الاختطاف عن بُعد!
تمكَّن الملَّاح بالاستعانة بالتقنيات التقليديَّة من تحديد موقع الطائرة ومعرفة مسارها … وقد أذهل الكابتن ما سمعه، وكاد يفقد صوابه لولا «أحمد» الذي حاول تهدئته قائلًا له: يمكننا السيطرة على الأمر إذا احتفظنا بهدوئنا يا كابتن.
ضرب الكابتن ساقيه بكلتا يديه وهو يقول: يا سيِّد «أحمد»، ما تطلبه منِّي غير منطقيٍّ؛ فكيف أحتفظ بهدوئي وأنا لم أعُد قائد الطائرة؟!
أحمد: لماذا تقول ذلك؟!
الكابتن: يا سيِّدي أنا لا أستطيع تعديل مسار الطائرة، والعودة بها إلى مسارها الطبيعيِّ، والوصول بها إلى مطار «جنيف» في «سويسرا».
ثمَّ وفي سؤالٍ مُباغِت وتلقائي قال له: ألستَ مسافرًا إلى «سويسرا»؟!
نظر له «أحمد» مبتسمًا، وقال في هدوءٍ شديدٍ: بالطبع مسافر إلى «سويسرا».
ولحقه الكابتن قائلًا: ولكنَّك لن تصل إلى هناك!
قال هذا، ومدَّ يدَيه يُعيد محاولات السيطرة على الطائرة، فلم يتمكَّن … فأمسك بالمايك، وفتح خطَّ الإذاعة الداخليَّة، وقال بانفعالٍ: يا سادة، هذه الطائرة لن تذهب إلى «سويسرا»، ومَن يريد الذهاب إلى «سويسرا» فلينتظر الطائرة التالية.
كان أحمد قد أغلق خطَّ الإذاعة عندما شعر أنَّ الكابتن ليس في حالته الطبيعيَّة، أمَّا «عثمان» فقد ابتسم وقال له: أنا سأنزل هنا وأستقل تاكسي.
نظر الكابتن، وضحك كثيرًا، ثمَّ فتح علبة مياه غازيَّة شربها دفعة واحدة، ثمَّ أسند رأسه على يدَيه، ووضع مرفقَيه على تابلوه الطائرة وهو يقول: ها أنا ذا هدأت … أرِني كيف ستدير هذه الأزمة يا زعيم!
في هذه اللحظة صاح الملَّاح في وقار قائلًا: لقد تمكَّنت من خداع القمر!
انتفض الكابتن واقفًا وهو يقول له في انفعال واضح: كيف عرفت أنَّك خدعته؟
الملَّاح: لقد تمكَّنت من الحصول على انحراف غير واضح، ولكنَّه متزايد في المسار الحالي لنا.
الكابتن: وهذا الانحراف إيجابي لنا؟!
الملَّاح: نعم؛ فهو يعود بنا إلى مسارنا الأوَّل … ولكنَّه سيستغرق بعض الوقت.
ريما: لا يُهم؛ المُهم أن نعود.
الكابتن: إنَّ الخروج عن المسار كلَّ هذا الوقت وهذه المسافة، ثمَّ العودة إلى نفس النقطة، ثمَّ متابعة السير إلى «سويسرا» لن تُبلِّغنا هدفنا.
وشعر «عثمان» بغيظٍ يملؤه، فقال يسأله في نفاد صبر: ألا ترى يا كابتن أنَّك شديد التشاؤم، وأنَّ ملَّاحك هو الذي يدير الأمور جيِّدًا؟!
اشتعل الكابتن غيظًا، وطاشت كلماته وهو يصرخ في «عثمان» قائلًا: ماذا تقول أيُّها الأحمق؟ هل وصل الأمر إلى أن أسمع توبيخًا من بضعة صبيان؟!
ثمَّ قال موجِّهًا كلامه للجميع: لماذا أنتم هنا أيُّها الصغار؟!
ثمَّ في صرخةٍ هستيريَّة قال ملوِّحًا بيده في وجوههم: اخرجوا جميعًا من هنا حالًا.
في هذه اللحظة، مدَّ «أحمد» يده، فأمسك بذراعه وثناه خلف ظهره، وجذبه نحوه بقوَّة، ثمَّ قال يأمر الملَّاح: قم يا كابتن، واجلس على مقعد القائد؛ فأنت قائد هذه الطائرة من الآن وحتى نصل إلى «سويسرا» أو أيِّ مكان آمن تراه!
وحاول الكابتن التخلُّص من «أحمد» وهو يصرخ قائلًا: اختطاف … إرهاب!
في هذه اللحظة، دفع باب الكابينة ضابط أمن الطائرة، ودخل شاهرًا مُسدَّسه، فصرخ فيه «أحمد» قائلًا: أغلِق الباب أيُّها الرجل!
لم يفهم الضابط ما يقصده «أحمد»، وترك الباب مفتوحًا، وصاح فيه يأمره بإطلاق سراح الكابتن، وإلا … فما كان من «عثمان» إلا أن أطلق كُرته المطَّاطيَّة الجهنَّميَّة، فأطاحت بمُسدَّس الضابط، فالتقطته «إلهام» من الهواء.
واشتعل في الطائرة هرج وصراخ وعويل … وصاح الكابتن يُوبِّخهم قائلًا: هل ترون ماذا فعلتم بالطائرة؟
وبسرعة البرق، طافت كلُّ الأفكار البرَّاقة برأس «إلهام»، فخرجت إلى الرُّكَّاب واضعة يديها في جيوبها … وبابتسامة ساحرة قالت لهم: لقد انتهى الأمر … لقد ذهبت الخمر اللعينة بعقل أحد العاملين على الطائرة، وقد نحَّيناه، وسنُقيِّده في مؤخِّرة الطائرة لنمرَّ به عليكم، وسترونه جميعًا.
أنصت كلُّ الرُّكَّاب لما تقوله «إلهام» … واندفع من بينهم صوت لرجل يسألها قائلًا: ومَن أنتِ؟!
إلهام: أنا رئيسة طاقم المُضيفات.
فصاح رجل آخَر يقول: أنتِ أجملهم!
فابتسمت «إلهام»، وقالت في سعادةٍ: أشكرك … هل من أسئلة أخرى؟
هنا تحرَّكت في اتجاهها سيِّدة في منتصف العمر، فقالت لها «إلهام»: من فضلكِ، لا تُغادري مقعدكِ، وأنا أسمعك جيِّدًا.
السيِّدة: متى سنصل؟
وبذكاء قالت «إلهام»: في ميعادنا. عادت مقصورة الطائرة إلى هدوئها، وبأمر من «إلهام» التي امتثل الجميع لنصائحها.
طافت المُضيفات على الرُّكَّاب بالأطعمة والمشروبات مصحوبة بالابتسامات والقفشات الخفيفة؛ لإزالة جوِّ التوتُّر الذي كانوا يعانون منه.
هذا في الوقت الذي كانت كلُّ المضيفات يعانين بداخلهنَّ توتُّرًا شديدًا؛ بسبب ما حدث بداخل كابينة القيادة.
أمَّا في داخل كابينة القيادة، فقد تمَّ تقييد أيدي ضابط الأمن خلف ظهره بشريط لاصق؛ كذلك تمَّ إغلاق فمه بنفس الشريط.
وفي حديث هادئ دار بين «أحمد» والملَّاح الذي صار قائدًا للطائرة، قال له: كيف استطعت خداع القمر والحصول على هذا الانحراف في إحداثيَّات مسار الطائرة؟!
الملَّاح: لقد كنت أفعل هذا مع أجهزة الرادار، عندما كنت ضابطًا بالقوَّات الجوِّيَّة.
وهنا صاح «عثمان» قائلًا: لذلك ظللتَ صلبًا ولم تفقد صوابك.
وعلَّق الملَّاح على ما يقصده «عثمان» قائلًا: الكابتن عادة لا يفقد صوابه؛ إنَّه طيَّار ماهر، وقائد مُحنَّك حكيم، وهناك سبب قوي دفَعه لفعل ذلك.
قال هذا والتفت ينظر إليه، فوجد وجهه مُحتقنًا، وفي عينيه جحوظ مريب … فقال ﻟ «أحمد» في قلقٍ: الرجل يُعاني … من فضلك، ابحث بين الرُّكَّاب عن طبيب، وإن كان هناك طبيب غُدد صمَّاء يكون هذا أفضل.
وفهم «أحمد» ما يقصده الملَّاح، وخرج يبحث عن طبيب بين الرُّكَّاب، وقد أخبرهم أنَّه هو الذي يُعاني، على أن يجعل الأمر سرًّا بينه وبين الطبيب.
ثمَّ قام بمعاونة «عثمان» بإخراجه من كابينة القيادة، ووضعه على كرسيٍّ خاص بالطاقم، خلف كابينة القيادة مباشرة.
في هذه الأثناء، قامت «ريما» بنزع الشريط اللاصق من على فم الضابط، وقالت له: هل فهمت شيئًا ممَّا يجري؟
هزَّ الضابط رأسه في خجل، وقال لها: نعم … وأرجو أن تقبلوا اعتذاري.
فقالت له «إلهام»: نحن في مِحنة، ونحتاج لمعاونتك … لا تدخُّلك بهذا الأسلوب المُهيِّج والمثير للقلق … وعندما عاد «عثمان» و«أحمد» تفهَّما الأمر، وفكَّا وثاقه، وأمروه أن يذهب إلى بوفيه الطائرة ليتناول إفطاره.
فنظر لهما الملَّاح في إعجابٍ، فسأله «أحمد» عن اسمه، فقال له: «أدهم».
ورأى «أحمد» أنَّ الوقت أصبح مناسبًا لتجاذُب الحديث مع الكابتن «أدهم» … حديثٌ ليس المقصود منه قطع الوقت، لا؛ بل إدارة الأزمة؛ فلا زال الموقف خطيرًا. قال له: هل ترى أنَّ هناك أملًا في النجاة يا كابتن «أدهم»؟
أدهم: دائمًا هناك أمل.
إلهام: هل حدث تحسُّن في موقفنا؟!
أدهم: إنَّكم تدفعونني دفعًا للتصريح بما كنت أنوي كتمانه.
اندفعت «ريما» بفضول جارف تقول له: ما هو يا كابتن «أدهم»؟!
فنظر لها «أدهم» مبتسمًا، ثمَّ نقل عينَيه إلى شاشة المتابعة، وقال: لقد زوَّدت الانحراف أربع درجات، ولم يلاحظوا ذلك حتى الآن.
فقال «عثمان» في اهتمام: ترجم لنا هذا بلغة نفهمها من فضلك.
فقال «أدهم» في تواضُع جمٍّ: أي إنَّ الطائرة الآن تسير بعيدًا عن مسارهم بانحراف أربع درجات زائدة؛ لنتَّجه إلى نقطة العودة إلى المسار الصحيح الذي كنا نسير فيه.
ريما: وهل سيستطيعون اكتشاف ذلك؟
أدهم: أتمنَّى ألا يتمكَّنوا.
أحمد: إنَّ لدينا أجهزة دقيقة الحجم، لكنَّها على اتصال بقمر صناعي خاص بمنظَّمتنا الأمنيَّة … وعند الحاجة سنحاول الاستفادة منه.
نظر له «أدهم» بفضول، وبعينه سؤال كاد أن يطرحه، لولا أرقام تحرَّكت على الشاشة، تلَتْها أرقام أخرى، فسألته «ريما» قائلة: أشعر أنَّ هناك جديدًا يا كابتن؛ أليس كذلك؟!
أدهم: أنا أحاول أن أزيد الانحراف لتقليل مسافة الرجوع؛ خوفًا من ألا يكفينا الوقود للعودة والوصول إلى أقرب مطار.
أحمد: على ألا يكتشفوا ذلك!
أدهم: أتمنَّى هذا.
وفجأة برقَ وسط السحاب شعاع أزرق دقيقٌ، مرَّ بجوار جناح الطائرة دون أن يصيبه، فعلَّق «عثمان» قائلًا: إنَّه البرق … أم إنَّها صاعقة؟!
قال «أدهم» معترضًا، ومُصحِّحًا: لا البرق ولا الصاعقة يكون شعاعهما مستقيمًا هكذا!
نظر الشياطين لبعضهم … وفي اتفاق صامت قال «أحمد»: أترى أنَّه شعاع ليزر؟
فأجاب «أدهم» وهو يُفكِّر: قد يكون ليزر.
شعاع آخَر مرَّ بجوار الجناح الآخَر، فاحتكَّ — بالكاد — بغلافه الخارجي، ولم يُحدِث أثرًا فجًّا.
وهنا صاح «أحمد» قائلًا: إنَّنا نُهاجَم.
أدهم: ممَّن؟
أحمد: من الذين حاولوا اختطاف الطائرة.
أدهم: تقصد أنَّهم اكتشفوا مراوغتنا؟
انشغل أحمد في أزرار ساعته وهو يقول له: هذا مؤكَّد.
شعاع ليزر ثالث ارتدَّ قبل أن يصل إلى الطائرة، ممَّا أثار دهشة الشياطين، ونظروا إلى «أدهم»، وسألوه في صوت واحد قائلين: هل أنت الذي فعلها؟
أدهم: فعلت ماذا؟
إلهام: تصدَّيت لهذا الشعاع؟!
أدهم: وكيف سأتصدَّى له وهو بعيد عنِّي؟!
وهنا طرحت «إلهام» السؤال نيابةً عن الجميع قائلةً: ولكن كيف ارتدَّ هذا الشعاع، ولم يكمل طريقه إلى الطائرة؟
هنا … وهنا، لقد فجَّر «أحمد» المفاجأة حين قال: أنا الذي فعلتها يا زملائي.