أيتها الأميرة الصغيرة
أميرتي الصغيرة الشهيرة … ها نحن نصل بعد السفر الطويل إلى مكانك
الذي حدَّثنا عنه الدليل. في هذا المكان الذي تملأه الحجارة الآن،
كان قصرك وملعبك ومهجعك وربما قبرك الصغير … نحن القادمون من بلادٍ
بعيدةٍ نقف وسط الحجارة المتناثرة، والأعمدة المبتورة والمهشمة،
والحفر العميقة التي خلفها وراءهم علماء الحفريات الذين ينقِّبون
منذ قرنين عن بقايا كنوز حضارتك، التي كانت الأصل الأول والمذهل
لحضارة الإغريق. هل عشت يا ترى قبل ثلاثة آلاف سنة أو أربعة أو
أكثر أو أقل؟ وهل كنت، حين تأتين إلى هذه البقعة الساحرة، ترين ما
نراه الآن من قريب ومن بعيد: الحمير المطرقة برءوسها وآذانها وهي
تصعد الدروب الجبلية في صبرٍ، حقول الزيتون المسالمة التي تفرش
السهول والمدرجات، النوافذ المضاءة منذ الغروب من بيوت وأكواخ
فقيرة، ربما بقيت هي نفسها التي رأيتها في زمنك القديم، زمنك الذي
أستحضره الآن ليتجلَّى في مرآة الخيال والوجدان، وتشهد عليه مئات
الأعمدة والشواهد والأحجار. هل كنت يا أميرتي المينوية الصغيرة
ترين أشباح الأعمدة التي نراها من بعيد ومن ناحية الشمال، وكأنها
أذرع وأيد شاحبة ممدودة للسماء، أو براعم زهورٍ ذابلةٍ تتلهف على
نسمة هواء؟ أكانت تلك هي أطلال القصر القديم، قصر مينوس الملك
الأسطوري الذي تتسمِّين باسمه كما تُسمى به ملوك بعد ملوكٍ؟ وهل
أنت حقًّا إحدى حفيدات حفيداته كما فهمنا من الدليل اللطيف
الثرثار؟
أتجول وحدي في المكان بعيدًا عن ضوضاء الفوج الذي جئت معه، وأسأل
نفسي أمام ركام الأحجار: أكان في هذا الموضع ملعبك؟ هل كان موحشًا
كما يبدو الآن أم كان مفروشًا بالخضرة ومُحاطًا بالأشجار وغنيًّا
بالأرائك والكراسي، وهياكل الألعاب الخشبية التي تتأرجحين عليها أو
تتسلقينها وتهبطين منها، وأنت تصيحين وتضحكين وتغنين؟ هل كانت لك
دمية؟ وعلى أيِّ شكلٍ كانت يا حبيبتي: على هيئة عروس أو حصان صغير
أو مهرج عجوز أو قطة بيضاء لا تكف عن المواء؟ وهل كنت تجلبين معك
جروك الأبله الصغير، الذي يتبعك ويدور حولك وهو يعوي وينبح ويحاول
أن يعضَّ ثوبك أو قدمك، ويكاد يسقط منهارًا من شدة الإعياء؟ مربيتك
العجوز تسرع الخُطى إليك في الموعد المحدد، فتأخذك لتناول وجبة
الغداء أو العشاء، بينما تحاولين أنت أن تختفي منها وراء شجرة أو
خميلة، أو تغيظينها وتصعدين سلَّمًا عاليًا وترفضين النزول. لكن
ماذا كانت المربِّية العجوز تقول لك بعد أن تسلِّميها يدك؟ هل كانت
تحكي لك في الطريق بعد العشاء حكايات وأساطير من زمنك الحجري
القديم، أو من زمن أقدم منه؟ لا بد أنها روت لك الكثير عن الآلهة
والعمالقة والمردة والأبطال الذين تصارعوا معهم وأجبروهم على
الاعتراف بدهاء الإنسان، وبحقه هو أيضًا في الحب والمجد والجمال
والقوة والمعرفة والحياة. هل حكت لك أن الإنسان في سالف العصر
والأوان قد زرع السفوح والوديان، واكتشف أن الأغنام وديعةٌ وتعشق
الخضرة ورنين الناي، وتحب الرعاة وتحلم بالعيش في سلامٍ؟ أم حكت لك
يا ترى عن ذلك الوحش الذي حبسه جدك الأعلى في المتاهة الشهيرة؟ كان
جدُّك قد نقم على هذا الوحش ذي الهيكل البشري الذي يحمل رأس ثورٍ
أنه عاشر زوجته باسيفيا، التي هامت بثورٍ هائل، أنجبت منه ذلك
الوحش الخرافي، لكن ربما لم تنسَ مربيتك الحبيبة أن تحكي لك أيضًا
عن البطل الأثيني الذي صرع هذا الوحش الذي طالما قتل الأولاد
والبنات، اللاتي فرض جدك الأعلى على الأثينيين المهزومين أن
يقدموهم له على سبيل الأضحية والقربان. ولولا جدتك أرديانة شقيقة
ذلك الوحش، لولا أنها أعطت الخيط للبطل الجسور كي يستطيع الاهتداء
إلى طريق الخروج من المتاهة، لولاها لبقي الوحش يفترس الأبرياء
ويروِّع أحلام الأبناء والبنات والأمهات والآباء. وماذا أقول لك يا
أميرتي عن زمننا الذي زادت فيه أعداد الوحوش وأنواعها، واتسعت فيه
المتاهة باتساع العالم كله؟ هل أحكي لك عن زمن الذرة والكوبلت، وعن
غابات مفزعةٍ من مدن الإسمنت والأسفلت؟ عن طغاة المال والأعمال
وأباطرة جيوش القوة والعدوان على أراضي الشعوب وحريَّاتها وأقواتها
وأقدارها باسم الحرية والعدل والأمن والسلام وبقية حقوق الإنسان؟
أأقول لك إن مربيتك الجديدة التي جاءت تسأل عنك تدوس على نفس
الموضع الذي داسته قدماك، وتبلل عينيها دموع تشبه الدموع التي كانت
تبلل عينيك عندما كانوا ينتزعونك من وسط لعبك الحبيبة، ويجرونك إلى
النوم، أو يجبرونك على الذهاب إلى جناح الملكة الأم لتعطيك قبلة
المساء ومعها التعليمات المشددة بالتزام النظافة والهدوء والنظام؟
أم أقول لك يا صغيرتي إن الأشباح التي كانت تُقلق منامك، أشباح
الأعداء المجهولين والغزاة الغامضين والطغاة والجلَّادين والمعذبين
ما زالت تقلق نومنا أيضًا وإن اختلفت أشكال الأقنعة التي يضعونها
على وجوههم عن الأقنعة التي رأيتهم بها في الحقيقة أو في منامك
القلق المذعور — نعم يا حبيبتي الصغيرة — وما زالت تؤرق نهارنا
وليلنا، الأسئلة نفسها التي أرقتكم عن المعنى والحقيقة وعن الغاية
والمصير المجهول. أتراك قد عشت يا صغيرتي حتى أرَّقتك الأسئلة
وأفزعتك هذه الأحلام، أم مت — في ظروف ولأسباب لا نعلم عنها شيئًا
— وأنت ما تزالين صغيرةً، تلعبين وتقفزين وتتصايحين وتضحكين كفراشة
ملونة، أو زهرة بُثت فيها الروح ونبتت لها ذراعان وساقان وعينان
وقلب ولسان؟! الأحجار من حولي وأمامي وورائي خرساء لا تنطق — وإذا
نطقت لم تقل لي سوى شيءٍ واحدٍ: لن يبقى منا إلَّا التراب والأحجار
— عبثًا أستنطقها عن مكان ملعبك ومهجعك وشاهد قبرك — إذ لن يبقى من
عالمك الذي يغطيه التراب والأحجار إلا ذكرى حضورك الأبدي الذي
يتألَّق الآن مثلما تألقت الزهرة الساطعة في نفس السماء — أنت يا
أيتها البراءة الخالدة، يا أيتها الأميرة المينوية الصغيرة.
١