البالونة

يُمسكُني أبي من يدي وهو يسحبُني وراءه، وأنا أقفز وأحاول أن أُحاذي خطواته السريعة الواسعة. يده تضغط أحيانًا على يدي، فأتحيَّر من هذه الضغطات القوية التي أحسُّ بحَنانها، وأرفع وجهي وعينيَّ إليه فأراه متجهمًا معقود الجبين، زائغ البصر، محنيَّ الرقبة والظهر، ومثقلًا بهمٍّ لا أدري عنه شيئًا. وأُفاجَأ بأننا وصلنا إلى محطة السكة الحديدية، ودخلناها بالفعل. أوقفني عند كشك الجرائد والسجائر، ونبَّه عليَّ ألا أتحرَّك من مكاني خطوةً واحدةً حتى يقطع التذاكر من الشباك الذي أشار إليه، ورأيت صفًّا طويلًا من الواقفين أمامه. وجدتها فرصة للتأمل في أحوال أبي وأحوالي بعد أن أيقظني من نومي في الصباح، وأمرني أن أرتدي ملابسي بسرعة ولا أضيع وقتًا. ولما عاتبتْه أمي على أنه سرع الولد حتى قبل أن يَغسل وجهه أو يضع لقمة في فمه، سمعته يقول لها شيئًا على انفراد لم أتبيَّن منه سوى كلمة واحدة رنَّت في أذني كالجنازة، أو شيء شبيه له علاقة بالموت والأموات. وقفتُ في مكاني ساخطًا على السفر والمحطة وبائع الجرائد، الذي نهرني أن أبتعد قليلًا، والناس الذين يَجرُون ويَزعقُون ويُشيرون بأيديهم وأذرعهم للأرصفة والقطارات الواقفة فيها، ويَبدون في صياحهم واندفاعهم كأنهم مجانين أو مُطارَدون. والشيء الذي أغاظني في وقفتي التي طالت هي أن الوجوه التي تمرق أمام عيني لم تكن تقلُّ جهامة وعبوسًا عن وجه أبي. خُيِّل إليَّ أن الجميع مُثقَلون بهمومٍ فادحةٍ، وكدتُ أيئس من رؤية وجه واحد يَضحك، أو من سماع ضحكة واحدة تَخترِق زحام الحشود المتدافعة في هذه المحطة التي بدت لي ساحة مجانين …

وفجأة لمحت عيني بائع بالونات يخترق الجموع، ويتجه مباشرة إلى كل أب أو أم تمسك في يدها طفلًا. أُعجبتُ بخفة حركته وخفة دمه، وبهرتني البالونات الحمراء والخضراء والزرقاء والصفراء التي تتمايَل وتترنَّح على عصا يهزها في يده، وتتدلى منها البالونات كأعناب كبيرةٍ وناضجة تتلوى في الهواء، وتكاد تسقط من فروع كرمة كبيرة وكثيفة. انشغلت بطبيعة الحال عن الزحام والقطارات والصفارات المُدوية التي تُطلقها كلما دخلت في أحد الأرصفة، والتصقت عيناي بالبالونات، وراحت تُتابع رقصاتها المرحة، حتى كدتُ أتخيَّل أنها مهرجو سيرك مُلونون يُقدمون ألعابهم أمام وحوش مُكشِّرة عن أنيابها ووجوهها المقطبة المخيفة.

وجاء أبي بعد أن شبعت جنونًا بالبالونات، وملأت عيني وقلبي بألوانها ورقصاتها وحركاتها المُضحكة. جريت نحوه وأنا أهتف به وأكاد أُهدِّده بالبكاء: بالونة يا أبي! أرجوك يا أبي! أرجوك! تلفَّت أبي حوله والتكشيرة لا تزال تغرس وجهه وحاجبيه وعينيه. ووقع بصره على بائع البالونات وهو يستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيمٍ. أشار للرجل أن ينصرف ويتركنا في حالنا، ولكن الرجل ظلَّ واقفًا في مكانه، ولم يفقد الأمل بسهولة. واغتنمت الفرصة فضربت الأرض بقدميَّ ومثَّلت دور الباكي الذي يرفع شكواه للسماء، ويزمع أن يفرج الخلق على الظلم الذي حاق به دون ذنبٍ جناه. ويئس أبي منِّي، وسمعته يكلم نفسه قائلًا: إحنا في إيه ولا إيه! ثم يمدُّ يده إلى الرجل ويأخذ منه بالونًا، وهو يقول له: منك لله أنت أيضًا … وعندما يسمعني أعترض على اللون الأبيض وأطلُب بالونًا أزرق، يُسرع الرجل فيعطيه ما طلبت.

أعطاني أبي البالون، وهدَّدني بسبابته المُتصلِّبة التي كادَت تدخل في عيني: خذ بالك، لا أريد فضائح، خلِّها في يدك ولا تتحرَّك من مكانك حتى أحضر سندويتشَين من البوفيه. ثم وهو يَستدير ويُكرِّر تحذيره: سامع يا ولد … لا أريد فضائح …

مددتُ ذراعي بطولها على قدر ما يسمح الزحام والأجساد المُتدافعة التي ترتطم بجسمي الضئيل النحيل، وأخذتُ أتمايَل مع البالونة الزرقاء التي وضعتُ في يدي الحبل الذي رُبطَت فيه، ورحت أتراقَص ذات اليمين وذات الشمال، وأُغنِّي أيضًا. لم أجد المساحة الكافية لكي أركض وأجري وأذهب وأجيء، والبالونة — هذه المُعجِزة الناصعة الساطعة كالفيروزة — تتبخَّر في كل اتجاه غير مُكترثةٍ بشيء. كانت الأجساد التي تصطدم بي والأيدي التي تدفعني أقوى من أن تَسمح لي بالرقص الحقيقي كما أن الوجوه المقطِّبة الغاضبة التي كانت تحدجني عيونها بنظراتها النارية كانت تشلُّ حركتي وتكاد أن تقلب رقصي وفرحي غمًّا وبكاءً ومع ذلك لم أكترث بشيءٍ، لا بالأجساد التي تدفعني وتزحزحني كل حين، ولا بالوجوه الساخطة والأفواه الفاغرة التي تَصبُّ لعناتها على الأولاد الأشقياء كنتُ أرقص «محلك سر» والفرحة تهزُّ جسدي كله، وتكاد ترفعُني مع البالونة لنُحلِّق في سماء المحطة المُزدحِمة الكريهة الرائحة لم أكن أنا وحدي الذي يشعر بالفرح والسعادة، لقد خُيِّل إليَّ أن السماء الزرقاء الصافية التي تعلو رأسي سعيدةً معي، وأن الطيور التي تُحلِّق في السماء تنادي البالونة لتحلِّق معها في الهواء الأزرق في ذلك اليوم الشتوي الدافئ المشرق، وأن نوافذَ البيوت المتوهِّجة بضوء الشمس الذهبية تعلن عن سعادتها بهذا الفرح الطائش الشجاع.

والتفتُّ فرأيت أبي قادمًا، وشرارات الغضب تطقُّ من عينيه، سبقه صوته المرعد المُرعب وهو يَصيح: أنت يا ولد … ألم أحذِّرك يا مجنون … ارتعشت يدي وانتفض جسدي كله، وقبل أن تصل قدماه إلى مكاني، كانت البالونة قد أفلتت من أصابعي وطارت إلى أعلى. قال أبي شامتًا، وبغير أن تُفلت منه ضحكة أو يفتر فمه عن بسمة: أحسن … أحسن … تشاغلت عنه وعن خوفي منه وصحتُ به: انظر يا أبي! إنها تَصعد وتصعد وتصعد … فيروزة تحلِّق في السماء، فراشة زرقاء ترفرف فوق أسطح البيوت … انظر يا أبي انظر! لكنه أحكم يده وذراعَه الحديدية على كتفي وهو يزمجر: القطار وصل … تعالَ … تعال قلت لك لا داعي للفضائح …

كان قد شدَّني من يدي، وأخذ يدفعني أمامه بعنفٍ، وعندما وصلنا إلى أحد أبواب القطار، دفعني من ظهري وقذف بي مع الحقيبة التي في يده وهو يدمدم ويستغفر الله — كعادته من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ — وبعد أن جلسنا على المقعد الخالي، وجدتني أهتز وأنتفض وأطرافي كلها ترتعش. ارتج قلبي وجسدي كله بإحساسٍ فظيعٍ بارتكاب جريمةٍ لا أدري شيئًا عنها … وعندما انفجرت بالبكاء، قال لي أبي: ما الداعي للنكد الآن؟ ألم تَشبع من الرقص والفرح … وفِّر دموعك لجنازة عمك التي ستَمشي فيها بعد قليل، سكتُّ وعرفت سبب همِّه وغمه طوال الطريق، وتطلعت من النافذة، فرأيت البالونة وهي تصعد وتصعد في السماء الزرقاء.١
١  بتصرُّف شديد عن قصيدة «منتصف نهار في الشتاء»، للشاعر الإيطالي أومبرتو سابا (١٨٨٣–١٩٥٧م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤