عندما بحثت عنهما
الجبَّانة الكبيرة تغمرها الوحشة والسكينة، وتغرقها في بحر من السلام الصافي الحزين. لا أدري كيف واتتني الجرأة على دخولها بالرغم من تحذيرات أبي وأمي المستمرة بعدم المشي فيها ولا الاقتراب منها بالليل ولا بالنهار. كنت كلما مررت بسورها الطيني الكئيب بعد جولتي في منتزه شجرة الدر المجاور لها، أو على السكَّة الزراعية المؤدِّية إلى مدخل البلد، كنت أحس برعشةٍ تنفض أطرافي وتزيد في نبضي وترفع الطنين إلى أذنيَّ. لكنني في هذه السن الصغيرة — بعد حصولي على الشهادة الابتدائية بقليل — عانيت من وسواس يلحُّ عليَّ بزيارة شقيقيَّ اللذين رحلا عن الدنيا بعد مولدي معهما بشهرين أو ثلاثة. وكانت أختي الكبيرة قد أخبرتني بأن الصغيرين يرقدان في قبرين صغيرين أمام مدفن العائلة. وقد سبق أن زرت هذا المدفن وأنا أمسك بيد شقيقي الأكبر عندما كان يفتح في مناسبة عيد، أو عند دفن ميت جديدٍ يمتُّ لنا بصلة القرابة، أو أحد الغرباء على سبيل الصدقة. لم أكن قد سمعت من أختي الكبيرة عن مكانهما، ومنعتني الرهبة من سؤال أخي عنهما، على الرغم من أن لهيب الشوق لزيارتهما والوقوف على قبريهما لم تنطفئ جذوته أبدًا، منذ أن عرفت قصة رحيلهما، واختنقت بالإحساس بالذنب وبالندم الممض على فقدهما في كل لحظةٍ من لحظات حياتي، التي صوَّر لي الذنب والندم أنها جاءت واستمرت على حساب حياتهما، أو بفضل تضحيتهما …
نفخت صدري بالهواء، وتشجعت على ولوج المدينة الصامتة بعد عصر يوم من أيام شتاء قارص البرد. وتجاهلت تحذيرات الأب والأم وكل الكبار من المغامرة الخطرة، ومن الذئاب أو الثعالب أو القطط والجرذان الوحشية، التي ربما تجوس فيها. شغلني شيءٌ واحد لا شيء سواه، هو أن أجد قبري الشقيقين الذاهبين، وأرتل بعض الآيات الكريمة، وأسألهما الصفح والغفران عن بقائي حيًّا دونهما. كنت أعرف الدرب الجانبي الضيق المؤدي إلى المدفن العائلي، الذي سأقوم بالبحث عنهما في المساحة الواقعة أمامه. ورحت أتأمل الأضرحة الفخمة للأغنياء والأعيان والأشراف، وألمس بيدي قبورًا بائسة توشك أن تكون متهدمةً ومخرَّبة لمئات الفقراء المجهولين، بينما يفكر عقلي الصغير في التفاوت بين النمطين، وفي الظلم الذي يُلاحق الضعفاء والمساكين في حياتهم وموتهم. وكم عزَّ عليَّ أثناء التجوال أن أجد معظم القبور المتداعية بلا اسم مكتوب عليها، ولا لوح حجري أو رخاميٍّ يُسجل الأسماء وتواريخ الميلاد والوفاة، بل هي مُقفرة حتى من سعفة نخيل فوقها أو فرع صبار بجوارها …
وصلت أخيرًا إلى مدفننا العتيق ذي الباب الحديدي الضخم، الذي لم يكن يعرف طريق مفتاحه سوى أبي وشقيقي الأكبر. وأخذت أتلفَّت حولي وأفتِّش في المساحة الخالية أمامه وبجواره عن أي أثر للقبرين الصغيرين دون فائدةٍ. فوجئت بشبحٍ أبيض طويل يخرج من وراء الصف المواجه وفي يده فأس صغيرة. ولما اقترب منِّي عرفت فيه عم إبراهيم حارس الجبَّانة والمنادي في البلد فوق حماره على كل الراحلين. قال وهو يضع الفأس جانبًا ويجفف عرقه: الله يرحم الجميع، من أنت يا ابن الكرام؟ هل جئت لزيارة الميت الذي دفنَّاه صباح اليوم؟ هل أنت قريبه؟
عرَّفته بنفسي، فهتف صائحًا: صحيح ابن الطيبين الكرام. هذا هو مدفن العائلة، هل معك المفتاح وأنا أساعدك؟
نفيت وجود المفتاح معي، وتلجلج لساني وأنا أسأله: هل تعرف القبرين الصغيرين اللذين أقيما أمام المدفن منذ عشر سنواتٍ أو يزيد؟
قال، وهو يغالب الضحك: من عشر سنوات … لطفلين صغيرين؟
قلت متشجعًا، كأنني ألمح بارقة أملٍ: نعم، كانا شقيقين لي، ولدا معي …
صاح ضاحكًا: آه! التوائم الثلاثة. ما زلت أذكر يوم دفناهما، وبقيت مساحة صغيرة طلب مني أبوهما والشيخ أحمد — رحمة الله عليه — أن أحجزها للولد الثالث …
قلت، وأنا أُشير إلى صدري: أنا هو الولد الثالث الذي بقي حيًّا. جئت أزورهما وأقرأ الفاتحة على قبرهما …
ربَّت على ظهري، وهو يقول:
– أنت يا ابني طيب وعلى نياتك. إخوتك راحوا وراحت أيامهم.
سألت متلهفًا: ولكن قبرهما؟ …
قال متحسرًا: وهل تسمِّيها قبورًا؟ الأطفال يا ولداه تسوَّى لهم حفرة على قدها، يهال عليها التراب، وتغفَّق بالطين. مع الزمن يا ابني تدوسهم الأقدام ويسوَّى بالأرض، التل الترابي الصغير الذي وضعا تحته.
هتفت مستنكرًا: يعني اندثر القبران، ولم يعد لهما أثر؟
قال، وهو يمسح على رأسه بيده: وتركا لك طول العمر، لكن …
سألت: لكن ماذا؟
قال، وكأنه يتلو بعض الآيات في خشوعٍ: لكنهم يا بني ما زالوا أحياء. لا تصدق أن الموتى يموتون، إنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
سألت: تقول أحياء؟
قال مؤكدًا، وهو يشير للراقدين حوله ووراءه: كلهم أحياء يرزقون، في عالم لا يعرفه إلا الله، وبطرق لا يعلمها سواه. إنهم يعيشون معنا و…
قلت متعجبًا: يعني أخواي يُحسَّان بي؟
قال مكملًا: ويزورانك في النوم واليقظة ويتابعانك كظلك. كل هؤلاء يحومون حول أهلهم ويرفرفون بأجنحتهم فوقهم، ويطمئنون عليهم بالنهار والليل، وربما يهمسون لهم في الصحو أو المنام برغبة أو حنين أو …
قاطعته متحمسًا: يعني إخوتي يزورونني دون أن أشعر؟ ينظرون إليَّ ويرصدون حياتي وحركاتي؟
قال في ثقةٍ واطمئنان: وكل أعمالك، ويدعون لك أيضًا … اعتبر يا ابني أنك زرتهم وتكلمت معهم، وارجع الآن إلى البيت قبل أن تغرب الشمس وتليِّل الدنيا عليك …
ودعت عم إبراهيم وشكرته وانصرفت. وأثناء سيري وسط صفوف القبور الساكنة المستسلمة، عجبت من مشية قدمي اللتين تكادان ترقصان، ومن شعور بالفرح يتصاعد كالنهر البارد في داخلي، ويُطفئ نيران الشوق والخوف التي كانت تشتعل وترتعش في كياني عند دخولي إلى الجبَّانة، ووقوفي مع عم إبراهيم. أسرعت راجعًا إلى البيت والخيوط الذهبية الأخيرة تنعكس على سقوف البيوت وتنسحب قليلًا قليلًا أمام ظلال المساء الزاحفة. فتحت الباب ودخلت، فبادرني صوت أمي مناديًا:
– أنت رجعت يا ابني؟ تأخرت وأبوك سأل عنك …
قلت، والفرح يقفز من كل كلمة: كنت في زيارة يا أمي. الحمد لله سيردون لي الزيارة …
قالت في حيرةٍ وقلق: زيارة؟ ألم تكن تتمشَّى في الجنينة؟
أمسكت بالخيط، وقلت ضاحكًا: نعم، في الجنينة الكبيرة والأخيرة. دعيني أنام حتى أستقبلهم وأسمع همسهم ورفيف أجنحتهم …
قالت أمي يائسةً: والنبي أنت بتخرف وكلامك عجيب. تأكل لك لقمة يا ابني؟
قلت، وأنا أتجه إلى حجرتي: سآكل وأشرب معهم. اتركيني الآن لأستريح من المشوار …
قالت بنفس النبرة اليائسة الحائرة:
– ربنا يريح قلبك يا ابني، ويشفي لك عقلك.
قلت، وأنا أفتح باب حجرتي:
– ما داموا معي فلا تخافي عليَّ …
ثم لنفسي، وأنا أستعد للنوم وللزيارة الموعودة: ليتك تعرفين أن الموتى لا يموتون. إنهم يغيبون عنا، ولا يصح أن نغيب عنهم. وأنتما يا شقيقيَّ العزيزين، كونا معي من اليوم وسأكون معكما على الدوام …