إلى أمي الحبيبة
إليك أكتب هذه الرسالة التي تأخرت كثيرًا … أكتبها الآن بعد أن هبط المساء ومعه البرد الشديد والضباب أيضًا. أحاول أن أدفئ نفسي في غرفتي العارية الخاوية فوق السطوح، لكنني لا أفكر إلا فيك وفي الروماتيزم اللعين الذي يهاجمك كل شتاء، وربما يكون قد هاجم القلب الحنون في السنوات الأخيرة. أه! ماذا تفعلين الآن يا ترى؟ هل تعجنين أم تخبزين أم تغسلين أم تصعدين إلى السطوح لتتفقدي برج الحمام، وتلقي الحبوب وفتات الخبز للبط والدجاج، ولا تنسين أن تجددي صحن الماء الكبير؟ هل ما زال صفير القطار الذي يمرُّ من أمام بيتنا يزعجك، والشحاذون ومدَّاحو النبي، هل ما زالوا يطرقون بابنا وتسرعين فتعطيهم العيش والجبن والحلاوة وما فيه القسمة والنصيب؟ أم تراك تمسحين ظهر قطي الشقي العزيز بستان، وتحذرينه من فتح النملية وباب الفرن وسرقة السمك، وتذكِّرينه بالعشرة والمعروف؟ وهل خرج أبي إلى الدكان مبكرًا ومتجهِّمًا كعادته، وهو يلعن الزمن والحظ وخلف الأولاد الذين لا يأتي من ورائهم إلا النكد؟ سامحيه يا أمي، وواجهي غضبه وثورته بابتسامتك الساخرة التي تشرق كالشمس فتبدد غشاوة البخار والدخان والضباب. إنه — رغم كل ما فعله معي — كالسحابة التي تبرق وترعد، ثم لا تلبث أن تصفو وتسبح في السماء كالجزر البعيدة الزرقاء.
كما أنك تعرفين أكثر منا جميعًا أن مصباح الإيمان ينوِّر قلبه، ويكشف عنه أستار الضغينة والمرارة وظلمات الاكتئاب. سلِّمي على كل شيء في البيت يا أمي، على الباب والسلم والساعة القديمة في المندرة، والبورية العجوز في الحجرة المطلَّة على الشارع الرئيسي، ولا تنسي أن تلمسي كتبي وأوراقي وتمسحي الغبار عنها وعن مكتبي الصغير …
أكتب إليك يا حبيبتي — كما قلت لك — من الغرفة التي دبَّرها لي صديقي الذي سبقني ليجرب حظه في قلب هذه المدينة التنين. وهو كذلك الذي دبَّر لي عملًا في مطبعة كبيرة في الصباح، وهو عمل يكفيني للحصول على لقمة العيش، ويعطيني في المساء فرصة تأليف أشعاري. آه! لست في وفاق مع نفسي، وما زلت — كما تعرفيني — حزينًا حتى الموت، لكنني خرجت من البيت ورحلت إلى المجهول، وفي صدري تصميمٌ أكيد على الحياة للشعر وبالشعر. أعلم أنك لا تعرفين الفرق بين شعر ونثر، أنك كنت تأخذين مسودات أشعاري ومحاولاتي الأولى وتشعلين بها نار الفرن والكانون، وكيف أشرح لك أو لأبي أو حتى لأخواتي وإخوتي المتعلمين أنني وهبت حياتي للشعر ووهبته كذلك موتي؟ هي مغامرةٌ ومخاطرة بكل شيء يا حبيبتي. والسقوط ضحية لها أفضل عندي من التعفن في الدكان الذي يريد أبي أن يحبسني فيه عقابًا على فشلي في الدراسة، وهروبي من مللها الرهيب، ودرسًا قاسيًا في مدرسة تجارته الصغيرة مع أني لا أفهم في البيع ولا في الشراء. كم نهرني وثار في وجهي ورفع عليَّ سيف عنترة وعصا موسى، وكم أقسم على أنني لو أفلحت في حياتي فسوف يأكل من صحن واحد مع الكلاب. وكم شتمني — كما كنت تسمعين وترين — كلما رآني أسرح بنظراتي إلى البعيد وأثبت عيني على السقف، وأسهر طول الليل مع أشعاري وحكاياتي التي ربما لن يقرأها أحد ولن يسمع عنها إنسان. لكن ماذا أفعل يا حبيبتي؟ كان لا بد من الخروج، لم يتبق أمامي إلا الفرار من جحيم البيت إلى جحيم العالم الذي أعيش الآن فيه.
أعلم أنك تنتظرين أن أطرق باب البيت نهارًا أو ليلًا فأعانقك وأضمك إلى صدري، وأقبِّل أبي وأسأله التوبة والصفح. لا تنتظري يا أمي أن أفعل هذا — فقد اخترت أن أكون أنا نفسي ولو خسرت العالم كله — لكنني سأحضر يومًا، صدِّقيني سأفعل هذا في يومٍ قريبٍ. سأتسلل من الباب خفية وأضمك إلى صدري وأقبِّلك في عينيك، ثم أذهب كما أتيت دون أن يراني أحد أو يحسُّ بي أب ولا عم ولا خال ولا أخ ولا أخت …
لكنك مع ذلك تنتظرين وتنتظرين، تجلسين أمام النافذة في المندرة وتتابعين العربات المنحدرة من المزلقان بالساعات والساعات. أعلم أنك تعيشين الآن كما تعيش كل أمهات الشعراء، فقيرة وباكية على الدوام، وعادلة في مقياس الحب للأبناء الجاحدين والبعيدين. ستقولين: أخيرًا تصلني كلمات من الابن القاسي الذي خرج وعلى ظهره معطف رخيص وفي قدميه حذاءٌ قديمٌ. كنت أرى الدموع في عينيك، وأعجب كيف تحبسينها عن السقوط، وبدلًا منها تبتسمين ابتسامتك الساحرة الساخرة. ليتك تعرفين كم ساعدتني هذه الابتسامة، وما زالت تُساعدني على الصمود في وجه الفقر والظلم والجوع أيضًا في بعض الأيام، وليست ابتسامتك وحدها هي التي تساعدني وتقويني، إن هديتك التي صممت على إعطائها لي عندما خلعت الغويشتين اللتين بقيتا لك من صيغتك القديمة، تحملان عن كاهلي الكثير من الهموم. لقد بعت إحداهما بمبلغ أعانني على شراء سريرٍ ومكتب قديم وبطانيتين وحذاء آخر جديد، بل دفعت كذلك إيجار حجرتي التي على السطوح لمدة شهرين قادمين. عليك أن تطمئني يا حبيبتي، فأنا الآن أحصل على مرتبٍ إن لم يكن كبيرًا، فهو يكفي ضرورات الجسد المريض النحيل. والمهم أنني لا أترك لحظة تفوت من عمري بغير أن أواصل حلمي وأحاول أن أحقق بعضًا من ذاتي، وأكون أنا نفسي لا أحدًا آخر كما قلت لك قبل قليل.
هل بكيت الآن يا حبيبتي؟ أكاد ألمح الدمعة تفرُّ من عينيك وتبلل وجهك وصدرك وثوبك. ربما تخافين عليَّ من أن يتربصوا بي هنا ويقتلوني كما يُقتل كل الشعراء في كل البلاد. حتى لو حدث هذا يا أمي فهو لا يستحق دمعةً واحدة، منك — وإذا رجعت إليك يومًا على قيد الحياة أو جثة هامدة، فلن يستحق موتي صرخة واحدة ولا دمعة واحدة — أتعلمين لماذا يا أمي؟ لأنني لم أطلب شهرة ولم أفكر في مجدٍ، ولم أسعَ لإعلان أو إعلام. إنما أردت أن أكون شاعرًا وكان لي ما أردت — وسواء عليَّ أن يذكرني أو ينساني العالم الذي أعطيته ظهري وخسرته عن عمدٍ — إذ يكفيني — كما قلت لك — أنني كنت أنا نفسي في كل ما فعلت وما كتبت. وما الضرر يا أمي في أن أموت في الغربة؟ ألم تقولي دائمًا: من مات غريبًا مات شهيدًا؟ وهل قليل عليَّ أن يقول عني إنسان واحدٌ حرٌّ إنني مت من أجل الشعر. هل سيمنع موتي الشمس عن الشروق والغروب؟ هل سيوقف القطارات التي يزعجك صفيرها بالليل والنهار؟ هل سيكف قطي الأسود «بستان» عن لعبه ومِوائه الحزين، وهو يبحث عنِّي في حجرتي وعلى مكتبي وتحت سريري؟ وما الفرق بين أن يمدُّوا جسدي هنا في تراب المدينة، التنين، وبين أو يوارى في مدفن أسرتنا؟ ما الفرق إذا اعترف ناقدٌ واحد بأنني عشت حقًّا وصدقًا للشعر وبالشعر، وأن ديواني أو دواويني المقبلة وجدت عينًا واحدة تطلع عليها وتسعد أو تشقى بها؟!
ها أنا ذا أقترب من نهاية رسالتي إليك، وأتذكَّر فجأة يا حبيبتي أنك لا تقرئين ولا تكتبين، لمن أرسلها إذن وكيف؟ لأبي الذي سيمزقها إربًا، أم لبيت إحدى أخواتي اللاتي لا تنقصهن الهموم؟ لا لا … لن أرسل شيئًا يا أمي؛ لأنني على يقين من أن رسائل قلبي الممتلئ بحبك ستصلك، وتدخل من أبواب أحلامك، وتهمس لك في كل لحظةٍ بأنني أحبك وأحبك وأحبك …