هل ضحك الجسر؟
في هذا العنوان مبالغةٌ شديدةٌ؛ فالجسر الذي أقصدُه لم يكن يُطلق عليه أحدٌ كلمة «الجسر»، التي تعلمتها في المدرسة. الذي كنتُ أعبره كل صباحٍ وكل مساء في ذهابي إليها، وعند الإياب. لقد كان مجرَّد معديَّة بدائية أو كُبري متواضع الحال، بناه الأجداد قبل أن أُولد. ثم إنني لم أسمعه يَضحك أبدًا؛ إذ كان على الدوام لا يكفُّ عن الشكوى والبكاء؛ تُطقطِق أضلاعه الخشبية العتيقة كلَّما مشى عليه الفلاحون في طريقهم إلى الحقول وعند عودتهم منها، ومعهم أبقارهم النحيلة بعيونها البريئة الصافية، وجواميسهم ذات الأجساد السوداء الضخمة، وحميرهم الصابرة المسكينة التي تميل بأفواهها على آذان بعضها لتسأل — فيما تقول الحدوتة القديمة — سؤالها الذي لا ينقطع منذ الأزل وإلى الأبد: متى يصل مُلَّاك الحمير؟ بالطبع لا يَعرف أحد غيري أن الجسر يشكُو أو يئنُّ بالبكاء، كلما مرَّ حملٌ ثقيل يقطع أنفاسه، ويَغرز قوائمه الحديدية الصدئة في ماء الترعة المواجهة لبيتنا. لكنني كنت أتعاطف معه إلى حدِّ الاندِماج فيه، واستشعار مَواجِعِه وآلامه التي يكتمُها في صمتٍ. كنت أستقبله كل صباحٍ كأنه صديقٌ عجوز، أحنُّ دائمًا للقائه وسماع حكاياته، ومواساته في أحزانه. تمرُّ يداي على سوره الخشبي الذي يترنَّح من أيِّ هزةٍ بسيطةٍ، وأسير عليه في تؤدة وبطء حتى لا تؤلمني طقطقة ضلوعه، التي ترتفع كلما عبره موكب الأبقار والجواميس والحمير والفلاحين في رحلة شقائهم اليومية. بل إنني كلما تلفتُّ حولي ولم أجد أحدًا غيري، كنتُ أجاذبه أطراف الحديث — كما علَّمنا مدرس اللغة العربية — أسأله عن أحواله، وأهوِّن عليه كربه، وأُعزِّيه بالأمل البعيد في أن يُجدِّده مجلس القرية أو يُشمِّر أهلها الطيبون عن سواعدهم، ويُبدِّلوا ألواحه المهترئة وأرضيته الطينية المليئة بالنقر والمطبات بألواحٍ وأرضية أخرى جديدة. وكم كنتُ أبكي معه عندما نَنفرِد في الليل، ويبثُّني أحزان يومه وعذاب أمسه ويأسه من غده. وكم تهوَّرت في وعودي له، وبشَّرته بأنه سيعيش حتى يرى السعادة، ويُعوِّض أيام الصبر والأسى بساعاتٍ، أو ربما بأيام يَنطلِق فيها بالضحك حتى يهتز ويميل، ويبادل أمواج الترعة ضحكًا بضحكٍ، وغناء بغناء. ولكم منَّيته أيضًا بأن العصافير والهداهد ستحطُّ عليه وتمرح على جسده وسُوره الهشِّ العجوز، وأن النجوم ستَلمع من فوقه وتُرسل إليه أشعتها الفضية الصافية، ويقول له الجميع: لستَ وحدك في هذا الكون!
كنت أشعر — في حديثي الهامس معه، ونحن وحدَنا، ولا شيء ولا صوت من حولنا سوى رفيف النَّسيم على أبداننا، وخرير الماء المنساب من تحتنا، وهمسات النجوم اللامعة العيون من فوقنا — كنت أشعر أنه لا يصدقني، وأنه يقول لي، وهو يتأوَّه، إنه قد تعوَّد على الظلم والقسوة، ولا يصدق أي وعدٍ من وعودي التي كنت أنا نفسي أشكُّ فيها أحيانًا، ومع مرور الأيام التي لا تأتي بأيِّ جديدٍ في حياته أو حياتي.
حتى كان صباح يوم غادرت فيه البيت، والزغاريد والضَّحكات تجلجل فيه بأصواتٍ رنانة يسمعها القاصي والداني. قلت له في ذلك الصباح: أبشِر يا عم، فأختي الكبرى التي يُجهِّزونها اليوم للزفاف، ستعبر عليك اليوم ومعها العريس وأهل العروس والجيران والأقارب والأحباب، وكلهم ضاحكٌ وسعيد. هل يُمكن أن تُكشِّر في وجوههم، أو تلوذ باكتئابك العتيد أمام هذا الحشد الصاخب السعيد؟ لن تَفعل هذا، ولن أُكلِّمك أو أستمع لشكواك الأزلية لو فعلت …
وعبر مَوكب العُرس في الليلة نفسها فوق الجسر المتقشِّف الحزين، وضحك كلُّ مَن في الزفة وهتفوا للعروسَين، وتصايَحوا وغنوا ودقُّوا الطبول، وعزفوا على الأراغيل والمزامير. كنت معهم بطبيعة الحال، لكنَّني كنت كذلك مع الجسر طوال الوقت، أقول له: لا بد الآن أن تسعد يا صاحبي وتَضحك! آن أوان الخروج من ظُلمات تاريخك القديم مع الصمت والاكتئاب، أظنك تُوافقني على أنني حقَّقت وعدي ورسمت على وجهك ابتسامةً عريضةً، سرعان ما تتحوَّل إلى ضحكةٍ بهيجةٍ لن يَسمعها أحد غيري. ترى هل ضحك الجسر العجوز في تلك الليلة كما توهمت؟ هل استطاع موكبُ العروس وزغاريد البنات والنساء ودوي الطبول ورنين المواويل، أن يُخرجه من بؤسه القديم ولو مرةً واحدة في حياته المملوءة بالعناء والشقاء؟
سألت نفسي هذا السؤال بعد عقود طويلةٍ من الزمان. وعندما كنتُ أعبر الجسر الحديدي والأسمنتي الجديد الذي حلَّ مكان صديقي القديم، في طريقي لزيارة شقيقي الذي خلا عليه البيت بعد رحيل أبي وأمي وإخوتي. لم أعرف إلى اليوم إن كان صديقي القديم قد ضحك في تلك الليلة المشهودة قبل أن يغرق — مع صباح اليوم التالي، وعبور المُشاة والحيوانات عليه — في أحزانه القديمة. ولم يكن من المُمكن أن أعرف ذلك مِن خلَفِه الحجري والأسمنتي المتجهِّم والمتعالي، بل لم يكن من المُمكن حتى أن أسأله أو أتحدث معه.