رسائل حب
أكاد أشعر بأنك تسألينني: لماذا تأخَّرت عنِّي؟ لماذا لم أتلقَّ رسالة منك طوال هذا الأسبوع؟ أتُريدين الجواب؟ لم يُؤخِّرني عنك شيء عارض، أخرني عنك الموت نفسه. أرى على وجهك وفي عينَيك أمارات الدهشة. نعم يا حبيبتي، هو الموت نفسه ولا شيء أقل منه. لكنني لم أنسك أبدًا أثناء لقائي معه. أتدرين ماذا كنت أفعل طول الوقت؟ أتدرين كيف واجهته وحاورته وداورته وأنا أتفرس في وجهه الغامض وعينيه الكابيتَين؟ واجهته بكتابة رسائل إليك. رسائل حب، ربما لم تصلْك منِّي أكثر منها حبًّا وتعلقًا بك وبالحياة معك. ماذا حدث؟ أقول لك يا حبيبتي باختصار، فما زالت سحب الموت السوداء تُطاردني وتغشي روحي وبدني، حتى بعد أن وارينا الصديق العزيز تراب القبر وتركناه وحده …
أجل يا حبيبتي، كنتُ مع الموت على مدار الأيام العشرة الماضية. دخل صديقي الذي طالما حدَّثْتك عنه غرفة العناية المركزة بعد نضال مُضنٍ مع المرض. أبلغتْني بذلك زوجته التي أُعدها أختًا واسمها الراعية الحنون، وكذلك ابنه وابنته اللذان لم أكن قد رأيتُهما منذ سنين طويلة. أسرعت إلى المستشفى الذي يرقد فيه. كان المطر يتساقط، والبرد الشديد يزيد من اشتعال نزلة البرد التي ألهبت جسدي وأفقدتني توازني. ووصلت إلى المستشفى، وأذنوا لي في الدخول عليه. كان مُمددًا على الفراش، وجهه مستدير تجاه النافذة، وعيناه اللتان لم يظهر منهما إلا بياضٌ أشبه بالضباب تُحدِّقان في الفراغ الجاثم من حوله. أمسكت بيده، مزرقة ومسودة وباردة، وتحسَّست صدره المُتحشرج الذي لا يستطيع أن يلتقط نفسًا واحدًا بغير جهاز التنفس الفضِّي الذي ثبت على فمه. دلكت يديه ورجليه فلم تصدر عنه أي استجابة. وحين شعرت بضغطة يده على يدي بعد أن ناديته باسمه، وملت على أذنه أذكِّره باسمي وبأيامنا وليالينا وذكرياتنا على مرِّ السنين، خُيِّل إليَّ أنني أري شعاع أمل في تماثله للشفاء، لكنه لم يلبث أن سقط في غيبوبته وعاد يحدق في الفراغ الساكن الموحش بعينين مفتوحتين. كان من المفروض ألا تدوم زيارتي أكثر من خمس دقائق، لكنني استأذنت المسئولين في قضاء الليل معه فأذنوا لي بعد تردُّدٍ شديدٍ.
ها أنا ذا أجالس صديقي المُحتضر، أتابع الأنفاس المختنقة والآهات المكتومة لقطعة عزيزةٍ من عمري. ماذا أقول لك، وكيف أصف إحساساتي وخواطري في تلك الساعات الكئيبة الحاسمة. هل رأيت طوال حياتك إنسانًا يُحتضَر؟ هل جرَّبت عذاب الموت ومعاناة الروح التي تصارع لمغادرة جسدٍ ضعيفٍ وعاجز عن المقاومة؟ حتى ولو كان المحتضر حيوانًا، قطًّا أليفًا أو كلبًا وفيًّا، فلا بدَّ أن تشعري بأنك أنت أيضًا تتعذَّبين عذابه وأنك تموتين معه، بالمعنى الحرفي القاسي للموت.
كان صديقي يَتعذَّب على مرأى منِّي ومسمَع. عاجز أنا عن مساعدته، ملهوف على سؤال الأطباء الذين يتردَّدون عليه أثناء الليل، يَقيسون نبضه، يتحسَّسون صدره وكبده، يعدلون وضع جهاز التنفُّس أو خرطوم السائل الشفاف الذي يصبُّ في وريد قدمه بعد أن جفت اليدان ورفضتا الاستجابة لأي حقن جديدٍ. وأنا أواجه العزيز المتحشرج، الغائب عنِّي وعن نفسه وعن كل شيء … ربما لا تصدقين إذا بُحت لك بأسرار أنهار الخواطر التي راحت تزدحم عليَّ وتهاجمني من كل ناحيةٍ. هل تحكمين عليَّ بأنني كنت شريرًا حين توافدت عليَّ أفكار من الهند البعيدة، وكدت في تلك اللحظات القاتمة الموجعة أن أميل على أذنه وأهمس فيهما: أبشر يا صديقي الحبيب، ما هي إلا خطوات وتعبر عتبات الفناء وتتحد بالكل. ستصبح قطرة تنحدر في نهر الوجود، شعاعًا يذوب في شمس الخلود، صوتًا ينضم إلى أصوات الحكماء والشعراء والأدباء الذين أحببتهم من كل العصور والأوطان والحضارات. ألا تسمعهم الآن وهم يرحبُّون بك ويحتفلون بانضمامك إليهم، بعد كفاحك المخلص الطويل في بلدك، ومن أجل أهلك وناسك؟ أبشر يا صديقي الحبيب … إن الكل يدعوك إليه، وليس الكل بباطل كما كتبت يومًا على عنوان كتاب مبكر …