرق!
لي عروسٌ في الليل القديم البهيم لا تُفارقني أبدًا، ولي أيضًا في كلِّ يومٍ بِكرٌ من الحِسَان، تجيئني ممتطيةً جواد الفجر؛ لتخبر البصر منِّي والجنان.
أراها، فتهتزُّ جوارحي طربًا، وأرى صباي أمامي يهتف للفجر؛ لجلال الفجر الذي يجري في النَّفسِ مثل سلسبيلٍ فضيٍّ في الجبال، فتبدو خلاله الأعشاب الخضراء وهي تُعانق الحجارة والصخور، فتبعثُ فيها روحًا يستحيلُ التجويد عندها نشيد حبٍّ وتشويقٍ، بل نشيد وطن يستفيق.
٤
أنا الشرق!
أنا شَبَحٌ يا فتى الغرب الباسل.
شبحٌ في موكب الزَّمان، في موكب الحياة الدنيا، ولكن للشبح صوتًا، بل أصواتًا تَسمَع شيئًا منها اليوم، وستسمعها مليًّا غدًا.
أصواتٌ مُتضارِبةٌ، مُتنافِرةٌ، إلَّا أنها من قلبٍ واحدٍ، لها صدًى في هياكلي كلها، ولها صدًى في كليَّات بلادك.
صوتٌ يضجُّ في الخلوات، ويتراجَعُ في الأماكِن المُقدَّسة، وصوتٌ يحدو في الصَّحراءِ، ويملأُ جبال تقواي سُكونًا طيبًا.
وصوتٌ يهمس في أذن أدواتك رغبةً جديدةً مُستطلعًا قصدها ومغزاها.
وصوتٌ يتماوجُ سلامًا على وجه المياه في الأنهُرِ المُقدَّسة.
وصوت يحنُّ شوقًا في ظلال الحرمين، كما أنَّه يئنُّ ويطنُّ في المنابر الجديدة منابر الوطن.
صوتٌ يُنشد «نرفانا» لآلهةٍ من ذهبٍ ذي عيونٍ من زمرُّدٍ جاحظٍ، ويتغنَّى ﺑ «كرما» وبالقضاءِ والقَدَرِ في أكواخ البُؤس والإثم والشَّقاءِ.
وصوتٌ يهتِفُ استحسانًا في ملاهي بلادك، يا فتى الغرب، وفي مراقصه.
كما أنَّه يُحدِّث في قهواتك، حول كأسٍ من الخمرِ، بأحدثِ رأيٍ علميٍّ في الجاذبِيَّةِ، وبأحدث رأيٍ سياسيٍّ في عُصبةِ الأُمَمِ.
٥
أنا الشرق!
أحتمي من العالم بنفسي.
أستعيذ من العالم بالله!
«أم، أم!» – الله! الله!
ساعة، ثم سكرة، ثم آية.
يرقصون في ظلال البنيان والنخيل، ويحرقون البخور في هيكل أحلامي.
ويهمسون، ويُنشدون، ويصيحون، طالبين الإطلاق.
الإطلاق؛ إطلاق النفس والعقل والروح والجسد.
يهمسون: «وآهم، وآهم، واه!» ويرقصون.
يصيحون: «لبيك اللهم لبيك!» ويسجدون، ثمَّ في ساحات المدينة يخطبون، وبالأبواق ينفرون، وعلى الثورة يُحرِّضون.
«لبيك اللهم لبيك!»
«واذكروا الرجيم الأجنبي وإن كان حاملًا إنجيل!»
«ولا تخافوه وإن كان حاملًا مدفعًا رشاشًا!»
«ولا تعاملوه وإن كانت بضاعته هِبة!»
«واه، واه، واه!»
«لبيك اللهم لبيك!»
ساعة من الابتهاج الرُّوحي حول سرير الوطن، يتلوها استسلامٌ طويلٌ تحت عرش الله ساعة، ثم سكرة، ثم أُعجوبة.
أبحث عن ذي العين السوداء، وذي العين الحمراء، وذي العين الزرقاء، فلا أجدهم، بل أسمع ما يُشبهُ أصواتهم في سراب اﻟ «كرما»، وفي فيافي القضاءِ والقَدَر.
أنغامًا شجيَّةً رُوحيَّةً تُذيب الشهوات أشواقًا، وتَحُوكُ للنَّفسِ أحجبة من خيوط الشمس، وتفرِشُ لها طريق الفرقدين أزاهر سرمدية، ولكنِّي — وا أسفاه! — أستغرب هذه الأنغام اليوم ولا أستحبُّها، وبالأخصِّ عندما أُطالِعُ — يا فتى الغرب — صحافة بلادك الفضاحة، التي تُنبئُنِي بما لطياراتك من الصولة والاقتدار، وكيف يمكنها أن تنسف أساطيلك البحرية وتبيدها.
٦
أنا الشرق!
عندي فلسفات، وعندي أديان.
فمن يبيعني بها طيارات؟
أتحسبها سفاهةً منِّي أو تظنُّها تجديفًا؟
قد يكون ذلك، قد يكون.
أنا نفسي أجهل اليوم صوت نفسي، صوت المجالس، وصوت المنابر، وصوت الصحافة.
أجل، إنَّ لي أيضًا صحافة فضاحة، يا فتى الغرب، ولي منابر قد لا ترضى بها آلهة أجدادي.
ولكنها منابر جديدة، حريتها فتاة لا تعرف التمويه، فلا تُسمعك بما يَسُرُّ إن لم تجئها بما تُريدُ.
وهناك سِرٌّ أهمسه في أُذنك يا فتى الغرب: ليست الأديان والفلسفات ما تظنها، وليست ما تظن أنِّي أظنها.
فلا للحراثة هي، ولا للتجارة، ولا للسياسة، ولا للتقشف.
إنما الأديان والفلسفات كمَصَافٍ في الماء.
هي مصافي الحياة تُصفيها في الأقل من بعض الحشرات والجراثيم.
٧
أنا الشرق!
عندي تذوب الألوان كلها وتمتزج؛ فتتماوج نورًا بعضها في بعضٍ تحت ريشة الزمان.
ألوان الغروب، وألوان الفجر، وألوان الليل السَّرية، لها كلها أفقٌ واحدٌ عندي، وبسماءٍ واحدةٍ.
من الأخضر الناضر لذي النبوة التي تزرع الثريا بذورها، إلى الأصفر الفاقع لذي السر الذي يخلع العذر والعذار، إلى الأحمر القاني الذي إرادته لا تُذعن لبشرٍ أو جِنٍّ، إلى الأزهر الباهر لخيالٍ يسحر الساحرين بيانًا!
هذا سلَّمٌ من النفسيات لا تجده عند سواي.
وهناك الأُرجوان لسفاهةٍ تجلسُ على العرش، والزعفران لمجدٍ هوت عروشه، والجُلَّنار يتماوَجُ ظلالًا حول عرش الأهواء والشهوات.
والرَّمادُ المنتثرُ لما كان في سماءِ الفكر كوكبًا نيِّرًا، والأسود القائم لدمقراطيَّةٍ شابَّةٍ تحملُ عصا التأديب، والأبيض النَّاصع لمصريَّةٍ تحملُ غُصنًا من النَّخِيلِ.
كلها تمتزجُ في آفاق نفسي، وتذوبُ في سماء آمالي، وتستحيلُ خَمْرًا في كأسي.
أجل! إنَّ خَمْرَ الأجيال الغابرة، وخَمْر الأجيال الحاضرة، التي لم يُحسن تصفيتها الزَّمانُ لتملأُ الكأس التي أشربها كل يوم؛ فتُعيد إليَّ روح النبوة القديم المجيد، وتُثير فيَّ ألم الذكرى، وتُجدِّد فيَّ حبَّ الجهاد.
(٦) الحفلة السادسة في سراي آل لطف الله الكرام في قصر الجزيرة
لبَّى دعوة حضرة الأمير ميشيل بك لُطف الله، في الساعةِ الرَّابعة من مساء اليوم «١٣ فبراير سنة ١٩٢٢»، لتناوُلِ الشَّاي في قصر الجزيرة، نحو مائتي أديبٍ ووجيهٍ من المصريين والسوريين، وفي مُقدِّمتهم حضرات أصحاب السعادة والفضيلة والعِزَّةِ: محمد باشا شكري، وكيل الحقانية السابق، وأمير الشعراء أحمد بك شوقي، والسيد مصطفى الإدريسي، والشيخ محمد شاكر، ومحمود باشا عزمي، وأحمد باشا زكي، وصادق باشا يحيى، وسعيد باشا شقير، وحلمي بك عيسى، وإدوار باشا إلياس، ويوسف باشا مسرة، والشيخ الكاظمي، والسيد رشيد رضا، والدكتور محجوب بك ثابت، وطعان بك العماد، وحبيب بك دبانة، وميشيل بك أيوب، وبعض أصحاب الصحف العربية والإفرنجية وكُتَّابها، وكثيرون آخرون من رجال العلم والأدب، وأُولِي الوجاهة والفضل. وكان الأمير ميشيل بك وشقيقاه الأميران حبيب بك وجورج بك يُرحِّبون بالمدعوين، ويُبالِغُون في إكرامهم ومُؤانستهم.
ولمَّا تكامل عِقد المدعوين أخذ مُصوِّرُ اللطائفِ المُصوَّرةِ صُورتهم الشَّمسية، ثم دُعوا إلى القاعةِ الكُبرى حيثُ مُدَّتْ موائد الشَّاي، وقد حوت كلَّ ما لذَّ وطابَ من أنواع الحلوى والفاكهة والخُشافِ، فأَمُّوها أفواجًا.
وبعد ذلك وقف حضرة ميشيل بك لطف الله، صاحب الدعوة، ورحَّب بالمدعوين جميعًا؛ لتلبيتهم دعوته، وتشريفهم منزله، وذكر فضل المهاجرين من الشرقيين الذين يقصدون المهاجر، ويستعملون مواهبهم في طلب الكسب والعُلى، ولكنَّهم لا ينسون وطنهم، بل يعملون على خدمته في غُربتهم، ويقفون على ذلك أقلامهم ومجهوداتهم، وينشرُون فضل الشَّرق في الغرب، ويُحيون لغتهم فيه، ويُطلِعُونه على ما في لغتنا الشريفَة من علمٍ وفلسفةٍ وأدبٍ. ومن هؤلاء المهاجرين المجاهدين اثنان يحضران هذه الحفلة معنا الآن، فأُعرِّفكم بهما؛ وهما: طعان بك العماد وأمين أفندي الريحاني، نزيلا أميركا، ثم ذكَر ما لهما من الفضل والجهد في خدمة الوطن، وما بين مصر وسورية من الإخاء، وكرَّرَ الشُّكر للحاضرين.
فوقف حضرة طعان بك العماد وشكر آل لطف الله على كرمهم ولطفهم، وخدماتهم الجليلة لوطنهم، وذكَر مصر بالثناء والشكر، وتلاه حضرة أسعد أفندي داغر، فأنشد أبياتًا كان لها وقْعٌ حَسَنٌ في النُّفوس، وخطب حضرة أمين أفندي الريحاني، فذكر أنَّ الغرب والشرق لا يختلفان في الحقيقةِ والجوهر؛ فالآثار الشرقية والغربية تتشابهان، وكذلك فلسفة الفلاسفة في البلادين وحكمة الشعراء، وكل أثرٍ للعلم فيهما، وتمنَّى أن يأتي يوم يتصافَحُ فيه الشرق والغرب، وتربط الجميع رابطةَ الإخاءِ والحبِّ.
وتلاه حضرة توفيق أفندي دياب، فشكر بلسان المصريين الخُطباء على ما أبدوه في خُطبهم من عواطف الحبِّ والإخاء لمِصر والمصريين.
ثم تكلَّم بعد ذلك حضرات: فرح أفندي جرجس، والدكتور محجوب ثابت، ونسيم أفندي صيبعة، فأفاضوا في وجوب الاتحاد والتضافر بين الشرقيين عامةً، ولا سيما بين الشقيقتين مصر وسورية، وذكروا أنَّ كلَّ ما تطلبه الأمم الشرقية هو أن تنال مقامها اللائق بها بين الأمم، وتنالُ حقَّها الشَّرعي من الحُرِّيَّةِ والاستقلال، ثمَّ ارتجل حضرة الشَّاعر المشهور الشيخ الكاظمي قصيدة حماسية بليغة، وتلاه سعادة أحمد باشا زكي، فشكر لآل لطف الله كرمهم وفضلهم، وقال: إن هذا القصر بعدما كان دارًا للملوك تحوَّل إلى فُندُقٍ يقصدُهُ السيَّاح، وقد عاد الآن — بفضل آل لطف الله الكرام — دارًا للفضل، ومُجتمعًا لملوك الأدب القابضين على ناصية الكلام والأقلام.
وكان الحاضرون يُكرِّرُون التصفيق للخُطباءِ والشُّعراءِ إظهارًا لاستحسانهم، ثمَّ ودَّعوا وانصرفوا وكلهم ألسنة تتحدث بما لقوه من لطف حضرة صاحب الدعوة وأخويه، وكرمهم وإكرامهم، وما رأوه وسمعوه من جمال الحفلة وبلاغة الخُطَبَاءِ.
(٦-١) خُطبةُ الأميرِ مِيشيل بك لُطف الله
ساداتي:
أُرحِّبُ بحضراتكم كثيرًا، وأشكرُ لكم تلبية دعوتي وتشريف منزلي. ولمَّا كنتم من خيرة فُضلاء الشرق، وتُقدِّرون النشاط الشرقي، أغتنم فرصة تشريفكم لأذكر بالخير والثناء إخواننا في المهاجر، الذين ركبوا البحار، واقتحموا الأخطار في الأسفار؛ يريدون متسعًا من الحياة، وسبيلًا للمعاش، فلم ينسوا وطنهم، ولا أهملوا لغتهم، بل أشادُوا بذكرها، وأحيوا آدابها، فأنشئوا في تلك البلدان الأجنبية جرائد راقية، ومجتمعات سامية، وما برحوا يحنون إلى الشَّرق، ويتغنون بمحاسنه. وبهذه المناسبة أؤدِّي التحيَّةَ إليهم في شخص رجُلَين وُجِدا الآن معنا في هذه الحفلة، أريدُ بهما: طعان بك العماد، من إخواننا في الأرجنتين، فإنه ترك عائلته وأعماله الناجحة ولبَّى داعي القومية، فحضر إلى جنيف واشترك مع إخوانه في المُؤتمر السوري الفلسطيني مُمثِّلًا قومه أحسَنَ تمثيلٍ، ولا يزالُ دائبًا على الدِّفاعِ عن استقلال وطنه، وعن القومية الشرقية.
والكاتب الشهير أمين أفندي الريحاني، الذي رفع في أميركا وإنكلترا راية الإخلاص للأدب العربي والقومية الشرقية، فنقل إلى لغة الإنكليز ما حَسُنَ من أدب العرب، ونال مكانة عُليا في تقديرهم، ثمَّ كانت زيارته لمِصر المثل الأعلى للتَّضَامُنِ الشَّرقي، بما أظهره فُضَلَاءُ المصريين من العطف عليه، والاحتفاء به، والتقدير لأدبه، فأظهروا بالدَّليلِ السَّاطع فضيلة التضامن والاتحاد بين الشرقيين من أبناء اللغة؛ ممَّا دلَّ على نهوض الشرق من سُباته. والشرقُ يُريدُ العمل على خير العالم بأسره، لا أن يُقاوِم الغرب، بل يريدُ أن يكون صديقًا، وأن يسير مع الغرب يدًا بيدٍ.
(٦-٢) قصيدة أسعد أفندي خليل داغر
•••
(٦-٣) قصيدة الأستاذ الكاظمي
(٦-٤) خُطبة أمين أفندي الريحاني
يقالُ في الشَّرق والغرب: الشرق شرقٌ، والغربُ غربٌ، ولا يجتمعُ الاثنانِ. وهي كلمةٌ لا تصِحُّ إلا في مظاهر الاجتماع السطحية التي تزولُ عند احتكاكها من جهةٍ بالحقائق الأولية الدَّائمة، ومن جهةٍ أُخرى بالحقائق السَّامية الفنية، فإذا ما تجاوزنا السَّطحيات إلى ما تحتها ممَّا يربط الأمم بعضها ببعضٍ؛ كالشعور الأدبي، والعواطف البشرية الشريفة، أو إلى ما فوقها من آثار العقل والخيال؛ كالفنون الجميلة والصناعات، لوجدنا في الشرق من الغرب، وفي الغرب من الشرق أشياء كثيرة نفيسة، حيوية، كأنها من بيتها أصلًا، وفيه.
ومن البراهين على ذلك برهانٌ واحدٌ قائمٌ حولنا الآن، بل نحن فيه واقفون، برهانٌ هو الفنُّ بعينه، بل هو مُنتهى الإبداع في الفنِّ. إنَّ هذا القصر الجميل، يا سادتي، بل في هذه القاعة الفخمة ليَجتمِعُ الشَّرقُ والغربُ اجتماعًا فنيًّا جميلًا لا تَناكُرَ فيه ولا تنافُر؛ فهذه صناعةُ الشَّرقِ وقد تناهت دقَّةً وجمالًا تُظلِّلُ صناعة الغرب وفنونه، وقد سمت شكلًا وصُنعًا، وبين الفنَّينِ تناسُبٌ أنيقٌ جميلٌ، بين الصناعتين صلةٌ لا تَكلُّف فيها ولا اجتهاد، صلةٌ طبيعيةٌ يتهادى إليها الجمالان، وتذوبُ عندها أطرافُ السِّحر والبيان.
أمَّا في النقش أو الرسم أو التطعيم أو الهندسة، فالغرب والشرق من هذا القبيل صنوان، وما يصحُّ في الفنونِ والصناعات — اللهم إذا تناهت إتقانًا وجمالًا — يصحُّ في العلوم وفي الآداب وفي الاجتماعات، إذا تجاوزنا فيها السطحيَّات؛ فالحكيم الهندي والحكيم الإنكليزي لا يختلفان، وشكسبير والفردوسي أخوان، والمعرِّي وملتن وفولتير من أُمَّةٍ واحدةٍ، أُمَّة النُّبوغِ وحريَّة الوجدان.
ولنا الفخرُ — نحن الشرقيين — أن يكون في زُعمائنا اليوم ما في زُعمائهم من حبِّ الوطن، ومن البِرِّ والكرامةِ والشَّممِ. لنا الفخر أن يكون في أغنيائنا من يطلبون المعالي بالفضل والإحسان؛ فيبذلون من أقوالهم في سبيل الوطن والأُمَّةِ سياسةً وأدبًا واجتماعًا، وليَسمحْ لي أربابُ هذا البيت إذا أشرت إلى ما أظنُّه رمزًا لقاعدة سلوكهم الوطني الاجتماعي، فإنَّ طيَّ الفكرة السياسية على ما يظهر لي فكرة اجتماعية قد لا تُدرَكُ فورًا؛ وهي حَرِيَّةٌ بالذكر والاعتبار. ولهذه الفكرة في هذا القصر أيضًا رمزٌ جميلٌ، بل رمزان نادران عزيزان؛ أولهما: هدية إلى الخديوي إسماعيل من رأس الكنيسة الكاثوليكية من كبير أسياد المسيحية، وثانيهما: هدية إلى الأمراء آل لطف الله، من سيد الحرمين، من كبير أسياد الإسلام، من جلالة الملك حسين.
فالهديتان وقد اجتمعتا في هذا القصر الفخم هما عربون عهد السَّلامِ الدَّائِمِ، إن شاء الله.
(٧) الحفلة السابعة في فندق الكنتنتال
لبَّى جمهورٌ من الفُضَلاءِ والأُدَبَاءِ في مساءِ اليوم دعوة الوجيه الفاضل طعان بك العماد — من آل العماد المشهورين بلبنان ومن كبار الجالية السورية في الأرجنتين — إلى حفلة شايٍ أقامها عصر اليوم «الخميس ١٦ فبراير سنة ١٩٢٢»؛ لتكريمِ الأستاذ الريحاني في فندق «الكنتنتال»؛ فكان لهذا الاجتماع مظهر بديع من مظاهر جامعة الأدب العربي، الذي يحملُ الأستاذ الريحاني رايةً من راياته فيما وراء البحار، بل نفثة من نفثات الرُّوح القومي العصري الذي استيقظَ في الشَّرقِ اليوم، فأخذ الشَّرقيون يستشعرون به أنَّ لهم وجودًا، وأنَّ لهم كرامة ليعترف لهم عالم الأحياء بهذا الوجود، وهذه الكرامة.
فبعد أن اجتمع المدعوون في حديقة الفندق، وأُخِذت صورتهم تذكارًا لهذا الاجتماع، جلسوا حول مائدة الشَّاي، ثمَّ قام صاحب الدَّعوة طعان بك العماد، فتكلَّم عن نفسه، وعن الجالية السورية في الجمهورية الفضيَّة، فرحَّبَ بالمُحتفَلِ به، وأثنَى على أدبه الجمِّ، وجهاده المزدوجِ في تنويرِ قُرَّائِهِ من أبناء العربية، وتعريف أوروبا وأميركا بروحِ الشَّرق التي بَزَغَتْ مع شمسه، وما زالت تتجدَّد بتجدُّدِهَا. وكان يتكلَّمُ من قلبٍ امتلأَ إخلاصًا للُّغَةِ التي ينتسبُ إليها، ومحبَّةً للقومية التي هو فردٌ من أفرادها.
وتلاه نجيب بك الهواويني، فخطب في النبوغ وتكريم النَّابغين.
وقام على أثره توفيق بك دياب، فأبدعَ ما شاء في بيان ارتباط الأُمم الشرقية، ولا سيما النَّاطقة بالضاد، وأنَّ ذلك من أظهر دلائل الحياة، وما على مصر من الواجب نحو الأدب العربي والمصلحة الاجتماعية في سبيل توثيق هذه الرابطة.
ثم قام السيد رشيد رضا، فذكَر أنَّ من القواعد الطبيعية أن يكون التقارُب بين النَّاس على مقدار ما يُوجد من وجوهِ المُشاركَةِ وصُنُوفِ المُشَاكَلَةِ بينهم، وأنَّ البلاد التي يتشابَهُ سُكَّانها بلغاتهم وعاداتهم وآمالهم وآلامهم حقيقٌ أن يكون ذلك سبب التَّقارُبِ بينهم. وقد أدركَتْ مِصر والهند هذه الحقائق الفطرية، فوحَّدَ المسلمون والأقباط كلمتهم في وادي النِّيل، وكذلك فعل المسلمون والهندوس في الهند، وقال: إنَّ المسلمين لمَّا كانوا أكثر تمسُّكًا بدينهم لم يمنعهم هذا من أن يكون المسجد مدرسة لتلقِّي علوم الكون، يشترك في ذلك المسلمون والمسيحيون والإسرائيليون، لا يمنعهم من ذلك مانعٌ، وقد كان جمالُ الدِّين الأفغاني — وهو من أوَّل من نادى بالإصلاح في الشرق — لا فرق عنده بين أديب إسحاق والنقاش والشيخ محمد عبده وسعد زغلول، فكلهم كانوا تلاميذه وأنصاره، بل لم يكن يُفرِّقُ بين بلاد الشَّرق، فكان يرى أنَّ مصرَ إذا حملت لواءَ الإصلاحِ كان ذلك وسيلةً لانتشارِه في سائر الأقطار.
وختم خُطبته بقوله: إنَّنِي بصفتي سُوريًّا أقول — وأنا مُنكِّسٌ رأسي خجلًا: إنَّنا — معاشر السوريين — كُنَّا أول العاملين لنهضة الشرق في الأمس، وقد صِرْنا اليوم أول من ضلَّ سبيلها.
وقام على أثره منصور فهمي، الأستاذ بالجامعة المصرية، فقال: إنه وهو يرى اتحاد السوريين على تكريم فكرةٍ ساميةٍ، في شخص الريحاني، لا يُصدِّق أنَّ هذه الأُمَّة لا تستطيعُ أن تتَّحِدَ على فكرةٍ أسمى من ذلك؛ وهي فكرة الوحدة الوطنية والقومية؛ فالاتحاد هو الذي رأينا — نحن في مِصر — أنه ترياقنا من سمومٍ كثيرةٍ، والضِّماد الذي نلفُّ به كُلومًا مُؤلمة، وما صحَّ في مِصر لا يصحُّ غيره في شقيقتها.
وخطب بعده الدكتور محجوب بك ثابت في موضوع الشرق والغرب، وأنَّ تضامُن الأوَّل من دواعي احترام الثاني له، واعترافه بحقوقه، وتخفيفه وطأة سُلطانه عن عاتقه؛ فالارتباط بين الأمم الناطقة بالضاد نافعٌ لكلٍّ منها، ومُسهِّلٌ لها سبيل الوصول إلى غايتها، وأتى على براهين من التاريخ القديم والحديث احتجاجًا لهذه القضية.
(٨) الحفلة الثامنة أو حفلة الصحراء
أحمد زكي باشا يرجو مشاركته في تكريم ثالث الثلاثة بعد الجعدي والذبياني: نابغة العرب الجديد أمين الريحاني، بتناول الشاي على سماطٍ بدويٍّ فوق بساط الرمل، وتحت ظلال الأشجار الحرام التي غرَسها الصحابة الكرام في سفح الأهرام، يُشرِفُ عليها بلهيث «أبو الهول» الفصيح بإشارته، البليغ في صحته، القائم على الدوام بحراسة كنانة الله في أرضه.
المُلتقى عند محطة الهرم السَّاعة الثالثة ونصف بعد ظهر يوم الاثنين «٢٠ فبراير سنة ١٩٢٢».
وقد أخذ النَّاسُ يتهافتون على طلب تذاكر الدعوة إلى هذه الحفلة النَّادرة الغريبة.
فلمَّا كان الموعدُ المضروبُ أقبل القوم زرافاتٍ ووحدانًا تلبيةً لدعوة الأستاذ المُحتفِل، وليشهدوا هذه الحفلة الصحراوية التي أُقيمت لتكريم النابغة أمين أفندي الريحاني.
شهد هذه الحفلة الشَّائقة جمهورٌ كبيرٌ من كِرام المصريين والسوريين، وخيرة رجال الفضل والعرفان، وقد تجلَّى فيها مجدُ الآباء والأجداد، ونهضة الأبناء. ينظرُ الواقِفُ في ذلك المكان إلى عظائم أعمال الأولين الممثَّلَةِ بأبي الهول والأهرام وغيرهما من الآثار الخالدة، فيراها تنطِقُ بما كان عليه الشرقيُّ من العِزِّ والجاهِ والسُّؤدد، ثم يُجيلُ نظره في نوابغ المُجتمعين في هذه الحفلة من أُولِي الحزم والرأي، وما أُوتوه من حماسةٍ وذكاءٍ وفضلٍ، فيرى أُمَمًا تسيرُ إلى الأمامِ، وشبابًا مُفكِّرًا ناهضًا يتحفَّزُ ليستردَّ للأبناءِ ما ضاعَ من مجد الآباء.
كانت تلك الصحراء مُزينة أبهج زينة بالأعلام المصرية، وقد ضُرِبَتْ فيها المضاربُ تتخلَّلُها الجِمالُ والأبقارُ مُمَثِّلَةً مساكن البدو في حِلِّهم، وبرز الفرسان منهم على صهوات الخيل يلعبون بسيوفهم، ويُرقِّصون جيادهم على نغمات الطبل والمزمار، ونُصِبَ في صدر المكان سُرادِقٌ كبيرٌ لاستقبال المدعوين، ومُدَّتْ فيه مائدةُ الشَّاي حاوية لأطباق الفطير والتمر والحلوى، فأَمُّوه أفواجًا رجالًا ونساءً، يتقدمهم حضرات أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة: أحمد مظلوم باشا، ويوسف سليمان باشا، والدكتور محمود صدقي باشا، ومرقص باشا سميكة، وأحمد بك شوقي، وحسن بك مظلوم، مدير الجيزة، والشيخ أبو الفضل، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ بخيت، والسيد عبد الحميد البكري، والشيخ عبد الرحمن قراعة، ومحمد شكري باشا، وأحمد تيمور باشا، وسعيد شقير باشا، ونجيب منصور شكور باشا، والأمراء ميشيل بك، وحبيب بك، وجورج بك لطف الله، وجمهورٌ غفيرٌ من المُستشارين والقُضاةِ والمهندسين والأعيان وغيرهم. وكان سعادة زكي باشا، صاحب الحفلة، وبعض المُستقبلين من الأُدباءِ يُرحِّبُون بهم، ويُبالغون في ملاطفتهم.
وفُتِحت الحفلة بتلاوة آي القرآن الكريم، ثم وقف سعادة زكي باشا فخطب في الجمهور مُرحِّبًا بالحاضرين، ومُطريًا المُحتفَلِ به، وقال: إنَّنَا فتحنا حفلتنا بتلاوة آي القرآن تبرُّكًا بكلام اللهِ، ولِما لهذا الكتاب الشريف من الفضل في نشر اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها.
واستطرد إلى ذكر المكان الذي أُقيم فيه هذا الاحتفال، فقال: إنه ورد في القرآن، فهو المعني في قوله تعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد، فأرم هذه لم تكن الشَّام ولا غيرها من البلاد، بل هي الأهرام. وكان في مكان هذا الاحتفال هيكلان كبيران قائمان على أعمدةٍ عديدةٍ، فسُمِّيَت من أجل هذا بذاتِ العماد.
وعقَبه حضرة الدكتور محجوب بك ثابت، وتلا قصيدة من نظم سعادة أحمد بك شوقي، فقوبلت بالتصفيق الشديد، وكان الجمهور يستعيده أبياتها.
وحيَّا محمود أبو بكر البطران العربي — وهو غلامٌ بدويٌّ في نحو العاشرة من العمر — مِصرَ بأبياتٍ جزلةٍ.
وخطب حضرة أنطون أفندي جميل خُطبةً بليغةً وصف فيها الصحراء الجرداء والواحة الخضراء.
ولحَّن حضرة محمود أفندي عارف منظومة من قلمه تلحينًا بديعًا حرَّك أوتار القلوب، وأثار الحماسة في النفوس، وأنشد حضرة أحمد رامي أفندي قصيدة عصماء قُوبلت بالاستحسان الشديد.
وخطبت حضرة الآنسة مي خُطبةً جميلةً ذكرت فيها فضل سعادة صاحب الحفلة وعلمه وتسامُحِهِ، وحيَّت المُحتفَل به، وأثنت على مصر وأهلها أطيب الثناء، وأعلنت فضلها على سائر الأمصار، وكلُّ ذلك بكلماتٍ عذبةٍ جزلةٍ امتزجت بأرواح السامعين، وقُوبلت بالتصفيق والاستحسان الشديدين.
ولما انتهت من خُطبتها قدَّم إليها سعادة زكي باشا صحفة فيها ثلاث صبيرات، وقال: إنَّ هذه الصحراء التي لا تُنبت إلا الشَّوك أنبتت بوجودكم ثمرًا شهيًّا.
ثم ألقى حضرة محمود أفندي صادق قصيدة عامرة الأبيات استرعت الأسماع، واستعاد السَّامعون أبياتها طَرِبين بها، ووقف بعد ذلك حضرة أمين أفندي الريحاني المُحتفَلِ به، فشكر مِصر والمصريين شكرًا جزيلًا على ما لقيه من كرمهم ولطفهم وحفاوتهم، وتلا مقالة من النظم المنثور وضعها خصِّيصًا ليتلوها في هذه الحفلة في وصف مِصر بين هتاف الهاتفين، وتصفيق المُصفِّقين.
ثم انصرفوا وهم يتحدَّثُون بجمالِ هذه الحفلة، ويُثنون على سعادة القائم بها الثناء المُسْتَطاب.
(٨-١) قصيدة أمير الشعراء «أحمد شوقي بك»
•••
•••
•••
(٨-٢) خُطبة الشيخ أنطون الجميل
ما أجمل الواحة في الصحراء!
ما أبهى البقعة الخضراء تبدو بين تلال الرمال الصفراء!
ما أشهى الجزيرة الخضلة تبرز في الأرض المقفرة الجرداء!
الواحة ابتسامة حُلوة على مُحيَّا الطبيعة المقطب العابس.
هي دمعةٌ نديَّةٌ تُبردُ القلب المُكتئب اليائس.
هي نجمةٌ لامعةٌ في جبهة الظلام الدامس.
الواحةُ يوم فرحٍ في حياةٍ نُسِجَت أيَّامها من غوالب الهموم.
هي قوسُ قزحٍ مُسبَّع الألوان دقَّت أوتاده على مكفهر الغيوم.
هي ترياقٌ سائغٌ يُشفي من مُختلف السموم.
الواحة هي مُعترك الغايات والأهواء، راية المحبة والسلام.
هي اللفظة المليحة العذبة بين حَوشيِّ الكلام.
هي آية الحق والعدل فوق صحب الشرور والآثام.
ما أجمل الواحة في الصحراء تَبرُزُ في الأرض المُقفرةِ الجرداء!
•••
هبَّت رياح الصحراء فاستعرت الرمضاء.
السَّماءُ تُمطِرُ نارًا، والأرضُ تنفثُ شرارًا.
تَجِدُّ القافلة في السير إلى الواحة البعيدة.
القافلة تَجِدُّ في السَّيرِ، وقد برَّحَ بها الجوع، وألهب العطش منها الضلوع.
إلى الواحة البعيدة تتطال أعناق المطايا، تحدوها في سيرها أشباح المنايا.
صُرِعَ من القافلة واحدٌ واثنانِ وثلاثة … فكانت الرمال كفنهم، والرِّمالُ قبرهم: الرِّمالُ النَّاشفة، الرِّمالُ الملتظية.
القافلة تَجِدُّ في السَّير: الصحراء تدفعها، والواحة تجذبها.
فهُناكَ في الواحةِ البعيدةِ ستجدُ الماء السَّلسبيل يروي الغليل.
هُناك ستلقى الظِّلَّ الوارف تحت أغصانِ النَّخيلِ.
الواحة ستُجير القافلة من رياح الصحراء واستِعار الرَّمضاء.
تلك الواحة التي وصفتها بالحقيقة وصوَرتها بالخيال.
هي أنتم يا خُلاصة مدنية المصريين والفينيقيين ممدني العالم في غابر الأجيال.
مدنية الفراعنة ومدنية فينيقية كلتاهما تحدَّرَت إليكم من ثنايا الليالي والأيام، بعد أن هذَّبتها آداب النصرانية، وعدَّلتها شرائِعُ الإسلام.
قطرات رَشحت من خلالِ العُصورِ والدُّهور، فتكوَّنَ منها الغدير.
حول الغدير نبتت أزهار العلم، وبسقت أشجار العرفان.
حول الغديرِ قامت معالم الحياة تكتنفها مفاوز الجهل
فكانت الواحة في الصحراء.
إلى واحتكم المخضلة يسيرُ الشَّرق سير القافلة وقد أعياهُ المسير.
مشى الشرق طويلًا في أرضِ التِّيهِ قاصدًا أرض الميعاد.
أنهكته وعثاء السفر، فتقرَّست رِجلاه، واحدودب ظهره، وخارت قواه.
تجرَّع في طريقه كئوس الخيبة ألوانًا حتى بات باليأس سكرانًا.
ذَرَّ الزمان على مَفرقه غُبار الفناء، فترك في سيره الشاق الطويل كثيرًا من الضحايا والأشلاء.
كان اليأس كفنهم، وكان اليأس قبرهم.
اليأسُ القاتلُ كرمالِ الصَّحراء.
ولكن الشَّرق يُرهف غرار عزمه، ويسيرُ إلى الواحة سير القافلة.
إلى واحتكم المُخضلة يسير الشرق فرارًا من رمال الصحراء.
•••
أُرهف أُذني فأسمعُ من الصَّحراء دبيبًا في الرمال.
إنَّ في حبَّاتِ الرَّملِ لنجيًّا تشعرُ به الضَّمائر، وتتلَمَّسه الحواس، إنَّ رمال الصحراء لتصطخب اليوم ولا اصطخاب الأمواج في البحار.
كان «أورفه» — مطرب الإغريق — يُرقِّص الحجارة بنشيده، فيشيد منها جُدرانًا.
فأين في الشرق من يضُمُّ حبَّات الرمل يصوغها حِجارًا؟ ويُقيمُ منها بنيانًا؟
يسير الشرق إلى الواحة وأمامه نور ضئيل يبدو حينًا ويخبو حينًا.
ليس هذا النُّور بالمبيض الحواشي فيُصبح فجرًا … ولا بالمسود الجوانب فيمسي ليلًا.
أهو الشفق مقدمة الإمساء والظلام؟ أم الغلس طليعة الأضواء والأنوار؟
ليس الجواب في صدر أبي الهول، فصدر أبي الهول خزانة أسرار.
إنَّ الجواب لفي صدوركم أنتم يا معشر الأدباء والأحرار.
•••
إلى الواحة البعيدة تسيرُ القافلةُ في الصَّحراء، ولكن بين الواحة والصحراء قد يبدو السراب.
إنَّ السراب لشرُّ ويلاتِ القافلة في الصحراء؛ فهو يُضلها الطريق، ويُورِدها موارد الهلاك.
وكذا بين السَّعي والنجاح قد يلمع برق أملٍ خُلَّب، فيضلُّ السَّاعي سبيل النجاح.
فاتقوا البرق الخُلَّب، واحذروا السراب.
قال المعري — ومَن أجْدَر بالاستشهاد بقوله من المعري في يوم تكريم مترجم المعري:
يا صاحب «الخزانة الزكية»، يا مُقيم معالم هذه «الحفلة الصحراوية»، والدَّاعي إلى «الرابطة الشرقية».
قد جعلت شعار تلك «الرابطة» قولًا صار مأثورًا: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ، ما تَعارف منها ائتلف، وما تناكر اختلف.»
عملٌ جسام ندبتَ نفسك للقيام به، وأنت الندب الهُمام. إِنَّ الأربعين قرنًا التي نظرت إلى جُند بونابرت من أعلى الأهرام تنظر إلى عملك وعمل زملائك الكرام.
فعسى تلك القرون الخوالي تَبرز من قبر الزمان، فتصفق لكم يا جُند الاتحاد والوئام.
ادعوا الشرق إلى الوئام والإخاء تكونوا من أدلَّاء القافلة السائرة في الصحراء.
•••
وأنت يا صاحب «الريحانيات»، قمت بالأمسِ باسم الشرق كُلِّهِ مُناديًا: «أنا الشَّرقُ عندي أديان، وعندي فلسفات، فمن يبيعني بها طيارات؟» كأني بك دَلَّالًا نزل إلى سوق الاجتماع يقصد البيع والشراء، فما شرى ولا باع.
كأنِّي بك باسم الشرق تُنادي:
وبطبيعة الحال:
ولكن بفضل العلم تنشر رايته، وبفضل الإخاء تَعمُّ آيته، سيقفُ الغربُ مُناديًا: «عندي طيَّارات، وعندي مدرعات، فمن يبيعني حكمة راقية وفلسفة سامية تنهض بأبنائي من حضيض الماديات؛ فإنَّ المادة كادت تقتل فيهم الروح؟» فَكُنْ يا ابن لبنان داعيًا إلى الإخاء، وكُنْ دليلًا من أدلَّاء القافلة السائرة إلى الواحة في الصحراء.
(٨-٣) أُنشودة محمود أفندي عارف
(٨-٤) قصيدة أحمد أفندي رامي «إلى طائر الشام»
•••
•••
(٨-٥) خُطبة الآنسة ميَّ
أيها السادة والسيدات:
زكي باشا ظالم، ولكننا نسامحه؛ لأنَّهُ حُجَّةُ العرب، بل هو مُتيم الشرق بأسره؛ ما ذُكر هذا الشرق إلا اتَّقَد عاطفةً وحماسةً، وتدفَّق معرفةً وفصاحة؛ كأنَّه صخرة الكليم بعد الأُعجوبة، أو كأنَّه تلك الجزيرة المتوارية وراء البحر الأحمر، ما كادت تشتعلُ فيها شرارة الإسلام حتَّى انطلق أبناؤها يُجدِّدُون العالم بالحياة وبالعلم وبالجِدِّ.
وزكي باشا فوق ذلك مثال جميل للتوفيق بين التعصب والتساهل، من ذا أمتن إسلاميَّة من زكي باشا؟ ومن ذا أمنع شرقية منه؟ ولكن رغم هيامه بقوميته، واعتزازه بمدنيته، فهو يفتح صدره لجميع الأديان، ويُقدِّر القيم من جميع المدنيات، ويُكبِرُ الذَّكاء عند جميع الأجناس؛ فلا عجب إذا ما تفنَّنَ حتَّى في أساليب الضيافة والحفاوة.
لقد أُكرِمت، أيها الريحاني، في المنازل والفنادق والجامعات. أمَّا أستاذنا اللوذعي، فأراد إكرامك في هذه المملكة السنية الفيحاء. تلك اجتماعات كانت قاصرة على جمهور الشرقيين. أمَّا هنا فتحاذى الشرقي والغربي كما هو خليقٌ بفكرك الذي لم يقف عند حدودِ البلدان، وكما يليقُ بمن كان واسطة التعارف بين باحثي الشرق والغرب كصاحب هذه الدعوة الكريم، فضرب هذه الخيمة العربية، وأقام هذا المهرجان الجامع بين بساطة البدو وجزالة العباسيين. وفي هذه الربوع التي لا تَجرُؤ الأصداء على اقتحامها، بل ترتدُّ على حدُودِها خاشعة، ارتفعت الأصوات للثناء عليك، وفي هذه الربوع حيث دَحَرَ التَّاريخُ جُيوشًا، وجندل قُوَّادًا، حللتَ أنت عزيزًا عِزَّة من كانت قوته الوحيدة معرفةً، وسيفه الوحيد قلمًا.
لقد رأيت من مِصر حُسن الضيافة، وعرفت كيف تُشجيها عطور الرَّياحين، ولكنَّك شاعرٌ بلا ريبٍ بما وراء اللطف من تحفُّزٍ وشجاعةٍ. لقد عرفنا نحن مِصر عذبةً كريمةً أعوامًا طوالًا، ثم اهتزَّت فجأة فبدت ذات هيئةٍ جديدةٍ وجمالٍ رائعٍ. وها هي تتخرَّجُ منذ ثلاثة أعوام في مدرسة النخوة والبطولة، وإذا خَفَتَ صوت الرَّجُل فيها لحظة، أشارت المرأة — ولو من وراء الحجاب — إلى شرفات العِزِّ، ورفيع المصاعد.
ولقد دفع استبسالُ مِصرَ في جسمِ الشَّرقِ استبسالًا، فجئت وهو يتوهَّجُ حميةً، ويتفجَّرُ وطنيةً، وبينما هو يُحيِّيكَ لأجلِ ما أنت، ولأجل ما فعلت، إذا به يُشيرُ بوجوبِ إتمامِ العمل المُنتظر، فلا يكفي أنَّك ترجمت المعري، بل انهض — ولينهض كل ذي صوتٍ مسموعٍ — وقُل للغرب: إنَّ الأمَّة التي أنجبت المعري وأمثاله لا تخبو فيها شُعلة الذكاء. انهض أنت وكل ذي صوتٍ مسموعٍ وقولوا للغرب وللشرق جميعًا: إنَّنا لا نكتفي بالآثار والأخربة والحضارة البائدة، بل نريدُ مع العِزِّ العظامي والشرفِ التَّالد عِزًّا عصاميًّا وشرفًا طريفًا.
وإذا ذكرت هذه الساعة؛ فاعلم أنَّ زكي باشا لم يفعل في يوم سوى ما اعتاد المصريون فعله مع نُزلاء الشعوب أجمعين، وإذا ذكرت أبا الهول شعار مِصر الخالد؛ فاذكر أنه مهما هبَّت عليه لفحات السَّمُوم، وتراكمت حوله رمال الصحراء، فهو يظلُّ باسمًا يَرقُبُ في الشرق فجر الصباح الآتي، وإذا ذكرت هذه الأهرام المنتصبة كالمردة الصامتة في وجه اللانهاية؛ فاذكر أنك سمعت في ظلها أُهزوجة الحياة ونشيد الأمل.
وليس هذا نشيد مِصر الفتاة وحدها، بل هو صوتٌ من جوقٍ تؤلِّفه الأقطار الشرقية الهاتفة بنبرةٍ واحدة، وقلبٍ واحد: «أنا الشرق، ولي صوت يحدو في الجبال والقفار، فيملأ الجبال والأودية ضجيجًا وحنينًا … أنا الشرق، وخمر الأجيال تُعيدُ إليَّ روح النبوة القديمة … وتُثير عندي ألم الذكرى، وتُجدد فيَّ حب العزم والجهاد. أنا الشرق، أوَّلُ صوتٍ صارخٍ بوحدة الحياة وإخاء الإنسان؛ فلنتقاسم بها الغرب حظنا من الحرية والنور؛ لأني اتخذتك يا فتى الغرب رفيقًا.»
وكلَّما ذكَرتَ الشرق، وذكرتَ إكرامًا أدَّته إليك مِصر، فوحِّد هنيهة حب الشرق في حبِّ مِصر؛ لتهتف بما يُهتف به الآن وعلى الدَّوام: لتحيَ مِصر مصرية.
(٨-٦) قصيدة محمود محمد أفندي صادق
•••
•••
•••
(٨-٧) خُطبة الدكتور شخاشيري «وافدتان»
سيداتي وسادتي:
أرى أن في البلد وافدتين مُتفشيتين تفشِّيًا هائلًا؛ فالأولى: مُخيفة مروِّعة، وقد مضى على انتشارها زمنٌ بعيدٌ، ومصلحة الصحة تُقاومها بالوسائل المعروفة لديها من غير طائل، فإصابتها تزدادُ، وأعلامها تخفقُ كلَّ يومٍ في كلِّ منزلٍ من منازل القُطر.
والثانية: مُنعشة مُفرِحة هبطت مصر في ٢٧ يناير المنصرم، وما كادت تطأ أرض الكنانة حتى أثارت في نفوس أهلها — الفُضلاء العلماء الأدباء الكُرماء — ثائرة الأدب الكامن في الصدور، فذهبت بما يَشغل تلك النفوس الأبيَّة من رُوع المرض، ويُقلِقُ بالها من جور السياسة المبرقشة، وأحدثت في القلوب هِزَّة طربٍ تجاوبت أصداؤها في الأقطار، ورنَّ دويها في أعماق الشرق المتألِّم؛ فنهض على قدميه نهضة الجبار.
الفرق بين الوافدتين واضحٌ جليٌّ: رأيتُ في الأولى طبيبًا مداويًا، وطبيبًا مواسيًا، وطبيبًا مقاومًا، ورأيتُ المرضى يَصيحون: الشفاء الشفاء! هذا كل ما نريده منكم، أيُّها الأطِبَّاء، ورأيتُ السليم يَنفرُ من المريض، ولا يقتربُ منه خوفًا من أن تنتقل العدوى إليه، ورأيتُ النَّاس هجرت الملاهي، واعتصمت بالمنازل احتياطًا من التعرض لأسباب الداء المتوافر وجودها عادةً في مثل تلك الأماكن.
ورأيتُ في الثانية، وما أجمل ما رأيتُ!
رأيتُ من الشعور الوطني المتدفِّق حياة ما يُحيي موَات النفس، وينهض بها إلى أسمى الذُّرى. رأيتُ الأدب كلَّه يسيلُ من قلبِ مصر الخافق، فيُنعش القلوب الصلدة، فتدبُّ فيها جميعها حياة الأدب، رأيتُ أدب مصر في كأسٍ قاطرةٍ تطوفُ الحواري والمدن والعواصم والبلاد والأمم والشعوب، فتسقيها جميعها قطرة قطرة ولا ترتوي.
رأيتُ، وما أعظمَ ما رأيتُ!
رأيتُ العلم والفضل والكرم، صفات مصر الأزلية تُذيع مجد أبي الهول الصَّامت، وتنشرُ حِكمته للعالمين.
رأيتُ، وما أعجبَ ما رأيت!
رأيت الشَّاعر يُغرِّدُ بقيثارته في سماء خياله، يُطاول النسر بعزيمته ووثباته، فيُحلِّق من مصر إلى أَرز لبنان إلى أميركا.
ورأيتُ الأديبَ يَنثرُ علينا من الدُرر الغوالي ما يُبهجُ النَّفس، ويشرح الصدر.
ورأيتُ الخطيبَ يَصِفُ لنا الماضي كأَنَّه حاضرٌ، ويُحضِرُ أمامنا ببلاغته وسِحر بيانه صور العصور الخالية فنتعظ بها.
ورأيتُ الريحاني كالنحلة ينتقلُ من زهرةٍ إلى زهرةٍ، ومن غُصنٍ إلى غُصنٍ، ومن دوحةٍ إلى دوحةٍ، ومن حفلةٍ إلى أُخرى.
ورأيته شاكيًا ألمًا بمعدته، وسمعته يقول: معدتي تَلِفَتْ، معدتي تلفت، ارحموا معدتي، ارحموها ترحموني. فلم ألتفت إلى شكواه، ولم أُعِرها شأنًا مع عِظَمِ اهتمامي بسلامة جسمه النَّحيل، ووجود شروط الوقاية من دائي التلبُّك وسوء الهضم في ذهني، بل على طرف لساني قامرتُ بمعدته وراحة جسمه على حساب المنفعة.
رأيت في هذه الوافدة «وافدة الأدب» غير ما رأيته في تلك.
رأيت الناس يتهافتون سِرَاعًا على حدائقها النضرة الزَّاهية للتمتُّعِ بطِيبِ شذاها، والاستزادَةِ منها وقد أسكرهم رحيقها.
رأيتُ مِصر اليوم في عُرسٍ تُرحِّبُ بعودة ابنها الشرقي ترحيب الأمِّ الرَّءُومِ بعودة ابنها الضال، فصرختُ من أعماق نفسي: عساكِ يا مِصر غدًا أن تُرحِّبي وتفرحي بعودة أبنائك البررة المُبعَدين المُنتزَعين عودة الفائزين، فيفرح الشرق وقتئذٍ معكِ، وتهتزُّ جوانحه، ويشتدُّ سَاعِده بطربكِ ونصركِ المبين. ورأيتُ الشَّرق بين ذلك كله يستجمع قُواه المُتفرِّقة، ويلمُّ شعثه استعدادًا للوقوفِ بين الأمم رافع الرَّأس، وكان أرفعها عزيز النفس، وكان أعزها مُكرم الجانب، وكان أكرمها.
في هذه الحفلة البِكر — وهي خاتمة الحفلات ومِسك ختامها — أُحذِّركم، سادتي، إدخال طعام على طعام، وأسألكم الاقتصار على لونٍ واحدٍ من الطَّعام في حفلاتكم المقبلة، وإراحة جسمكم وفكركم بعد كلِّ طعام.
أُحيي مِصر العزيزة فيكم، أيها السادة، تحيةً يستخرجها القلب من أعماق الزمان.
أُحيي أبناءها الكِرام، طبيبها ومحاميها وعالِمها وأديبها وجميع أبنائها الكِرام البعيدين منهم والقريبين، تحيَّةَ شاعرٍ بفضلها، مُعجبٍ بنهضتها، مُؤيد لمطالبها الحقَّة، مُفتخر ببطولةِ زعيمها الأَكبر، مُحب لها محبَّةً ثابتة كالدهر لا تتغيَّر.
(٨-٨) خُطبة أمين أفندي الريحاني «مصر»
١
مِصر هي أكبر الشرقيات الباسمات للدهر، وهي أحدث الشرقيات الناهضات.
هي أول من هزَّت الشمس سريرهن، وأوَّل من قبَّلهن الليل على ضفاف النيل.
هي أوَّلُ من لعب في ذُرى الصناعة والفنون، وأوَّل من رقص والقمر تحت النخيل.
هي أول من بنى كنًّا للعلم وبيتًا للحضارة، وأوَّل من شيَّد للحياة هيكلًا وللموت قصورًا.
هي أوَّلُ من نطق في قلب العالم كلمة العبادة والابتهال.
هي أول من أضرم في ليل الحياة نار الإيمان.
هي أول من نحت تمثالًا جميلًا، ورسم ذِكرًا وأملًا للإنسان.
هي أوَّلُ من كوَّن من شتات الغيب عالمًا حقائقه أغرب من خرافاته.
هي أوَّل من نصب للحقِّ الأنصاب، وأحرق البخور للخرافات.
هي أوَّل من شيَد للخيال معالم تباهي معالم الحق جلالًا وخلودًا.
هي أول من حمل ميزان القسط، وأول من استرق العباد.
لها الصولجانُ المُرصَّعُ ماسًا، ولها الصوت الملطخ دمًا.
هي أوَّلُ من قال للموت: لا، وأوَّل من قال للحياة: نعم.
لها في الموت حياة، ولها في الحياة المآثر الخالدات.
هي مصر!
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
٢
هي في هيكل الحب آلهة تسجد لها آلهة الأمم.
هي في هيكل الجمال ربَّة لا تخضع لآلهة الزمان.
وَرْد خديها من وادي الصفاء، وزنبق جبينها من جبال البِر، وذهب شعرها من معدن الفجر، وقرمز فمها من بساتين الخلود.
هي في السراديب مشكاة فيها مصباحٌ يُضيء، وهي في الفضاء نارٌ على عَلَمٍ.
٣
هي ابنة رموز أسرارها في فم العاصفة وفي قلب النسيم.
لها صوتٌ يُهيِّج حتَّى النَّخيلِ إلى الخيال، ويبعثُ حتَّى في الرِّمالِ شَوقًا إلى النيل.
هي ربَّةُ العشق، وربَّة الموت، وربة الخلود.
هي مصر!
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
٤
هي في قلب العالم سيد الإيوان الجديد، إيوان البِر والحق، إيوان الحرية والحجى، لسانها عربي، وقلبها شرقي، وعقلها غربي.
لها في ظلِّ الهرم أثرٌ خالدٌ، ولها في ظلِّ تمثال الحرية زاوية للحكمة والعدل.
هي التي شاركت إيزيس هيكلها، ورعمسيس عرشه.
وهي التي تتغنَّى اليوم بأنغام النُّور الذي كلَّل هذا الصباح رأس أبي الهول.
لها صوتٌ سَمِعَتْهُ قبل الهرمِ الصحراءُ، ونسمعه اليوم نحن الواقفون في ظلال الأجيال التي شاهدها هذا الهرم.
من ضفاف النيل، إلى ضفاف بردى، إلى شاطئ الفرات، إلى وادي الكنج، صوت مصر يتماوج كالنسيم، ويزمجِّرُ كالرعد، ويخترق ظلمات الجمود كالنور.
إنَّ كلمة مصر لكلمة العرب، وإنَّ كلمة العرب اليوم لغيرها بالأمس، ولغيرها غدًا، ولكنها أبدًا كلمة مصر، مصر الخالدة، مصر الفراعنة، ومصر المماليك، ومصر «الزغاليل».
كلمة علمٍ تنطق بها مصر تُنير مصابيح الهدى في الأمم العربية الدَّانية والقاصية.
كلمة عطف تَفوُه بها مِصر تُنعش قلوبًا خدَّرها ريب الزمان.
كلمة حقٍّ في وادي النِّيلِ يُرددُ صداها في الشَّام وفي بغداد، بل يتراجع صوتها بين طنجة وسمرقند، في كلِّ بلدٍ عربيِّ القلب واللسان.
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
٥
حيَّتني بغصنٍ من النَّخيلِ، وبزهرةٍ من السَّوسَنِ.
أسمعتني نشيدًا سمعه قبلي كاهن إيزيس، وأديب الرومان، وشاعر العرب، همست كلمة في أُذني ملأت فؤادي من فيضها القدسي، فيض الذوق والشوق والهيام. فتحت لي باب خِدْرِها؛ فبُهرتُ نُورًا، فسَكِرتُ حُبورًا.
ذكرتُ يومًا كان فيه ابنُ مصر عبد الملوك، وهو اليوم سيدٌ تنصِت له السلاطين.
ضحكت مِصر في ليالي الغمِّ، وبكت في فجر الابتهاج.
وضحكتُ لضحكها، وذرفتُ لدمعها الدموع.
ضحكنا سخريةً، وبكينا سرورًا.
جالستني مِصرُ، يا فرعون، وهي تذكرك وتقول: هل كان فيمن شيَّدُوا الأهرام رجلٌ واحدٌ حرٌّ؟
بسمت لي مصر، يا فرعونُ، وهي تذكرك وتقولُ: هل في مصر اليوم رجلٌ واحدٌ يُطيقُ العبودية؟ تبارك أبناؤكِ يا مصر، وتباركت بَناتُكِ النَّاهضات.
إنَّ فيكِ يُنوِّرُ سِر التجديد والخلود.
إن سِحركِ يا مِصرُ ليبعثُ الحياة في سكان أهرامك.
إن فضلكِ يا مِصرُ ليُنطِقُ حتى أبا الهول.
إنَّ روحك يا مِصر لكالندى في الأكمامِ، بل كأشعَّةِ الشَّمس تُكلِّلُ النَّدى.
إنَّ جمالك يا مصر لكالخمر في كأسٍ من النُّورِ، بل كالنُّورِ يسيرُ على وجه النِّيلِ.
آية الزمان، ابنة فرعون.
معجزة الدهر، فتاة النيل.
•••
وهناك حفلات خصوصية كثيرة لم يَطَّلِعُ عليها الجمهور، ولم يُسعدنا الحظ بمشاهدتها وسماع ما دار فيها، والرَّأيُ الراجح أنها كانت قاصرة على التعارف والتعريف، وكان حظُّ الطَّعامِ فيها أكثر من حظِّ الكلام — كما يقولون. على أنها كانت في بيوت السُّراة ووجهاء القوم، نخصُّ بالذكرِ منها حفلة السيد عبد الحميد البكري، شيخ مشايخ الطُّرق الصوفية، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق، وأميل أفندي زيدان، ونجيب بك صروف، والدكتور شخاشيري، والحفلة الراقصة في نادي الاتحاد السوري.
هذا وقد اهتمَّ جمهورُ الأدباء والوجهاء من السوريين والمصريين في طنطا والمنصورة والإسكندرية في أداء واجب الضيافة للأستاذ الريحاني، وإقامة حفلات التكريم، فاعتذر عن تلبية طلبهم بِضِيقِ وقته، وصِحَّةِ عزمه على إتمام رحلته العلمية في بلاد الحجاز واليمن، وباقي بلاد العرب؛ لدَرْس أحوال تلك البلاد وعاداتها؛ فيُدوِّن نتائج رحلته هذه وخُلاصة أبحاثه في كتابٍ خاصٍّ ينشُرُهُ باللغة الإنجليزية، ليَطَّلِع الأجانب على حالة بلاد العرب النفسية، وعاداتها القومية، فَشَخَصَ في صبيحة يوم الاثنين ٢٠ فبراير سنة ١٩٢٢ من القاهرة، مُيَمِّمًا السويس، حيثُ يُبحِر منها إلى جدَّة، فكان في وداعه على إفريز محطة القاهرة عددٌ كبيرٌ من الوُجهاء والأدباء وعِلية القوم من السُّوريين والمصريين.
وبعد أن وصل مدينة السويس أرسل كلمته هذه يُودِّعُ بها مصر، ويذكُرُ ما لقي فيها من الحفاوة وأنواع الإكرام.
في فجر السفر
وكنتُ كمن لم يزل في حُلمٍ جميلٍ، وكان هواء الليل لم يزل باردًا، وقد خالطه شيءٌ من فيض الأزبكية العطري، وكان الفجر مُستوحدًا في البلد، فلا حركة ولا صوت لبشرٍ أو جنٍّ، إلَّا أنَّ السكون المتشح من الليل أرق الجلاليب وأجملها، حمل إليَّ صوتًا واحدًا خِلْتُه بادئ بدءٍ من أصوات الفضل والمكارم، التي اعتدتها في مِصر في عشرين يومًا مضت، وجَمالُ ذِكْرها لن يَمُرَّ.
سمعت الصوتُ أولًا، ثمَّ رأيتُ أمامي فجأةً شيخًا جليلًا في جُبَّةٍ سوداء وعِمَّةٍ بيضاء، يتوكَّأُ على عصاه، ويُسلِّمُ سلامًا لا تَكلُّف فيه ولا غرابة، ثم قال: «إنِّي عالِمٌ بما في نفسك، ومُدرِكٌ ما يضيق منك دونه. أنت الآن ثَمِلٌ ولا يُرجى من الثَّمل البيان شُكرًا ومِنَّةً ولا يُنتظَرُ، ولكن فضلك الأكبر — ولا نَبْخَسك في الإخلاص حقَّكَ — أنَّك هاجرت بلادك ولم تهجُر قومك، وكنتَ في بيئةٍ لا ذِكْرَ فيها لغيرِ الحاضر تذكُرُ أبدًا ماضيًا مجيدًا، ماضي الأمم العربية؛ فتقتبس منه نورًا تُضيءُ به شيئًا من ظُلُماتِ الشَّرق الحاضرة.
سمعنا صوتك يا ريحاني، وشممنا في مشاعلك رائحة زيت طيبة، ولكننا سمعنا أيضًا صوت الأمَّة المصرية اليوم، وتضوَّع في أرجائنا من مكارمها نفحات زكيات طيبات. حيَّاك المصريون ورحَّبوا بك وأثنوا عليك، بل صاغوا لك من معدن القلوب شِعرًا جميلًا، وأنت ما عندك مما يُصاغ شكرًا ومِنَّةً.
كشفنا الحجاب وبحثنا في زوايا النفس، فوجدنا فيها آثار شُعور بليغة تكادُ من شِدَّةِ الفرح، وعجز الإفصاح والبيان تتحوَّلُ كُلومًا، وتسيلُ دمًا، والعجز في واحات الحبور أشد المآسي.
رثينا لك يا ريحاني، وشفقنا عليك، وقلنا: إن بعض ما أنت فيه إنما هو منَّا، بل نحن المسئولون، وعلينا حق النجدة.
إنَّ المصريين يا ريحاني لأكثرُ النَّاسِ فضلًا، وأكبر النَّاس خُلقًا، وأجزلُ النَّاس كرمًا، وألطفُ النَّاس ذوقًا، وأَرحبُ النَّاس صدرًا، وأصفى النَّاس حُبًّا وودادًا. هذا كله تعرفه أنت ويعرفه الناس، ولكنك لا تعلم أنَّ في مِصر اليوم ثلاثة جاءوا يُحيُّون المصريين، بل جاءوا يُقرئون مِصر سلام مَن لا تهزُّهم من الفضائل كلها اليوم إلا واحدة؛ الوحدة القومية. وقد شاهدناها في أجمل المظاهر في مِصر، شاهدناها في مظهر نودُّ مثيله في كلِّ بلاد عربية.
لذلك جِئْنَا نُحيي عنك مِصر، نحنُ الثَّلاثة أصحابك وأصحابها، فنحنُ وإن تنوَّعت المسافات والهيوليات بيننا مقيمون في نور الوحدة والتوحيد، ذلك النور القدسي الذي يشع حقًّا وعلمًا، وشعرًا وحريةً، وفنًّا وسلامًا. ونحنُ اليوم مُقيمون في مِصر، نحن الثَّلاثة، وأنا أصغرهم وأحقرهم، أغتفرُ لك جهلك، أنا المعري أبو العلاء، ورفيقاي اللذان لا تراهما: أمريكا ربَّة الحرية، ولبنان رب العبقرية؛ فسِر في سبيلك طالبًا العلم، ناشدًا مجد الأجداد، راغبًا بتجديدِ حياة العرب والعربية، وكُن هادئ البال، مُطمَئِنَّ الفُؤاد؛ فقد أولتك مصر فضلًا جزيلًا جميلًا، ونحنُ نُسديها عنك شكرًا جزيلًا جميلًا، وإنَّ وجودنا فيها ليشفع بعجز فيِك.»
الآن وقد أنهينا الكلام على حفلات التكريم، وحضر معنا القارئ من أول حفلة أُقيمت إلى آخر حفلة خُتِمت بها مجالس الحفاوة والإكرام.
وقد شهد قارئنا مشاهد الأدب، وسمع نغمات الأشعار، وما زال يصحبنا حتى جمعتنا محطة القاهرة في وداع فيلسوفنا العظيم، وهكذا أخذ مُطالِعنا الكريم يتنسَّم ريح أخبار الشاخص العزيز حتى وافتنا كلمة شكره لمِصر والمصريين.
وكأنَّنا بالقارئ وقد تاقت نفسه لرُؤية المناظر المُختلفة، والمشاهد الجميلة، وإنَّا آخذون بيده حتى نصلَ به إلى طِلْبته، فنُمرَّ به برحلتنا على «مدينة بيروت» آخذين معه بالتجوال بين ربوعها، والتَّمتُّع بحُسن مناظرها، وبديع رَوائها، ثم نعرج بقارئنا اللبيب على «وادي الفريكة» مسقط رأس فيلسوفنا الكبير.
وهناك نُشاهدُ معًا ما أودعت يد الطبيعة من أوديةٍ غنَّاء، وأشجار لفَّاء، وجبال تُناطِحُ السَّماء، ولا نزالُ على قدم التجوال والحِلِّ والترحال، حتى يتمَّ تطوافنا لربوع لبنان، وما هي إلا عشيَّة أو ضحاها حتى يجذبنا تيَّار السياحة، فتقذف بنا أمواجه إلى ساحل مدينة «نيويورك»، فنجتمع بنُبَغاء السُّوريين وعلماء العالم الجديد — الذين علا صيتُ فيلسوفنا بينهم، ورُفِعَ عَلَمُ شُهرته على نواديهم — فنجول هناك جولة هائمٍ ببديع المناظر، ونصعد نحن وإيَّاه إلى أعلى بناء هناك، فنُشرِفُ على الأسواق والسكنات، ونتأمَّل هناك بحر العمران الزَّاخر والعالم المُتكاثر، ثم نُسرِع إلى «جسر بروكلن»، فنُشاهد ما صنعت يد العلم الحديث، وما أوجدت قرائح الرجال، ولا يدور بخَلَدنا أن نُغادرَ هذه المدينة إلا بعد أن نُشاهد محاكمة الثعلب على خروجه من دينه، وإنكاره كتاب شريعته، ورميه إيَّاهُ بالتحريفِ والتَّبديلِ أمام المجلس الأعلى في عاصمة «المملكة الحيوانية»، ونَشهدُ والقارئ تنفيذ الإعدام في هذا المقدام.
هذا وقد أخذنا حظنا من هذه المدينة وطال الاغتراب، فحسبُنا أن نرجع بزميلنا تلقاء ديارنا، على شريطة أن تكون أوبتنا على طريقٍ من آثارنا؛ فنمرَّ «بسهل الأندلس» الفيحاء، فنُسمعه هناك شعر النَّابغين من العرب العرباء، ونذرف دمعة أمام مجد الآباء الضَّائع، وتُراث الأجداد الفقيد. ولعلَّ أحسن تأسية لنا ولزميلنا أن نتَّعِظَ بذلك الدرس الحكيم، الذي هو «كبذور الزَّارعين»، ونعرفُ أنَّ من زرع وَرْدًا جنى منه وليد بذره، ومن بذر حنظلًا لا يجني منه آسًا وياسمين.
ومن هنا يَحسُن بنا أن نعودَ بزميلنا إلى مدينة الإسكندرية «نيويورك البلاد المصرية» بعزمٍ ثابتٍ، مُلاحظين أنَّ المسافر هدف المشقة، وانتياب الجوع، ولكن الرجل لا يَضيره جوع ساعات أو تحمُّل المشقَّات في سبيل أوبته إلى وطنه، فعساه بعد ذلك يعرف قدر نعمة السَّعَة فيحنُّ للبائس المسكين، ويرحمُ الجائع والفقير، ولعلَّ زميلنا بوصوله ثغر الإسكندرية، واستنشاق هواء بلاده قد نَسِي مشقَّة التعب، وارتاح من وعثاء السفر وألم الجوع، غير أنَّنا لا ندعه حتى نقصَّ عليه قصص «هباسيا» المصرية، ابنة الفيلسوف ليون، فيعلم أنَّ ما رأى من حضارة، وما شاهد من عمران في رحلته هذه، زاهدٌ يسيرٌ بنسبته إلى ماضي مدنيته المصرية، ثم نُنشده بعد ذلك — ونحنُ في طريق أوبتنا إلى القاهرة — شيئًا من الشِّعرِ المنثور، أو الشِّعر الحرِّ. وهو آخر ما اتَّصل إليه الارتقاء الشعري عند الأميركيين.
فمن شاء من القُرَّاءِ مُشاطرة زميلنا ما رأى وما سمع في رحلته هذه؛ فليطرق باب المختارات.