مركب شراعي
قادتْني قدماي من مسكني في جزيرة الروضة إلى شارع البحر الأعظم.
كم أحببتُ السير في هذا الشارع الكثيف الظلال والشجون، هذا الشارع الذي لا تُسلِّط عليه شركة الكهرباء أنوار مصابيحها التي تَفضح الأسرار، وتُطارد همسات القلب المتعب وهواجسه. كنتُ — كالعادة — أُفضل السير والسُّرى في هذا الشارع، الذي لم يُسمُّوه عبثًا بالبحر الأعظم. فأنا أقترب فيه من نفسي المُمزَّقة من عناء العمل ومتاعب الحياة، أحاورها وتُحاورني، وأجد الفرصة السانحة لمُحاسبة الماضي والخروج من نفقِ الحاضر الخانق، والتفكير على مهَلٍ وبلا وجلٍ في المستقبل — هنا أيضًا لا يزعجني أحدٌ ولا أزعج أحدًا — فالمارَّة قليلون جدًّا، والأكواخ المبنية من اللَّبِن أو من أعواد البوص تُضفي على الشاطئ رُوح الخشوع والتواضُع، وتُعين الحائر على الرجوع إلى الذات. وما أكثر الهموم التي كنت في أشد الحاجة لأن أُلقيَ بها في ماء النيل المنساب إلى جانبي كشيخٍ وديعٍ ووقورٍ، أو لأن ألفَّها في الظلال التي تحوطُني من كل جانبٍ كأن يد أمٍّ حنون تنشر عباءتها على جسدي وروحي. وها أنا ذا أُفكِّر في هذه الهموم، وأفتِّش عن وسيلة للخلاص منها حتى أستطيع السير على طريق الحياة بلا قيود ولا أغلال؛ غدر زملائي في العمل، وكيدهم لي بتقديمي إلى التحقيق في تهمةٍ ظالمةٍ وكاذبةٍ، تخلِّي خطيبتي عنِّي وتركها الدبلة والهدايا مع أمها، وإعلانها عن رفضها حتى لرؤيتي أو التفاهم معي على هذا القرار المُنفرِد، تعثُّر حياتي الأدبية وشعوري المُتزايد بأنني غير موفَّقٍ، ولا أجد نفسي في مئات الصفحات التي أُسوِّدها وأسهر عليها، وأحيانًا تقتضيني أن أذرف دموعي عليها فتبتلَّ كأوراق الخريف الذابلة في يومٍ مطيرٍ.
لفت انتباهي صوت غناء يَطرُق سمعي من جهة النهر. اقتربتُ من الشاطئ، ونزلت الدَّرجات المهترئة المبنية من الحجر الجيري لأكون قريبًا من الصوت وصاحبه. جذبني هذا الصوت الذي يُطلِق الأغنية المعروفة «سلمى يا سلامة» بطريقةٍ مُؤثرةٍ وإن خلت من العذوبة. وأمامي وبالقُرب منِّي كانت تمرُّ على مهلٍ شديدٍ، مركب شراعية متوسطة الحجم ومحملة بأكياس رملية وألواح خشبية وأدوات حديدية مختلفة، والمراكبي الذي يذهب ويجيء على متنها، ويُرسل عقيرته بالغناء الخشن، يَدفع بالمجداف في قاع النهر؛ ليُحرِّك مركبه الذي لا تقوَى النسمات الضعيفة على ملءِ شراعه في هذا الوقت الذي يسودُه السكون، الذي شمل كل شيءٍ.
تعلَّقت بالمشهد، ووقفت أمامه خاشعًا وذاهلًا، كأنَّني أُتابع موكبًا مقدسًا يمرُّ في صمتٍ في طريقِه إلى معبد مقدسٍ. يا للراحة التي غمرت أحاسيسي وأنا أُتابع المركب الشراعي، وأبتسم لمرأى المراكبي الذي أخذت أتعاطف معه، وأشعر بالجهد الخارق الذي يَبذله وهو يدفع مجدافه في الماء، فيتحرَّك المركب إلى الأمام. ويا لَلإعجاب الذي تملَّكني وأنا ألمح من على البعد عظامه البارزة من جلبابه القديم، الذي يُشبه الخرق البالية، وأقدِّر مدى الجهد الذي يتكبَّده والألم الذي يُعانيه، ويُحاول مع ذلك أن يَصرِفه بغنائه الأجش الذي يَنفذ في القلب.
هذا هو المركب الشراعي — البدائي سليل مراكب الأجداد القدماء — يتحرَّك النيل الهائل من تحته، وتهتز السحب والنجوم من فوقه. إنه يترك نفسَه للنسمات الخافتة الرقيقة التي تلمسُه وتكاد تتأوه من عجزها عن تحريكه، وهو يَمضي في سبيله إلى الأمام، ويَنطلِق في هدوء إلى البعيد البعيد. وها هو أمام عيني يترنَّح في دلالٍ، وربما باعتزازٍ وفخار، كأن يد القدر هي التي تُحرِّكه. ويمرُّ ويَعبرني، أشبه بإوزة كبيرةٍ أو بجعةٍ فاتنةٍ مُختالة بنفسها، أو فراشةٍ كبيرة هائلة الحجم تُسكرها النسمات، وتُهدهدُها الأمواج، ويستحثُّها الغناء، فتسبح في طريقها غير عابئةٍ بشيء حولها ولا وراءها ولا أمامها. آه! هل هو مركب شراعي وحسب، يسوقه مراكبيٌّ فقيرٌ متعب، يداري همَّه بالصوت الظمآن إلى عين الحبيب وحضن الابن والأب والأم بعد السفر والغياب؟ أم هو قاربٌ سماوي يصعد مُنسابًا على أجنحة الحرية، ويُضيء ظلمات وجداني، ويهشُّ وطاويط الهموم التي تتخبَّط في رُوحي وتعشش في ذهني؟
لا … لم يكن أبدًا مجرَّد مركب شراعي!