تدميرُ المقرِّ!
إنَّهم يستطيعون تحديد موقع المُفاعل وتفاصيله بدقَّة … وقد يمكنهم إصابة المحجل أو غيره، وإحداث كارثة لا يعلم إلا الله مداها. كان هذا رأي «رشيد» … ولأسباب فنية أراد «أحمد» تهدئة المخاوف لدى الشياطين، فقال ﻟ «رشيد»: أعرف يا «رشيد» أنَّك تتذكَّر حادثة ضرب الطائرات الإسرائيليَّة لمُفاعل «العراق»، ولكن لا تخَف؛ فحادثة «أنشاص» تختلف؛ لأنَّه مُفاعل تجريبي، وإذا حدث به شيءٌ لن يُؤدِّي إلى ما حدث ﻟ «تشرنوبل» مثلًا.
وأعلى يمين الشاشة ظهرت دائرة حمراء؛ وجَّه «أحمد» إليها المؤشِّر، فظهرت له رسالة تقول: «المجموعة التي سبق اختيارها للسفر إلى «سويسرا» تستعدُّ للسفر غدًا، في تمام الساعة السابعة صباحًا … رقم «صفر».»
كان الأمر مباشرًا ولا يحتمل النقاش، وكان تنفيذه واجبًا لا يحتمل التفكير؛ لذا توجَّه الأربعة شياطين المُكلَّفون بالسفر إلى غرفهم الخاصَّة؛ حيث أعدُّوا حقائب السفر، ثم استعدُّوا للنوم.
وكعادته في ليالي الصيف، ينام «أحمد» فاتحًا النافذة المجاورة لسريره؛ ليسبَح بخياله في سماءٍ مزدحمةٍ بالنجوم، فيحمله ذلك بعيدًا عن تفاصيل حياته اليوميَّة، ويُسلمه للنوم مسلوب الإرادة.
غير أنَّه لم يلبَث أن استيقظ على وخز ساعته في رسغه، فظنَّ أنَّها رسالةٌ، وعندما نظر في شاشتها، لم يرَ ما يدلُّ على ذلك … وكان تأثير النوم لا يزال في عينيه، فاستسلم مرَّة أخرى له … ولم تدعه ساعته يستغرقُ في نومه؛ فقد وخزته مرَّة أخرى، ممَّا أثار حنقه … فقام بالاتصال بكمبيوتر التتبُّع، فلم يجد إشارةً تدلُّ على أنَّه تسلَّم رسالة، فظنَّ أنه يحلم … وقبل أن يعود مرَّة أخرى للنَّوم، تكرَّرَت الوخزات للحظات ثمَّ توقَّفَت … وهنا عرف أنَّ ما تفعله الساعة لا يدل على تسلُّم رسالة أو اتصال؛ فما يحدث الآن يُذكِّره بما حدث في «أنشاص» قبل انفجار تليفوناتهم المحمولة.
إنَّها موجات ليزر قصيرة للغاية … ولكن لماذا تتوقَّف سريعًا؟ مرَّة أخرى شعر بوخزة واحدة سريعة، ثمَّ توقَّفَت … وهنا عرف أنَّه شعاع استكشاف، يتحرَّك جيئةً وذهابًا في دوائر تضيق وتتَّسع.
فقام بالاتصال بضابط أمن المقرِّ ومركز الاتصالات، وطلب منهم توجيه كل أطباق الاستقبال لمراقبة هذه الإشارة وتتبُّعها؛ لرصد القمر الذي يرسلها.
وفجأةً قطع سكون الليل صوت ارتطام جسمٍ ثقيل بالأرض، فهرع إلى النافذة ليستطلعَ الأمر، فرأى أكبر أطباق الاتصال نائمًا على الأرض لا حول له ولا قوَّة … فكيف سقط؟!
هل هذا يعني أنَّ هناك عملاء ﻟ «سوبتك» بالمقرِّ؟
وللإجابة عمَّا يدور في ذهنه من أسئلة، هبط مسرعًا إلى الحديقة الخلفيَّة؛ حيث يستقرُّ طبق الإرسال، فوجد نصف العمود الذي يحمله لا يزال مُثبَّتًا به، وآثار انصهار جسمه المعدني واضحة … فعرف أنَّ شعاع ليزر عالي الطاقة قد سُلِّط عليه من نفس القاعدة المداريَّة … وهنا استنتج أنَّ موجة التتبُّع التي أثارت الوخزات في ساعته لم تكُن تبحث عن ساعته فقط، لا؛ بل كانت تُصوِّر كلَّ أجهزة الإرسال والاستقبال والرصد الموجودة بالمقرِّ … هذا إن لم يكُن بباقي المقارِّ الأخرى!
فماذا يعني هذا؟!
هل يعني أنَّ كلَّ الأجهزة — وأطباق الاستقبال معها — مُعرَّضة للتدمير بأشعَّة ليزر مماثلة؟! إنَّها كارثة؛ فالحياة الآن اتصالات، والاتصالات أقمارٌ صناعيَّة؛ فكيف سيديرون عملهم في المُنظَّمة بلا اتصالات؟! وقبل أن يسأل نفسه إن كانت موجات التتبُّع وصلت إلى ساعات زملائه أم لا … تذكَّر أنَّه وحده الذي يضع سريره بجوار النافذة، وكان هذه الليلة ينام ونافذته مفتوحة.
مرَّة أخرى دوَّى في صمت الليل ارتطام جسم ثقيل بأرض الحديقة الخلفيَّة للمقرِّ، وجرى «أحمد» ومَن معه ليستطلعا الأمر … فوجد طبقًا آخَر من أطباق الاستقبال ينام مقلوبًا على الأرض، وقد ظهرت علامات الانصهار على بقيَّة أجزاء البرج المعدنيِّ المُثبَّت به.
بدت مشاعر الانزعاج ترتسم على وجه رجال الأمن الذين تجمَّعوا في المكان … ذاك أنَّهم لا يعرفون كيف يدافعون عن المقرِّ ويوقفون ما يجري لأطباق الاستقبال.
وبدأت الأنوار تُضاءُ تباعًا في كلِّ غرف المقرِّ، واستيقظ معظم العاملين به، وخلال دقائق كان الجميع في كامل لياقتهم ومتواجدين بحديقة المقرِّ الخلفية؛ يستطلعون ما جرى لأكبر أطباق المقرِّ … وثلاثة مهندسين يفحصون السِّيقان المعدنيَّة المُثبَّتة فيه، والتي تبقَّت من البرج المنصهر الذي كان يحمله … وكأنَّها كانت فرصة ﻟ «سوبتك»؛ فقد اصطدم شعاع ليزر أحمر سميك بأرضيَّة الحديقة، فصنعت بها فجوة عميقة، ولولا ترنُّحهم يمينًا ويسارًا لصهرهم الشعاع. ومرَّة أخرى علا صوت ارتطام برج معدني بأرض المقرِّ، وكان الصوت يأتي من عند باب الخروج الكبير.
وجرى «أحمد» إلى غرفة التحكُّم في الأطباق، فوجد المهندسين والفنِّيِّين في حالة ارتباكٍ قصوى.
فسيطرتهم على قمر المُنظَّمة كادت تنعدم … فقد تمَّ تدمير الطبقين الرئيسيَّين، ولم يتبقَّ غير الطبق الاحتياطيِّ. وعندما علم منهم «أحمد» ذلك، سألهم سريعًا عن كيفيَّة الحفاظ على هذا الطبق دون تدميرٍ … وتلاحقت الاقتراحات، ولكن كلها كانت غير ذات جدوى، إلى أن اكتشف الضابط «حسام»، وكان يقف بباب غرفة المراقبة يتابع الحوار، اكتشف أنَّ الأطباق التي أُسقِطَت هي التي كانت تعمل، والطبق المتبقِّي هو الطبق الاحتياطي … فسألهم قائلًا: هذا يعني أنَّ الطاقة كانت مقطوعة عنه؟!
فأجابه أحد المهندسين قائلًا: هذا قبل نصف ساعة.
فبدا على الضابط «حسام» القلق، وقال له: هل تعني أنَّه موصَّل بالطاقة الآن؟!
فقال المهندس بثقة: نعم؛ فلم يعُد لدينا غيره … وفي هذه اللحظات بالذات.
قطع سكونَ الليل دَوِيُّ ارتطام جسم القمر الاحتياطي بأرض المقرِّ.
ومن فرط حنَقه صاح الضابط «حسام» قائلًا: كيف تفعلون ذلك، وقد رأيتم بأنفسكم ما حدث للقمرين السابقين؟
الآن لم يعُد لديكم أطباق تحكُّم في المقرِّ، وبهذا ضاع وضاعت معه سرِّيَّة اتصالاتنا … فمِن الآن وآتٍ، سنعتمد في اتصالاتنا على الشبكات العامَّة؛ وهذا خطير للغاية، ولا يمكننا إدارة عمليَّاتنا بهذا الأسلوب أبدًا!
فقال «أحمد» يُطمئنه: ولكن تليفوناتنا المحمولة على اتصال مباشر بالقمر الصناعيِّ.
وهنا أجاب مهندسُ الاتصالات قائلًا: إنَّ المشكلة الآن هي كيف سنقوم بتوجيه القمر، وتعديل أيِّ انحراف له؟
في هذه الأثناء، كان الضابط «حسام» يقوم بتجربة تليفونه المحمول، بالاتصال بالمقرِّ السرِّي الكبير عَبْر قمر المُنظَّمة، فرأى على شاشة تليفونه وجهًا أشقر لرجل في الأربعين من عمره يبتسم في زهو، فصاح فيه «حسام» يسأله قائلًا: مَن أنت؟!
فأجابه بإنجليزيَّة طليقة: أنا لواء «زائيفي» يا حضرة الضابط.
تحيَّر الضابط «حسام» ممَّا يجري، وقال يسأل «أحمد»: لقد حدَّثتُه بالعربيَّة، ففهمني وردَّ بالإنجليزيَّة!
فقال «أحمد» لتهدئته: إنَّ لديه مترجمًا فوريًّا في برنامج التليفون.
وعاد يقول له سائلًا: ولكن مَن هو؟!
وكانت الإجابة هذه المرَّة من «زائيفي»، الذي ظهرت صورته على كلِّ الشاشات في غرفة المراقبة وهو يبتسم في زهو … وخرج صوته من مجموع مكبِّرات الصوت المنتشرة في أركان الغرفة وهو يقول: أعلم أنِّي أُحادث أكثر المُنظَّمات الأمنيَّة تقدُّمًا في الشرق الأوسط، ولكنِّي أرى علامات الدهشة والعجز على وجوهكم؛ لمستوى التقدُّم العلمي والتِّقني الذي وصلت إليه مُنظَّمتنا! وضحك «أحمد» ساخرًا ممَّا يقوله … وردَّ عليه قائلًا: أيُّ عجز تتحدَّث عنه وأنت لا ترانا؟ إنَّها لعبة قديمة لا تليق بحداثة هذا العصر يا لواء «زائيفي»!
وهنا صاح «زائيفي» في غيظ يقول: أنت لا تُصدِّق أنِّي أراكم … وأنا سأثبت لك ذلك!
واستطرد يقول له: أنت تقف بجوار الضابط المُمسك بالتليفون، وتنظر لوجهي في الشاشة … أليس كذلك يا «أحمد»؟!
فهم «أحمد» ما يجري، فوضع إصبعه على عدسة كاميرا التليفون، وقال ﻟ «زائيفي»: هل ترى شيئًا الآن أيُّها اللواء؟!
ضحك «زائيفي» في سعادة وهو يقول له: يا لك من شاب ذكي … والآن اسمع منِّي هذه الطُّرفة!
ودوَّى صوت انفجار شديد في إحدى الغرف الخلفيَّة للمقرِّ، وحضر أحد الجنود يجري، وقال وهو يلهث: لقد انفجر خزَّان الهيدروجين الخاص بخليَّة الوقود الصغرى.
ولم يتمالك الضابط «حسام» أعصابه، وصاح غاضبًا: يا لك من غبيٍّ أيُّها اللواء «زائيفي»؛ ستدفع ثمن ذلك غاليًا!
وعلى شاشات المراقبة ظهرت السعادة على وجه «زائيفي» وهو يضحك في صخب، ويقول: أأقول لكم طرفة أخرى؟ فلديَّ طرائف كثيرة!
وعاد للضحك مرَّة أخرى … ثمَّ عاد يقول: اسمعوا هذه الطُّرفة!
صاح الضابط «حسام» في حنق قائلًا: ما هذا الذي تُشاهدونه؟ أغلقوا هذه الشاشات … هذا الرجل يُريد أن يُضعف معنويَّاتكم!
لكن «أحمد» كان له رأي آخَر، فقال للضابط «حسام»: يجب ألا يُثيرنا هذا اللواء بما يقول، ويجب ألا نقطع اتصالنا به؛ حتى نستطيع مواجهته.
وصاح «زائيفي» ويملأ صوته زهو المنتصر: يا لكَ من حكيم أيُّها الشابُّ … إنَّني معجب جدًّا بك؛ ألستَ أنت …؟
لم يدعه «أحمد» يكمل كلامه، بل قاطعه قائلًا: لا شأن لك باسمي، ودعنا …
ولم يتركه «زائيفي» يكمل كلامه، فقاطعه قائلًا: لا يصحُّ أن تعرف اسمي من غير أن أعرف اسمك!
ولكي ينتقل بالنقاش إلى نقطةٍ أهم، قال له: اسمي «أحمد».
وبدا على «زائيفي» أنَّه غير مقتنع بهذا الاسم؛ فقد ردَّ قائلًا: سأفترض أنَّك لا تكذب عليَّ، وأنَّ هذا اسمك … هل تعرفُ لماذا أفعل معكم ذلك؟
وهنا تدخَّل الضابط «حسام» قائلًا: وهل ستقول الحقيقة؟ أنا لا أظنُّ ذلك!
ورغم أنَّه كان يحادث «أحمد»، فإنَّه التفت إلى ما قاله «حسام»، وقال يُحيِّيه: اسمعني أوَّلًا، وبعدها يمكنك أن تعرف وحدك إنْ كنت صادقًا أم لا.
ولم يعجب الكلام «أحمد»؛ فهو يريد إجابات أكثر تحديدًا … فقال له: ما الذي سيدفعك لإخبارنا بالحقيقة؟ ولماذا تُضيِّع وقتك الثمين؟
زائيفي: أنا لا أُضيِّعه؛ أنا أستثمره!
أحمد: كيف؟
زائيفي: سأعقد معكم صفقة.
أحمد: أيَّة صفقة؟!