هيبنوسيس
الآن انكشَف السر.
كنت تعيش في كذبةٍ يا صاحبي.
كذبة مريحة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.
لكن روحك كانت تتقيَّح صديدَ ماضٍ حاولت ونجحت في تناسِيه ودفنه في أعمق أعماق اللاشُعور لديك، آثرت أن تتحاشَى الحقيقة وتعيش الكذبة.
لكنك كنت تدرك دومًا أن شيئًا ما ليس على ما يرام.
إنه الفضول الإنساني القاتل.
كان آدم فضوليًّا؛ لهذا طُرِد من الجنة.
وأنت يا صاحبي فضوليٌّ كالقطط.
أنت قصدتني وطلبت الحقيقة. ولم تعلم أن الحقيقة ستسمِّم روحك، وتزلزل كيانك وإيمانك بالله.
أنت طلبت الحقيقة، وأردت أن يرفع الستار.
فلا تلُمْني.
***
١
منذ كنت طفلًا صغيرًا وأنا أعشَقُ الخريف.
حتى وأنا في هذه السن يا سيدتي، ما زال الخريف يهيج في داخلي كل المشاعر المتناقضة غير المفهومة، الشعور بالشوق لتلك المحبوبة الغامضة التي لا أعرف مَن هي.
الشعور بالحب، الحب الغامر المتدفق لكل شيء.
ما زال وجهي يكتسي بتلك الفرحة الطفوليَّة عندما أرى حبيبات المطر تتساقط بصوتها الرتيب المميز بعد أن قطعت كل هذه المسافة من السماء لتسقط تحت قدمي أنا بالذات، وكأنها تنزل لتغسل روحي ذاتها.
الريح الباردة التي تُلامس وجهك في رِفق حاملة معها رائحة الطين الطازج وروث الماشية، رائحة الأشجار الندية وقد غسلت للتو، رائحة الحقول البعيدة.
الرائحة الرطبة المنعشة التي تتغلغل في أعماقك، وتشعرك مع كل شهيق بأنك حي، وأنك موجود.
وأنك تملأ المكان.
لكن هذا الإحساس سرعان ما يتلاشى عندما تقرر أن تخرج لقضاء حوائجك، وتكتشف أن عليك أن تكون راقصَ باليه محترفًا، وأن تتقافز كالضَّفادع عبر البقع الجافة في الشوارع التي تحولت لبرك سباحة، لو كنت حسن الحظ فعلًا، فلن تنزلق قدمك في هذا المستنقع.
إن بلادي يا سيدتي لا تحتمل الخريف ولا تُطيقه بيوتها، إنه يثقل كاهل الفقراء ويركلهم في العراء يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء. سيقول لك المسئولون إنهم تفاجئُوا بالخريف هذا العام لهذا لم يستعدوا للأمر جيدًا، ربما العام القادم.
هم رجال عمليون جدًّا، كانوا يتوقعون إشعارًا خطيًّا ممهورًا بتوقيع الخريف بأنه على وشك الوصول، وأن عليهم أن يستعدوا، لكنه — كضيف قليل الذوق — يصرُّ أن يأتي بدون سابق إنذارٍ كل مرة.
إن للخريف عادات سيئة حقًّا في آداب الزيارة!
كانت ظهيرة يوم قائظ من أيام شهر يوليو عام ٢٠١٣م. يوم الثلاثاء تحديدًا. أحد تلك الأيام الحارة الخانقة التي تعقُب هطولَ المطر، والتي تضيق لها روحك وتستشعرين لزوجة الهواء على مسامِّ جلدك. أذكر اليوم جيدًا؛ فقد كانت آخر مرة أرى فيها «عمار» عندما زارني في العيادة.
كنت مشغولًا مع إحدى المرضى في العيادة، امرأة مسكينة توفي زوجها وأصيبت بعدها بالعمى، وقد فشل أهلها في معرفة السبب برغم عرضها على كل مستشفيات «الخرطوم» وشيوخ «أم ضَوَا بان». كانت أعراض الهستيريا واضحة، لم ترغب المسكينة في رؤية الدنيا بعد زوجها، لهذا تسببت لنفسها بالعمى، لكنها كانت تتماثل للشفاء.
رافقتها للخارج حيث ينتظرها أحد أقاربها، وأدخلت «عمار». والحقيقة أنني كنت أنتظره، فقد بدأت أكوِّن نظرية معينة تتعلق بأسباب ما يمر به، فقط احتجت لإثباتها.
قال لي في فضول، وهو يدلف للداخل ويشير بإبهامه للباب حيث خرجت المرأة: «مم تشكو؟»
– «أعراض هستيرية، تسبَّبت لنفسها بالعمى، ليس شيئًا مهمًّا.» أجبته.
سألني بنفس الفضول: «تسببت لنفسها بالعمى؟ هل هذا ممكن؟!»
– «نعم. هل يمكنك أن تمنحني بضع لحظات؟ أريد أن أكتب بعض الملاحظات. تفضل بالجلوس.»
راح يتجول في العيادة وهو ينظر للصور المعلقة على الحائط في لامبالاة، وهو يهز رأسه بخفَّة على إيقاع أغنية تتردد في ذهنه على ما يبدو. بينما انهمكت أنا في تدوين بعض الملاحظات عن المريضة السابقة.
– «من هذه؟!»
رفعت رأسي ورأيته يحدِّق في صورة على سطح المكتب، قلت: «هذه ابنتي.»
– «إنها جميلة.»
– «شكرا لك.»
– «ما اسمها؟»
– «مُنى.»
– «اسم جميل. كم عمرها؟»
شعرت بتلك القبضة الغامضة الباردة تعتصر قلبي، حتى لشعرت أن دقاته قد اضطربت للحظات. أي شيخ محطَّم تركتِه خلفك عندما أغمضتِ عينيك الجميلتين للأبد؟!
أي حزن خلفته لوالدتك حتى أصابها الهُزال، وأصبحت لا تقوى على مفارقة سرير المرض؟! فليرحمك الله.
خلعت نظارتي، وقلت وأنا أتأمل صورتها: «كان عمرها ١٠ سنوات عندما توفيت.»
قال بلهجة معتذرة: «آسف، ربنا يرحمها.»
هززت رأسي وعدت لأوراقي، لكنني عرفت أنني لن أستطيع التركيز مجدَّدًا، لهذا وضعتها في درج المكتب، وأشعلت سيجارة.
نظر لي باسمًا، وقال: «لم أكن أعرف أنك تدخن!»
قلت له وأنا أتأمل ملامحه القاسية الوسيمة، وعينيه الذكيتَيْن: «أحيانًا ما أفعل. هل يمكنك أن تجلس؟»
هكذا جلس على الكرسي أمامي وراح يهزُّ قدميه في مللٍ واضح. قلت له وأنا أنفث الدخان: «هل انتهى العام الدراسي بعد؟»
– «نعم. بضعة أشهر، وسأبدأ عامي الثالث في الكلية.»
– «هل يمكنك أن تخبرني مجدَّدًا عن ذلك الحلم الذي تزامن مع بدء النوبات؟»
قال وهو يهزُّ كتفيه: «كما قلت لك سابقًا، دائمًا أكون في صحراء غريبة فيها سحب سوداء وأرى صقرًا ضخمًا يُطاردني، ثم أستيقظ قبل أن يصل إلي.»
قلت له وأنا أطفئ السيجارة: «والصوت الذي تسمعه، قلت إنك تعرف صاحبه.»
– «لا أعرفه، لكنه يبدو مألوفًا بالنسبة لي، وكأنني سمِعْته من قبل في مكان ما، ربما أتخيل أنني أعرفه. لا يوجد منطقٌ في الأحلام كما تعلم.»
– «ولم تستطع تحديدَ أين سمِعته بعد؟»
قال بلهجة ساخرة: «كنت آمل أن تخبرني أنت.»
كنت قد كوَّنتُ نظريتي الخاصة عن أسباب ما يمرُّ به، فقط احتجت لإثبات نظريتي. لهذا سألته مجددًا: «هل يمكنك إخباري متى كانت أول مرة ترى فيها هذا الحلم؟»
راح يمسح على مؤخرة عنقه، وهو يحاول التذكُّر، ثم قال: «قبل عامين تقريبًا.»
– «بعد انتقالك للخرطوم للدراسة؟»
– «نعم.»
رحت أسجل بعض الملاحظات، ثم سألته: «ومتى أصابتك أولى نوبات الذعر التي وصفتها؟»
قال وهو يزمُّ شفتيه ويضيق عينيه: «قبل عامين تقريبًا. لست أذكر بالتحديد.»
قلت له وأنا أعيد ارتداء نظارتي: «حسنًا. أريدك أن تخبرني إن كنت مخطئًا، لقد داهمَتْك أول نوبة ذُعر بعد بدء هذا الحلم الذي تصفه في الظهور.»
راح ينقر على سطح طاولة المكتب بأطراف أصابعه بخفَّة، محاولًا التذكر، ثم قال: «نعم، أعتقد ذلك.»
– «وكانت النوبة تصيبك بعد أن ترى الحلم دائمًا، أو تمر بموقف صادم.»
– «لم أفهم.»
قلت، وأنا أقلب أوراق مفكِّرتي: «لقد أصابَتْك النوبة الأولى — وصحِّحني إن كنت مخطئًا — بعد أن حلمت بذلك الحلم في نفس اليوم، أول أيام الجامعة. وأصابتك النوبة الرابعة عندما حلمت بذات الحلم مجددًا. بينما أصابتك النوبة الثانية والثالثة بعد حدوث الاشتباكات بين الشرطة والطلاب، في ديسمبر ٢٠١١م، ويونيو ٢٠١٢م. أليس كذلك؟»
راح ينظر لي في اهتمام لأول مرة، وقد اتسعت عيناه قليلًا. قال في انبهار: «نعم، هذا ما حدث بالضبط.»
قلت له: «هل تريد أن تعرف ما أعتقده؟ أعتقد أن لنوباتك علاقة بكل ما يمثل لك رمزًا للسلطة العسكرية في حياتك، كأفراد الأمن والشرطة، أعتقد أن حلمك المتكرر يرمُز لذات الشيء على نحو أو آخر. هناك شيء ذكرته لي من قبل بطريقةٍ عرضية أثناء الجلسات ونسيته فيما بعد، في أول أيامك في الكلية عندما التقيت «هبة» للمرة الأولى، قلت إنك قد رأيت طائرة حربية بطريقة عرضية تحلِّق من بعيد، ثم أصابتك النوبة الأولى، لم يكن الحدث مهمًّا بالنسبة لك، وعلى نحو ما تسرَّب للاوعيِك، لكنني أعتقد أنه كان المحفزَ الحقيقي لنوبة الذعر التي أصابتك. رمز آخر للسلطة العسكرية، وأعتقد أن شعور الكراهية الذي وصفتَه يرتبط بتلك السلطة بنحو أو بآخر.»
وفتحت درج مكتبي، وأخرجت تلك الصحيفة التي أرسلها لي صديقي من دار الوثائق القومية منذ عدة أيام، رُحت أبحث عن خبر معين في الصحيفة أمام عينيه المتسائلتَيْن، أخيرًا وجدت الخبر المطلوب. قمت بكتابة بعض الملاحظات على مفكِّرتي، ثم طويت الصحيفة مجددًا، وقلت مضيفًا: «بحسب بياناتك، أنت ولدت عام ١٩٩٣م، في منطقة تسمى «أبو حمرة» في شمال دارفور.»
راح ينظر لي في شكٍّ، وراحت عيناه الذكيتان تنظران لي، ثم للصحيفة المطوية وكأنه يحاول أن يستنتج ما هنالك. قال في اقتضاب وكأنه أُهين: «نعم، شمالي دارفور.»
– «تحديدًا في قرية (…) بمنطقة «أبو حمرة» غرب شنقل طوباية. أليس كذلك؟»
– «نعم، ولكن كيف تعرف ذلك؟»
– «قمت بعمل بعض البحوث، أعتقد أنني أعرف سببَ ما تمر به، لكنني لست متأكدًا بعد.»
– «أي بحوث؟ ماذا يوجد في الصحيفة؟»
قلت له وأنا أعتدل في جلستي: «أعتقد أنني أعرف ما دهاك. أعتقد أن الحلم المتكرر ونوبات الذعر التي تنتابُك أعراضٌ لشيء آخر؛ شيء أعمق.»
– «شيء مثل ماذا؟»
قال محاولًا إعادة نطق الكلمة: «هيب هيبو.»
قلت مقاطعًا: «هيبنوسيس. وسيلة لوضعك في حالة ذهنية مسترخية، إنها تساعد على التداعي الحرِّ للأفكار، والذكريات القديمة في وعيك. يشبه الأمر حالةَ ما قبل النوم، عندما يسترخي جسدك، ويصفو عقلك من الأفكار.»
قال في هدوء: «تريد أن تنومني مغناطيسيًّا؟»
– «ليس تمامًا، فقط أريد مساعدتك على التذكُّر.»
– «تذكر ماذا؟»
– «لدي نظرية أريد اختبارها. لا أعتقد أن للأمر علاقةً بضغوط عملك أو دراستك، أعتقد أن الأمر يتعلَّق بذكرى أو ذكريات معينة مدفونة في عقلك، وسأحاول استرجاعها.»
أومأ برأسه موافقًا، فطلبت منه أن يستلقي على الأريكة الموجودة في ركن العيادة، وجلستُ جواره.
قلت له، وأنا أشير إلى صورة معلقة على الجدار مرتفعة نسبيًّا عن مستوى بصره: «أريدك أن تثبت بصرك على تلك الصورة لبضعِ دقائق.»
مرت بضع دقائق، وهو يحدِّق في الصورة بتركيز، ثم سألني: «هل سأغيب عن الوعي؟»
– «ليس تمامًا، فقط سأساعدك على الاسترخاء، سيكون الأمر أشبه بأحلام اليقظة بالنسبة لك، ستتداعى أفكارك، ولن تشعر بنفسِك هنا. فقط عليك أن تركز على صوتي.»
أومأ برأسه موافقًا، فأردفت: «أريدك أن تغمض عينيك الآن، أريدك أن تركز على تنفسك حتى تسترخي.»
أغمض عينيه، وراح يتنفس في هدوء.
– «أنت مسترخٍ الآن، لا شيءَ يشغل ذهنك. هل تسمع صوتي؟»
أومأ برأسه موافقًا، قلت له وأنا أخفض من نبرة صوتي: «أنتَ تزداد استرخاء، وعقلك يصفو أكثر فأكثر.»
مرت بضع دقائق أخرى، فقلت له بصوت هادئ: «ماذا تذكر عن يوم الخميس ١٧ يونيو عام ٢٠٠٤م؟»
قال بصوت عميق كأنه في بئر: «لا أذكر شيئًا.»
عشر دقائق صمت.
– «لا شيء يشغل ذهنك الآن، ارجع بذاكرتك للعام ٢٠٠٤م، أين كنت؟»
لم يرد، وساد الصمت لمدة طالتْ — حوالي ربع ساعة — إلا من صوت تنفسه المنتظم، سألته مجددًا:
«أين كنت في العام ٢٠٠٤؟»
– «في القرية.» قالها بهدوء.
– «أين كنت في شهر يونيو من العام نفسه؟»
ساد الصمت مجدَّدًا. مرت حوالي ربع ساعة، أعيد عليه السؤال بدون رد من جانبه.
– «أين كنتَ في شهر يونيو عام ٢٠٠٤؟»
– «…»
– «أين كنت في شهر يونيو عام ٢٠٠٤؟»
– «…»
«أين كنت في شهر يونيو عام ٢٠٠٤؟»
لاحظت أن زاوية فمه ترتعش، لم تكن ارتعاشة واضحة، ولكنها تختلج باضطرابات خفيفة. بينما راح يحرك أصبعي السبابة والإبهام بحركات عشوائية قصيرة سريعة، كأنه يقوم بالتسبيح. قال: «في القرية.»
– «ماذا كنت تفعل؟»
أصبعا يده يزدادان ارتعاشًا على نحو ملحوظٍ الآن.
– «كنت في المدرسة.»
– «ماذا تذكر عن المدرسة؟»
توقفت أصابعه عن الارتعاش، ولاح شبح ابتسامةٍ باهت تلاعب على شفتيه قبل أن يختفي بسرعة، قال: «سليمان.»
– «أنت تزداد استرخاء، وذهنك صافٍ جدًّا.»
– «من هو سليمان؟»
– «صديقي.» قالها في اقتضاب وحِدَّة.
– «أين كان سليمان يوم الخميس ١٧ يونيو؟»
– «كان معي في المدرسة.»
– «وأين ذهب؟»
لم يرد، وطال الصمت، رحت أنظر لساعتي، بعد مرور خمس دقائق، سألته: «أين كنت بعد المدرسة يوم الخميس ١٧ يونيو؟»
مجددًا بدأت زاوية فمِه تختلج، وعادت أصابعه تتحرك بذات الوتيرة الغريبة. تقلَّص وجهه وبدأتْ وتيرة تنفُّسه تتسارع. لم يرد.
قلت: «أنت في مكان آمِن، أنت تزداد استرخاءً الآن. أين كنت بعد المدرسة يوم الخميس ١٧ يونيو؟»
مرت دقائق، صدره يعلو ويهبط، قال بصوت أشبه بالأنين: «الصقر.»
– «أي صقر؟»
مجددًا راح تنفُّسه يتسارع، وراحت أصابع يده تتحرك في ارتعاشات لاإرادية، أعدت سؤاله: «أي صقر؟»
قال وهو يئن: «أمي.»
– «ماذا حصل لأمك؟»
سأُعفيك يا سيدتي من ذكر تلك الجلسة بتفاصيلِها تلك، فلقد استمرت قرابة الساعة ونصف الساعة على هذا النَّحو، حتى استطعت أن أستخرج مكنونات ذاكرته عن ذلك اليوم.
كانت مجموعة متفرقة من المعلومات التي ذكرها لي ردًّا على أسئلتي، وسأحاول أن أجمعها في رباط واحد؛ حتى أحكي لك ما حدث في السابع عشر من يونيو، وكأنني كنت شاهدًا عليه.
٢
قال المعلم محذِّرًا، وهو يجمع أوراقه: «قبل أن تنطلقوا لمنازلكم، تذكروا: سيكون الاختبارُ يوم الأحد القادم، يجب أن تستذكروا جيدًا.»
دوَّى جرس نهاية اليوم، فانطلق التلاميذ خارج غرفة الفصل في صخَبٍ، قال له «سليمان» في حماس: «أبويا قال حيشتري لي شنطة كابتن ماجد من الخرطوم لو نجحت.»
قال «عمار» ضاحكًا، وهو يعدِّل حقيبتَه القماشية على ظهره: «إنت بليد ما حتنجح.»
قال «سليمان» وهو يبتسم ابتسامة واسعة: «إنت الخير والبركة، سأجلس بجانبك في الامتحان.»
وضحِكَا. إن القرية تبعد مسافة عشر دقائق مشيًا، يقطعونها عبر غابة أشجار الهشاب التي تفصل بين القرية والمدرسة، «سليمان» يسكن في المنزل المجاور لهم، لهذا كانَا يترافقان في الذهاب للمدرسة والعودة يوميًّا، هكذا راحَا يَسيران في صمت ما عدَا صوت تهشُّمِ الأغصان وأوراق الأشجار الجافَّة المتساقطة تحت أقدامهما في الطريق، قال له «سليمان» وهو يسير إلى جانبه: «عندما تنتهي المدرسة سأسافر، وأعمل في الخرطوم مع عم الزاكي؛ حتى أجمع المال وأتزوج فطومة.»
قال له «عمار» باسمًا: «ولكن فاطمة لا تريدك، إنها تحب ود الريس.»
قال «سليمان» غاضبًا: «أنت فقط تشعر بالغيرة؛ لأنك رأيتها تبتسم لي.»
– «ابتسمت لود الريس أيضًا.»
– «من قال هذا؟»
– «جبريل الذي يدرس في الصف الثامن، لقد أخبر كل المدرسة.»
قال «سليمان» في غضبٍ، وهو يركل بعض الأغصان الجافة على الأرض: «ذلك الكاذب، إنه يقول أي شيء؛ ليثير غيظي.»
قال «عمار» بخبث: «لقد أقسم جبريل أيضًا إنه رأى ود الريس يقبلها خلف مسجد حاج إسماعيل عند صلاة المغرب، عندما كانت تجلب الماء من البئر.»
– «الكاذب ابن الكلب، سألقِّنه درسًا.»
كانا قد وصَلا بداية القرية، وراحا يدلفان بين بيوت القش المتناثرة بلا نظام، قال له «عمار» ضاحكًا: «لا تنسى أن تستذكر للامتحان؛ حتى تستطيع أن تنجح، وتتزوج فاطمة قبل ود الريس.»
ابتعد «سليمان» وهو يلوح بقبضته، ويسبُّ ويتوعد. بينما دخل «عمار» المنزل، وهو يخلع حقيبته القماشية صائحًا: «أمي أنا جائع!»
أتاه صوت والدته من داخل مطبخِ المنزل: «أنا أعد الغداء، اخفض صوتك؛ إن أختك نائمة.»
راح يغير ملابسَه، ويتأمل أخته الرضيعة في غيظ، منذ وفاة والدِه العام الماضي في أحد مستشفيات الخرطوم، وقدومها للدنيا، وهي تنال كل الاهتمام والدَّلال من والدته، وتعاملها كأنها معجزة صغيرة، ولا يدري لذلك سببًا، فأقصى ما رآها تقوم به أنها تبكي وتتغوَّط، ورائحة مخلفاتها شنيعة تزكم أنفاسه، لقد اضطروا في أحد الأيام أن يُشعلوا البخور في البيت؛ حتى تختفي الرائحة، لا يرى ذلك شيئًا مميزًا لهذه الدرجة، فكل ماشية عمدة القرية تتغوط بكفاءة عالية، وبرغم هذا لا أحدَ يدلِّلها.
أخرج جهاز الكاسيت طراز «باناسونيك» العتيق من تحت السرير. هو يحب هذا الجهاز جدًّا؛ لأنه يذكره بوالده الذي كان لا يراه إلا نادرًا عندما يأتي إليهم كل عام أو اثنين أيامًا معدودات، عندما كان متغرِّبًا في الخرطوم.
أصبح الكاسيت يلازمُه طوال اليوم، ويقوم بتشغيله يوميًّا فور عودته من المدرسة، جلبه له والده قبل سنوات في إحدى إجازاته القصيرة من الخرطوم، وقد جلَبَ له معه بعض شرائط الكاسيت؛ حتى يسمع القرآن الكريم وبعض خطب الدعوة الدينية.
هو يحب القرآن، وكان يسمعه مع والده عندما مَرِض مرضه الأخير، وكان ملازمًا للفراش يستمع للقرآن يوميًّا.
لكنه لا يحب الاستماع لخُطَب هؤلاء الدعاة الذين يصرخون في غضب دائمًا، ويتوعدونك بجهنم طوال الوقت.
كما لا يحب تلك الموسيقى التصويرية التي تعملُ في خلفية صوت الخطيب، موسيقى مرعبة مُنذرة بالويل تشعره بقُربِ وقوع كارثة ما.
لقد سمع أحدَهم في إحدى الخطب يقول: إن من لا يصلي فإن الله سيغضب منه يوم القيامة وسيعذبه في القبر، ويرسل له الثعبان الأقرع؛ ليكسر ضلوعه. ووالده لم يكن من المصلِّين.
لقد بكى في ذلك اليوم عند قبر والده، وهو يتخيل أن الثعابين تعتصر جسدَه الواهن، لكن أمه قالت له: إن النبي قد قال «إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.»
ومنذ ذلك اليوم وهو يدعو لوالده عند كل صلاة؛ حتى يوسع الله له في قبره.
رفع كفَّيْه الصغيرتين لأعلى وقال همسًا: «يا رب لا تسلط على أبي الثعابين، أعدك أنني سأدعو له كل يوم؛ حتى لا تغضب منه.»
ثم مسح على وجهه.
قام بتركيب أحجار البطارية الجافة في مؤخِّرة جهاز الكاسيت، ووضع شريطًا داخله، وضغط على زر التشغيل، راح الصوت الشجيُّ ينساب عبر سماعات جهاز التسجيل:
قالت له أمه إن اسمه «حسن العطبراوي»، تقول إنه مطرب مشهور يعرفونه في نواحي الخرطوم، لطالما أحبَّ تلك الأغنية، وعشق ذلك الصوت القوي المبحوح قليلًا، كان يجرفه بخيالِه للخرطوم.
البيوت الطينية وبيوت الطوب الأحمر المتناثرة على ضِفاف النيل، السوق العربي المزدحم دائمًا بطُلَّاب الجامعات والباعة وحافلات المواصلات، السيارات الفارهة في الشوارع المزدحمة التي يراها أحيانًا في التلفزيون، مراكب صيد السمك في النيل، والبنايات الشاهقة في أحياء الخرطوم الراقية، الفتيات المضرَّجات بأطنان من مساحيق التجميل على وجوههن، جميلات لكنهنَّ لا يُشبِهْن فطومَة.
المآذن الفخمة التي لا تشبه مساجدَ القرية في شيء.
قال له «سليمان» من قبل، وهو يقسم على المصحف: إنهم يضعون جهاز تكييف في المساجد؛ حتى يستطيعوا أن يصلُّوا في الجو الحار.
تمنى أن يصلي يومًا في أحدها.
– «يا ولد، اخفض الصوت، ستُوقظ أختَك.»
جاءه صوت أمه من داخل المطبخ، فقام بتقليل الصوت، وهو يدمدم معترضًا.
في البداية لم يستَطِع تمييز الصوتَ جيِّدًا.
يشبه صوت مولد الكهرباء أو طلمبات ريِّ المزارع، بذلك الهدير العالي المنتظم، لكنه أكثر قوة وضجيجًا، وسمع صوت أمه تصرخ في جنون، وهي تندفع فجأة لداخل الغرفة، كأنها رأت شيطانًا: «عماار تعال.»
ورآها تجري نحو سريرِ أخته، وتختطفُها من السَّرير.
لم يفهم ما يحدث.
– «أمي، ما اﻟ…؟»
هنا دوَّى الانفجار، وأحسَّ بدفعة قوية من الهواء الساخن، والغبار يجتاح قطية القش ويلفحُ وجهه، حتى إن حائطها راح يترنَّح وهو يصدر صريرًا مزعجًا، بينما راح التراب يتساقط من السَّقْف.
كانت أمه تحمل أخته على كتفها بيدٍ، وباليد الأخرى راحت تدفعُه أمامها، وعلى عينَيْها ارتسمت نظرة رُعْب لم يرها في حياته، حتى إنه شعَر بالذُّعر هو نفسه.
– «أمي ماذا يحصل؟»
كانت تجري في جنونٍ، وهي تندفع نحو غرفة المطبخ، وتردد بصوت مرتجف: «استر يا رب، استر يا رب.»
صوت الهدير من الخارج يزداد قوة وصخبًا، وشعر أنه يصدر من كل مكان، وفي كل مكان في نفس اللحظة. تأثير الدولبي الشهير الذي يعرفه السينمائيون، حتى إنه بدَأ يشعر بالصوت يتخلَّلُه، وتهتز له عظام جسده ذاتها:
أصوات الصُّراخِ في الخارج تلك:
في المطبخ وفي الركن الملاصق للحائط كانت هنالك طاولة طينية تستعملها والدتُه؛ لوضع أدوات المطبخ عليها، كان قد ساعدَ والده في بنائها قديمًا، لقد بنوها بالطين المحروق، حتى إنها أصبحتْ صُلبة كالإسمنت، دفعته أمه تحت الطاولة، وحشرت نفسها بجواره، وهي تحتضنُ أخته في قوة، كانت تضمُّها لصدرِها بيدها، بينما تطوقه إليها بيدها الأخرى.
وأحس بجسَدها يرتجفُ بقوة إذْ تضمه اليها.
– «لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، يا رب سترك!»
لم يكن يفهم ما يحدث، لكن رعب والدتِه جعل عدوى الرعب تنتقل إليه تلقائيًّا، وأحس بدقَّات قلبه تتسارع، حتى إنه كان يسمعه بوضوح.
أصوات الصراخ في الخارج تتعالى. لماذا يصرخون؟!
دوَّى انفجار آخر.
كان قريبًا هذه المرة؛ فقد كان الصوت صاخبًا ومرعبًا، حتى إن بعض أواني المطبخ الموضوعة أعلى الطاولة، راحت تتساقط على الأرض الرملية، واهتزت القطية في قوة وأصدرت صريرًا أكثر إزعاجًا، معلنة أنها لن تتحمل أكثر.
وانفجرت أختُه في البكاء.
المزيد من التراب الناعم يتساقط من السَّقف.
– «لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.»
كانت بجواره فجوة بين القشِّ في الحائط الخارجيِّ، قرب رأسه من الفجوة لينظر إلى الخارج.
كانت طائرة الأباتشي تحلق على علو منخفض، وقد أثارت عاصفة من الغبار تحتها غطَّت على الموجودات تقريبًا.
على جانبها كانت صورة جميلة لصقر يفرد جناحَيْه، وأسفله كتابةٌ بخطٍّ منمَّق لم يستطع قراءَتها.
كانت مصدر صوتِ الهدير العالي.
النيران تتصاعد من بعض بيوت القشِّ المجاورة لهم، وقد وارتفعت سحابة ضخمة من الدخان الأسود القاتم من البيوت المحترقة. استطاع تمييز أحد البيوت المحترقة.
منزل «سليمان».
وبرغم تعذر الرؤية بسبب الدخان، استطاع رؤية أشباح رجال ونساء القرية وهم يتراكضون هربًا، صوت طفل يصرخ باكيًا في مكان ما، ورأى رتلًا من سيارات الدفع الرباعي تدخل القرية، وفي مؤخرتها رجال ملثَّمون يحملون المدافع الرشاشة، ويطلقون النار في الهواء، وهم يتصايحون في حماس.
صراخ، صراخ.
صوت بكاء أخته يمزِّق أعصابه.
صوت الرصاص ينطلق بغزارة في الخارج.
هذا غير حقيقي، لا يمكن أن يكون حقيقيًّا.
بدأ يشعر بالغثيان، وبدت الأصوات تخفُت تدريجيًّا من حوله، ولدهشته بدأ يشعر بالانفصال عن المكان، يشعر أنه ليس هنا فعلًا، ما يحدث مجرد سراب بعيد، هو ليس هو.
تعلمين يا سيدتي أن «عمار» لم يكن يعرف شيئًا عن «اضطراب الآنية»، وبالتأكيد لا يهمه أن يعرف مصطلحًا متحذلقًا يصفُ شعوره بكلمات مركبة حينها، لكن تلك اللحظاتِ الكابوسية كانت أكبر من قدرته على الاستيعاب، أستطيع تخيل النظرة الذاهلة الخالية من أيِّ تعبير التي راح يرمق بها أمه تصرخ فيه بشيءٍ ما، وهي تهزه من كتفه هزًّا، وهي تضع أخته في حجره.
كان يحدق مشدوهًا في ذرات التراب الدقيقة التي تتراقص بلا هُدى، في قلب حزمة من ضوء الشمس الداخل عبر ثُقب بسقف القطية.
وعلى نحو ما، بدَا له المنظر ساحرًا.
فجأة، وبدون سابق إنذار عادت كل الأصوات حوله دفعةً واحدة، عاد إحساسه بالواقع، وعاد شعوره بالرعب. وسمع أمه تصرخ فيه: «دافِعْ عنها بحياتك يا عمار.»
ونظرت له نظره طويلة لن ينساها، ثم قبَّلت أختَه، واندفعت للخارج.
كانت أخته تبكي فوضع يده على فمها، واحتضنها عليه بقوة، هناك أصوات أشخاص يتجوَّلون في البهو الخارجي للمنزل.
«إنهم الرجال الملثَّمون» قال في نفسه، وهو يزداد تشبثًا بأخته، لا بد أن أمَّه أحست بدخولهم للمنزل، فخرجت لهم حتى لا يدخلوا للمطبخ ويَروهم.
سمع أحدهم يصرخُ في وحشية: «تعالي يا عاهرة.»
صوت ضربة مكتومة، وأحدهم يعالج مزلاج البندقية، وبضع ضحكات ساخرة، قدر أنهم حوالي ثلاثة أو أربعة رجال، من أصوات أقدامهم، وهي تتجول في المكان. كان أحدهم قد دخل إلى المطبخ بالفعل، وسمع صوت الخطوات الثقيلة تتحرك هنا وهناك.
رائحة خانقة فاحتْ في المكان مع دخول الرجل، مزيج من رائحة صوف الماشية والعرق والبول.
سمع صوت أمه تهتف في الخارج: «أنا لوحدي هنا ليس معي شخص بالمنزل، زوجي في الحقل.»
رد أحدهم ساخرًا: «جميعنا سنتزوجك اليوم، يا زغاوية يا غلفاء.»
وأطلق أحدهم سبة بذيئة، ثم راحوا يضحَكون في مرح، في الوقت الذي كانت فيه خطوات الرجل في المطبخ تقترب منه، ومعها تزداد رائحة الرجل الكريهة، انكمش على نفسه أكثر، وازداد ضغطه على فم أخته؛ حتى لا تصدر صوتًا، حتى خشي أنه سيؤذيها.
أسوأ كوابيسه أن تبكي الآن.
كان يتنفَّس بصوتٍ عال فكتم أنفاسه.
يبدو أن دهرًا قد مرَّ قبل أن يسمع صوتَ خطوات الرجل تبتعد وتخرج من المطبخ، وكذا اختفت أصواتهم؛ إذ خرجوا جميعهم من القطية.
كان الدخان الأسود يتسلَّل للمنزل عبر فتحات الجدران، وراح يسعل، سيصاب بالاختناق هو وأخته إن بقُوا فترة أطول في المنزل، خرج من مكانه وراح يتسلل، المطبخ، فالبهو الخارجي، فالشارع.
كان الدخان يغطِّي على كل شيء تقريبًا، وقد ألهب عينيه وأحرق صدره.
كان المنظر في الخارج قطعةً من الجحيم.
رائحة البارود وبيوت القش المحترقة، رائحة الشياط المميزة لبشر احترقوا أحياء.
رأى من بين الدخان ذلك الرجلَ يجرى وهو يتلوَّى بينما اشتعلت فيه النيران. رأى أحدهم يزحف على الأرض غير مصدق، وقد اصطبغ جلبابه الأبيض باللون الأحمر. يزحف للحظات ثم يسقط بلا حراك.
هنالك شخصان يحمِلان جسد شخص مصاب كيفما اتفق، وهما يركضان محاولين الاختباء خلفَ بعض البيوت المتهدمة.
امرأة تبكي في هيستيريا منحنية على جسد رجل مغطًّى بالدماء.
طفل صغير منتفخ البطن يقف أمام أحد المنازل المتهدمة يحتضن دمية قطنية ملوثة بالطين وهو يَبكي، بينما راح الجميع يتراكضون حوله، بدَا أن لا أحد يراه أو يسمعه.
هنالك جثث متفحِّمة مكومة جوار مدخل مسجد القرية، يبدو أنهم كانوا يحاولون الهرب من المسجد عندما سقط عليهم الصاروخ الأول — أم هو الثاني؟ — حاولوا الفرار، لكن النيران لم تمهلهم.
جثث أخرى متناثرة بعضها متفحِّم وبعضها ممزق.
صراخ، صراخ.
المزيد من الرصاص يطلق.
قرر أنه قد رأى ما فيه الكفاية؛ لذا راح يجري.
يجري ويبكي.
يجري ويتمخط.
يجري ويتعثر.
يجري ويحاول أن يحافظ على أخته في كتفه حتى لا يسقطها.
صوت الرصاص يتوالى خلفه.
لماذا لا تزال تلك الأغنية تتردد في ذهنه؟!
صوت بكاء أخته يمزق أذنيه. ألن تخرس تلك اللعينة؟
شعَرَ بوخْزٍ خفيف في أعلى كتفه من الخلف، وسائل دافئ يتدفق على ظهره. لا يعرف معنى هذا لكن لا وقتَ يضيعه، عليه أن يبلغَ الجبل بسرعة.
ومن خلفِ الأشجار المحترقة التي راح الدُّخَان يتصاعد منها، لاح له جبل القرية رابضًا يراقب ما يحدث في لامبالاةٍ.
لقد كان هنا لعشرات السنين، وسيظل هنا للمزيد منها.
لقد عاصر كل الأجيال التي مرَّت بالقرية، شهد كل أفراحهم وأتراحهم.
شهد مواسم الحصاد الوفير ومواسم البوار.
كان هنا في احتفالات الزواج والطهور التي يقيمونها ليلًا على أضواء النيران، يضحكون ويغنون ويذبحون الماشية، ويولمون الولائم فرحًا.
وكان هنا عندما يرتفع صوتُ عويلهم في مآتم البكاء والحزن، عند فقد الأحباب.
شهد مولد أجداده ووفاتهم، وسيشهد مولد ووفاة الأحفاد.
كلهم كانوا يأتون ويذهبون. لكنه ظلَّ دائمًا هناك، يقف ويراقب في صمت.
وفي ذاكرته العتيقة مئات الحيوات التي عاصرت القرية.
كانت على سفح الجبل صخرة بارزة، رفع جسد أخته أعلى الصخرة، ثم راح يلفها. وجد تجويفًا خلفَها فأراح جسد أخته داخله، ثم رمي بنفسه بجانبها وهو يلهَثُ، صدره يعلو ويهبط بسرعة وأنفاسه تتلاحَق. والتفت خلفه ليرَى القرية.
ما تبقى منها إن صحَّ التعبير.
لم تعد هناك قرية.
كانت أعمدة الدخان السوداء تتصاعد من بيوت القش المحترقة، وأشجار الهشاب. وأطفال ونساء يتراكضون هنا وهناك، ومن مكانِه استطاع أن يرى المدرسة، كانت ألسنة اللهب تتصاعد من السور الخارجي.
كان ذلك الرجل الذي يرتدي النظارات السوداء يقف في مقدمة سيارات «التاتشر» الرابضة في منتصف القرية عاقدًا كفيه خلف ظهره، كان يرتدي زيًّا نظيفًا مختلفًا عن باقي الرجال، بينما يصيح ببعض العبارات في مجموعة من الرجال الملثمين الذين يتقدمون ببطء، وهم يشهرون فوهات البنادق الآلية ويبحثون بين الركام.
رأى بعض الرجال الملثمين يكومون جُثثَ الموتى في مكان واحد. وفي الطرف الآخر من القرية، كان بعض رجال القرية يفترشون الأرض على بطونهم وأياديهم خلف رءُوسهم، بينما يحوم حولهم بعض الملثمين، وهم يشهرون فوهات مدافعهم الآلية في تحفُّزٍ.
رأى ثلاثة رجال ملثمين يحملون فروع الأشجار كسياط، ويضربون ظهور النساء بينما يقومون بوضعهن في مؤخِّرة إحدى السيارات. استطاع أن يميز أمه بثوبها الأخضر الذي اشتهرت به، كانت في مؤخرة سيارة الدفع الرباعي المكشوفة، وهي تضع رأسها بين كفيها، وبجوارها تكوَّمت مجموعة من النساء.
هل تبكي؟!
بدأ يشعر بنبضٍ في أعلى كتفه، تحسَّسه بأصابعه، فإذا هي مليئة بالدماء.
لماذا يشعر بذلك الثقل في جفنيه؟
وأمام عينيه الضبابيتَيْن ظهرت بقعةٌ سوداء راحت تتوسَّع بسرعة، بينما أحس برأسه يزداد ثقلًا.
صاح بصوت مبحوح أشبه بالأنين: «أمي.»
ثم غابَ عن الوعي.
يبدو أن جهازَه العصبي قد قرَّر أخيرًا أنه قد احتمل بما فيه الكفاية.
•••
٣
كان الثلث الأخير من شهر سبتمبر عام ٢٠١٣م.
أذكر تلك الأيام، عندما أعلنت الحكومةُ قرارها برفع الدعم عن الدقيق والمحروقات في البلاد، ارتفعت الأسعار في سرعة جنونية، وأصبح الجنيه لا يساوي الورق الذي يطبع عليه، كنت أرى نظرات الوُجوم على الوجوه النحيلة في الشوارع، لم يكن هذا قرارًا اقتصاديًّا البتة، كان قرارًا بالإعدام للسواد الأعظم من الشعب الذي يعيش تحت خط الفقر.
نظرات ذاهلة ووجوه كالحة تراها تحكي عن البؤس في أعمَقِ أشكاله.
كان الجو العام مشحونًا بالتوتر، وهناك نُذُر انتفاضة شعبية في الخرطوم، بعد أن تناهى إلى مسامعنا حدوث بعض التظاهرات في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، وبورتسودان، وبعض الولايات الأخرى، واعتدت أن أرى سيارات الشرطة تجُوب الحواري، ومدرعات مكافحة الشغب متوقفة في بعض الشوارع الرئيسية، وأنا في طريقي للعمل صباحًا أو المنزل ليلًا.
كان التوتر والترقب هما سيدَيِ الموقف.
لقد مرتْ قرابة الشهرين منذ رأيت «عمار» آخر مرة، لم يعد لزيارتي مرة أخرى بعد الجلسة الأخيرة، وقد شغلتني دوامة العمل حتى نسيت أمره.
كنت عائدًا في وقت متأخر للمنزل، دخلت المنزل، ودخلت المطبخ أعد العشاء، وهو ما كان روتينًا يوميًّا لي، فبعد وفاة «منى» ابنتي منذ عامين، أصيبت زوجتي بحالة اكتئاب حادة، كانت تجلس طوال اليوم ساهمة ترمق المكان بعينَيْن ذاهلتَيْن صامتتَيْن، أحيانًا كنت أصحو على صوت بكائِها في منتصف الليل، أقوم بتهدئتها وتذكيرها بأنها بين يدي ربها، وعليها الصبر ولا شيء سواه، فتعود للنوم، أو تبتلع أحد أقراص السيبرالكس المضادة للاكتئاب، والتي أصبحت تقتاتُ عليها بشكل يومي في السنتين الأخيرتين.
حملت صينية العشاء ودخلت غرفة النوم، كانت جالسة في طرف السرير تحدق في الظلام عبر النافذة، وضعتُ الطعام أمامها، وقلت: «لم تأكلي شيئًا منذ الصباح.»
نظرت لي بعينَيْها الذابلتين، ووجهها الشاحب لفترة، وكأنها لا تراني، ولم ترد، فقط راحت تأكل ببطء، وهي ترمق النافذة بنفس الوُجوم، قلت لها مجددًا، وأنا أضع لقمةً في فمها: «هل جاءت أختك اليوم؟»
– «نعم، لقد أعدَّتِ الإفطار، ونظَّفت المنزل وأعدت لي الحمام. المسكينة تتعب نفسها معي كل يوم برغم مشاغلها في منزلها.»
قلت لها باسمًا: «عندما تتعافَيْن ستردين لها الجميل.»
صمتت وراحت تمضغ الطعام في بطء، سألتها مجددًا: «هل قرأتِ شيئًا من القرآن؟»
طوَّقَت جسدها الذابل بذراعيها النحيلتين، وقالت في هدوء: «نعم.»
سألتها، وأنا أزيح خصلات شعرها من أمام وجهها: «ماذا قرأتِ؟»
قلت معقبًا: «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
راحت شفتاها ترتجفان حتى إن بقايا الطعام راحت تتساقطُ من فمِها، وقالت بصوت كالبكاء: «أنا راضية بقضاء الله، ولكنني لا أفهم، لماذا؟ لماذا أخذها مني؟ لماذا يبتليني فيها؟ ما ذنب فلذة كبدي حتى ينهشَها السرطان وتموت؟ إنها مجرد طفلة؟ قل لي لماذا؟ أرجوك!»
وقبل أن أرد، تكوَّمت على نفسها في طرف السرير، وانخرطت في نوبة بكاء حادة، قالت لي بصوت متهدِّج، وهي تنظر لي من بين دموعها في توسُّل: «أرجوك قل لي إنها لم تعانِ.»
جلست جوارها صامتًا، ووضعت رأسها على ركبتي، أغمضَتْ عينيها، وراحت تردِّد بصوت مبحوح: «إنا لله وإنا إليه راجعون، أستغفر الله العظيم، يا رب اغفر لي، يا رب اغفر لي!»
رحت أمسح على شعرها، وأنا أتأمل ملامحها الشاحبة في صمت، كان حزنها عميقًا، لم تفلح معه كل محاولاتي في إعادتها لسابق عهدها.
لم تُجْدِ كل مضادات الاكتئاب، لم تُجْدِ كل نظريات علم النفس، لم يُجْدِ الزمن ولا النسيان، كانت تزداد حزنًا يومًا بعد يوم.
تمكن منها الاكتئاب، حتى بتُّ أخشى أن أتركها لوحدها، تلاشتْ منها الحياة منذ وفاة «منى»، أصبحت جسدًا بلا روح.
فقدت كل شيء حقًّا.
وتذكرت «عمار».
كان يبكي في حرقة بعد أن انتهت الجلسة الأخيرة، وأنا أرمقه في صمت، لم أشأ أن أقاطعه، كانت المرة الأولى التي أراه فيها بهذا الضعف، منكمشًا على نفسه في الأريكة، يبكي بطريقة تقطع نياط القلوب.
تحطم غلاف البرود والتعالي الذي كان يلفُّ به نفسه، عاد طفلًا صغيرًا يبكي فقدان أهله.
مرت ربع ساعة كاملة قبل أن يخفُتَ صوت نشيجه، جلس على الأريكة وراح يرمق الأرض في شرودٍ بعينين حمراوين كالدم، وإن عاد وجهه يكتسي غلاف البرود السابق، قال دون أن ينظر لي، كأنه يتحاشى نظراتي: «كيف نسيت شيئًا كهذا؟»
قلت له: «لم تنس.»
– «إذن، لماذا لم أتذكره إلا الآن؟»
سألني مجددًا بنفس الشرود، دون أن ينظر لي: «لهذا كنت أرى ذلك الحلم، وأُصاب بتلك النوبات؟»
– «نعم، إن نوبات الذعر من الأعراض الشائعة لاضطرابات ما بعد الصدمة.
لقد أخطأت في تفسير مسبِّبات حلمك في المرة الأولى، عندما تنام تتراخى قبضة عقلك الواعي عليك، وتعود السيطرة للعقل اللاواعي، كان الحلم لغة العقل الباطن لإخبارك بهذا الحمل الثقيل المدفون فيه. يمكنك أن ترى الأمر كصراعٍ داخلي يخوضه عقلك الباطن، فهو صاحب قرار تجاهل هذه الذكرى واعتبار أن شيئًا لم يكن حفاظًا على اتزانك النفسي، وفي نفس الوقت كان هذا الكبت يسبب لك اضطرابًا مكتومًا متراكمًا، لهذا كان يبحث عن التوازن، ويحاول بلغته الخاصة أن يخرج لك رمزيات هذه الذكرى في شكل حلم.
كانت نوبات الذعر التي تصيبك نتيجة هذا الصراع، نتيجة التضارب بين عقلك ومشاعرك؛ لهذا كنت تصاب بتلك النوبة دائمًا عقِبَ رؤيتك للحلم.»
ثم نهضت من جواره وجلست خلف المكتب، وقلت وأنا أشبك أصابع يدي أمام وجهي: «الصقر الذي يطاردك في الحلم هو الصقر الذي رأيته في الطائرة، لكنه في حلمك يرمز للطائرة نفسها. السحب السوداء هي الدخان الذي رأيته يعم المكان. أصوات الرعد هي صوت الطائرة العالي. وهروبك في الحلم هو هروبك من تلك الذكرى. لكنها — برغم هروبك منها — كانت تطاردك وتكبلك بأن ترشح في اللاوعي لديك باستمرار، لهذا كانت قدماك تتباطآن في الجري.
هل ترى النمط المتكرر؟ إن الرمزية في كل مكان.»
ونظرت له متسائلًا، وأردفت: «لكنني لم أعرف الصوت الذي يخاطبك بجملة والدتك، قلت إنه يبدو مألوفًا؟ أعتقد أن له علاقة بنحو أو بآخر بصوت سمعته ذلك اليوم.»
نظر لي في برود، كان قد استعاد شخصيَّته الأولى، قال وهو يمسح الأثر المِلْحي لدموعه على خديه: «لقد كان صوت ذلك المطرب في جهاز التسجيل، العطبراوي.»
هززت رأسي في تفهُّم ولُذْت بالصمت، كنت أعرف أنه لن يعود كما كان بعد هذه الجلسة، إن أوقاتًا عصيبة تنتظر هذا التعس، لكنه ذكي جدًّا، وبقليل من المساعدة سيستطيع أن يتخطَّى هذه المحنة.
كان يفكر في عمق وهو يرمق الأرض، رفع رأسه وسألني: «ماذا يوجد في الصحيفة؟»
فتحت الصحيفة، كان هناك خبر أسفل الصفحة الثانية يقول باقتضاب:
«سلاح الجو يقصف المتمرِّدين بمنطقة أبو حمرة، غربي شنقل طوباية.»
كان تاريخ الصحيفة: الجمعة ١٨ يونيو ٢٠٠٤م.
كنت قد وصلت لاستنتاج أن سببًا ما يمر به «عمار» يتعلق بذكرى مكبوتة ما، موقف صادم معين من طفولته نسيه أو حاول تناسيه يسبب له تلك الأعراض التي بدتْ لي أقربَ لاضطرابات ما بعد الصدمة في مناطق الحروب والكوارث؛ لذا طلبت من أحد أصدقائي القدامى في دار الوثائق القومية أن يبحث لي عن أيِّ خبر يخص المنطقة التي نشأ فيها «عمار»، كانت محاولة بعيدة المدى على كل حال، لكنني فوجئت به بعد أيام يبعث لي بنسخة من إحدى الصحف اليومية تذكُر المنطقة، وبرغم أنها لا تذكر القرية تحديدًا، لكنني قدرت أنه كان شاهدًا على الأمر، أو فقد شخصًا ما.
لم أتوقع أن يكون استنتاجي دقيقًا إلى هذه الدرجة.
ناولته الصحيفة، ورحت أتأمله في صمت، وجهه يخونه مجددًا، وراح صدره يعلو ويهبط، قال بصوت باكٍ: «أمي لم تكن من المتمردين عندما اغتصبها «الجنجويد» وقتلوها كالكلب الأجرَب، أختي لم تكن متمردة، أصدقائي وكل من أعرفهم لم يكونوا متمرِّدين، كانوا أشخاصًا بسطاء مسالمِين، لم يريدوا شيئًا سوى أن يُتركوا وشأنهم، لكنهم أصروا على إزالتهم من الوجود.»
– «كيف تعرف هذا؟»
كور الصحيفة بقبضتَيْه بغضب، ونظر لي في حدة وهو يقول: «لقد فقدت الوعي واستيقظت بعد ذلك في مستشفى بالمدينة، قالوا لي إنني أصبت برصاصة في ظهري، وقاموا بعمل عملية جراحية؛ لاستخراجها وإنقاذي. قالوا لي إن أختي كانت مُصابةً بحروق خطيرة عندما نقلوها للمستشفى وحاولوا جهدهم لإنقاذها، لكنها لم تَنجُ.»
وارتجفتْ شفتاه وهو يضيف: «كانت تبكي لساعات بجواري وهي تنزف تحت شمس الصحراء الحارقة وأنا فاقدٌ للوعي، حتى جاء الرعاة من القرية المجاورة بعد ساعات من رحيل الملثمين، وراحوا يبحثون عن ناجين، لقد استدلوا على مكاننا من صوت بكائِها الواهن، لقد أنقذت حياتي، كنا سنموت هناك معًا لو لم يجدونا.»
دموعه تُبلِّل خديه، ويده ترتجف إذ تكور الصحيفة في قوة: «سمعت الأطباء يتهامسون أن الجنجويد قاموا باغتصاب النساء، بعد أن قاموا بأسرهن، اغتصبوا حتى القاصرات منهن، واعتدوا عليهنَّ بالضرب وقتلوهن. قالوا لم ينجُ من القرية سوى بعض المزارعين الذين كانوا في الحقول وفروا للقرى المجاورة مع بداية الاعتداء، وأنا، وطفلة من الأسيرات، وجدوها هائمة على وجهها في الصحراء.»
كانت زوجتي قد نامت، وهي مستلقية على ركبتي، وضعتها في الفراش بحذر وقمت بتغطيتها، ثم قبَّلتها على جبينها، وانسللت خارج الغرفة في هدوء.
دخلت المطبخ ورحت أعد كوبًا من الشاي، صببت الشاي، ورحت أقلب القدح بالملعقة، وأنا أرمق الظلام عبر النافذة في شرود.
صوت كلب يعوي في الخارج، فيرد عليه آخر بنفس العواء الطويل. ثم الصوت المزعج المميز لمحرك «الركشة»، يتردد من مكان لشخص لا زال يبحث عن رزقه في هذا الوقت من الليل.
قال لي «عمار» بسخرية من وسط دموعه التي غطت وجهه فعليًّا: «قالوا إنهم كانوا يكبرون ويهللون، وهم يتناوبون على اغتصابِ النساء، هل تعلم هذا؟ قالوا إننا كفار وأنجاس؛ لأننا نثور على حكومة التوحيد في الخرطوم، قالوا إننا لا نصلح سوى لتربية الماشية، وتقديم النساء لمجاهديهم حتى يعلوا راية الله.»
قلت له في هدوء: «هم لا يمثلون الله أو الدين، لقد استخدموا الدين كمطيةٍ لتحقيق أهدافهم في الحكم وتمكين أنفسهم، نطقوا باسم الله لخداع البسطاء، حتى في مجالنا ستجد بعض الانتهازيين الذين يستغلون الطب النفسي؛ ليتلاعبوا بالناس خدمة لمصالحهم الشخصية، لكنك لن تلوم علم النفس، ستلومهم هم.»
قال في مرارة: «ولماذا لا يتدخل الله؟ لماذا يسمح لهم بالتلاعب بدينه؟ لماذا لم يتدخل لإنقاذ أمي، وهم يغتصبونها ثم يرمونها بالرصاص في قلب الصحراء كالكلب الأجرب؟ لماذا لم يمنعهم من ذبحنا؟»
ومن بين عينيه الدامعتين تبدت نظرة احتقار لم أدرِ سببَها، وقال وكأنه يبصق: «بعضهم احتمى بالمسجد عند القصف. ظنوا أن قدسية بيت الله ستحميهم منهم، لكنهم قصفوهم في مسجدهم. إنه لم يستطع حتى حماية من كانوا في بيته يبتهلون له لينجيهم.»
ثم انفجر في البكاء، وهو يغطي وجهه بكفَّيْه، وقال وهو ينشج: «سأفعل أي شيء؛ حتى أراهم مرة أخرى.»
كنت أنظر له في صمت.
كل هذا التجاذب بين مشاعر الغضب والحزن!
لكنني كنت أتفهم موقفه على أية حال. لقد ظل يكبت كل هذه المشاعر في داخله طوال سنوات. إن غضبه ما هو إلا انعكاسٌ لحزنه العميق تجاه ما حدث وعجزه عن فعل شيء في وقتها لمساعدة أحبائه، كلاهما وجهان لنفس العملة، حزنٌ تراكم داخله على مدى سنين الكبت، حتى تحوَّل لغضب عارم تنامى في لاوعيه كجني ثائر ظلَّ محبوسًا لسنوات ينتظر أن يخرج من قمقمه، وعندما يخرج سيحطم كل شيء في طريقه، إن الشيء الصحيح الآن أن يقوم بتصريف كل مشاعر الحزن المكبوتة في داخله، لا بد من تطهير دواخله؛ حتى يصل إلى مرحلة القبول والتصالح مع ما حدث.
إن نموذج «كيبلر روث» يصف خمسَ مراحل يمر بها كل من ابتُلي بمحنة في حياته، تبدأ من الرفض القاطع وعدم التصديق، ثم الغضب والثورة على من كان متسببًا له في محنته، ثم المساومة والمفاوضة مع القوى العليا — الله — التي يراها سببًا رئيسيًّا فيما يمر به، حتى الاكتئاب والتقبل كآخر مرحلة.
إنه يتنازع بين ثلاثة المراحل الآن في نفس الوقت، يرفض ويغضب ويساوم، ويتقلب بينهم في سرعة شديدة مع هيجان واضطراب مشاعره.
لكنني كنت أعرف أنه شخص ذكي، وسيستطيع أن يصل إلى مرحلة التصالح النفسي مع ماضيه بسرعة.
انتهى قدح الشاي، قمت بإطفاء نور المطبخ وذهبت لأستلقي، كانت زوجتي تغط في النوم، فانسللت إلى جوارها في هدوء.
تلك العزيزة المسكينة، لقد كنت في قمة الأنانية معها.
تركتها تواجه فقد «مُنى» لوحدها، بينما قمت بالهروب ودفن مشاعري في العمل، كنت أعمل حتى أوقاتٍ متأخرة من الليل حتى أتجنب المنزل وأتجنبها أطول فترة ممكنة، كنت أتجنَّب كل شيء يذكرني ﺑ «منى».
وتركتها لوحدها تواجه أحزانَها بنفسِها.
لا بد من إجازة طويلة من العمل حتى أكون بجانبها، ربما نسافر في رحلة طويلة خارج البلاد. إنني إذ أتوقع من «عمار» مواجهة حزنه بشجاعة بينما أتهرب أنا من مواجهة حزني، فهذا النفاق بعينه ولا شيء سواه.
لقد علمني يا سيدتي — دون أن يدري — درسًا مهمًّا في حياتي.
لا تهرب من أحزانك، تحدَّ قدرك.
قف في وجه الإعصار، وستخرج قويًّا منتصرًا.
وأنا الذي ظننت أنني كففتُ عن التعلُّم منذ عقود!
ما زلت أذكره يشد قامته أمامي، ينظر لي بهدوء بوجهه الصلب البارد الخالي من التعابير، ويقول لي، وهو يصافحني ويشد على يدي: «برغم كل شيء فقد ساعدتني كثيرًا يا دكتور، وإني لك من الشاكرين.»
هذا شخص كان يبكي أسرته وكامل عشيرته منذ لحظات. شخص خسر كل شيء في حياته، وما زال يقف في هدوء، وينظر لي بعينيه الذكيتين في لطف وكأنه يواسيني.
قلت له وأنا أرافقه للباب: «إن الأهم من معرفة المشكلة هو كيفية التعامل معها، فالأصعبُ هو القادم، ستمر بالكثير من التقلبات ولا بد من إشراف مختص، لن تتوقف نوبات الذعر التي تصيبك لمجرد أنك عرفت مسبباتها، أنصحك بأن تواظب على الجلسات.»
نظر لي باسمًا، صمت للحظات إذ وقف على الباب، مطرقًا للأرض، ثم قال بصوت هادئ:
لم أفهم ما قال، ليتني فعلت.
أعتقد أنني لو كنت أكثرَ فطنة وقتها يا سيدتي لفهمت ما تَرمي له كلماته، ولما حدثت المأساة التي حدثت له لاحقًا.
لكنني كنت غبيًّا، غبيًّا لدرجة لا تصدق.
وقفت على الباب أرمقه إذ يبتعد، وهو يجرجر قدميه متثاقلًا، مطرقًا للأرض قليلًا.
احتضنت زوجتي من الخلف، وأغمضت عينيَّ.
لقد انكشف السرُّ أخيرًا.
كنت تعيش في كذبة، يا صاحبي.
كذبة مريحة ظاهرها الرحمة وباطنُها العذاب.
لكن روحك كانت تتقيَّح صديدَ ماضٍ، حاولت ونجحت في تناسيه ودفنه في أعمق أعماق اللاشعور لديك.
آثرت أن تتحاشى الحقيقة، وتعيش الكذبة.
لكنك كنت تدرك دومًا أن شيئًا ما ليس على ما يرام.
إنه الفضول الإنساني القاتل.
وقد كان آدم فضوليًّا؛ لهذا طُرد من الجنة.
وأنت يا صاحبي فضولي كالقطط.
أنت قصدتني وطلبت الحقيقة، ولم تعلم أن الحقيقة ستسمم روحك وتزلزل كيانك وإيمانك بالله.
أنت طلبت الحقيقة، وأردت أن يُرفع الستار.
فلا تلُمْني.