التوائم الثلاثة
لما جاءها الطَّلق بغتةً، أطلقت صرخة دوَّت في أرجاء البيت كصليل جرسٍ. كانت أختي الكبيرة تتوقع كل شيءٍ قبلها بفترة كافية، جرت من فورها إلى جارتنا نجية الداية، وسرعان ما رجعت بها، وغابا معًا في حجرة الوالدة. كانت أختي قد أعدَّت كل شيء وجهزت حتى اللفائف التي سيوضع فيها المولود. ولم يمض إلا القليل حتى جلجلت صيحة الوافد الجديد، وانطلقت أختي قافزة على السلَّم وهي تهتف: آبه! آبه! كان يجلس كعادته في المندرة، متكئًا على الكنبة والمصحف في حجره، وشفتاه تتحركان بلا صوت. دخلت أختي الكبيرة مسرعة وهي تردد هتافها:
– آبه! آبه! جالك ولد.
– فرجه قريب يا بنتي، يجعله قدم السعد عليك وعلى اخواتك.
– تعرف يا آبه؟ المولود ما شاء الله سمين ومورَّد، تعرف …
– قولي الحمد لله وارجعي لأمك يا بنتي.
– تقول بدر منوَّر يا آبه … سبحان الخالق الناطق … كأنه صورةٌ منك …
– قلت لك اطلعي لأمك، واقعدي تحت رجليها …
لم تكد تتعثر في طريقها إلى الباب حتى استدارت قائلة:
– لكن بطنها كبيرة يا آبه … كبيرة ولا بطن جمل …
– ربنا يفك ضيقتها ويسترها على عبيده. قلت لك اطلعي لها وكله على الله …
كان ذلك في ضحى يومٍ شتويٍّ، امتلأت سماؤه بسحب سوداء ثقيلة تُنذر بالمطر. بعد العصر بقليل، وقبل أن يُؤذن لصلاة المغرب، دوَّت من غرفة السطوح صرخةً أخرى، حاولت الأم — التي يعرف الجميع أنها كتوم وصابرة — أن تحبسها بقدر ما تستطيع، فأفلتت منها ورنَّت في أرجاء البيت. لم تحتج أختي الكبيرة أن تجري إليها؛ لأنها كانت مقيمةً معها وتهدهد المولود الأول على ركبتها. أسرعت من نفسها إلى جارتنا التي لم تتوان لحظة عن الحضور ومعها كل ما يلزم الولادة والمولود. وبعد أقل من ساعة، ارتفعت صيحة المولود الثاني قوية وعفيَّة، كأنه يهلل مرحبًا بأهله بعد غياب طويل. وما أن وضعته أختي الكبيرة بجانب أخيه، حتى أسرعت تقفز السلالم إلى المندرة.
– آبه! آبه! جاءك ولدٌ ثاني …
– سبحانه يفعل ما يشاء يا بنتي، هو العاطي وهو العالم بالحال.
– وجهه ولا البدر المنوَّر في السماء، سبحان الخالق الناطق.
– يا بنتي اعقلي وارجعي لأمك، قلت لك اقعدي معها ولا تتركيها.
– حاضر يا آبه … يتربوا في عزَّك يا قادر يا كريم …
– كله بأمره يا بنتي … قلت لم اطلعي وشوفي طلباتها … وإن كان على الداية لا تشغلي بالك … حالًا ربنا يساويها ويرضيها …
– انتظر يابه … لا تستعجل … ربما نحتاج إليها … أمي تشكو من بطنها … تقول فيه شيء يتحرك فيها!
– قلت لك اعقلي واطلعي لها … كل شيء بأمره وما فيه الخير يقدمه بإذن الله.
رجعت الأخت الكبيرة وانشغلت بالطفلين طول الوقت: تهدهد أحدهما، أو تقرب الآخر من ثدي الأم، أو تهتم بتنظيفهما وغسلهما بالماء والصابون. كانت في ذلك الوقت لا تزال عروسًا تُجري الاستعدادات لفرحها ودخلتها، ولا بد أن الاهتمام بشقيقيها قد أعجبها وأيقظ فيها حنان الأمومة الكامنة. لم تغادر حجرة الوالدة إلا بعد أن أذَّن الفجر، وجرت على السلم واندفعت لفتح الباب المواجه لباب جارتنا الداية. لم تتبرم الست نجية ولم تقل كلمةً واحدة، جاءت معها وصعدا السلم، وهيَّأتا كل شيءٍ للمولود الجديد الذي أعلن عن قدومه بدفعات الطلق الشديدة وصيحات الأم المكتومة. وقبل أن يشرق نور النهار، كان الصغير الثالث قد استقبل العالم بصراخٍ هائل لا يُناسب حجمه الضئيل الهزيل. نزلت الأقدام مسرعةً على السلالم لتبشِّر الأب بالخبر. كان مستغرقًا في الدعاء بعد الانتهاء من صلاة الفجر. وانتظرت الأخت الكبيرة حتى ختم الدعاء، وصاحت:
– الثالث وصل يا آبه. وصل …
– الثالث! ربنا لا نسألك ردَّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه. هل قلت ولد؟!
– نعم يا آبه، ولكنه ضعيفٌ ونحيلٌ كالفار الصغير. ستي نجية قالت …
– اللهم لا اعتراض … ماذا قالت؟
– قالت، أول ما خرج صرخ بأعلى صوته: لا … لا … لا.
– يا عبيطة … وهل المسكين يعرف النعم من اللا …
– هي أكدت وحلفت بالله العظيم أنه صاح لا … لا … لا … ومصيرها تنشر الخبر في الشارع والبلد كلها تعرف …
– وماله يا بنتي، صحيح ثلاثة في بطن واحدة شيء نادرٌ في البلد، معجزة من عند الله! لكن هو القادر على كل شيءٍ، ربنا يقوينا يا بنتي ويكتب لهم طول العمر …
لم يبق الثلاثة على حالهم، إذ لم يكد يمضي الشهران حتى مات الشقيقان الأولان الواحد بعد الآخر. لحكمة لا يعلمها إلا الله، رجعا إلى حضن الأرض بفرق أسبوعٍ واحد بينهما. وفي كل مرة كان أبي يذهب مع جارنا الشيخ أحمد المقرئ والتُّربي حاملين النعش الصغير، وراجعين في صمتٍ وهدوءٍ بعد تسوية التراب فوق كل منهما. وفي صباح يوم دخل الشيخ من باب البيت بعد أن استأذن وصفَّق بيديه، ونادى يا أهل الله. ردت عليه أمي من فوق السلم، وسألته عمَّا يريد. أبلغها أن الولد الثالث حظه من السما، وله مكان بجوار أخوَيه. استعاذت أمي من الشيطان الرجيم، وصاحت الشر برَّه وبعيد. ضحك الشيخ العاجز وهو يتحسس طريقه إلى الباب، وقال: أنا قلت أطمئنك يا أم محمد … المهم أن الولد «لا» يشد حيله ولا يقول لا …
كان الجميع قد عرفوا أن الولد «لا» هو الوحيد الذي بقي حيًّا من التوائم الثلاثة، وأن بقاءه — برغم هزاله وضعفه وشدة نحوله كفأر صغيرٍ — لا يقل معجزة عن صرخته ساعة ميلاده باللا، كأنه — فيما قال الجيران — لم تعجبه الدنيا ولا العيشة، أو كأنه صمم على الثورة منذ ولادته إلى يوم مماته.
وقد مرَّت الأيام والأعوام وذهب الشقيقان، ولم تنفعهما قوتهما، وتورَّد وجهيهما بالصحة والعافية. ورحل الأب والأم والأخت الكبيرة والتربي، وبقي الصارخ باللا حيًّا يُعاني ويكابد، ويعلم ويقرأ ويكتب ولا يكف عن ترديد صرخته ليل نهار. ربما تسلَّلت اللا إلى كلماته وعباراته واختبأت في قصصه ومسرحياته وسائر كتاباته، لكنها كانت على الدوام صرخة هامسة وحيية وعاجزة. لهذا بقيت بغير صدى، ولم تترك أي أثر.