القبر الجديد
اللحظات التي قَضاها في قبره الجديد في الظلام والصمت، في قلب الظلام والصمت، في القلب الغائر الدفين، كانت لحظات فارقةً في حياته وفي أيامه الباقية. كان جمع الأهل المُحتشِدين أمام الضريح الحديث البناء، قد فوجئوا بفعلته العجيبة الغريبة. فبعد أن عايَنَ المكان، وتأكَّد من متانة السور العالي والبوابة الحديدية، وبعد أن ضحك كثيرًا مع شقيقه الأكبر من ضخامة القفل الذي وُضعَ عليه، وتساءل بصوتٍ مرتفعٍ: وما الداعي للقفل والراقد في الداخل لا يُمكنه أن يخرج، والواقف في الخارج لا يريد الدخول؟ وسط كلمات الإعجاب بفخامة البناء، وبذمَّة البنا وصنعته البارعة، وبينما الجميع يتابعون ملاحظات الدكتور على الموقع والطلاء، والرخامة المحفورة داخل واجهة القبر وعليها بالخط الكوفي البديع نقشٌ بارز باسم الميت المرموق وصنعته ومكانته: … أستاذ التاريخ والحضارة بكلية وجامعة، وتحتها مسافة فارغة لوضع اليوم والشهر الهجري والميلادي والسنة للمُتوفَّى الذي لم يُتوفَّ بعد. بعد كل ما سبق فُوجئ الجميع بفعلتِه العجيبة الغريبة التي تمَّت في أسرع من لمح البصر. أذهلت المفاجأةُ المدهشة الجميع، فلم يستطع أحد أن يمنع الميت — بالقوة لا بالفعل — من أن ينفذ بسرعة الريح من الفتحة الكبيرة للقبر الجديد الذي فرغ من معاينتِه، وصار من الواضح أنه رضيَ عنه كلَّ الرضا. لم يكن الجمع الحائر الذاهل يفيق لما حدث، ويفتح العيون غير مصدقٍ، حتى تعالَت الأصوات الحميمة المشفقة: حاسب يا دكتور … الأرض ما زالت طريَّة ومرشوقة بالزلط والحصى …
هل هذا معقولٌ يا ناس؟! ولماذا الاستعجال وأمر الله في علم الغيب؟ يا دكتور اعمل معروف … اخرج يا دكتور اخرج … ما زلت بحمد الله في كامل صحتك وفي عزِّ شبابك … اتق الله واخرج يا دكتور.
لم يَصدُر أي صوت عن الراقد الممدَّد على راحتِه في القبر … والأعجب من صمتِه المطبق أنه خيِّل إليهم في هذا الموقف الغريب المُستحيل أنهم سمعوا ضحكةً قصيرةً واضحة كرنين كئوس تصطدم ببعضها — تلفَّتُوا لبعضهم وهم يستنكرون ما يُشاهدون وما يسمعون — وتجمعوا حول الفتحة الواسعة التي غافَلَهم أستاذ التاريخ والحضارة ودخلها واختبأ فيها، كطائرٍ ضخمٍ يلوذ بنفقٍ مُظلمٍ بعد أن أتعبه التحليق والدوران في الجو بحثًا عن ملجأ يحميه …
لم يشعر المُحتشدُون المتجمِّعون أمام فتحة القبر بأنهم قدموا للراقد الممدد في داخله أعظم خدمة كان يتمنَّاها … لم يخطر على بالهم أنهم بتجمُّعهم أمام فتحة القبر قد أكملوا دائرة الظلام والصمت التي طوَّقتْه في الداخل، وأعطتْه الفرصة الفريدة لكي يُحاسب نفسه بعد أن وضع نفسه وجسده على البرزخ المعتم بين الحياة والموت.
همهموا وجمجموا، وتناثرت من أفواههم عبارات الدهشة والعجب. ثم أخلدوا للصمت الذي استولى عليهم فجعلهم يتسمَّعون لما يجري وراء الفوهة المخيفة الفاغرة الفم. كانوا يسألون أنفسهم وقلوبهم ترتعش وتدقُّ بعنفٍ خشية أن يكون الدكتور قد أصابه مكروه، أو أن يكون قد عملها فجأةً بطريقة لا يَدرونها ولم يحسبوا لها أي حسابٍ. أما الدكتور نفسه فقد اختلى بنفسه ربما لأول مرة في حياته خلوةً حقيقة. أخذ يسأل نفسه أو ربما سمع أصواتًا تنبعث من حوله ومن داخله تسأله: ماذا فعلت بنفسك؟ وماذا فعلوا بك؟ ها أنت تُحال إلى المعاش بعد أن ظللت تلهث وتلهث طول العمر … أخذك علم التاريخ والحضارة إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب، قدمت عُصارة العصور المزدهرة وأهوال الحقب المتدهورة من عشرات المراجع والكتب باللغات التي تقرأ بها … ووقفت أمام المئات من تلاميذك والمئات من قرَّائك وفي يدك الكئوس الممتلئة برحيق الفكر الشَّرقي والغربي، رحيق الحكمة التي فاضت من أفواه بوذا وكونفوشيوس ولاو-تزو، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى آخر صفوف العلماء والمفكِّرين والرواد وشهداء المعرفة والحضارة والتقدم على مرِّ العصور … لم تُفرط في شيءٍ، ولم تقصِّر في سيرة أحد … شخصٌ واحد قصَّرت في حقِّه ونسيته وكدت أن تخنقه بيديك القاسيتين، ذلك الشخص هو أنت نفسك يا دكتور … يا من بدأت حياتك في صباك وشبابك شاعرًا، أين شعرك؟ يا من حاولت القصة والمسرحية، لماذا توقفت؟ صحيح أنك انتزعت لُقيمات صغيرة من فم الأسد الذي يُطاردك بالليل والنهار، في قاعات المحاضرات وفي الندوات والمؤتمرات وحتى في أحلامك وكوابيسك. لكنك يا دكتور لم تكن نفسك أبدًا، وربما نسيت نفسك ويئستَ ولم تُحاول، مت الآن أيها اللاهث المطارَد، وحاول أن تخرج من ظلام ماضيك بخروجك من ظلام قبرك الجديد، عش يا مسكين قبل أن يضعوك إلى الأبد في هذا المكان … جرِّب أن تعيشَ بحقٍّ يا من سُرق العمر منك، ولم يكن ذلك بدون ذنب منك. عِشْ … عشْ … لا تتردد بعد اللحظة! …
يبدو أن الجمع المحتشد بدأ يفيق للوضع المأساوي العجيب؛ فقد اخترق شقيقه الأكبر الصفوف وانحنى أمام فتحة القبر، وهتف صارخًا وهو يمدُّ ذراعَيه داخل الفوهة ولا يرى أي شيء: يا الله يا دكتور … اخزِ الشيطان وتعالَ يا رجل! ربنا يُعطيك العمر والصحة يا رجل يا طيب … نحن استعجلناك لتتفرَّج على القبر الذي كلفتنا ببنائه، ونفَّذنا أوامرك كما رأيت وشاهدت وعاينت بنفسك … اخرج يا رجل … اعمل معروفًا واتَّق الله …
وخرج الدكتور برأسه أولًا، ثم استند إلى ذراعيه، وسارع الجميع يتلقفونه وينفُضُون عنه تراب القبر وحصاه الذي علق ببذلته وأكمامه … وعندما وقف أمامهم وهو يضحك، ويمرُّ بيده على صدورهم وظهورهم، ويتلفَّت حوله وقد اكتست قسمات وجهه بالذهول والرضا في وقتٍ واحد. خُيِّل إليه أن النور أصبح هو النور، وأن الشجر هو الشجر، وأن الزهور والسعف المنشور فوق معظم القبور يكاد في خضرته ولمعانه تحت الضوء أن يبتسم له ويُحييه، وأن الموتى الذين أحسَّ بهم في تلك اللحظات النادرة في قلب الظلام والصمت هم الموتى الطيبون الحقيقيون، كما أن البشر الذين التفُّوا حوله، وراحوا يضحكُون لضحكه ويَضربون كفًّا على كفٍّ على نكتته العجيبة هم بشر طيبون وحقيقيون. ضمَّه شقيقه الأكبر إلى صدره، وأخذ يُنهنِه ويقهقه في وقتٍ واحدٍ: حمدًا لله على سلامتك يا أخي، ربنا يجعل يومي قبل يومك … يالله يا رجل، عش حياتك وربنا يطوِّل في عمرك … هل هذه عَمْلة تعملها يا رجل يا طيب؟ … العربة في انتظارك أمام مدخل الجبَّانة، مبروك عليك بعد عمر طويل … المهم أن تعيش لنا وللناس والأجيال يا رجل …
قال الدكتور وصوته مختنقٌ بالدموع: نعم نعم! المهم أن أعيش.