تحت الخيمة
كأني رأيتُه من بعيدٍ، أبعد من كل ما قدرت وتصورت …
قال لي الصوت الذي يُوجِّهني من الداخل والخارج: ستجده هناك، تحت الخيمة الزرقاء التي يعلُوها الديك والهلال، هنيئًا له مع المباركين والصالحين … دخلت ساحة واسعة لا تحدُّها أبواب ولا جدران ولا أسوار. حديقة مُترامية لم تشهد عيني حديقة تُدانيها في الجمال والنضارة والتنسيق البديع. ومشيت على بساطٍ أخضرٍ لم تحسَّ قدمي، ولم يقع بصَري على أرقَّ وأنعم منه، كأنَّما الأرض المفروشة بالعشب الندي الطازج قد تحولت إلى سماء خضراء لا تطؤها إلَّا أقدام الملائكة والعصافير. بدت الخيمة أشبه بتلك الخيام التي كانت تُعدُّ للملوك والأمراء وكبار القادة أثناء الحروب أو رحلة الحجيج. وحين اقتربت منها عجبتُ من السكينة والصفاء اللذين يَنبعثان منها، والوهجِ المشعِّ من الخيوط الفضية والذهبية التي نُسجت منها الستائر المنسدلة عليها، والغناء العذب الذي لا تُرسله آلاف الطيور الزرقاء والخضراء والصفراء التي تتقافز على سقفها وأركانها، والأشجار المختلفة التي تُظلِّلها وترف فروعها في سلام حولها … تقدمت في ورعٍ وبطءٍ شديد حتى اقتربت من الأريكة التي يجلس عليها. وكم كان عجبي من الأريكة التي يجلس عليها، وكم كان عجبي من أنه يجلس تحت الخيمة في نفس المندرة التي في بيتنا القديم، وعلى نفس الكنبة التي كان يَتربَّع عليها مُلتفًّا في عباءته وفي حجره مصحف يقرأ آياته في خشوع.
تجرأت وجرحت الصمت الشامل بعد أن طالعت الوجه الأبيض المستدير الذي يشرق بنوره الداخلي، وتبرز على جبهته علامة الصلاة، كأنها حفر في الجلد أو كيٍّ قديم، بينهما شفتاه تتحركان بالترتيل الصامت وعيناه مُطرقتان ومُثبَتتان على الصفحة التي بدت صفراء، وعليها سطور بحبرٍ عميق السواد:
– أبي … اشتقت إليك فجئت.
ظلَّت الشفتان تتحرَّكان وتَتمتمان، وبقيت العينان على السطور السوداء.
– أنا ابنك الذي عدَّى البحر قبل سنوات، رجعت من رحلة الدرس والتحصيل لأغرس بذور علمي في أرض أجدادي، وأصبُّ في نهرها شحنة طاقتي وجهدي، وأقيم جسرًا بيننا وبين الآخرين …
لا حركة ولا صدى، كأني أتكلَّم بلغة أخرى أو كأني أكلم نفسي في منامٍ غامضٍ طويل …
– أنا لم أنسَك يا أبي أبدًا، كنت هناك أفكر فيك ليل نهار. وكنت أتذكر كلمتك لي ذات يومٍ: لو نجحت في الفلفسة — كما كنت تسميها متعمدًا أو ساخرًا — فسوف آكل مع الكلاب في وعاء واحد. ابنك أصبح دكتورًا في الفلسفة يا أبي، ولستَ مُضطرًّا للأكل مع الكلاب. أعرفك أيضًا أنه تمَّ تعييني بالجامعة، وسوف أبدأ التدريس فيها عن قريب … هل سامحتَني يا أبي؟ هل رضيَ قلبك عليَّ؟
– وقبل أن يصلني نبأ رحيلك بأسابيع قليلة، أرسلت إليك بالبريد المسجل أشياء تصورت أنها ستُدفئك في ليالي البرد الشديد. كنَّا في فبراير أو مارس، وأنا أرتجف في جوٍّ حرارته تحت الصفر بكثير، فكَّرت أن أدفئك معي، فأرسلت غطاءً للرأس من الفراء وقفَّاز من الجلد السميك وغطاء للأذنين وشرابًا من الصوف … وكم حزنتُ يا أبي حين عرفتُ أنك ودَّعت الحياة قبل أن تصلَك رسالتي، التي تعثرت في البريد الحكومي الكئيب. وسمعت أيضًا من أخي الأكبر أنكَ كنتَ تسأل عنِّي أحيانًا، عندما تتذكَّر ابنك الذي عبر البحر من سنين …
– هل أقول لك أيضًأ ما قاله ابن شقيقي الذي كان يُلازمك في أيامك الأخيرة؟ قال لي إنك تذكَّرتَني فجأةً في آخر لحظاتك. كنتَ يا أبي تُحتضَر. مال ابن الأخ الصغير على صدرك، ووضع أذنَه على شفتَيك التي لم تكفَّ عن الحركة حتى النهاية. كنت تتلو آيات من الكتاب، ثم تدعو لابنِك الذي عدَّى البحر — وإن لم تتذكَّر اسمه أبدًا — بأن يرجع بسلامة الله … فأي عزاء تركتَه لي طول العمر، أي عزاءٍ!
– وما زلت يا أبي صامتًا وبعيدًا، كأنك صممت ألا تسمعني أو تنظر إليَّ نظرة واحدة … متى يا أبي تردُّ عليَّ؟ متى تجيب عن أسئلتي أو تنطق بكلمة تدلُّ على أنك عرفتني؟ عيناك مطرقتان ومُثبتتان على المصحف بين يديك، شفتاك تتحركان وتتمتمان بالآيات الكريمة دون توقفٍ. وأنا واقف أمامك كأني أصرخ من داخل غيمة أو سحابة كثيفة تطويني … وما زلت يا أبي، أصرخ كما فعلت طول العمر، وأهتف كشبح عاجز مخبول: كلمني يا أبي … ردَّ عليَّ! متى بالله عليك تراني وتجيب سؤالي؟ متى؟ … متى يا أبي؟