غناء الشحرور
ها هو ذا يوقظني مرة أخرى قبل طلوع النهار. أناب. ب المسكين، الذي يرقد في نفس الغرفة البيضاء في مستشفى «الشاريتيه» التي رقدت فيها مرتين من قبل عندما داهمتني النوبة القلبية. توقظ قلبي المتصدِّع أيها الشحرور الصغير برنين غنائك الذي ينفذ فيه مثل ناقوس الفرح الذي يطارد أشباح الحزن والإحباط والاكتئاب وخيبة الأمل، التي طالما هاجمتني في سنواتي الأخيرة. نعم، أنا حزينٌ أيها الشحرور الرقيق اللطيف. كنت، كما قلت في إحدى قصائدي التي كتبتها قبل سنواتٍ قليلةٍ، وأطللت من خلال خميلتها المعتمة بوجه الحكيم الزاهد المرور بعد ذلك اليوم العصيب الرهيب: كنت حزينًا حين كنت شابًّا، وأنا الآن حزين بعد أن شخت — آه! متى سيمكنني إذن أن أفرح؟ الأفضل في أسرع وقت — نعم أيها الشحرور العزيز لا بد من الفرح وفي أسرع وقتٍ. هل هناك خيط خفيٌّ ربط روحك بروحي، فجئت الآن لتفرحني ولو لحظة واحدة قبل توقف القلب وخمود الأنفاس؟ ربما. ربما. فما أكثر الاحتمالات والإمكانيات في بطن الأيام الحبلى بكل جديدٍ. أليس هذا أيضًأ هو الذي قلته أمس لمساعدي الشاب الوديع الخجول، الذي لم يمنعه خجله من أن يسألني بصراحة أو بوقاحةٍ عن وصيتي؟ هل أدرك بإحساسه أو لشدة تعاطفه مع معلمه العجوز المريض أن النهاية قد اقتربت، وأن القلب الذي تعب من العمل والكتابة والإخراج والعشق والتدخين وانتظار التغيير الذي عشت أدعو له وأنتظره. هل أدرك أن هذا القلب المرهق الكسير قد أوشك على التوقُّف عن النبض والمقاومة؟ وماذا قلت له يا ترى وأنا أضع يدي على هذا القلب المتحشرج كالقط المخنوق؟ أظن أني قلت له وأنا ألهث: أكتب على لساني أني كنت دائمًا إنسانًا غير مريحٍ، وأنني أنوي أن أبقى كذلك بعد موتي. ومع ذلك، فالمستقبل حافل بالإمكانات …
هل فهم الشاب الخجول ما أقصده؟ وهل أردت أنا نفسي أن أؤكد تلك الفكرة التي عشت من أجلها وكافحت طويلًا في سبيل توصيلها إلى الإنسان العادي أو الرجل الصغير، الذي كتبت ما كتبت وشقيت في الوطن وفي المنفى ما شقيت، لكي أغيِّر وعيه وأحضُّه على تغيير واقعه؟ أجل هي فكرة التغيير، البؤرة التي التفَّت حولها حياتي كلها وشِعري ومسرحي وكفاحي كله. غيَّر العالم فهو يحتاج للتغيير! الإنسان يُربي نفسه عندما يغيِّر نفسه! كل شيء يتحول ويمكنك دائمًا أن تبدأ من جديد، حتى مع آخر نفس في صدرك! آه! وما أكثر القصائد التي كتبتها داعيًا إلى التغيير، أراها الآن وأكاد أسمعها وهي تتزاحم عليَّ في لحظاتي الأخيرة: عن الجدل. الشكاك. يا لذة البدء من جديد. الموقف النقدي. كل جديد أفضل من كل قديم. تغيير العجلة. أغنية عن سيولة الأشياء — من لا يزال حيًّا فعليه ألا يقول مستحيل — في المستقبل عندما يتوفر الوقت الكافي … كانت حياتي كلها دعوة للتغيير، وهل فعلت شيئًا آخر بمسرحي الملحمي وبأثر الأغراب الذي طالما تندر عليهما الساخرون وهاجمهما النقاد، وأفتى باستحالتهما المتزمتون الرجعيون؟ ألم تكن كل هذه المسرحيات والاقتباسات والإعدادات إلا نداءات للرجل العادي والبرجوازي الغبي لكي يصحو من غفلته وينتبه لمتناقضات واقعه ومفارقات حياته، ويتشكك فيما يصور له الحكام الأعلون أنه ثابتٌ وراسخ ومقدسٌ وفوق الشك؟ ألم أؤكد في كل ما قلت ألا شيء يقيني إلا الشك نفسه؟ ألم أصرخ بمختلف الصور والصيغ، وفي الشعر والقصة والرواية والمسرح، بأن العالم يحتاج للتغيير، وأن التغيير ممكن حتى والإنسان يلفظ آخر أنفاسه؟!
أجل فعلت هذا. غرقت وأغرقت كل من معي، وكل من يقرأني أو يتفرج على مسرحي في نهر التحول الذي لا تنزل فيه مرتين كما قال الفيلسوف الإغريقي القديم. لكن ماذا تغيَّر وهل تغير شيء؟ هل تحقق العقل والعدل والسلام والأُخوَّة بين البشر كما ناديت من منفاي الذي استمرَّ عذابه خمس عشرة سنة؟ هل تخلص الرجل العادي والبرجوازي الغبي من الأوهام وألوان التزييف والخداع التي لجأ إليها الفاشيون والرأسماليون، وما زالوا يحاولون لكي يجروهما إلى المجازر والحروب التي يتاجرون بيها ويصنعون أموالهم وترفهم ونعيمهم من دمائهما ودماء أولادهما؟ واليوم العصيب الرهيب — يوم هدَّد الحريق برلين، وأوشك أن يسحق جنة العمال والفلاحين — ألم يكن حربه خيبة أمل صُوِّبت إلى صدري؟ ألم أفعل ما في وسعي لإنقاذ الحلم الاشتراكي على العكس مما اتهمني به المرجفون؟ نعم فعلت ما أمرني به ضميري الإنساني والفنِّي — وواصلت — حتى في اليوم نفسه وعلى خلفية من دخان الحرائق، ودوي المدافع والدبابات والصرخات اليائسة. واصلت عملي في مسرحي وبقيت وفيًّا لمبدئي في التغيير وعقيدتي في التحول والتجديد على الأقل في الميدان الذي وهبته حياتي، وكرَّست له تعبي وأيامي ونبضات قلبي التي أسمع الآن صوتها الخافت وهو يودعني ويقول لي: الوداع أيها المسكين! يكفي ما قلت وما فعلت وما قدمت!