المختارات الشعرية أو الشعر المنثور
و«ولت وتمن» هو مُخترِع هذه الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت اللواء بعد موته كثيرٌ من شعراء أوروبا العصريين.
وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات «وتمنية» ينضمُّ إليها فريق كبير من الأدباء المُغالين بمحاسن شعره الجليَّة، المتخلِّقين بأخلاقه الديمقراطية، المتشيعين لفلسفته الأميركية؛ إذ إن شعره لا تنحصر مزاياه بقالبه الغريب فقط، بل فيه من الفلسفة والتصوُّر ما هو أغرب وأجدُّ.
(١) الثورة
•••
•••
•••
•••
•••
(٢) ريح سَمُوم
•••
•••
•••
(٣) تحت الرماد وفوق النجوم
(٤) داويني ربة الوادي
•••
(٥) غصن من الورد
ركبتُ في الأمصارِ البعيدة هواي وأرحته من عنانه
غرست في بساتين الغرباء حبِّي فنَوَّر قبل أوانه
غرسته في أرضٍ سمراء جديدة، فناحت عليه زهور زمانه
طرحت بذور حبِّي جزافًا ذات اليمين وذات الشمال
طرحتها في سهول الحريَّة، فأحرقها قيظ الفوضى، وداستها أَرجُل همجية
طرحتها في أنجاد العلم، فأيبس ما نبت منها الصر، وحملت رياح النزاع البقية إلى حيث لا أدري
طرحتها على شواطئ نهر الفلسفة الرَّاكد، فذوت في ظلاله الظليلة، ماتت؛ لأنها لم ترَ نور الشمس
غرستُ حُبِّي في غياض الحضارة الغيضاء، فأدمته الأشواك، خنقه العُلِّيق، قتلته الجذور السامة
غرسته في أرض الأحبَّاءِ والخِلَّان، فمات بالاستسقاء من مُستنقعات الكذب والرياء
غرسته في حقول التجارة تجاه طواحين التمدُّن، بين بيت الصراف، وبيت الكاهن، فتواطأ الاثنان عليه، ومدَّا في قلبه البلاط رصيفًا للصوص
لأولئك اللصوص الذين يُؤاكلون ويشاربون القضاة
ذهبتُ بحبِّي إلى الفقراء والبؤساء، فغرسته في أرضهم الجدباء فلم ينبت، غرسته قُدَّام بيت أم الحي فاقتلعته ورمته بوجهي وهي تقول: اذهب في طريقك، جاءنا قبلك مغرون فقتلوا، صلبوا، حرقوا، نطلب إنصافًا وعدلًا لا تعزية ورحمة
جُزت حيَّ البؤساء إلى مغاور اللصوص والأشقياء، إلى المنبوذين والممقوتين
ذهبت فغرست بينهم غصنًا نضيرًا من حبِّي، فعاش قليلًا نحيلًا، ومات قبل أن يبلغ أَشُدَّه
في ظلمات قنوط المنبوذين قضى نحبه، دخان تجديف الجاحدين أعماه، خنقته روائح بذاءة اللصوص والقتلة، فكفَّنه الفاجر بلعنته، وجلقت الفاجرة فاها فوق جثته
هجرت المدن، وهذه المدنية، وركبت البحار
نثرت على المياه حبِّي كما تنثر شمس تموز ألماسها ولآليها، نثرته صباحًا فتلونت الأمواج من شهواته، نثرته مساءً فتوهجت من نيرانه الآفاق
كلَّمَ حبي السحاب فأجابه، دعا البحر فلبَّاه
لمس حبِّي الآفاق بأنامله، فارتعدت وتموَّجت مبتهجة متوهجة.
•••
في صُبح يومٍ من أيَّام الربيع بعثتُ حبِّي رائدًا في صحراء جديدة، فمضى ولم يَعُد إليَّ
ناديته من قمم لبنان فلم يُجِبني
فتَّشتُ عليه في الآفاق وورائها في مشرق الشمس ومغربها فلم أجده
تركتُ حبِّي يهيم ثانيةً على وجهه
فركب هواه مرَّة أخرى وتركني أتحسَّر وأتأسَّف عليه، آه عليَّ، أوَّاه عليه
في وطني، في أرض أجدادي، في التربة التي ذاقت قديمًا حلاوة ضربة معول رجل قوي، غرست غصن وَرْدٍ طريٍّ
غرسته والآمال تدفعني والعزم يعقد شفتيَّ
غرسته في مكان عزيز، جعلته في حرزٍ حريز بعيد عن الحضارة والناس، لا فرق عندي الآن إن صُمَّتْ مسامعهم وإن فُتحت
لا يهمني إن استحجرت قلوبهم، أو استحالت طينًا، أو ذابت ماءً مَعِينًا. أنتِ أيتها الأرض أمي، وسأفرح يوم تضميني إلى قلبك كما تضمين الغصن الذي أنا الآن غارسه
أنتِ أيتها الأرض حية أبدًا، أبدًا تحبلين وأبدًا تلدين
مهما كان ظاهركِ فالشعور فيكِ لا يموت، النار في قلبكِ لا تخبو
الخريف يُزيل الوقر من أُذنكِ، والشتاء يُليِّن قلبكِ، والربيع يُحرِّك لسانكِ، والصيف يُريكِ ثمرة أحشائك
ومن أفصح منكِ في الربيع، وأكرم منكِ في الصيف؟
من أعظم تهيُّجًا وعطوفًا منكِ في الشتاء؟ من أشد سمعًا في الخريف؟ من أرحم منكِ أيتها الأرض؟ من ألطف وأشفق وأحلم؟
تقبلين منَّا الأقذار وتُعطينا عِوَضها الأزهار
تستنشقين نتانة أَمراضنا وروائحها، وتُعيديها إلينا شذاء طيبًا
تسكب لكِ السماء كأسًا من الماء الزلال، فيعكره الإنسان، فتفيضين عليه مكافأة خيراتكِ ومراحمكِ
أرض أجدادي، افتحي الآن لي قلبكِ
لا تجهميني، لا تعبثي برجائي وعملي، لا تحبسي حبِّي عني دهرًا
أيتها الأرض التي نقَّبها أبي، وصلَّت تحت أشجارها أمي، لا تُودعي آمالي الصخور، لا تحمليها إلى قمم الجبال فتموتُ هناك من الثلوج وشدَّةِ الرِّياح.
•••
على كتف هذا الوادي الذي ردَّد صدى صراخي وغنائي صغيرًا في هذه الأرض التي هجرتها قبل أن هجرتني الصبوة، غرست غصن وَرْد طري
كلمت الأرض بيدي لا بلساني، حصبتها ونقبتها بمعولي الصغير
طعمتها من ذاك الأسود الذي تفرزه المواشي، ومن ذاك الأصفر الذي يكاد يشتعل في الصحراء من قبلة الشمس، ويكاد يذوب على السواحل من قبلة الأمواج
سقيت غصني من ماء الفؤاد، وحجبت عنه النور في أيامه الأولى
رفعت فوقه سُرادق ودِّي وهيامي، ونثرتُ حوله في الشتاء أوراق الخريف البالية
ولبثتُ إذ ذاك أنتظر جواب الأرض وحُكمها
كم مرَّةٍ زُرتُ غصني وهززته مُستخبرًا، فلم تَبدُ عليه لا إشارة الموت ولا علامة الحياة!
كم مرة افتقدته وقلَّبتُ فيه الطرف مُستقصيًا أخباره!
كم مرَّةٍ وقفتُ أمامه والفؤاد يتموَّجُ بين اليأس والرجاء!
تباركتِ أرض أجدادي؛ فقد حَسُنَ في عينها اجتهادي
تباركتِ أرض أمي، فستريني الوَرْد على غصن تعبي وهمي
نعم، الأرض كلمتني، أجابت الأرض سؤلي، رددت الأرض صدى حبي
ها إنَّ غصن الوَرْد ينطق كالطفل
بدت عليه على شفتيه لفظة الحياة، وأثمرت في قلبه الكلمة الحية التي تساقطت عَرقًا من أناملي ومن جبيني
في فمه لؤلؤة صغيرة ملفوفة بلفافة ذهبية، وفي صباح الغد تستحيل لفافة لازوردية، وتبدو اللؤلؤة زمردة نحيفة نديَّة
وبعد غدٍ أو بعده ينشأ من الزمردة صدفة خضراء في قلبها بحورٌ من الوَرْد لا تُرى، وأجيال من الحياة لا تُعَدُّ
في قلبها أوراق خضلة صغيرة مُلتفَّة حول عِرقٍ نحيفٍ طريٍّ لا يعرف بعد اسم الشوك ولا معناه
في قلبها أغصان، وفي قلب الأغصان وَرْد، وفي قلب الوَرْد بذور، وفي البذور الأبدية والخلود.
•••
كلمتني أرض أجدادي، أحيت فيَّ الرَّجاء، ضمَّت إلى صدرها طفل حبي وأنعشته بعد أن كاد يموت
نفخت فيه من روحها الأزلي فتحرك لسانه
هو ينطق بما تُلقيه إليه من آيات الحبِّ والجمال والحكمة والرَّجاء، أين فصاحتي من فصاحتها؟
الأرض لا تنطق إلا لتُحيي، لا تتكلَّم إلا لتُزهر وتُثمر
ما قالت «لا» بزمانها قط! فإن كان جوابها إيجابًا «فنعم»، وإن سلبًا، فسكوتًا أبديًّا
كل آياتها جميلة، كل أقوالها مُنعشة مُحيية
وليتها تُعلِّم بَنِيها القول المثمر، المنعش، الجميل
أو ليتها تُعلِّم بَنيِها السكوت.
•••
كأنِّي بالأرض تقول: ليكن عندك ذرَّة من الإيمان فيَّ، واعطني ساعة من العمل، فأعطيك عِوَضها مائة، بل ألف ضِعف من الحب والرجاء، من السرور واللذة، من العزم والنَّشاط، من الحياة البسيطة النقيَّة التي لا سعادة للإنسان إلا بها.
•••
كل جرثومة على غصن الوَرْد الذي غرسته هي لفظة من ألفاظ الأرض العذبة، هي رسالة حب من الأم لبَنِيها
كل بُرعم من هذه البَراعم هو عُقدة من عُقد الكون، هو سِرٌّ من أسرار الحياة
في أي عصر وُلِدْتِ أيتها الوردة؟ أي أرض شاهدت أول زهرة من أزهارك، واستنشقت أول نفحة من أريجك؟
مَنْ زرع بذرتك الأولى؟ مَنْ غرس أوَّل فرع من فروعك؟
أوَّل غصن من أغصانك الأصلية الأولى: مَنْ نقله من الحقل إلى البستان؟ من الوادي إلى حديقة الإنسان؟
أيتها الوردة البرية، بل الوردة السرية: من أي دغلٍ نشأتِ؟ وفي أي سلم من النباتات الشوكية رقيتِ؟
لا تتكلم الأرض إلا ألغازًا، الأرض لا تأتمن بَنِيها على أسرارها
احترز من شرك العلة الأولى، لا تبحث في أصول الأشياء
متِّع نظرك ونفسك فيما تراه وتسمعه، وإن شئت الدخول إلى هيكل سِر الأسرار فتجرَّد عن الجسد قبل أن تطأ أسكفة الباب.
•••
إني لأجد لذَّة شهية غريبة في مُشاهدة هذه البراعيم الجديدة، وفي مراقبة نشوئها ونموها
عددتهم والله مرارًا كما تَعُد الأم أسنان طفلها
افتقدتهم مرارًا كما تفتقد الطيور عشوشها
تلهفَّت وأي تلهُّفٍ على بُرعمٍ واحدٍ نثرته الرياح منها
ولكن زمن السرور قصير تكاد زبدة الأشياء تذوب قبل أن تَجمُد.
•••
أواه! صِرتُ أخشى الاقتراب من وَرْدتي فقد أثَّت فروعها، والتفت أغصانها، وقست أشواكها
أواه! صِرتُ أنظر إليها بغير العين التي شاهدت نشوء براعيمها ونمو فروعها
لهفي على وَرْدة الحياة، تُريني ألف شوكة قبل أن تَفيح بنفحةٍ واحدةٍ من شذاها
تجرحني مائة مرَّة قبل أن تُعطيني زِرًّا واحدًا من أزرارها.
(٦) معبدي في الوادي
إيه أُم الطبيعة بل أمي! جئتُ أُجدِّدُ معكِ آمال الحياة وسرورها، جئتُ أُجدِّد عهدي وإيماني مع كلاء الحقول وزهورها
جئتُ أُردِّدُ تحت هذه الأفنان الخضراء ابتهال أبنائكِ الأتقياء
وقفتُ على ضريح الشتاء ليلًا، فشاهدت هناك مشهدًا جليلًا
شاهدتُ ربَّة الربيع تُقبِّل جبين أبيها، فيُنوِّر الأقحوان تحت شفتيها
رأيتها تكتب بدموعها سِفْر الخلود، فيُردده العصفور في الجلمود
ورأيتُ الأولاد في الحقول حُفاة يقطفون الزهور لخير من تألَّم في الحياة، فقلت في نفسي: ونِعم الإيمان في قلوب الصبيان!
إنَّ في قلبي اليوم شيئًا مما في قلب جاري، وفي قلب الغاب أثرًا من آثاري.
ألا إنَّ قلبي في عقل هذا القروي، وعقله في قلبي الخفي، والذي يراه تحت الكلاء أراه أنا في السماء، والذي يراه في الأرض المُنبثق منها نور العالمين أراه في أكمام الوَرْد، وفي براعم الياسمين
فإذا كنتُ أرى ذلك في الحقل، فلماذا أبرح الحقل؟
ألأسمع في الكنيسة وعيد من لا يعرف من أسرار الحياة سوى ما قرأه في كُتب اللاهوت والصلاة؟
إنَّ في ورقة من أوراق التُّوت سِرًّا لا يكشفه اللاهوت
إلى الوادي إِذن، هُنَاكَ بين أشجار البُطم والزمزريق، وتحت أدواح الصنوبر والسنديان أُشيد هيكل الإيمان
أراني هنا في بيتي، بل في بيت الطبيعة، بل في بيت الله
ورُفقائي هم حقًّا أحبَّائي، هم إخواني، حُبًّا بحبِّي وإيماني
إنَّ هيكلي لقريبٌ من سلسبيلٍ فضيٍّ ذهبيٍّ يجمعُ بين الدم الجاري في العروق، والصبيب المُتصاعد في الأشجار، واللبن الذي يجدِّدُ في النَّبات حياتها، وفي الأزهار أريجها وألوانها، ومنبرُ مرشدي هو مرسح الإنشاد والتغريد، لا منصَّة التحذير والوعيد.
أسمع همسَ الأفنان وهي تُسبِّحُ في قلبها الرحمن، وقد أحياها النسيم العليل الذي جاء هذا اليوم من بلاد الجليل.
•••
سماع قد بدأ الدوري بتلحينه والسنونو بإنشاده
سماع إنَّ من حلق الحسون الذهبي تتدفَّقُ الأنغام الفضية
إنَّ الأطيار تدعوك إلى تجديد إيمانك وآمالك في الحياة
هي تفتح لك أبواب السماء مُغرِّدة، ولا تبعدك عنها متهدِّدة
هي تدعوك إلى العمل، وتنفخ فيك روح الجِدِّ والأمل
أي ربَّة الغاب، إنَّ رؤساء هيكلك يردِّدُون صدى نشيد الربيع، لا صدى منطق «الغوري» والمعضلات
وشتَّان بين «الغوري» والدُّوري، وبين الحسون والخوري
في ظلِّ القويسة والغار، وبين الصعتر والوزال والخنشار، وبالقرب من ضحضاحٍ يشفُّ عن نباتاتٍ حيَّةٍ تحت الماء، وفوق النهر الجاري تحت قدمي هذا الوادي الرهيب، أبني لكِ أيتها النفس هيكلًا من الإيمان يُؤمُّه في المستقبل البعيد من إخواني والقريب
بل أُقيم فيه تمثالًا للوداد والإخاء، وأدعو إليه كل بشرٍ تحت السَّماء، فيه أُحيي اليوم أنفُس المستقبل ومستقبل الأنفُس العظيمة.
وحياتي لا تُزْري بحياة الخنافس والدبَّابات؛ لأنَّ النَّاموس الذي يحرِّكُها تحت الكلاء يحرك النجوم في حُبُكها، والسيارات في بُرُوجها.
•••
إنَّ الأريج المُنتشر من هذه الأدغال هو البخور الذي يحرقه الربيع على مذبح الحياة والإيمان
هو أريج الزعرور والقندول المختبئة أشواكهما الآن تحت نقاب جميل من الأزاهر الصفراء والبيضاء
بين هذه الأدغال الشذية، وتحت شعاع ابتسامة الأشواك، يلذُّ لي التأمُّل فيمن مات ليُحيي الحب والوداعة في الناس
بين هذه الأشواك تحملني تصوراتي إلى حيث وُضِعَ الإكليلُ على رأس الشهداء
على أنَّ الزَّمان لم يبقَ منه سوى الأزهار تُنوِّر كلَّ عامٍ في قلوبِ الأتقياء مثلما يُنوِّر القندول والزعرور في الغابات
باسمكِ، أيتها النفس الإلهية، أصنع لإيماني إكليلًا من أزاهر الزعرور لا من أشواكه
باسمكِ، أُشيد لحبِّي هيكلًا من خشب السنديان، وأُزينه بالصنوبر والنيلوفر وبأقمار البيلسان
وإلى أتباع الذي صُلِبَ وبَنِيِّ الذين صلبوا أقول: تعالوا نُسبِّحه أجمعين في وادي المسرَّة لا في وادي الدموع، تعالوا نتصافح تحت السماء حيث لا حاجز يَحُول دون الحب، ولا ما يَحُول دون الإخاء.
(٧) إِنَّا غريبان ها هنا أو جمعة الآلام
كلمة همسها النسيم في أُذُنِ رُعاة الجليلِ، فسمعتْها الدُّهور وردَّدتها الأجيال
كلمةٌ من أغصان الزيتونِ في أورشليم زلزلت العروش، وأسمعت ملوك الأرض صوت ذي الجلال
كلمة زرعتها دموع المرأة تحت الصليب، فنُوَّرت في السَّماء، وكان فيها مِسك ختام النحيب
هي كلمة الربيع في كلِّ عام، بل نشيدُ الأطيار على الدوام، بل أغنية الأزاهر في الحقول والآكام
وإنَّ أنفُس النَّاس النبيلة لتتجسَّدُ في مظاهر الربيع الجليلة
إنَّ في كلِّ نفحةٍ من نفحات الربيع روح بشرٍ عظيمٍ وديعٍ
إنَّ العام في هذه الأيَّام يحتفلُ بفوزِ أمراء الحبِّ ومُلوك السَّلام
وإنَّ أكاليل الشَّوك لأعظمُ من تيجان القياصرة، وكأس المُرِّ لأطيب من خمرة الأكاسرة، وقد يُدرِكُ هذا الإنسان فيظلُّ من عبيد الزمان، بل من أُسَراء الغرور والبهتان.
•••
جئتُ الكنيسة لأردِّد اليوم مع النَّاس ذكر أمير النَّاس، بل ذكر الحقيقة التي يعزُّ نصرها بالعذاب، وتحلو بمُرِّ الشراب
دخلت الكنيسة وفي نفسي من أحد النخل والزيتون ما لا يُنسيني إيَّاه يوم الجمعة الأليم
بل في نفسي من السُّرورِ والابتهاج ما لا يُضاهيه فرح النَّاس في العيد العظيم. إنَّ في هذا اليوم يجتمعُ القمر والشمس، فيشرق الغدُ على المستقبل، ويشرقُ على الحاضر الأمس
في مثل هذا اليوم وُلِدَ على الصَّليب الكريم روح بشرٍ صميمٍ.
إنَّه ليوم حبور أيها الأتقياء، لا يوم حُزن وبكاء، بل لبس ورياء
وإنما نحن في جنازة المسيح، وهذا وربِّي تجديفٌ قبيح
إنَّ وراء ذاك الستار الأسود الصليب، وأمامه الآباء ووجه كل قطوب كئيب
هم يجنزون من لا يعرفون، بل يدمدمون وينعبون والناس إليهم شاخصون
ويلاه! أنا الوحيد الذي لا يرى ما يراه الآباء، ولا يشعر بما يشعر به هؤلاء الأتقياء!
ها قد مشى في الجنازة المدمدمون وهم في الكنيسة يطوفون
وهذا الصليب وقد تصاعد وراءه النحيب، وأمامه البخور والطِّيب
وصل الموكب إليَّ فما جثوت على ركبتيَّ
سرَحت في النَّاس نظري، فرأيتهم كلهم ساجدين، ورأيتُ بمقرب منِّي رجُلًا آخر من الواقفين
فقرأتُ في وجه هذا الغريب ما خالج قلبي الكئيب، وصرخت ساكتًا: إلَهَنَا، إنَّا غريبان ها هنا.
ثم كلمت الغريب فقلت: ولِمَ الجنازُ ومَن صُلِبَ قد فاز؟
ولِمَ هذه الصلوات المُبكية، وقد أشرقت على الأرض ابتسامة إلهية؟!
فمال بالنظر إليَّ، ولم يُجِبني بشيءٍ.
•••
ها قد دفنوا الصليب تحت الزهور وانجلت غيوم البخور
وطُفِئت الشموع وكفكف المدمدمون الدموع
خرجنا من الكنيسة أنا والغريب، ونفسي تُناجي ذاك الحبيب
فسِرنا معًا إلى بستانٍ من الزيتون خارج المدينة
وجلستُ تحت شجرةٍ هناكَ، فجلس الغريب إلى جانبي
نظرتُ إليه ونظر إليَّ وقد استولى علينا السكوت والعي
فكأننا حبيبان فرَّق بينهما العرفان، فجمعهما الحب والحنان
وفي مثل هذه الساعة تُفصح اللحاظ عمَّا تعجز دونه الألفاظ، على أنني حِرْتُ في أمره العجيب وقُلتُ في نفسي: مَنْ يا تُرى الغريب؟
وما كاد يخطر ذلك في البال حتى وقف أمامي كالخيال
فعرفتُ الطَّيفَ في الحال، وقد أنكرته في شكل الرجال، وناديته مدهوشًا: أخي، رفيقي، سيدي، هذا فؤادي، ها يدي، نفحة من جنانك، كلمة لإخوانك
أَسمِعت خُدَّامك ينعبون؟
ألتمثالك الناس يسجدون وهم عنك بعيدون؟
سيدي، دعني ألقي على كتفك رأسي، فيذوب ثلج فتوري ويأسي، قرِّبني من فؤادك لأتزود من الحب الذي لا يعرفه أحد من عبادك، سيدي، اسقني من الحريَّة والحق والإخاء ما لا يشوبه الخوف والرياء.
•••
وبين أنا أكلمه في البستان طلَّ البدر من شرفة لبنان
فتركني ذو الجلال مكانه كالخيال، وذاب في القمر فوق الجبال.